الأحد، 3 مارس 2013

3.المقتضب

الكتاب : المقتضب
المؤلف : محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى : 285هـ)

الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
تمام القول في إن وأن الخفيفتين
هذا باب
أن المفتوحة وتصرفها
اعلم أنها إذا كانت مع الفعل مصدراً جاز تقديمها وتأخيرها، ووقعت في كل موضع تقع فيه الأسماء إلا أن معناها - إذا وقعت على فعل مستقبل - أنها تنصبه، وذلك الفعل لما لم يقع، ولا يكون للحال. وذلك قولك: أن تأتيني خيرٌ لك، ويسرني أن تقوم يا فتى، وأكره أن تذهب إلى زيد. فهذا هكذا. وإن وقعت على فعلٍ ماضٍ كانت مصدراً لما مضى. تقول: سرني أن قمت، وساءني أن كلمك زيد وأنت غضبان، على: أن كلمت زيدا، أي: لهذه العلة.


واعلم أنها إذا وقعت بعدها الأفعال المستقبلة، وكانت بينها وبينها لا، فإن عملها على حاله. تقول: أحب ألا تذهب يا فتى، وأكره ألا تكلم زيدا. والمعنى: أكره تركك كلام زيد. فإن أردت بها الثقيلة لم يجز أن يليها الفعل إلا أن تأتي بعوض مما حذفت من المضمر والتثقيل. ونحن ذاكروا ذلك إن شاء الله. وذلك قولك - إذا أردت الثقيلة - : قد علمت أن لا تقوم، تريد: أنك لا تقوم. ف لا عوضٌ. وهي - إذا أردت الخفيفة - غير فاصلة بين أن والفعل. فأما السين وسوف فلا يكون أن قبلهما إلا على التثقيل والإضمار؛ لأنهما ليستا ك لا؛ ألا ترى أنك تقول: مررت برجل لا قائمٍ ولا قاعدٍ، فيمون بمنزلة قولك: مررت برجل قائمٍ وقاعد في الإعراب، وإن كان الأول منفياً. وكذلك: كان عبد الله لا شجاعا ولا بطلا. ولا تقع السين وسوف هذا الموقع؛ فعلى هذا تقول: علمت أن سيقومون، وأن سوف يقومون. لا يكون إلا على ذلك. وللثقيلة أفعالٌ، وللخفيفة أفعال سواها، وذلك مذكور على إثر هذا الباب إن شاء الله. فإن أردت الثقيلة - مع الفعل الماضي - دخل من العوض قد، فقلت: قد علمت أن قد ذهب زيد، أي: أنه قد ذهب زيد.
هذا باب
الأفعال التي لا تكون أن معها إلا ثقيلة
والأفعال التي لا تكون معها إلا خفيفة والأفعال المحتملة للثقيلة والخفيفة
أما ما كان من العلم فإن أن لا تكون بعده إلا ثقيلة؛ لأنه شيء قد ثبت واستقر، وذلك قولك: قد علمت أن زيدا منطلق، فإن خففت فعلى إرادة التثقيل والإضمار. تقول: قد علمت أن سيقوم زيد، تريد: أنه سيقوم زيد. قال الله عز وجل: " علم أن سيكون منكم مرضى " ؛ لأنه شيء قد استقر. ألا ترى أنه لا يصلح: علمت أن يقوم زيد؛ لأن أن الخفيفة إنما تكون لما لم يثبت؛ نحو: خفت أن تقوم يا فتى، وأرجو أن تذهب إلى زيد؛ لأنه شيء لم يستقر. فكل ما كان من الرجاء والخوف فهذا مجازه. فأما الأفعال التي تشترك فيها الخفيفة والثقيلة فما كان من الظن. فأما وقوع الثقيلة فعلى أنه قد استقر في ظنك: كما استقر الأول في علمك. وذلك قولك: ظننت أنك تقوم، وحسبت أنك منطلق. فإذا أدخلت على المحذوفة العوض قلت: حسبت أن سيقومون، وكذلك تقول: ظننت أن لا تقول خيرا، تريد: أنك لا تقول خيرا. وأما النصب فعلى أنه شيء لم يستقر، فقد دخل في باب رجوت وخفت بهذا المعنى. وهذه الآية تقرأ على وجهين: " وحسبوا أن لا تكون فتنةٌ " و " أن لا تكون فتنةٌ " ، فانتصب ما بعد لا وهي عوضٌ؛ كما أوقعت الخفيفة الناصبة بعد ظننت بغير عوض. وذلك قوله عز وجل: " تظن أن يفعل بها فاقرةٌ " ، لأن معناها معنى ما لم يستقر. وكذلك: " إن ظنا أن يقيما حدود الله " . وزعم سيبويه أنه يجوز: خفت أن لا تقوم يا فتى، إذا خاف شيئاً كالمستقر عنده، وهذا بعيد. وأجاز أن تقول: ما أعلم إلا أن تقوم، إذا لم يرد علماً واقعا، وكان هذا القول جارياً على باب الإشارة؛ أي: أرى من الرأى؛ وهذا في البعد كالذي ذكرنا قبله. وجملة الباب تدور على ما شرحت لك من التبيين والتوقع. فأما قول الله عز وجل: " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم " فإن الوجه فيه الرفع، والمعنى: أنه لا يرجع إليهم قولا؛ لأنه علم واقع. والوجه في قول الشاعر:
أفنى عرائكها وخدد لحمها ... أن لا تذوق مع الشكائم عودا
الرفع؛ لأنه يريد: إن الذي أفنى عرائكها هذا. فهذا على المنهاج الذي ذكرت لك.
هذا باب
ما لحقته إن وأن الخفيفتان في الدعاء
وما جرى مجراه


تقول: أما إن غفر الله لك، وإن شئت: أما أن، على ما فسرت لك في أما أنها تقع للتنبيه، وتقع في معنى قولك: حقاً؛ فالتقدير: أما إنه، وأما أنه غفر الله لك، فإن قلت: فكيف جاز الإضمار والحذف بغير عوض؟ فإنما ذلك لأنك لا تصل إلى قد؛ لأنك داعٍ، ولست مخبراً؛ ألا ترى أن الإضمار قد دخل في المكسورة لهذا المعنى، ولا يدخل فيها في شيء من الكلام. وتقول في المستقبل على هذا المنهاج: أما أن يغفر الله لك، تريد: أما أنه، وإن شئت: أما إن يغفر الله لك؛ لأنك لو أدخلت السين أو سوف لتغير المعنى، وكنت مخبراً، ولو أدخلت لا لانقلب المعنى، وصرت داعياً عليه؛ فلذلك جاز بغير عوض. ولما كانت المكسورة تحذف بتثقيلها مع الضمير في هذا الموضع ليوصل إلى هذا المعنى، ولا يقع ذلك فيها في شيء من الكلام غير هذا الموضع - كانت المفتوحة أولى - لأن الضمير فيها مع العوض. فأما قولك: قد علمت أن زيدٌ منطلقٌ فمعناه: أنه زيد منطلق، ولا تحتاج إلى عوض، كما قال الشاعر:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل
وإنما امتنع الفعل أن يقع بعدها بغير عوض؛ لأن الفعل لم يكن ليقع بعدها لو ثقلت، وأعملت كما يكون الاسم. فلم يكونوا ليجمعوا عليها الحذف بغير عوض، وأن يوقعوا بعدها ما لا تقع عليه لو ثقلت، وأعملت؛ لأنها بمنزلة الفعل، ولا يقع فعل على فعل.
هذا
باب النونين الثقيلة والخفيفة
ومعرفة مواقعها من الأفعال
اعلم أنهما لا تدخلان من الأفعال إلا على ما لم يجب، ولا يكون من ذلك إلا في الفعل الذي يؤكد ليقع. وذلك ما لم يكن خبراً فيما ضارع القسم. فأما القسم فإحداهما فيه واجبةٌ لا محالة. وأما ما ضارعه فأنت فيه مخير. وذلك قولك في القسم: والله لأقومن، وحق زيد لأمضين، فيلحق النون إما خفيفة وإما ثقيلةً، لا يكون القسم إلا كذاك. وقد شرحنا ذلك في باب القسم: لم كانت فيه واجبة؟ وأما الثقيلة فكقوله عز وجل: " ليسجنن وليكونن من الصاغرين " . وأما الخفيفة فعلى قراءة من قرأ: " وليكونن من الصاغرين " ، وكقوله: " كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية " ، وقال الشاعر:
وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا
فمن مواضعها: الأمر، والنهي؛ لأنهما غير واجبين. وذلك قولك - إذا لم تأت بهما - :اضرب، ولا تضرب، فإذا أتيت بها قلت: اضربن زيدا، ولا تضربن زيدا، وإن شئت ثقلت النون، وإن شئت خففتها. وهي - إذا خففت - مؤكدة، وإذا ثقلت فهي أشد توكيدا، وإن شئت لم تأت بها فقلت: اضرب، ولا تضرب. قال الله عز وجل: " ولا تقولن لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غدًا " ، وقال: " ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " ، وقال: " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " . وقال الشاعر في الخفيفة:
فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا
وقال الآخر:
فأنزلن سكينةً علينا
والطلب يجري مجرى الأمر والنهي، وقد مضى القول في هذا. ومن مواضعهما: الاستفهام؛ لأنه غير واجب. وذلك قولك: هل تضربن زيداً، وهل يقومن زيد يا فتى. وتدخل الخفيفة كما دخلت الثقيلة؛ لأنهما في التوكيد على ما ذكرت لك ومن مواضعها: الجزاء إذا لحقت ما زائدةً في حرف الجزاء؛ لأنها تكون كاللام التي تلحق في القسم في قولك: لأفعلن، وذلك قولك: إما تأتيني آتك، ومتى ما تقعدن أقعد. فمن ذلك قول الله عز وجل: " فإما ترين من البشر أحداً " ، وقال: " وإما تعرضن عنهم " . فإن كان الجزاء بغير ما قبح دخولها فيه، لأنه خبر يجب آخره بوجوب أوله. وإنما يجوز دخولها الجزاء بغير ما في الشعر للضرورة؛ كما يجوز ذلك في الخبر. فمن ذلك قوله:
من تثقفن منهم فليس بآئبٍ ... أبداً، وقتل بني قتيبة شافي
فهذا يجوز؛ كما قال في الخبر:
ربما أوفيت في علمٍ ... ترفعن ثوبي شمالات
ومن أمثال العرب: بعينٍ ما أرينك وبألمٍ ما تختننه. فإنما أدخل النون من أجل ما الزائدة كاللام كما ذكرت لك.
هذا باب
الوقوف على النونين
الخفيفة والثقيلة


اعلم أنك إذا وقفت على الثقيلة كان الوقف عليها كالوقف على غيرها من الحروف المبنية على الحركة. فإن شئت كان وقفها كوصلها، وإن شئت ألحقت هاءً لبيان الحركة، كما تقول: ارمه، واغزه، واخشه، فهذا وجهها. وإن شئت قلت على قولك: ارم، اغز، اخش، فقلت: اضربن، وارمين، وقولن. فهذا أمر الثقيلة. فأما الخفيفة فإنها في الفعل بمنزلة التنوين في الاسم. فإذا كان ما قبلها مفتوحاً أبدلت منها الألف، وذلك قولك: اضربن زيداً. فإذا وقفت: قلت: اضربا، وكذلك: والله ليضربن زيداً. فإن وقفت قلت: لتضربا؛ كما قال: " لنسفعا بالناصية " . فإذا كان ما قبلها مضموماً أو مكسوراً، كان الوقف بغير نون ولا بدل منها؛ لأنك تقول في الأسماء في النصب: رأيت زيداً، فتبدل من التنوين ألفاً، وتقول في الرفع: هذا زيد. وفي الخفض: مررت بزيد، فلا يكون الوقف كالوصل.
وكذلك هذه الأفعال، تقول للجماعة - إذا أردت النون الخفيفة - اضربن زيدا، فإن وقفت قلت: اضربوا، واضربن زيدا يا امرأة، فإن وقفت قلت: اضربي. وفي نسخة أخرى: وكذلك هذه الأفعال. تقول: والله لتضربن زيدا فإن وقفت قلت. لتضربون، وتقول: هل تضربن زيدا يا امرأة، فإن وقفت قلت: هل تضربين فهذا نظير ما ذكرت لك. ولا فصل بين النون الخفيفة في الأفعال وبين التنوين في الأسماء، إلا أن النون تحذف إذا لقيها ساكن، والتنوين يحرك لالتقاء الساكنين.
وقد يجوز حذفه في الشعر وفي ضعف من الكلام، فتقول: - إذا أردت النون الخفيفة - : اضرب الرجل. حذفت النون لالتقاء الساكنين، فهذا أمرها. وإنما حذفت وخالفت التنوين، لأن ما يلحق الأفعال أضعف مما يلحق الأسماء؛ لأن الأفعال أنت في إدخال النون عليها مخير، إلا ما وقع منها في المستقبل في القسم، والأسماء كل ما ينصرف منها فالنون التي تسمى التنوين لازمةٌ فيه، والأسماء هي الأول، والأفعال فروع ودواخل عليها. وإذا وقفت على النون الخفيفة في فعل لجميع مرتفع، حذفت النون.
هذا باب
تغيير الأفعال للنونين
الخفيفة والثقيلة
اعلم أن الأفعال - مرفوعةً كانت أو منصوبةً أو مجزومةً - فإنها تبنى مع دخول النون على الفتحة؛ وذلك أنها والنون كشيء واحد، فبنيت مع النون بناء خمسة عشر. ولم تسكن لعلتين: إحداهما: أن النون الخفيفة ساكنة، والثقيلة نونان، الأولى منهما ساكنة، فلو أسكنت ما قبلها لجمعت بين ساكنين. والعلة الأخرى: أنك حركتها؛ لتجعلها مع النون كالشيء الذي يضم ليع غيره، فيجعلان شيئاً واحداً؛ نحو: بيت بيت، وخمسة عشر. وإنما اختاروا الفتحة؛ لأنها أخف الحركات. وذلك قولك للرجل: هل تضربن زيدا؟ والله لتضربن زيدا. فالفعلان مرفوعان. وتقول في الموقوف، والمجزوم: اضربن زيدا، ولا تضربن عمرا، وإما تغزون زيدا أغزه. كما قال عز وجل: " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك " . فإذا ثنيت، أو جمعت، أو خاطبت مؤنثاً، فإن نظير الفتح في الواحد حذف النون مما ذكرت لك. تقول للمرأة: هل تضربن زيدا؟ ولا تضربن عمرا؛ فتكون النون محذوفة التي كانت في تضربين؛ ألا ترى أنك إذا قلت: لن تضرب يا فتى، قلت للمرأة - إذا خاطبتها - : لن تضربي، وكذلك لم تضربا، ولن تضربوا للاثنين والجماعة. فحذف النون نظير الفتحة في الواحد، وذهبت الياء في قولك: اضربن زيدا لالتقاء الساكنين. وكذلك تذهب الواو في الجماعة إذا قلت: اضربن زيدا، وهل تخرجن إلى زيد؛ فهذا نظير ما ذكرت لك. فإن كان قبل الواو والياء فتحة، لم تحذفهما لالتقاء الساكنين، وحركتا؛ لأنه إنما تحذف الواو التي قبلها ضمة، والياء التي قبلها كسرة؛ لأنهما إذا كانتا كذلك كانتا حرفي لين كالألف. ألا ترى أنك تقول: ارم الرجل، وارموا الرجل، فتحذف لالتقاء الساكنين. وتقول: اخشوا الرجل، واخشي الرجل، فتحرك، ولا تحذف، لأنهما بمنزلة الحروف التي هي غير معتلة. ومع ذلك فإنك لو حذفت ما قبله الفتحة لالتقاء الساكنين، لخرج اللفظ إلى لفظ الواحد المذكر، وذهبت علامة التأنيث وعلامة الجمع، فكنت تقول: اخش الرجل. فتقول على هذا للجماعة: اخشون الرجل، وللمرأة: اخشين زيدا. وكل ما جرى مما قبله مفتوح فهذه سبيله.
هذا باب
فعل الاثنين والجماعة من النساء..
في النون الثقيلة وامتناعهما من النون الخفيفة


اعلم أنك إذا أمرت الاثنين، وأردت النون الثقيلة قلت: اضربان زيدا. تكسر النون لأنها بعد ألف، فهي كنون الاثنين، والنون الساكنة المدغمة فيها ليس بحاجز حصين لسكونها. وكذلك: والله لتضربان زيدا، وجميع ما تصرفت فيه، فهذا سبيلها في الاثنين. قال الله عز وجل: " ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " . فإذا أوقعتها في جمع النساء قلت: اضربنان زيدا. زدت ألفا؛ لاجتماع النونات، ففصلت بها بينهن، كما زدت في قول من قال: آأنت فعلت ذاك، فتجعلها بين الهمزتين؛ إذ كان التقاؤهما مكروهاً، وكذلك: لتضربنان زيدا، وكسرت هذه النون بعد هذه الألف؛ لأنها أشبهت ألف الاثنين. تفعل بالنون بعدها ما تفعل بها بعد ألف التثنية، فلا تحذف؛ لأنها علامة، ولأنك كنت إن حذفتها لا تفرق بين الاثنين والواحد. وأما الألف التي أدخلتها للفصل بين النونات فلم تكن لتحذفها؛ لأن الخفيفة إنما تقع في موقع الثقيلة. فإن قلت: فأجئ بها، وأحرك النون لالتقاء الساكنين، كان ذلك غير جائز؛ لأن النون ليست بواجبة، وأنت إذا جئت بها زائدةً، وأحدثت لها حركة، فهذا ممتنع. وإن تركتها على سكونها جمعت بين ساكنين ومع هذا فإنها كانت في الاستفهام وفي القسم وفي المواضع التي يكون فيها الفعل مرفوعاً تلتبس بنون الاثنين، ولا سبيل إلى اجتماعهما لما ذكرت لك من أن الفعل يبنى معها على الفتح. وإنما حذفت النون في التثنية والجمع وفعل المرأة - إذا خوطبت - لأنها كالفتح في الواحد؛ ألا ترى أنك تقول للمرأة: هل تضربن زيدا إذا أردت النون الخفيفة، وللجماعة من الرجال: هل تضربن زيدا؛ فهذا ما ذكرت لك.
وكان يونس بن حبيب يرى إثباتهما في فعل الاثنين وجماعة النسوة، فيقول: اضربان زيدا، وللنساء: اضربنان زيدا، فيجمع بين ساكنين، ولا يوجد مثل هذا في كلام العرب إلا أن يكون الساكن الثاني مدغماً والأول حرف لين، وقد مضى تفسير هذا. فإذا وقف يونس ومن يقول بقوله قال للاثنين: اضربا، وللجماعة من النساء: اضربنا، وإذا وصل فعل الاثنين قال: اضربان الرجل. وهذا خطأ على قوله، وإنما ينبغي على قياس قوله أن يقول: اضرب الرجل. فيحذف النون؛ لأنها تحذف لالتقاء الساكنين، كما ذكرت لك في أول الباب، ثم تحذف الألف التي في اضربا لعلامة التثنية؛ لأنها أيضاً ساكنة، فيصير لفظه لفظ الواحد إذا أردت به النون الخفيفة، ولفظ الاثنين بغير نون إذا حذفت ألفها لالتقاء الساكنين.
هذا باب
ما لا يجوز أن تدخله النون
خفيفةً ولا ثقيلةً وذلك ما كان مما يوضع موضع الفعل وليس بفعل
فمن ذلك قوله: صه و مه، وإيه يا فتى: إذا أردت أن يزيدك من الحديث، وإيهاً يا فتى، إذا كففته، و ويهاً يا فتى: إذا أغريته. وكذلك عليك زيدا، ودونك زيدا، ووراءك أوسع لك، وعندك يا فتى: إذا حذرته شيئاً بقربه. فكل هذه لا تدخلها نون؛ لأنها ليست بأفعال، وإنما هي أسماءٌ للفعل. ومن ذلك هلم في لغة أهل الحجاز؛ لأنهم يقولون: هلم للواحد، وللاثنين، والجماعة على لفظ واحد. وأما على مذهب بني تميم فإن النون تدخلها؛ لأنهم يقولون للواحد: هلم، وللاثنين: هلما، وللجماعة: هلموا، ولجماعة النسوة: هلممن، وللواحدة: هلمي؛ وإنما هي لمَّ لحقتها الهاء؛ فعلى هذا تقول: هلمن يا رجال، وهلمن يا امرأة، وهلممنان يا نسوة، فيكون بمنزلة سائر الأفعال.
هذا باب
حروف التضعيف في الأفعال
والمعتلة من ذوات الياء والواو في النونين
اعلم أنك تلزمهن في النونين ما تلزم الأفعال الصحيحة من بناء الفعل على الفتح، تقول: ردن يا زيد، ولا تقول: ارددن على قول من قال: اردد؛ لأن الدال الثانية تلزمها الحركة على ما ذكرت لك. وكذلك تقول: القين زيدا، وهل تغزون عمرا، وارمين خالدا، فتلزم الفعلين ما يلزم سائر الأفعال.
هذا باب
أمّا و إمّا


أما المفتوحة فإن فيها معنى المجازاة. وذلك قولك: أما زيدٌ فله درهم، وأما زيد فأعطه درهماً. فالتقدير: مهما يكن من شيءٍ فأعط زيدا درهماً، فلزمت الفاء الجواب؛ لما فيه من معنى الجزاء. وهو كلام معناه التقديم والتأخير. ألا ترى أنك تقول: أما زيدا فاضرب؛ فإن قدمت الفعل لم يجز؛ لأن أما في معنى: مهما يكن من شيء؛ فهذا لا يتصل به فعلٌ، وإنما حد الفعل أن يكون بعد الفاء. ولكنك تقدم الاسم؛ ليسد مسد المحذوف الذي هذا معناه، ويعمل فيه ما بعده. وجملة هذا الباب: أن الكلام بعد أما على حالته قبل أن تدخل إلا أنه لا بد من الفاء؛ لأنها جواب الجزاء؛ ألا تراه قال - عز وجل - " وأما ثمود فهديناهم " كقولك: ثمود هديناهم. ومن رأى أن يقول: زيدا ضربته نصب بهذا فقال: أما زيدا فاضربه. وقال: " فأما اليتيم فلا تقهر " فعلى هذا فقس هذا الباب. وأما إما المكسورة فإنها تكون في موضع أو، وذلك قولك: ضربت إما زيدا، وإما عمرا؛ لأن المعنى: ضربت زيدا أو عمرا، وقال الله عز وجل: " إما العذاب وإما الساعة " وقال: " إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً " . فإذا ذكرت إما فلا بد من تكريرها، وإذا ذكرت المفتوحة فأنت مخير: إن شئت وقفت عليها إذا تم خبرها. تقول: أما زيد فقائم، وأما قوله: " أما من استغنى. فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى " فإن الكلام مستغنٍ من قبل التكرير، ولو قلت: ضربت إما زيداً، وسكت، لم يجز؛ لأن المعنى: هذا أو هذا؛ ألا ترى أن ما بعد إما لا يكون كلاماً مستغنياً.
وزعم الخليل أن الفصل بين إما وأو أنك إذا قلت: ضربت زيدا أو عمرا فقد مضى صدر كلامك وأنت متيقن عند السامع، ثم حدث الشك بأو. فإذا قلت: ضربت إما زيدا فقد بنيت كلامك على الشك، وزعم أن إما هذه إنما هي إن ضمت إليها ما لهذا المعنى، ولا يجوز حذف ما منها إلا أن يضطر إلى ذلك شاعر، فإن اضطر جاز الحذف؛ لأن ضرورة الشعر ترد الأشياء إلى أصولها، قال:
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعن وإن إجمال صبر
فهذا لا يكون إلا على إما. فأما في المجازاة إذا قلت: إن تأتني آتك، وإن تقم أقم، فإنك إن شئت زدت ما، كما تزيدها في سائر حروف الجزاء؛ نحو: أينما تكن أكن، ومتى ما تأتني آتك؛ لأنها: إن تأتني آتك، ومتى تقم أقم. فتقول على هذا - إن شئت - : إما تأتني آتك، وإما تقم أقم معك. وقد مضى تفسير هذا في باب الجزاء.
هذا باب
مذ ومنذ
أما مذ فيقع الاسم بعدها مرفوعاً على معنى، ومخفوضاً على معنى. فإذا رفعت فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبره، غير أنها لا تقع إلا في الابتداء لقلة تمكنها وأنها لا معنى لها في غيره، وذلك قولك: لم آته مذ يومان، وأنا أعرفه مذ ثلاثون سنة، وكلمتك مذ خمسة أيام. والمعنى - إذا قلت: لم آته مذ يومان - : أنك قلت: لم أره، ثم خبرت بالمقدار والحقيقة والغاية. فكأنك قلت: مدة ذلك يومان. والتفسير: بيني وبين رؤية هذا المقدار، فكل موضع يرتفع فيه ما بعدها فهذا معناه. وأما الموضع الذي ينخفض ما بعدها فأن تقع في معنى في ونحوها؛ فيكون حرف خفض وذلك قولك: أنت عندي مذ اليوم، ومذ الليلة، وأنا أراك مذ اليوم يا فتى، لأن المعنى في اليوم وفي الليلة. وليس المعنى أن بيني وبين رؤيتك مسافةً، وكذلك: رأيت زيدا مذ يوم الجمعة يمدحك، وأنا أراك مذ سنةٌ تتكلم في حاجة زيد؛ لأنك تريد أنا في حال رؤيتك مذ سنة فإن أردت: رأيتك مذ سنةٌ، أي: غاية المسافة إلى هذه الرؤية سنةٌ، رفعت؛ لأنك قلت: رأيتك، ثم قلت: بيني وبين ذلك سنةٌ، فالمعنى: أنك رأيته، ثم غبرت سنةٌ لا تراه. وإذا قال: أنا أراك مذ سنةٍ، فإنما المعنى أنك في حال رؤيته لم تنقض وأن أولها مذ سنة؛ فلذلك قلت: أراك؛ لأنك تخبر عن حال لم تنقطع. فهذا شرط مذ وتفسيرها.فإن قال قائل: فما بالي أقول: لم أرك مذ يوم الجمعة، وقد رآه يوم الجمعة؟ قيل: إن النفي إنما وقع على ما بعد الجمعة، والتقدير: لم أرك مذ وقت رؤيتي لك يوم الجمعة، فقد أثبت الرؤية، وجعلتها الحد الذي منه لم أره. فهذا تفسيرها ومجرى ما كان هذا لفظه، واتصل به معناه.


فأما منذ فمعناها - جررت بها أو رفعت - واحد. وبابها الجر؛ لأنها في الأزمة لابتداء الغاية بمنزلة من في سائر الأسماء. تقول: لم أرك منذ يوم الجمعة، أي: هذا ابتداء الغاية؛ كما تقول: من عبد الله إلى زيد، ومن الكوفة سرت. فإن رفعت فعلى أنك جعلت منذ اسماً، وذهبت إلى أنها مذ في الحقيقة. وذلك قليل؛ لأنها في الأزمنة بمنزلة من في الأيام. فأما مذ فدل على أنها اسم: أنها محذوفة من منذ التي هي اسم؛ لأن الحذف لا يكون في الحرف؛ إنما يكون في الأسماء والأفعال، نحو: يد، ودم، وما أشبهه.
هذا الباب
التبيين والتمييز


اعلم أن التمييز يعمل فيه الفعل وما يشبهه في تقديره؛ ومعناه في الانتصاب واحدٌ وإن اختلفت عوامله. فمعناه: أن يأتي مبيناً عن نوعه، وذلك قولك: عندي عشرون درهماً، وثلاثون ثوباً. لما قلت: عندي عشرون، وثلاثون، ذكرت عدداً مبهماً يقع على كل معدود، فلما قلت درهماً عرفت الشيء الذي قصدت بأن ذكرت واحداً منه يدل على سائره، ولم يجز أن تذكر جمعا؛ لأن الذي قبله قد تبين أنه جمع، وأنه مقدار منه معلوم. ولم يجز أن يكون الواحد الدال على النوع معرفة؛ لأنه إذا كان معروفاً كان مخصوصاً، وإذا كان منكوراً كان شائعاً في نوعه. فأما النصب فإنما كان فيه؛ لأن النون منعت الإضافة، كما تمنعها إذا قلت: هؤلاء ضاربون زيدا. ولولا النون لأضفت فقلت: هؤلاء ضاربو زيدٍ؛ كما تقول: هذه عشرو زيدٍ، إلا أن الضاربين وما أشبهه أسماءٌ مأخوذةٌ من الفعل تضاف كما تضاف الأسماء، فإذا منعت النون الإضافة عملت هذه الأسماء فيما بعدها بما فيها من معنى الفعل، وكان المنصوب مفعولاً صحيحاً؛ لأنها أسماء الفاعلين في الحقيقة وفيها كنايتهم، فإذا قلت عشرون رجلاً فإنما انتصب بإدخالك النون ما بعدها تشبيها بذلك؛ كما أن قولك: إن زيدا منطلق، ولعل زيدا أخوك مشبهٌ بالفعل في اللفظ، ولا يكون منه فعل، ولا يفعل ولا شيء من أمثلة الفعل؛ وكما أن كان في وزن الفعل وتصرفه، وليست فعلا على الحقيقة. تقول: ضرب زيد عمرا، فتخبر بأن فعلا وصل من زيد إلى عمرو. فإذا قلت: كان زيد أخاك لم تخبر أن زيدا أوصل إلى الأخ شيئا، ولكن زعمت أن زيدا أخوه فيما خلا من الدهر. والتشبيه يكون للفظ، وللتصرف، والمعنى. فأما المعنى فتشبيهك ما بليس. وليس فعل وما حرف. والمعنى واحد. فهذا سبيل كل ما كانت النون فيه عاملة من التبيين. فإن قلت: هل يجوز عندي عشرو رجلٍ؟. فإن ذلك غير جائز؛ لأن الإضافة تكون على جهة الملك إذا قلت: عشرو زيد، فلو أدخلت التمييز على هذا المضاف لالتبس على السامع قصدك إلى تعريف النوع بتعريفك إياه صاحب العشرين، ولم يكن إلى النصب سبيلٌ؛ لأنه في باب الإضافة. كقولك: ثوب زيد، ودرهم عبد الله. والتبيين في بابه من النصب وإثبات النون؛ فامتنع من إدخاله في غير بابه مخافة اللبس. ومما ينصب قولك: هذا أفضلهم رجلا، وافره الناس عبدا. وذلك إنك كنت تقول في المصادر: أعجبني ضرب زيدٍ عمرا، فتضيف إلى زيد المصدر؛ لأنه فعله، فتشغل الإضافة بالفعل، فتنصب عمرا، لأنه مفعول. ولولا أنك أضفت إلى زيد لكان عمرو مخفوضاً بوقوع المضاف عليه؛ كما أنك لو لم تنون في قولك: ضاربون زيدا لحل زيد محل التنوين، وانخفض بالإضافة. فلما كان عشرون رجلاً بمنزلة ضاربين زيدا، كان قولك: لي مثله رجلاً. وأنت أفرههم عبداً بمنزلة أعجبني ضرب زيد عمرا، وشتمك خالدا. وكما امتنعت من أن تقول: عشرو درهمٍ للفصل بين التفسير والملك إذا قلت: عشرو زيد، امتنعت في قولك: أنت أفرههم عبداً من الإضافة؛ لأنك إذا قلت: أنت أفرههم عبداً فإنما عنيت مالك العبد. وإذا قلت: أنت أفره عبد في الناس فإنما عنيت العبد نفسه، إلا أنك إذا قلت: أنت أفره العبيد فقد قدمته عليهم في الجملة. وإذا قلت: أفره عبد في الناس، فإنما معناه: أنت أفره من كل عبدٍ إذا أفردوا عبداً عبداً؛ كما تقول: هذا خير اثنين في الناس، إذا كان الناس اثنين اثنين. ويجوز أن تقول - وهو حسن جداً - أنت أفره الناس عبيدا. وأجود الناس دوراً. ولا يجوز عندي عشرون دراهم يا فتى. والفصل بينهما: أنك إذا قلت: عشرون، فقد أتيت على العدد، فلم يحتج إلا إلى ذكر ما يدل على الجنس، فإذا قلت: هو أفره الناس عبدا، جاز أن تعني عبداً واحداً، فمن ثم حسن، واختير - إذا أردت الجماعة - أن تقول: عبيدا. قال الله عز وجل: " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً " ، وقد يجوز أن تقول: أفره الناس عبداً فتعني جماعة العبيد نحو التمييز. والجمع أبين إذا كان الأول غير مخطور العدد. ومن التمييز ويحه رجلاً، ولله دره فارساً، وحسبك به شجاعاً، إلا أنه إذا كان في الأول ذكرٌ منه حسن أن تدخل من توكيداً لذلك الذكر. فتقول: ويحه من رجلٍ. ولله دره من فارسٍ؛ وحسبك به من شجاع ولا يجوز: عشرون من درهم ولا هو أمزههم من عبد لأنه لم يذكره في الأول. وأنا أرى قوله عز وجل: " وما بكم من نعمةٍ فمن الله " على هذا؛ كما تقول: من جاءني من طويلٍ


أعطيته، ومن جاءني من قصيرٍ منعنه؛ لأنك قدمت ذكره بقولك: من. واعلم أن التبيين إذا كان العامل فيه فعلاً جاز تقديمه؛ لتصرف الفعل. فقلت: تفقأت شحماً. وتصببت عرقاً. فإن شئت قدمت، فقلت: شحماً تفقأت. وعرقاً تصببت. وهذا لا يجيزه سيبويه؛ لأنه يراه كقولك: عشرون درهماً. وهذا أفرههم عبداً، وليس هذا بمنزلة ذلك؛ لأن عشرين درهماً إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من الفعل. ألا ترى أنه يقول: هذا زيد قائماً. ولا يجيز قائماً هذا زيد؛ لأن العامل غير فعل. وتقول: راكباً جاء زيد؛ لأن العامل فعل؛ فلذلك أجزنا تقديم التميز إذا كان العامل فعلاً. وهذا رأي أبي عثمان المازني. وقال الشاعر: فقدم التمييز لما كان العامل فعلاً:، ومن جاءني من قصيرٍ منعنه؛ لأنك قدمت ذكره بقولك: من. واعلم أن التبيين إذا كان العامل فيه فعلاً جاز تقديمه؛ لتصرف الفعل. فقلت: تفقأت شحماً. وتصببت عرقاً. فإن شئت قدمت، فقلت: شحماً تفقأت. وعرقاً تصببت. وهذا لا يجيزه سيبويه؛ لأنه يراه كقولك: عشرون درهماً. وهذا أفرههم عبداً، وليس هذا بمنزلة ذلك؛ لأن عشرين درهماً إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من الفعل. ألا ترى أنه يقول: هذا زيد قائماً. ولا يجيز قائماً هذا زيد؛ لأن العامل غير فعل. وتقول: راكباً جاء زيد؛ لأن العامل فعل؛ فلذلك أجزنا تقديم التميز إذا كان العامل فعلاً. وهذا رأي أبي عثمان المازني. وقال الشاعر: فقدم التمييز لما كان العامل فعلاً:
أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... وما كان نفساً بالفراق تطيب
واعلم أن من التمييز ما يكون خفضاً. ولكن يكون على معنى أذكره لك: وذلك قولك: كل رجل جاءني فله درهم. فهذا شائعٌ في الرجال. ولكن معناه: كل الرجال إذا كانوا رجلاً رجلا، كقولك: كل اثنين أتياني فلهما درهمان. ومن ذلك قوله: مائة درهمٍ. وألف درهمٍ. وإنما معناه معنى عشرين درهماً. ولكنك أضفت إلى المميز؛ لأن التنوين غير لازم. والنون في عشرين لازمة؛ لأنها تثبت في الوقف، وتثبت مع الألف واللام. وقد مضى تفسير هذا في باب العدد. فأما قولك: زيد الحسن وجهها. والكريم أباً، فإنه خارج التقدير من باب الضارب زيد؛ لأنك تقول: هو الحسن الوجه يا فتى، وإن كان الخفض أحسن. وكذلك: هو حسنٌ الوجه. فهذا لا يكون فيه إلا النصب. لأن التنوين مانع، وقد ذكرنا هذا في بابه؛ فلذلك لم نذكر استقصاءه في هذا الموضع. فأما قولك: أنت أفره عبدٍ في الناس، فإنما معناه: أنت أحد هؤلاء الذين فضلتهم. ولا يضاف أفعل إلى شيء إلا وهو بعضه؛ كقولك: الخليفة أفضل بني هاشم. ولو قلت: الخليفة أفضل بني تميم كان محالاً؛ لأنه ليس منهم. وكذلك: هذا خير ثوب في الثياب إذا عنيت ثوبا. وهذا خيرٌ منك ثوبا إذا عنيت رجلاً. وكذلك تقول: الخليفة أفضل من بني تميم؛ لأن من دخلت للتفضيل، وأخرجتهم من الإضافة. فهذا وجه ذا. ولو قلت: ما أنت بأحسن وجهاً مني، ولا أفره عبداً - كان جيداً - فإن قصدت قصد الوجه بعينه قلت: هذا أحسن وجهٍ رأيته. إنما تعني الوجوه إذا ميزت وجهاً وجها. فعلى هذه الأصول فقس ما ورد عليك من هذا إن شاء الله.
هذا باب
التثنية على استقصائها
صحيحها ومعتلها


أما ما كان صحيحاً فإنك إذا أردت تثنيته سلمت بناءه، وزدت ألفاً ونوناً في الرفع، وياءً ونوناً في الخفض، ودخل النصب على الخفض؛ كما ذكرت لك في أول الكتاب؛ وذلك قولك في الرفع: زيدان، وعمران، وجعفران، وعطشانان، وعنكبوتان. فإن كان الاسم ممدوداً وكان منصرفاً، وهمزته أصلية، فهو على هذا. تقول في تثنية قراء: قراءان، وفي تثنية خطاء: خطاءان، وفي الخفض والنصب: خطاءين، وزيدين، وعمرين، وقراءين. وقد يكون قراوان على بعد؛ لعلة أذكرها إن شاء الله. وإن كان ممدوداً منصرفاً وهمزته بدلٌ من ياء أو واو، فكذلك. تقول: رداءان، وكساءان، وغطاءان. والقلب إلى الواو في هذا يجوز، وليس بجيد. وهو أحسن منه فيما كانت همزته أصلاً. وذلك قولك: كساوان، وغطاوان. وإن كان الممدود إنما مدته للتأنيث لم يكن في التثنية إلا بالواو، نحو قولك: حمروان، وخنفساوان، وصحراوان، ورأيت خنفساوين، وصحراوين. وإن كان المثنى مقصوراً فكان على ثلاثة أحرف نظرت في أصله: فإن كان من الواو أظهرت الواو، وإن كان من الياء أظهرت الياء، وذلك قولك في تثنية قفًا: قفوان، وعصا: عصوان، ورأيت قفوين، وعصوين. وأما ما كان من الياء فقولك في رحًى: رحيان، وحصًى: حصيان. وإنما فعلت ذلك لأن ألف التثنية تلحق الألف التي كانت في موضع اللام، وكذلك ياء التثنية، وهما ساكنان. فلا يجوز أن يلتقيا؛ فلا بد من حذف أو تحريك؛ فلو حذفت لذهبت اللام، فحركت. فرددت كل حيزٍ إلى أصله؛ كما كنت فاعلاً ذلك إذا ثنيت الفاعل في الفعل، وذلك قولك: غزا الرجل، ودعا، ثم تقول: غزوا، ودعوا؛ لأنك لو حذفت لالتقاء الساكنين لبقي الاثنان على لفظ الواحد. وتقول: رمى، وقضى، فإذا ثنيت قلت: رميا، وقضيا. فكذلك هذا المقصور في التثنية. فإن كان المقصور على أربعة أحرف فصاعداً كانت تثنيته بالياء من أي أصلٍ كان، وقد مضى تفسير هذا. وكذلك إن كانت ألفه زائدة للتأنيث أو للإلحاق. تقول: ملهيان، ومغزيان، وحباريان، وحبنطيان؛ كما تقول في الفعل: أغزيا، وغازيا، وراميا، واستغزيا، واستحييا، ونحوه؛ فعلى هذا مجرى جميع المقصور.
واعلم أن التثنية لا تخطئ الواحد. فإذا قيل لك: ثنه. وجب عليك أن تأتي بالواحد، ثم تزيد في الرفع ألفاً ونوناً، وفي الخفض والنصب ياءً ونوناً. فأما قولهم: جاء ينفض مذرويه؛ فإنما ظهرت فيه الواو؛ لأنه لا يفرد له واحدٌ. وكذلك: عقلته بثنايين ولو كان يفرد له واحدٌ لكان: عقلته بثنائين؛ لأن الواحد ثناءٌ فاعلم، وكنت تقول: مذريان؛ كما تقول: ملهيان، ولكنه بمنزلة قولك: الشقاوة، والعباية. بنيت على هذا التأنيث، وصارت الهاء حرف الإعراب، فظهرت الواو والياء. ولو بنيته على التذكير لم يكن إلا صلاءة، وعباءة؛ كما تقول: امرأة غزاءة؛ لأنك جئت إلى غزاءٍ - وقد انقلبت الواو فيه همزة - فأنثته على تذكيره، ولو كنت بنيته على التأنيث لكانت الهاء مظهرة للياء وللواو قبلها. فأما قولهم: خصيان فإنما بنوه على قولهم: خصيٌ فاعلم. ومن ثنى على قولهم: خصية لم يقل إلا: خصيتان. وكذلك يقولون: ألية وأليٌ في معنى. فمن قال: ألية قال: أليتان، ومن قال: ألي قال: أليان. قال الراجز:
ترتج ألياه ارتجاج الوطب
هذا باب
الإمالة
وهو أن تنحو بالألف نحو الياء. ولا يكون ذلك إلا لعلةٍ تدعو إليه. اعلم أن كل ألف زائدة أو أصلية فنصبها جائزٌ. وليس كل ألف تمال لعلة إلا نحن ذاكروها إن شاء الله. فمما يمال ما كان ألفه زائدةً في فاعل، وذلك نحو قولك: رجل عابدٌ، وعالمٌ، وسالمٌ؛ فإنما أملت الألف. للكسرة اللازمة لما بعدها. وهو موضع العين من فاعل. وإن نصبت في كل هذا فجيدٌ بالغٌ على الأصل وذلك قولك: عالم وعابد. وكذلك إذا كانت قبلها كسرة أو ياء، نحو قولك: عباد، وجبال، وحبال. كل هذا إمالته جائزةٌ. فأما عيال فالإمالة له ألزم، لأن مع الكسرة ياءً. فكل ما كانت الياء أقرب إلى ألفه أو الكسرة فالإمالة له ألزم. والنصب فيه جائز. وكل ما كثرت فيه الياءات أو الكسرات فالإمالة فيه أحسن من النصب.


واعلم أنه ما كان من فعل فإمالة ألفه جائزةٌ حسنة، وذلك نحو: صار بمكان كذا، وباع زيدٌ مالا؛ فإنما أملت؛ لتدل على أن أصل العين الكسر؛ لأنه من بعت، وصرت. والعين أصلها الكسر وألفها منقلبة من واو. إلا أنه فيما كانت ألفه منقلبة من ياء أحسن. فأما الواو فهو فيها جيد، وليس كحسنه في الياء؛ لأن فيه علتين، وإنما في ذوات الواو علةٌ واحدة، وهو أنه من فعل. وذلك قولك: خاف زيدٌ كذا، ومات زيدٌ في قول من قال: مت على وزن خفت. ومن قال: مت لم تجز الإمالة في قوله. وقد قرأ القراء: ذلك لمن خاف مقامي.
واعلم أن الألف إذا كانت منقلبة من ياءٍ في اسم أو فعل، فإمالتها حسنةٌ، وأحسن ذلك أن تكون في موضع اللام. وسنفسر لم ذلك إن شاء الله؟ وذلك قولك: رمى، وسعى، وقضى؛ وذلك لأن الألف هي التي يوقف عليها. والإمالة أبين، وهي التي تنتقل على الثلاثة، فتكون رابعة، وخامسة، وأكثر. فإذا كانت كذلك رجعت ذوات الواو إلى الياء؛ نحو: مغزيان، وملهيان، وقولك في الفعل: أغزيت وقد فسرنا هذا في بابه مستقصًى. فلما كانت الياء أمكن كانت الإمالة أثبت. فأما ما كان من ذوات الواو على ثلاثة أحرف فإن الإمالة فيه قبيحة؛ نحو: دعا، وغزا، وعدا وقد يجوز على بعد؛ لأن هذه الألف هي التي تمال في أغزى، ونحوه. فأما الأسماء فلا يجوز فيها الإمالة إذا كانت على ثلاثة أحرف؛ لأنها لا تنتقل انتقال الأفعال؛ لأن الأفعال تكون على فعل، وافعل، ونحوه، والأسماء لا تتصرف. وذلك قولك: قفاً، وعصاً. لا يكون فيهما، ولا في بابهما إمالةٌ؛ لأنهما من الواو. ولكن رحًى، وحصًى، ونوًى هذا كله تصلح إمالته. ولا تصلح الإمالة فيما ألفه في موضع العين إذا كانت واواً؛ نحو: قال، وطال، وجال؛ لأنها من واو، وليست بفعل كخفت؛ لأنك تقول: قلت، وطلت، وجلت.
هذا باب
ما كان على أربعة أحرف أصلية أو زائدة
اعلم أن ما كانت ألفه من ذلك طرفاً فالإمالة فيه جائزةٌ، وهي التي نختار؛ وذلك أنه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه: إما أن تكون ألفه منقلبة من ياءٍ؛ نحو: مرمًى، ومسعًى؛ لأنه من سعيت، ورميت. وملهًى، ومغزًى من غزوت ولهوت، فإنها إذا كانت كذا ترجع إلى الياء في قولك: ملهيان، ومغزيان. وكلما ازدادت الحروف كثرةً كانت من الواو أبعد، وقد فسرنا لم ذلك في التصريف في باب أغزيت، واستغزيت؟ أو تكون الألف زائدة للتأنيث. فحقٌّ الزوائد أن تحمل على الأصول. فإذا كانت ذوات الواو ترجع إلى الياء فالزائد أولى؛ وذلك قولك في حبلى: حبليان، وحبليات. وكذلك سكرى، وشكاعى ونحوه. فأما الملحقة فنحو: حبنطًى، وأرطًى. ومعزًى تقول: أرطيان، ومعزيان، وحبنطيان. فكل هذا يرجع إلى الياء. فكذلك فافعل به إذا كانت الألف رابعة مقصورةً أو على أكثر من ذلك، اسماً كان أو فعلاً.
هذا باب
الحروف التي تمنع الإمالة


وهي حروف الاستعلاء، وهي سبعة أحرف: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والقاف، والخاء، والعين. وذلك أنها حروف اتصلت من اللسان بالحنك الأعلى، وإنما معنى الإمالة: أن تقرب الحرف مما يشاكله من كسرةٍ أو ياءٍ. فإن كان الذي يشاكل الحرف غير ذلك ملت بالحرف إليه، فهذه الحروف منفتحة المخارج؛ فلذلك وجب الفتح. تقول: هذا عابد، وعالم، وعاند. فإذا جاءت هذه الحروف عينات ولامات في فاعل منعت الإمالة لما فيها، فقلت: هذا ناقد، ولم يجز ناقد من أجل القاف، وكذلك ضابط، وضاغط. فإن كانت هذه الحروف في موضع الفاءات من فاعل منعت الإمالة لقربها، وهي بعد الألف أمنع؛ لئلا يتصعد المتكلم بعد الانحدار. وذلك قولك: هذا قاسم، وصالح، وطالع، ولا تجوز الإمالة في شيءٍ من ذلك. فإن كان الحرف المستعلي بينه وبين الألف حرفٌ، والمستعلي متقدمٌ مكسور، فإن الإمالة حسنة. وذلك قولك: صفاف، وقفاف؛ لأن الكسرة أدنى إلى الألف من المستعلي، والنصب هاهنا حسن جداً، والإمالة أحسن لما ذكرت لك، وحسن النصب من أجل المستعلي. ولو كان المستعلي بعد حرف مكسور لم تجز الإمالة فيه؛ لأن المستعلي أقرب إلى الألف فهو مفتوح. وذلك قولك: رقاب، وحقاف؛ وكذلك رصاص فيمن كسر الراء، لا يكون إلا النصب فإن كان المستعلي في كلمة مع الألف وكان بعدها بحرف أو حرفين لم تكن إمالة. وذلك قولك: مساليخ، وصناديق. فإن قلت: فما قبل المستعلي مكسورٌ، فهلا كان هذا بمنزلة قفاف، وصفاف؟ فمن أجل أن المستعلي إنما انحدرت عنه، وأنت هاهنا لو كسرت كنت مصعداً إليه.
واعلم أنك تقول: مررت بمال لك، ومررت بباب لك، وليس بالحسن؛ لأن الألفين منقلبتان من واوين، من: مولت، وبوبت، وليست الحركة بلازمة. إنما تحذف في الخفض في الوصل، ولا تكون في الوقف، ولا في غير الخفض، فليست كعين فاعل؛ لأن الكسرة لازمة لها، والألف زائدة. ولكن لو قلت: هذا ناب، وهذا عابٌ لصلحت الإمالة؛ لأن الألفين منقلبتان من ياءٍ؛ لأنه من العيب، ومن قولك: نيبت في الأمر، وناب وأنياب، والنصب أحسن؛ لأن اللفظ أولى وليس في اللفظ كسرة، وإنما صلحت الإمالة؛ لأن الألف ياء في المعنى. فجملة الباب: أنه كل ما كان في الياء، أو الكسرة فيه أثبت، فالإمالة له ألزم، إلا أن يمنع مانع من المستعلية.
هذا باب
الراء في الإمالة
اعلم أن الراء مكررةٌ في اللسان، ينبو فيها بين أولها وآخرها نبوةً، فكأنها حرفان. فإن جاءت بعد الألف مكسورةً مالت الألف من أجلها. وذلك قولك: هذا عارم، وعارف. فكانت الإمالة هاهنا ألزم منها في عابد، ونحوه. فإن وقع قبل الألف حرف من المستعلية، وبعد الألف الراء المكسورة حسنت الإمالة التي كانت تمتنع في قاسم ونحوه؛ من أجل الراء، وذلك قولك: هذا قارب، وكذلك إن كان بين الراء وبين الألف حرف مكسور إذا كانت مكسورة. تقول: مررت بقادر يا فتى، وترك الإمالة أحسن؛ لقرب المستعلية من الألف، وتراخي الراء عنها، وينشد هذا البيت على الإمالة والنصب أحسن لما ذكرت لك وهو:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمر جون الرباب سكوب
فإن لم يكن قبل الألف حرف من المستعلية، وكانت بعدها الراء على ما وصفت لك اختير إمالة الألف. وذلك قولك: من الكافرين. وإن قلت: من الكافر يا فتى، فالإمالة حسنة، وليس كحسنها في الكافرين؛ لأن الكسر في الكافرين لازم للراء وبعدها ياء، والكافر لا ياء فيه، وليست الكسرة بلازمة للراء إلا في الخفض، وهي في الجماعة تلزم في الخفض والنصب والوقف والإدراج، ولا تكون في الكافر في الوقف. فإن قلت: جاءني الكافر، فاعلم استوت الإمالة والنصب. فأما الإمالة فمن جهة كسرة الفاء. وأما النصب فإن الراء بعدها كحرفين مضمومين، وكذلك هي في النصب إذا قلت: رأيت الكافر يا فتى. ولو قلت: فلان باسطٌ يده، أو ناعق يا فتى، لم تصلح الإمالة من أجل المستعليين؛ لأن الراء - وإن كان قبلها التكرير - لا تحل محل المستعلية. ولو قلت: هذا قراب سيفك لصلحت الإمالة وإن كانت الراء مفتوحة؛ لأنها في الحقيقة في وزن حرف.


واعلم أن بني تميم يختارون فيما كان على وزن فعال من المؤنث إذا سمي به أن يكون بمنزلة سائر ما لا ينصرف، فيقولون: هذه حذام، ومررت بحذام يا فتى، ورأيت حذام. وأهل الحجاز يقولون: هذه حذام، ومررت بحذام. وقد بينا ذلك فيما ينصرف وما لا ينصرف. فإذا كان اسم من هذه الأسماء في آخره الراء اختارت بنو تميم مذهب أهل الحجاز؛ ليميلوا الألف؛ لأن إجناحها أخف عليهم، ولا سبيل إليه إلا أن يكسروا الراء. فيقولون: هذه حضار فاعلم، وطلعت حضار، والوزن، ومررت بسفار يا فتى. وينشدون هذا البيت للفرزدق:
متى ما ترد يوماً سفار تجد بها ... أديهم يرمي المستجيز المعورا
ومنهم من يمضي على لغته في الراء؛ كما يفعل في غيرها. قال الشاعر:
ومر دهرٌ على وبار ... فهلكت عنوةً وبار
والقوافي مرفوعة. ومما تمال ألفه ما كان قبلها فتحةٌ وفي ذلك الحرف ياء. وذلك قولك: نعم الله بك عينا، ورأيت زيناً، فالإمالة في هذا حسنة في الوقف من أجل الياء. فأما إذا وصلت فلا إمالة فيه من أجل أن الألف تذهب، ويصير مكانها التنوين. ولو قلت: هذا عمران لكانت الإمالة حسنة من أجل كسرة العين. فإن كان مكان الراء حرفٌ من المستعلية لم تصلح الإمالة؛ لأن المستعلي أقرب إلى الألف وهو مفتوح. فإن قلت فهذان مسلمان، فأملت من أجل كسرة اللام صلح، ويزيده حسنا علمك بأن النون مكسورة في الوصل، فإن قلت: مصلحان، أو مكرمان، لم تحسن الإمالة؛ لأنه لا كسر ولا ياء. فإن وصلت حسنت وهي بعيدة؛ لأن النون لا تلزمها الحركة في الوقف، كما أنك لو قلت: رأيت عنباً لم تكن إمالة؛ لأنه لا كسرة ولا ياء. وتقول: نعوذ بالله من النار، للتكرير الذي في الراء؛ لأن الحركة تلحق في الوصل. فإن قلت: وعد الكافرون النار، أو قلت: أحرقته النار، لم تكن إمالةٌ لما ذكرت لك. فأما قولهم: هذا رجل حجاج فلم تجز الإمالة؛ لأنه لا شيء يوجبها، ثم قالوا في الاسم الحجاج فإنما أمالوا للفصل بين المعرفة والنكرة، والاسم والنعت؛ لأن الإمالة أكثر، وليس بالحسن. النصب أحسن وأقيس.
هذا باب
ما يمال وينصب من الأسماء غير المتمكنة
والحروف
اعلم أنهم قالوا: ذا عبد الله، وهذا عبد الله، وقالوا في التهجي: باءٌ، وتاءٌ، وراءٌ؛ ليدلوا على أنها أسماء. فلو ألزمت النصب لالتبست بالحروف؛ لأن الحروف لا تصلح فيها الإمالة. فإن قلت: فهلا فعلوا ذلك في ما التي هي اسم لمضارعتها للحروف؛ لأنها لا تكون اسماً إلا بصلة، إلا في الاستفهام أو الجزاء، فهي في هذين مضارعة للحروف التي هي للاستفهام والجزاء. فأما في النفي فهي حرف وليس باسم، وكذلك هي زائدة في قولك: " فبما نقضهم ميثاقهم " ونحوه. فأما إما وحتى، وسائر الحروف التي ليست بأسماء فإن الإمالة فيها خطاٌ. ولكن متى تمال؛ لأنها اسم، وإنما هي من أسماء الزمان، ولا يستفهم بها إلا عن وقت. فأما عسى فإمالتها جيدةٌ؛ لأنها فعل، وألفها منقلبةٌ من ياء. تقول: عسيت؛ كما تقول: رمى ورميت. فأما على، وإلى فلا تصلح إمالتهما؛ لأن على من علوت، وهي اسم، يدلك على ذلك قولهم: جئت من عليه، أي: من فوقه قال الشاعر:
غدت من عليه تنفض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس اسيوى فترفعا
. قال الشاعر:
غدت من عليه بعد ما تم خمسها ... تصل وعن قيضٍ ببيداء مجهل
هذا باب
كم
اعلم أن كم اسم يقع على العدد، ولها موضعان: تكون خبراً، وتكون استفهاماً فمجراها مجرى عددٍ منون. وذلك قولك: كم رجلاً عندك؟ وكم غلاماً لك؟ تريد: أعشرون غلاماً أم ثلاثون، وما أشبه ذلك؛ كما أنك إذا قلت: أين عبد الله؟ أفي موضع كذا أو في موضع كذا؟ وإذا قلت: متى تخرج؟ فإنما معناه: أوقت كذا أم وقت كذا؟ إلا أنه يجوز لك في كم أن تفصل بينها وبين ما عملت فيه بالظرف فتقول: كم لك غلاماً؟ وكم عندك جاريةً؟ وإنما جاز ذلك فيها؛ لأنه جعل عوضاً لما منعته من التمكن. وأما عشرون ونحوها فلا يجوز أن تقول فيها: عشرون لك جارية، ولا خمسة عشر لك غلاماً إلا أن يضطر شاعر؛ كما قال حين اضطر:
على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولاً كميلا
وقال الآخر:
في خمس عشرة من جمادى ليلةً ... لا أستطيع على الفراش رقادي


وتقول: كم درهم لك؟ لأن التمييز وقع على غيره. فكأن التقدير: كم دانقاً درهم لك. وكم قيراطاً، وما أشبه ذلك؟ كما أنك إذا قلت: كم غلمانك؟ فإنما المعنى: كم غلاماً غلمانك؟ ولا يكون في قولك: كم غلمانك؟ إلا الرفع؛ لأنه معرفة، ولا يكون التمييز بالمعرفة. فإذا قلت: كم غلمانك؟ فتقديره من العدد الواضح: أعشرون غلاماً غلمانك؟ فإن قلت: أعشرون غلمانك؟ فذلك معناه، لأن ما أظهرت دليلٌ على ما حذفت. وتقول: بكم ثوبك مصبوغٌ؟؛ لأن التقدير: بكم مناً ثوبك مصبوغٌ؟ أو بكم درهماً؟ وتقول: على كم جذعاً بيتك مبنى؟ إذا جعلت على كم ظرفاً لبنى رفعت البيت بالابتداء، وجعلت المبنى خبراً عنه، وجعلت على كم ظرفاً لمبنى. فهذا على قول من قال: في الدار زيدٌ قائم، ومن قال: في الدار زيدٌ قائما، فجعل في الدار خبرا، قال: على كم جذعاً بيتك مبنيًّا؟ إذا نصب مبنياً جعل على كم ظرفاً للبيت؛ لأنه لو قال لك على المذهب: على كم جذعاً بيتك؟ لاكتفى؛ كما أنه لو قال: في الدار زيدٌ لاكتفى. ولو قال: بكم رجلٍ زيد مأخوذٌ؟ لم يجز إلا الرفع في مأخوذ؛ كما تقول: بعبد الله زيدٌ مأخوذٌ؛ لأن الظرف هاهنا إنما هو معلقٌ بالخبر. والبصريون يجيزون على قبح: على كم جذعٍ، وبكم رجلٍ؟ يجعلون ما دخل على كم من حروف الخفض دليلاً على من، ويحذفونها، ويريدون: على كم من جذعٍ، وبكم من رجلٍ؟ فإذا لم يدخلها حرف الخفض فلا اختلاف في أنه لا يحوز الإضمار. وليس إضمار من مع حروف الخفض بحسن ولا قوي، وإنما إجازته على بعد. وما ذكرت لك حجة من أجازه. فهذه كم التي تكون للاستفهام. فأما كم التي تقع خبراً فمعناها: معنى رب إلا أنها اسم، و رب حرفٌ وذلك قولك: كم رجلٍ قد رأيته أفضل من زيد. إن جعلت قد رأيته الخبر، وإن جعلت قد رأيته من نعت الرجل قلت: أفضل من زيد رفعت أفضل؛ لأنك جعلت أفضل خبراً عن كم؛ لأن كم اسم مبتدأ. فأما رب إذا قلت: رب رجل أفضل منك فلا يكون له الخبر؛ لأنها حرف خفض وكم لا تكون إلا اسماً. ألا ترى أن حروف الخفض تدخل عليها، وأنها تكون فاعلة ومفعولة. تقول: كم رجلٍ ضربك، فهي هاهنا فاعلة. فإذا قلت: كم رجلٍ قد رأيت، فهي مفعولة، وكذلك لو قلت: كم رجلٍ قد رأيته لكانت مرفوعة؛ لأنها ابتداء؛ لشغلك الفعل عنها، وكذلك تقول: إلى كم رجلٍ قد ذهبت فلم أره.
واعلم أن هذا البيت ينشد على ثلاثة أوجه، وهو:
كم عمة لك يا جرير وخالةٍ ... فدعاء قد حلبت علي عشاري
فإذا قلت: كم عمةٍ فعلى معنى: رب عمة. وإذا قلت: كم عمةً؟ فعلى الاستفهام: وإن قلت: كم عمةٌ أوقعت كم على الزمان فقلت: كم يوماً عمةٌ لك وخالةٌ قد حلبت علي عشاري، وكم مرةً، ونحو ذلك. فإذا قلت: كم عمةٍ فلست تقصد إلى واحدة، وكذلك إن نصبت، وإن رفعت لم تكن إلا واحدة؛ لأن التمييز يقع واحده في موضع الجميع، وكذلك ما كان في معنى رب؛ لأنك إذا قلت: رب رجلٍ رأيته لم تعن واحداً، وإذا قلت: كم رجلاً عندك؟ فإنما تسأل: أعشرون أو ثلاثون أو نحو ذلك؟. فإذا قلت كم درهمٌ عندك؟ فإنما تعني: كم دانقاً هذا الدرهم الذي أسألك عنه؟ فالدرهم واحد مقصود قصده بعينه؛ لأنه خبر، وليس بتمييز، وكذلك: كم جاءني صاحبك؟ إنما تريد: كم مرةً جاءني صاحبك. فإذا قلت: ما بال المستفهم بها ينتصب ما بعدها والتي في معنى رب ينخفض بها ما بعدها وكلاهما للعدد؟ فإن في هذا قولين: أحدهما: أن التي للخبر لما ضارعت رب في معناها اختير فيها ترك التنوين؛ ليكون ما بعدها بمنزلتها بعد رب، وتكون تشبه من العدد ثلاثة أثواب، ومائة درهم، فتكون غير خارجة من العدد، وقد أصبت بها ما ضارعته؛ كما أن المضاف إليه إنما خص بالخفض؛ لأنه على معنى اللام،. ألا ترى أن قولك: هذا غلام زيدٍ إنما معناه: هذا غلامٌ لزيد، وقد تجوز أن تكون منونة في الخبر، فينتصب ما بعدها فتقول: كم رجلاً قد أتاني. إلا أن الأجود ما ذكرنا؛ ليكون بينها وبين المستفهم بها فصل. فإن فصلت بينها وبين ما تعمل فيه بشيءٍ اختير التنوين؛ لأن الخافض لا يعمل فيما فصل منه، والناصب والرافع يعملان في ذلك الموضع، وذلك قولك: كم يوم الجمعة رجلاً قد أتاني، وكم عندك رجلاً قد لقيته، ويختار النصب في قوله:
كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل


وقد زعم قومٌ أنها على كل حال منونة، وإن ما انخفض بعدها ينخفض على إضمار من. وهذا بعيدٌ؛ لأن الخافض لا يضمر؛ إذا كان وما بعده بمنزلة شيءٍ واحد، وقد ذكرناه بحججه مؤكدا. ومن فصل للضرورة بين الخافض والمخفوض فعل مثل ذلك في كم في الخبر. وذلك قوله:
كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ... وشريف بخله قد وضعه
وقال الآخر:
كم في بني سعد بن بكرٍ سيدٍ ... ضخم الدسيعة ماجدٍ نفاع
والقوافي مجرورة. وقال الآخر:
كم قد فاتني بطلٍ كميٍّ ... وياسر فتيةٍ سمحٍ هضوم
ولا يجوز أن تفصل بين الخافض والمخفوض في الضرورة إلا بحشوٍ كالظروف وما أشبهها مما لا يعمل فيه الخافض؛ كما تقول: إن اليوم زيد منطلقٌ. ولو كان مكان اليوم ما تعمل فيه إن لم يقع إلى جانبها إلا معمولاً فيه. ولولا أن هذه القوافي مخفوضة لاختير في هذين البيتين الرفع، وتوقع كم على مرار من الدهر، فتكون كم ظرفاً منصوباً؛ لأن كم اسم للعدد، فهي واقعة على كل معدود. وتقول: كم رجلاً جاءك؟ فإنما تسأل بها عن عدد الرجال. وتقول: كم يوماً لقيت زيدا؟ فتنصبها؛ لأنها واقعة على عدد الأيام واللقاء العامل فيها، فكذا كل مبهم. ولو قلت: كم يوماً لقيت فيه زيدا؟ لكانت كم في موضع رفع، كأنك قلت: أعشرون يوماً لقيت فيها زيدا؟ إلا أن كم في هذا الموضع استفهام. فهي في أنها اسم وأنها الحرف المستفهم به بمنزلة من، وما، وأين، ومتى، وكيف وإن كانت المعاني مختلفةً؛ لأن من إنما هي لما يعقل خاصةً حيث وقعت: من خبر، أو استفهام، أو جزاء، أو نكرة. وما لذات غير الآدميين، ولصفات الآدميين. وأين للمكان، ومتى للزمان، وكيف للحال، وكم للعدد، فهي داخلة على جميع هذا إذا سألت عن عدد نوعٍ منها؛ نحو: كم مكاناً قمت؟ وكم يوماً صمت؟ وكم حالاً تصرفت عليها؟ ونحو ذلك.
هذا باب
مسائل كم في الخبر والاستفهام
تقول: كم ثلاثةً ستةٌ إلا ثلاثتان نصبت ثلاثة؛ لأنها تمييز، وستةٌ خبر كم، وثلاثتان بدلٌ من كم. فالتقدير: أي شيءٍ من العدد ستةٌ إلا ثلاثتان؟. ولو قلت: كم لك درهمٌ؟ وأنت تريد: كم دانقا درهمٌ؟ لم يكن الدرهم إلا رفعاً، ولم ترد به إلا واحداً. ولو قلت: كم لك درهما؟ لكان لك خبراً، وكان الدرهم في موضع جماعة، لأنك تريد: كم من درهم لك؟ وتقول: كم دنانيرٌ عندك؟ ولا يجوز النصب في تمييزها بجماعة؛ كما لا تقول: إلا عشرون درهماً، ولا يجوز عشرون دراهم. فإن ذكرت كم التي تقع في الخبر جاز أن تقول: كم غلمانٍ قد رأيت، وكم أثوابٍ قد لبست؛ لأنها بمنزلة ثلاثة أثواب ونحوه من العدد، ولأنها مضارعةٌ رب وهما يقعان على الجماعة، ووقوعها على الواحد في معنى الجماعة لمضارعتها رب، وتشبه من العدد مائة درهم، وألف درهم.
واعلم أن كم لا بد لها من الخبر، لأنها اسم فهي مخالفة لرب في هذا، موافقةٌ لها في المعنى. تقول: كم رجلٍ قد رأيت أفضل منك، ورب إنما تضيف بها إلى ما وقعت عليه ما بعده؛ نحو: رب رجلٍ في الدار، ورب رجلٍ قد كلمته. فهذا معناها. ولو قلت: كم رجل قد أتاني لا رجلٌ، ولا رجلان كان جيداً، لأنك تعطف على كم ولا يجوز مثل هذا في باب رب؛ لأنها حرف. فأما قوله:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك ورب قتلٍ عار
فعلى إضمار هو. لا يكون إلا على ذلك. فهذا إنشاد بعضهم. وأكثرهم ينشده
وبعض قتل عار


فأما قوله: كم من رجلٍ قد رأيته؟ فتدخل من وأنت لا تقول: عشرون من رجل؛ فإنما ذلك لأن كم استفهامٌ، والاستفهام يدخل فيما وقع عليه من توكيداً وإعلاماً أنه واحد في معنى الجميع، وذلك: هل أتاك من أحد؟ كما تقول في المنفي: ما أتاني من رجل. ولو قلت: ما أتاني رجل، وهل أتاني رجل، لجاز أن تعني واحداً؛ والدليل على ذلك وقوع المعرفة في هذا الموضع؛ نحو: ما أتاني زيد. وهل أتاك زيد؟. ومعنى قولك: عشرون درهماً: إنما هو عشرون من الدراهم؛ لأن عشرون وما أشبهه اسم عدد. فإذا قلت: هذا العدد، فمعناه: من ذا النوع. فلما قلت: درهماً. جئت بواحد يدل على النوع. لاستغنائك عن ذكر العدد، فلما اجتمع في كم الاستفهام وأنها تقع سؤالاً عن واحد؛ كما تقع سؤالاً عن جمع، ولا تخص عدداً دون عدد لإبهامها. ولأنها لو خصت لم تكن استفهاماً؛ لأنها كانت تكون معلومة عند السائل، دخلت من على الأصل، ودخلت في التي هي خبر؛ لأنها في العدد والإبهام كهذه.
واعلم أن كل تمييز ليس فيه ذكر للمقصود فإن من لا تدخله إذا كان مفرداً، لأنك لو أدخلتها لوجب الجمع؛ وذلك قولك: عشرون درهماً، ومائة درهم، وكل رجلٍ جاءني فله درهمٌ، وهو خيرٌ منك عبدا، أفره منك داية، وعندي ملءْ قدحٍ عسلا. وعلى التمرة مثلها زبدا. إلا أن تقول: عشرون من الدراهم، وهو خيرٌ منك من الغلمان، وعليها مثلها من الزبد. فإن كان فيها ذكر الأول دخلت من في المخصوص فقلت: ويحه رجلا، وويحه من رجل، ولله دره فارسا، ومن فارس، وحسبك به رجلا، ومن رجل. ولا يكون هذا في المضمر الذي يقدم على شريطة التفسير؛ لأنه مجمل، نحو: ربه رجلاً قد رأيته، ونعم رجلاً عبد الله، وقد مضى بابها مفسراً.
هذا باب
الأفعال التي تسمى أفعال المقاربة
وهي مختلفة المذاهب والتقدير، مجتمعة في المقاربة
فمن تلك الأفعال عسى وهي لمقاربة الفعل، وقد تكون إيجاباً، ونحن نذكر بعد فراغنا منها شيئاً إن شاء الله. اعلم أنه لا بد لها من فاعل؛ لأنه لا يكون فعلٌ إلا وله فاعل. وخبرها مصدر؛ لأنها لمقاربته. والمصدر اسم الفعل. وذلك قولك: عسى زيدٌ أن ينطلق، وعسيت أن أقوم، أي: دنوت من ذلك، وقاربته بالنية. وأن أقوم في معنى القيام. ولا تقل: عسيت القيام، وإنما ذلك لأن القيام مصدر، لا دليل فيه يخص وقتاً من وقت، وأن أقوم مصدر لقيام لم يقع؛ فمن ثم لم يقع القيام بعدها، ووقع المستقبل. قال الله عز وجل: " فعسى الله أن يأتي بالفتح " وقال: " فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " . ولو احتاج شاعرٌ إلى الفعل فوضعه في موضع المصدر جاز؛ لأنه دالٌّ عليه. فمن ذلك قوله:
عسى الله أن يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمر جون الرباب سكوب
وقال الآخر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب
وأما قولهم في المثل: عسى الغوير أبؤساً فإنما كان التقدير: عسى الغوير أن يكون أبؤسا؛ لأن عسى إنما خبرها الفعل مع أن أو الفعل مجرداً، ولكن لما وضع القائل الاسم في موضع الفعل كان حقه النصب؛ لأن عسى فعل، واسمها فاعلها، وخبرها مفعولها؛ ألا ترى أنك تقول: كان زيد ينطلق. فموضعه نصبٌ. فإن قلت: منطلقاً لم يكن إلا نصبا. فأما قولهم: عسى أن يقوم زيد. وعسى أن يقوم أبواك، وعسى أن تقوم جواريك فقولك: أن يقوم رفع؛ لأنه فاعل عسى. فعسى فعلٌ ومجازها ما ذكرت لك. فأما قول سيبويه: إنها تقع في بعض المواضع بمنزلة لعل مع المضمر فتقول: عساك وعساني، فهو غلطٌ منه؛ لأن الأفعال لا تعمل في المضمر إلا كما تعمل في المظهر. فإما قوله:
تقول بنتي: قد أنى إناكا ... يا أبتي علك أو عساكا
وقال آخر:
ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تخالفني: لعلي أو عساني


فأما تقديره عندنا: أن المفعول مقدم، والفاعل مضمر، كأنه قال: عساك الخير أو الشر، وكذلك: عساني الحديث، ولكنه حذف؛ لعلم المخاطب به، وجعل الخبر اسماً على قولهم: عسى الغوير أبؤسا. وكذلك قول الأخفش: وافق ضمير الخفض ضمير الرفع في لولاي، فليس هذا القول بشيءٍ، ولا قوله: أنا كأنت، ولا أنت كأنا بشيءٍ، ولا يجوز هذا، إنما يتفق ضمير النصب، وضمير الخفض كاستوائهما في التثنية والجمع، وفي حمل المخفوض الذي لا يجري على لفظ النصب؛ مثل قولك: مررت بعمر. استوى فيه الخفض، والنصب وأدخلت الخفض على النصب، كما أدخلت النصب على الخفض، فهذان متواخيان. والرفع بائنٌ منهما. وأما لولا فنذكر أمرها في بابها إن شاء الله.
ومن هذه الحروف لعل تقول: لعل زيداً يقوم. ولعل حرف جاء لمعنى مشبه بالفعل كأن معناه التوقع لمحبوب أو مكروه. وأصله عل واللام زائدة فإذا قلت: لعل زيداً يأتينا بخير، ولعل عمراً يزورنا. فإنما مجاز هذا الكلام من القائل، أنه لا يأمن أن يكون هذا كذا. والخبر يكون اسماً؛ لأنها بمنزلة إن، ويكون فعلاً، وظرفاً؛ كما يكون في إن تقول: لعل زيداً صديقٌ لك، ولعل زيداً في الدار، ولعل زيداً إن أتيته أعطاك. إذا ذكرت الفعل فهو بغير أن أحسن؛ لأنه خبر ابتداء، وقال الله عز وجل: " لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً " وقال: " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " . فإن قال قائلٌ في الشعر: لعل زيداً أن يقوم جاز؛ لأن المصدر يدل على الفعل، فمجاز المصدر هاهنا كمجاز الفعل في باب عسى. قال الشاعر:
لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من اللائي يدعنك أجدعا
ومن هذه الحروف كاد، وهي للمقاربة، وهي فعل. تقول: كاد العروس يكون أميراً، وكاد النعام يطير. فأما قول الله عز وجل: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " فمعناه - والله أعلم - لم يرها، ولم يكد، أي: لم يدن من رؤيتها. وكذلك: " من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم " . فلا تذكر خبرها إلا فعلاً، لأنها لمقاربة الفعل في ذاته. فهي بمنزلة قولك: جعل يقول، وأخذ يقول، وكرب يقول، إلا أن يضطر شاعر، فإن اضطر جاز له فيها ما جاز في لعل. قال الشاعر:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا
هذا باب
المبتدأ المحذوف الخبر استغناءً عنه
وهو باب لولا
اعلم أن الاسم الذي بعد لولا يرتفع بالابتداء، وخبره محذوف لما يدل عليه. وذلك قولك: لولا عبد الله لأكرمتك. ف عبد الله ارتفع بالابتداء، وخبره محذوف. والتقدير: لولا عبد الله بالحضرة، أو لسبب كذا لأكرمتك. فقولك: لأكرمتك، خبرٌ معلق بحديث لولا. ولولا حرف يوجب امتناع الفعل لوقوع اسم. تقول: لولا زيد لكان كذا وكذا. فقوله: لكان كذا وكذا، إنما هو لشيءٍ لم يكن من أجل ما قبله. ولولا إنما هي لو و لا، جعلتا شيئاً واحداً، وأوقعتا على هذا المعنى. فإن حذفت لا من قولك: لولا انقلب المعنى، فصار الشيء في لو يجب لوقوع ما قبله. وذلك قولك: لو جاءني زيد لأعطيتك، ولو كان زيد لحرمك. ف لولا الأصل لا تقع في إلا على اسم. ولو لا تقع إلا على فعل. فإن قدمت الاسم قبل الفعل فيها كان على فعل مضمر، وذلك كقوله عز وجل: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي " . إنما أنتم رفع بفعل يفسره ما بعده. وكذلك:
فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
ومثل ذلك قول العرب: لو ذات سوارٍ لطمتني إنما أراد: لو لطمتني ذات سوارٍ، والصحيح من روايتهم: لو غير ذات سوار لطمتني وفيه خبر لحاتم. وقال الشاعر:
لو غيركم علق الزبير بحبله ... أدى الجوار إلى بني العوام
فغيركم يختار فيها النصب؛ لأن سببها في موضع نصب. وقولهم: لو أنك جئت لأكرمتك، وقد مر تفسيره في باب إن و أن.
هذا باب
المقصور والممدود


فأما المقصور فكل واو أو ياء وقعت بعد فتحة. وذلك؛ نحو: مغزًى؛ لأنه مفعل. فلما كانت الواو بعد فتحة، وكانت في موضع حركة انقلبت ألفاً؛ كما تقول: غزا، ورمى فتقلب الواو والياء ألفاً، ولا تنقلب واحدةٌ منهما في هذا الموضع إلا والفتح قبلها إذا كانت في موضع حركة. فإن كانت ساكنة الأصل وقبلها فتحةٌ لم تنقلب. وذلك؛ نحو: قول، وبيع، ولا تنقلب ألفاً؛ لأجل سكونها. فإذا أردت أن تعرف المقصور من الممدود فانظر إلى نظير الحرف من غير المعتل. فإن كان آخره متحركاً قبله فتحةٌ علمت أن نظيره مقصور. فمن ذلك: معطًى، ومغزًى؛ لأنه مفعل. فهو بمنزلة مخرج ومكرم، وكذلك: مستعطًى، ومستغزًى؛ لأنه بمنزلة مستخرج. فعلى هذا فقس جميع ما ورد عليك.
ومن المقصور أن ترى الفعل على فعل يفعل، والفاعل على فعلٍ، وذلك قولك: فرق يفرق فرقاً، وحذر يحذر حذراً، وبطر يبطر بطراً وهو بطرٌ وحذرٌ. ونظير هذا من المعتل: هوى يهوى هوًى؛ لأن المصدر يقع على فعل؛ ألا ترى أنك تقول: الفرق، والحذر، والبطر. وهو بمنزلة هوى يهوى وهو هوٍ، وطوى يطوى طوًى وهو طوٍ. وما كان مصدراً لفعل يفعل الذي الاسم منه أفعل أو فعلان. فهو كذلك. أما ما كان الاسم منه أفعل فهو أعمى؛ لأنك تقول: عمي الرجل فهو أعمى، والعشى؛ لأنك تقول: عشي الرجل وهو أعشى، وكذلك القنا من قنا النف، لأن الرجل أقنى. وأما فعلان فنحو الصدى، والطوى؛ لأنك تقول: صدي الرجل فهو صديان، وطوي فهو طيان. فنظير ذلك: عطش فهو عطشان، والمصدر هو العطش، وظمئ فهو ظمآن، والمصدر الظمأ، وعليه فهو علهان. والمصدر العله. ونظير الأول: عور فهو أعور، والمصدر العور. وكذلك الحول، والشتر، والصلع، ونحو ذلك. ومن المقصور كل اسم جمعه أفعالٌ مما أوله مفتوح، أو مضموم، أو مكسور وذلك نحو قولك: أقفاءٌ، وأرجاءٌ يا فتى؛ لأن الجمع إذا كان على أفعال وجب أن يكون واحده من المفتوح على فعل؛ نحو: جمل، وأجمال، وقتب وأقتاب، وصنم وأصنام. فإن كان مكسوراً فنحو قولك في معًى: أمعاءٌ؛ لأنه بمنزلة ضلع وأضلاع. وقد وجب أن يكون واحد الأمعاء معًى مقصور. فأما ندُى فهو فعلٌ، وجمعه الصحيح أنداء فاعلم؛ وعلى ذلك قال الشاعر:
إذا سقط الأنداء صينت، وأشعرت ... حبيراً ولم تدرج عليها المعاوز
فأما قول مرة بن محكان:
في ليلةٍ من جمادى ذات أندية ... ما يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
فقد قيل في تفسيره قولان: قال بعضهم: هو جمعٌ على غير واحد، مجازه مجاز الاسم الموضوع على غير الجمع، نحو: ملامح، ومذاكير، وليالي؛ لأن ليلة: فعلة، ولا تجمع على ليالي، ولمحة وذكر لا يجمعان على مفاعل ومفاعيل. وقال بعضهم: إنما أراد جمع ندى، أي: ندى القوم الذي يقيمون فيه، فيضيفون ويفخرون؛ كما قال الشاعر:
يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ ... ويوم سيرٍ إلى الأعداء تأويب
فإنما تستدل على المقصور بنظائره. ومن المقصور ما كان جمعاً لفُعلة أو فِعلة، نحو: رقية ورقى، ولحية ولحًى، ورشوة ورشًى، ومدية ومدًى. وقد قالوا: مديةٌ ومدًى؛ لأن نظيره من غير المعتل: كسرة وكسر، وقطعة وقطع، وظلمة وظلم. فإنما تستدل على المقصور بهذا وما أشبهه. ومن المقصور كل ما كان مؤنثاً لفعلان؛ نحو غضبان، وعطشان، وسكران؛ لأن مؤنثه سكرى، وغضبى، وعطشى. ومنه ما كان جمعاً لفعلى؛ لأنه يقع على مثال فعل، وذلك قولك: الدنيا والدنا، والقصيا والقصى. ومنه ما كان مؤنثاً في أفعل الذي كان معه من كذا؛ لأنه يكون على مثال فعلى. وذلك قولك: هذا الأكبر، وهذه الكبرى، والأصغر والصغرى، والأول والأولى؛ لأنك تقول: هذا أصغر منك، وهذا أكبر منك، وهذا أول منك. ومن المقصور ما لا يقال له: قصر لكذا؛ كما لا يقال: إنما سميت قدم لكذا، وقذال لكذا. ولكنك تستدل على قصره بما هو على خلافه بنحو ما ذكرناه.


فأما الممدود فإنه ياءٌ او واوٌ تقع بعد ألف زائدة، أو تقع ألفان للتأنيث فتبدل الثانية همزةً؛ لأنه إذا التقت ألفان فلا بد من حذف أو تحريك؛ لئلا يلتقي ساكنان، فالحذف لو وقع هاهنا لعاد الممدود مقصوراً، فحرك لما ذكرت لك. فأما ما كان غير مؤنث، فهمزته أصلية أو منقلبة من ياءٍ أو واو بعد ألف زائدة. فمن ذلك ما بنيته على فعال؛ نحو: شراب، وقتال، وحسان، وكرام؛ لأن موضع اللام بعد ألف زائدة. فإن كان من ذوات الواو والياء، أو ما همزته أصليةٌ؛ نحو: سقاء، وغزاء يا فتى؛ لأنه من سقيت وغزوت، وقولك: قراءٌ يا فتى؛ لأنه من قرأت، فهذا كهذا. ومما يعلم منه أنه ممدود ما كان من هذا الباب مصدراً لأفعلت؛ لأنها تأتي على وزن الإفعال؛ نحو: أخطأت إخطاءً، وأقرأته إقراءً. هذا مما همزته أصلية. ومن ذوات الياء والواو: أعطيته إعطاءً، وأغزيته إغزاءً. وكذلك كل ما كان مصدراً لاستفعلت؛ نحو: استقصيت استقصاءً، واستدنيت استدناءً؛ لأنه بمنزلة الاستخراج، والاستضراب. وكذلك كل ما كان مصدراً لقولك: انفعل، وافتعل؛ لأنه يأتي بمنزلة الانطلاق والاقتدار؛ لأن ما قبل اللام ألفٌ زائدة؛ نحو: اختفى اختفاءً، وانقضى انقضاءً. وكل ما لم نسمه فقسه على نظيره من الصحيح. وكل جمع من هذا الباب على أفعلة فواحده ممدود، نحو: رداء وأردية، وكساء وأكسية، وإناء وآنية، ووعاء وأوعية؛ لآن نظيره حمار وأحمرة، وقبال وأقبلة. ومن الممدود ما كان جمعاً لفعلة من ذوات الواو والياء، وذلك نحو: فروة وفراء. ومن قال: جروة قال: جراء فاعلم، وكذلك كوة وكواء. فأما قرية وقرى فليس من هذا الباب؛ لأن قرًى فعل وليس على فعلة وفعال؛ لأن فعالاً في فعلة هو الباب؛ نحو: صحفة وصحاف، وقصعة وقصاع، وجفنة وجفان. ومن الممدود كل مصدرٍ مضموم الأول في معنى الصوت، فمن ذلك الدعاء، والعواء، والرغاء. هذا ممدود؛ لأن نظيره من غير المعتل النباح، والصراخ، والشجاع. فأما البكاء، فإنه يمد ويقصر. فمن مد فإنما أخرجه مخرج الصوت، ومن قصره أخرجه مخرج الحزن. وكذلك كل ما كان في معنى الحركة على هذا الوزن؛ لأنه بمنزلة النقاز، والنفاض؛ وقلما تجد المصدر مضموم الأول مقصوراً؛ لأن فعلا قلما يقع في المصادر.
واعلم أن من الممدود ما لا يقال له: مد لكذا؛ كما لا تقول: وقع حمار لكذا إلا أنك تستدل بالنظائر. واعلم أن كل ممدود تثنيه وكان منصرفاً فإن إقرار الهمزة فيه أجود، نحو: كساءان، ورداءان، وقد يجوز أن تبدل الواو من الهمزة فتقول: كساوان، ورداوان، وليس بالجيد. فإن قلت: قراوان فهو أقبح؛ لأن الهمزة أصل، وليست منقلبة من ياء أو واو. وهذا جائز. فإن كان ملحقاً كان أحسن، على أن الهمزة أجود. وذلك: علباوان، وحرباوان؛ لأن الهمزة ملحقة، وليست بأصل، ولا منقلبة من شيءٍ من الأصل. وكذلك النسب: من قال: كساءان قال: كسائي، ومن قال: كساوان قال: كساوي. فإن كانت الهمزة للتأنيث لم يكن إلا بالواو؛ نحو: حمراوان وحمراوي.
والمقصور إذا كان على ثلاثة أحرف ردت الواو والياء في التثنية، تقول: قفوان. فإن كان من ذوات الياء قلت: رحيان، فردت الياء. فإن زاد على الثلاثة شيئاً - منصرفاً كان أو غير منصرف - لم تقل في تثنيته إلا بالياء؛ نحو: جبليان، ومغزيان، وحباريان. وكذلك الجمع بالتاء نحو: حباريات، وحبليات. فأما في النسب فما كان منه على ثلاثة انقلبت ألفه واواً من أي البابين كان؛ نحو: رحوي، وقفوي. فإن زاد فله حكم نذكره في باب النسبة إن شاء الله. ونذكر بعد هذا مجاز وقوع الممدود والمقصور، ليعلم ما سبيل المد والقصر فيهما إن شاء الله؟. أما المقصور فإنما هو على أحد أمرين: إما أن يكون اسماً ألفه غير زائدة؛ نحو: قفًا، وعصًى، ولهًى، ومرمًى، ومستعطًى، فهذا كله انقلبت ياوه أو واوه ألفاً لما ذكرت لك. وإما أن تكون ألفه زائدة لإلحاق أو تأنيث: فالإلحاق؛ نحو: حنبطًى، وعفرنًى، وأرطى. والتأنيث نحو: حبلى، وبشرى، وقرقرى. فهذه صيغٌ وقعت كما تقع الأسماء التي لا يقال لها مقصورةٌ ولا ممدودة. فما كان مثل قفا وعصا، فنحو جمل. ومثل مغزًى، وملهًى، مخرج، ومدخل. وما كان نحو: حنبطى فلامه أصل؛ لأن ألف حبنطًى ملحقة به؛ نحو: جحنفل، وما أشبهه، وكأرطًى الذي هو فعلًى، فألفه ملحقة بجعفر وسلهب، فألفات هذا الضرب أصلية، وتلك ملحقة بها.


وأما الممدود فلا يكون إلا وقبل آخره ألفٌ زائدة، ويقع بعدها ألف مبدلة من ياءٍ أو واو، للتأنيث أو للإلحاق. فأما سقاء وغزاء، فبمنزلة ضراب وقتال. وأما الملحقة فنحو: حرباء، وعلباء. وفعلاء - فاعلم - تلحق بسرداح، وشملال. وفعلاءٌ تلحق؛ نحو: قوباءٍ فاعلم فيمن أسكن الواو، وهو بمنزلة فسطاط. وأما ما كان للتأنيث فنحو: حمراء، وصفراء، وخنفساء. إنما هي زائدة بعد زائدة. فهذا تأويل المقصور والممدود.
هذا باب
الابتداء
وهو الذي يسميه النحويون الألف واللام
اعلم أن هذا الباب عبرةٌ لكل كلام، وهو خبر، والخبر ما جاز على قائله التصديق والتكذيب. فإذا قلت: قام زيد، فقيل لك: أخبر عن زيد، فإنما يقول لك: ابن من قام فاعلاً، وألحقه الألف واللام على معنى الذي، واجعل زيداً خبراً عنه، وضع المضمر موضعه الذي كان فيه في الفعل. فالجواب في ذلك أن تقول: القائم زيدٌ، فتجعل الألف واللام في معنى الذي، وصلتهما على معنى صلة الذي، وفي القائم ضمير يرجع إلى الألف واللام، وذلك الضمير فاعلٌ، لأنك وضعته موضع زيد في الفعل، وزيد خبر الابتداء. وإن شئت قلته ب الذي، فقلت: الذي قام زيدٌ. ف الذي لا يمتنع منه كلامٌ يخبر عنه البتة. وقولك: الفاعل لا يكون إلا من فعلٍ خاصةً.ولو قلت: زيدٌ في الدار فقال: أخبر عن زيد بالألف واللام، لم يجز؛ لأنك لم تذكر فعلاً. فإن قيل لك: أخبر عنه بالذي قلت: الذي هو في الدار زيد، فجعلت هو ضمير زيد، ورفعت هو في صلة الذي بالابتداء، وفي الدار خبره، كما كان حيث قلت: زيد هو في الدار، وجعلت هو ترجع إلى الذي. فإن قال لك أخبر عن الدار في قولك: زيد في الدار، قلت: التي زيد فيها الدار. فالهاء في قولك فيها مخفوضٌ في موضع الدار؛ لأن الدار في المسألة هاهنا خبر التي، فهذا وجه الإخبار.
هذا باب
الفعل الذي يتعدى الفاعل إلى المفعول
وذلك نحو: ضرب عبد الله أخاك، وقتل عبد الله زيداً. فإن قيل لك: أخبر عن الفاعل في قولك: ضرب عبد الله أخاك. قلت: الضارب أخاك عبد الله، وإن شئت قلت: الذي ضرب أخاك عبد الله، وفي ضرب اسم عبد الله فاعل؛ كما كان ذلك في قولك: ضرب عبد الله، وهو العائد إلى الذي حتى صلحت الصلة، وعبد الله خبر الابتداء. فإن قال لك: أخبر عن المفعول. قلت، الضاربه عبد الله أخوك. ف الهاء ضمير الأخ، وهي مفعول كما كان مفعولاً وعبد الله فاعل كما كان في المسألة، وأخوك خبر الابتداء، وهو الألف واللام في الحقيقة؛ لأن كل ما تخبر عنه ف الذي تقدمه له، وهو خبر الابتداء، وكلاهما تقصد به الذي تخبر عنه في الحقيقة. فإن قلت: ضرب زيدٌ أخاك في الدار، فقيل لك: أخبر عن الدار قلت: الضارب زيدا أخاك فيها الدار. وتأويله بالذي: التي ضرب عبد الله أخاك فيها الدار. وقولك: فيها هو قولك: في الدار في المسألة. وقد مضى من التفسير ما يدل على ما يرد من هذا الباب. فإن قلت: ضرب عبد الله أخاك قائماً، فقيل: أخبر عن قائم، فقد سألك محالاً؛ لأن الحال لا تكون إلا نكرة، والمضمر لا يكون إلا معرفة وكل ما أخبرت عنه فإضماره لا بد منه؛ فالإخبار عن الحال لا يكون. ولا يخبر عن النعت؛ لأن النعت تحلية. والمضمر لا يكون نعتاً؛ لأنه لا يكون تحلية. ولا يخبر عن التبيين؛ لأنه لا يكون إلا نكرة. ولا يخبر عن الظروف التي لا تستعمل اسماً؛ لأن الرفع لا يدخلها، وخبر الابتداء لا يكون إلا رفعاً. ولا يخبر عن الأفعال، ولا عن الحروف التي تقع لمعانٍ؛ لأنها لا يكون لها ضمير. فكل ما كان مما ذكرته فقد أثبت لك العلة فيه. وكل اسم سوى ذلك فمخبرٌ عنه. ولا يخبر عن كيف، وأين، وما أشبهه؛ لأن ذلك لا يكون إلا في أول الكلام؛ لأنها للاستفهام. ولا يخبر عن أحد وأخواته.
هذا باب
الفعل الذي يتعدى الفاعل إلى مفعولين
ولك أن تقتصر على أحدهما إن شئت


وذلك قولك: أعطيت زيداً درهما، وكسوت زيداً ثوبا، وما أشبهه؛ لأنك إن شئت قلت: كسوت زيداً، وأعطيت زيداً، ولم تذكر المفعول الثاني. فإذا قلت: أعطيت زيداً درهما، فقال لك: أخبر عن زيد، قلت: المعطيه أنا درهما زيدٌ. فإن قال لك: أخبر عن الدرهم قلت: المعطي أنا زيدا إياه درهمٌ، فهذا أحسن الإخبار أن تجعل ضمير الدرهم في موضعه؛ لئلا يدخل الكلام لبس وإن لم يكن ذلك في الدرهم، ولكن قد يقع في موضعه: أعطيت زيدا عمرا، فالوجه أن تقدم الذي أخذ، وقد يجوز: المعطية أنا زيدا درهم؛ لأن هذا لا يلبس؛ لأن الدرهم ليس مما يأخذ. فإذا دخل الكلام لبسٌ، فينبغي أن يوضع كل شيءٍ في موضعه. فإن قال لك: أخبر عن نفسك، قلت: المعطي زيداً درهما أنا.
واعلم أن الفعل يتضمن الضمير، واسم الفاعل لا يتبين ذلك فيه، فإذا جرى على ما هو له لم يظهر فيه ضمير. وإن جرى لمن ليس هو له خبراً، أو نعتاً، أو حالاً، أو صلة، لم يكن بدٌّ من إظهار الفاعل؛ ألا ترى أنك تقول: زيد أضربه، وعمرو تضربه. فإن وضعت في موضع تضربه ضاربه، قلت: زيد ضاربه أنا، وعمرو ضاربه أنت؛ لأن الفعل الذي أظهرت قد جرى خبراً على غير نفسه. فلذلك لما قال لك في قوله أعطيت زيدا درهما أخبر عن نفسك، قلت: المعطي زيدا درهما أنا، فلم تظهر بعد المعطي مضمراً؛ لأن الألف واللام لك والفعل لك فجرى على نفسه. وإن أخبرت عن الدرهم، أو زيدا، أظهرت أنا فقلت: المعطيه أنا درهما زيد؛ لأن الفعل لك، والألف واللام لزيد، فجرى الفعل على غير من هو له، وكذلك المعطي أنا زيدا إياه درهم؛ لأن الألف واللام للدرهم، والفعل لك. فإن كان الذي ظهر الفعل، فلم تحتج إلى المضمر المنفصل. وذلك قولك: - إن أخبرت عن زيد - الذي أعطيته درهما زيدٌ. فإن أخبرت عن الدرهم قلت: الذي أعطيته زيدا درهمٌ، وإن وضعت ضمير الدرهم موضعه قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهمٌ.
هذا باب
الفعل المتعدي إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما
دون الآخر
وتلك الأفعال هي أفعال الشك واليقين؛ نحو: علمت زيداً أخاك، وظننت زيداً ذا مال، وحسبت زيدا داخلاً دارك، وخلت بكراً أبا عبد الله، وما كان من نحوهن. وإنما امتنع: ظننت زيداً حتى تذكر المفعول الثاني؛ لأنها ليست أفعالاً وصلت منك إلى غيرك، إنما هو ابتداء وخبر. فإذا قلت: ظننت زيدا منطلقاً فإنما معناه: زيد منطلق في ظني، فكما لا بد للابتداء من خبر كذا لا بد من مفعولها الثاني؛ لأنه خبر الابتداء، وهو الذي تعتمد عليه بالعلم والشك. إذا قلت: ظننت زيداً أخاك، فقال لك: أخبر عن نفسك، قلت: الظان زيداً أخاك نفسك. فإن قال: أخبر عن زيد، قلت: الظانه أنا أخاك زيدٌ. فإن قال: أخبر عن الأخ، قلت: الظان أنا زيدا إياه أخوك. تضع الضمير في موضع الذي تخبر عنه. فإن قيل لك: أخبر ب الذي عن نفسك قلت: الذي ظن زيداً أخاك أنا. فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي ظننته أخاك زيدٌ. فإن قيل أخبر عن الأخ، قلت: الذي ظننت زيدا إياه أخوك، ويقبح أن تقول: الذي ظننته زيداً أخوك؛ لما يدخل الكلام من اللبس. ألا ترى أنك إذا قلت: ظننت زيداً أخاك، فإنما يقع الشك في الأخوة. فإن قلت: ظننت أخاك زيداً، أوقعت الشك في التسمية. وإنما يصلح التقديم والتأخير إذا كان الكلام موضحاً عن المعنى؛ نحو: ضرب زيدا عمرو؛ لأنك تعلم بالإعراب الفاعل والمفعول، فإن كان المفعول الثاني مما يصح موضعه إن قدمته فتقديمه حسنٌ؛ نحو قولك: ظننت في الدار زيدا، وعلمت خلفك زيدا. فإن قال: أخبر عن الدار، قلت: الظان أنا فيها زيدا الدار. و ب الذي تقول: التي ظننت فيها زيدا الدار. وكذلك الخلف. تقول: الظان أنا فيه زيدا خلفك. وإن كان المفعول الثاني فعلاً، نحو: ظننت زيدا يقوم، لم يجز الإخبار عنه لما ذكرت لك. وكذلك إن كان من الظروف التي لا تحل محل الأسماء.
هذا باب
الذي يتعدى إلى مفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد
وذلك: كان، وصار، وأصبح، وأمسى، وليس، وما كان نحوهن


اعلم أن هذا الباب إنما معناه: الابتداء والخبر، وإنما دخلت كان؛ لتخبر أن ذلك وقع فيما مضى، وليس بفعل وصل منك إلى غيرك. وإنما صرفن تصرف الأفعال لقوتهن، وأنك تقول فيهن: يفعل، وسيفعل، وهو فاعل، ويأتي فيهن جميع أمثلة الفعل. فإذا قلت: كان زيد أخاك فخبرت عن زيد قلت: الكائن أخاك زيد؛ كما كنت تقول في ضرب. فإن أخبرت عن الأخ فإن بعض النحويين لا يجيز الإخبار عنه، ويقول: إنما معناه: كان زيد من أمره كذا وكذا؛ فكما لا يجوز أن تخبر عن قولنا: من أمره كذا وكذا؛ كذلك لا يجوز أن تخبر عما وضع موضعه. وهذا قولٌ فاسد مردود لا وجه له؛ لأنك إذا قلت: زيد منطلق، فمعناه: زيد من أمره كذا وكذا. فلو كان يفسد الإخبار هناك لفسد هاهنا. وكذلك باب ظننت وعلمت، وإن وأخواتها؛ لأن معنى: ظننت زيدا أخاك إنما هو: ظننت زيدا من أمره كذا وكذا، وكذلك: إن زيدا أخوك إنما هو: إن زيدا من أمره كذا وكذا. فمن زعم أنه لا يجوز الإخبار عن ذلك لزمه ألا يجيز الإخبار عن شيءٍ من هذا، فإن كان يخبر عن هذا أجمع، ويمتنع لعلة موجودة في هذا، فقد ناقض. فالإخبار عن المفعول في كان - إذا قلت: كان زيد أخاك - أن تقول: الكائن زيد إياه أخوك. فهذا الأحسن. وإن قلت: الكائنه زيدٌ أخوك، فحسنٌ، والأول أجود؛ لما قد ذكرته لك في باب كان من أن الذي يقع بعدها ابتداءٌ وخبر. فإذا قال: الكائنه، فوصل الضمير ب كان، فقد ذهب في اللفظ ما يقوم مقام الابتداء، وهو في المعنى موجود فاخترنا الأول؛ لأن له اللفظ والمعنى، وقد قال الشاعر:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
فهذا جائز، والأحسن ما قال الشاعر:
ليت هذا الليل شهرٌ ... لا نرى فيه عريبا
ليس إياي وإيا ... ك ولا نخشى رقيبا
فإن قلت: كان زيد ضارباٌ عمرا، فقيل: خبر عن ضارب وحده، لم يجز؛ لأنه عامل في عمرو، وإن قيل: خبر عن عمرو جاز فقلت: الكائن زيد ضاربه عمرٌو. فإن قيل: خبر عن ضارب عمراً قلت: الكائنه زيد ضاربٌ عمرا، ولك أن تقول: إياه ضارب عمراً فتقول: الكائن زيد إياه ضاربٌ عمرا. فإن قلت ذلك ب الذي قلت: الذي كان زيد إياه ضاربٌ عمرا. فإن قلته بالهاء قلت: الذي كان زيد ضاربٌ عمرا، وتحذف الهاء لطول الاسم، وإن شئت جئت بها فقلت: الذي كانه. فأما إذا قلت: الذي كان زيد إياه، فإن إياه لا يجوز حذفها؛ لأن المتصل يحذف، كما يحذف ما كان من الاسم في مواضع، وإياه منفصلة فلا تحذف؛ لأن هذا لا يشبه ذلك. ألا ترى أنك تقول: الذي ضربت زيد، ولا تقول: الذي مررت زيد؛ لأن الضمير قد فصلته بالباء. فأما ليس فلا يجوز أن تخبر عما عملت فيه بالألف واللام؛ لأنها ليس فيها يفعل، ولا يبنى منها فاعل، ولكن يخبر بالذي، وذلك قولك: ليس زيد منطلقاً، وليس زيد إلا قائماً. فإن قيل لك: أخبر عن زيد في قولك: ليس زيد منطلقا، قلت: الذي ليس منطلقاً زيدٌ. وإن قال: أخبر عن منطلق قلت: الذي ليس زيد إياه منطلق. وإن قيل: أخبر عن زيد في قولك: ليس زيد إلا قائماً، قلت: الذي ليس إلا قائماً زيدٌ. وإن قال: أخبر عن قائم قلت: الذي ليس زيد إلا إياه قائم.


وكل شيء ليس فيه فعل فالإخبار عنه لا يكون إلا بالذي، تقول: زيد أخوك. فإن قيل: أخبر عن زيد قلت: الذي هو أخوك زيدٌ. وإن قيل: أخبر عن الأخ قلت: الذي زيدٌ هو أخوك. وتقول: إن زيداً منطلق. فإن قال: أخبر عن زيد قلت: الذي إنه منطلق زيدٌ. فإن قال: أخبر عن منطلق قلت: الذي إن زيداً هو منطلق، فعلى هذا تجري الإخبار. تقول: زيد في الدار. فإن قال: أخبر عن زيد قلت: الذي هو في الدار زيدٌ. وإن قال: أخبر عن الدار قلت: التي زيدٌ فيها الدار. وتقول: كان زيد حسنا وجهه. فإن قال: أخبر عن زيد قلت: الكائن حسنا وجهه زيدٌ. فإن قال: أخبر عن حسنا وجهه قلت: الكائن زيد إياه حسنٌ وجهه. فإن قيل: أخبر عن وجهه لم يجز ذلك؛ وذلك لأنه يضع في موضع وجهه ضميراً. فإن رجع ذلك الضمير إلى الذي لم يرجع إلى زيد شيءٌ فبطل الكلام. وإن رجع إلى زيد لم يرجع إلى الذي في صلته شيءٌ. وكذلك: كان زيد أبوه منطلق. إن قيل: أخبر عن أبيه لم يجز للعلة التي ذكرت لك، ويبين هذا أنك إذا قلت: الذي كان زيد هو منطلق أبوه، فرددت هو إلى زيد فسد من جهتين: إحداهما: أن هو للأب، وقد جعلتها لزيد. والآخر: أنك لم تجعل في صلة الذي شيئاً يرجع إليه. فإن قال: أرد هو إلى الذي لم يكن في خبر زيد ما يرجع إليه. ولكن لو قال: أخبر عن منطلق لقلت: الذي كان زيدٌ أبوه منطلقٌ. فكانت الهاء في أبيه لزيد، وهو الذي به يصح الكلام. واعتبر هذا بواحدة: وهو أن تضع في موضع الضمير أجنبياً، فإن صلح جاز الإخبار عنه، وإن امتنع لم يجز؛ ألا ترى أنك لو قلت: كان زيد حسنا عمرو، وكذلك: كان زيد عمرو منطلق لم يجز. فإن قلت: كان زيد أبوه في داره جاز الإخبار عن أبيه؛ لأنك لو قلت: كان زيد عمرو في داره لصلح. وإن أخبرت عن أبيه قلت: الكائن زيدٌ هو في داره أبوه. جعلت هو يرجع إلى الذي؛ لأنه المخبر عنه، وجعلت الهاء التي في داره ترجع إلى زيد. فكل ما كان من هذا فاعتبره بالأجنبي كما وصفت لك. فهذا بابه، وسنفرد باباً لمسائله بعد فراغنا منه إن شاء الله.
هذا باب
الإخبار عن الظروف والمصادر
فأما الظروف فهي: أسماء الزمان والأمكنة. وأما المصادر فهي: أسماء الأفعال.
اعلم أن كل ظرف متمكنٍ فالإخبار عنه جائز، وذلك قولك - إذا قال قائل: زيد خلفك - : أخبر عن خلف قلت: الذي زيدٌ فيه خلفك، فترفعه؛ لأنه اسم، وقد خرج من أن يكون ظرفاً، وإنما يكون ظرفاً إذا تضمن شيئاً؛ نحو: زيدٌ خلفك؛ لأن المعنى: زيدٌ مستقرٌ في هذا الموضع، والخلف مفعول فيه. فإن قلت: خلفك واسعٌ، لم يكن ظرفا، ورفعت؛ لأنك عنه تخبر. وكذلك: سرت يوم الجمعة، فيوم الجمعة ظرف لسيرك. فإن قلت: يوم الجمعة مباركٌ، أخبرت عن اليوم؛ كما تخبر عن سائر الأسماء؛ لأنه ليس بظرف، فهو كقولك: زيد حسنٌ،. وعلى هذا قال الشاعر:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها


فكل ظرف يستعمل اسماً فهذا مجازه، وما كان لا يقع إلا ظرفاً فلا يجوز الإخبار عنه؛ لأنه لا يرتفع. وكل ما خبرت عنه فلا بد من رفعه؛ لأنه خبر ابتداءٍ. فمن ذلك عند، لو قلت: زيد عندك، فقال قائل: أخبر عن قولك عندك لم يجز؛ لأنه كان يلزمك أن تقول: الذي زيد فيه عندك؛ فترفع ما لا يجوز أن يقع مرفوعاً أبداُ. وكذلك ذات مرة، وسوى، وسواء، وبعيدات بين، وسحر إذا أردت به سحر يومك وقد مرت العلة في هذه الظروف في مواضعها. وكل ما نصبته نصب الظروف لم تخبر عنه؛ لأن ناصبه قائم، وإنما تخبر عنه إذا حولته إلى الأسماء. وكذلك المصادر، كل ما تنصب منها نصب المصدر لم تخبر عنه فإن نصبته نصب الأسماء، فقد حكمت له بالرفع، والخفض في موضعهما، وجعلته كسائر الأسماء، وذلك قولك: سرت بزيد سيراً، ليس في قولك سيراً إلا ما كان في قولك: سرت إلا أن تنعته، أو تصيره معرفة، أو تفرده، أو تثنى فتقول: سرت بزيد سيراً شديداً، أو سيرةً واحدةً، أو سيرتين، أو السير الذي تعلم. فإذا أوقعت فيه الفائدة فالباب فيه التصرف. وتقول: سير بزيد سيرٌ شديد، وسير بزيد سيرتان. فإن قلت: سير بزيد سيراً فالنصب الوجه، والرفع بعيد؛ لأنه توكيد، وقد خرج من معاني الأسماء. قال الله - عز وجل - : " فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدةٌ " فرفع لما نعت. فإذا أخبرت عن الصور قلت: المنفوخ فيه نفخةٌ واحدة الصور. وإن أخبرت عن النفخة قلت: المنفوخة في الصور نفخةٌ واحدةٌ. وتقول: سير بزيد فرسخٌ إذا أقمته مقام الفاعل. فإن قيل: أخبر عنه، قلت: المسير بزيد فرسخٌ. فإن قيل: أخبر عن زيد قلت: المسير به فرسخٌ زيدٌ. وإن قلت: سير بزيد فرسخا، فنصبته نصب الظروف، ولم تقمه مقام الفاعل لم يجز الإخبار عنه. وكذلك سير بزيد يوماً، وسير بزيد سيرا. وكل ما لم تجعله من مصدر، أو ظرف اسماً فاعلاً أو مفعولاً على السعة لم يجز الإخبار عنه؛ لأن ناصبه معه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: سير بزيد سيرا، فجعلت قولك بزيد تماماً فإنما هو على قولك: يسيرون سيراً. وإنما يكون الرفع على مثل قولك: سير بزيد يومان، وولد له ستون عاماً. فالمعنى: ولد لزيد الولد ستين عاماً، وسير به في يومين، وهذا الرفع الذي ذكرناه اتساعٌ. وحقيقة اللغة غير ذلك. قال الله عز وجل: " بل مكر الليل والنهار " ، وقال الشاعر:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
وقال:
فنام ليلي وتقضى همي
وقد استقصينا هذا في بابه، وإنما نذكر منه شيئاً للإخبار. فمن جعل اليوم ونحوه ظرفاً قال: اليوم سرت فيه؛ لأنه قد شغل الفعل عنه، فرد إليه ضميره على معناه. ومن جعله اسماً على الاتساع قال: اليوم سرته؛ كما تقول: زيد ضربته. فمن ذلك قوله:
ويومٍ شهدناه سليماً وعامراً ... قليلٍ سوى الطعن النهال نوافله


فقال: شهدناه، وإنما أراد: شهدنا فيه على ما ذكرت لك. فإن قيل: سير بزيد فرسخان يومين فأنت مخير: إن نصبتهما نصب الظروف قلت: فرسخين يومين. والاختيار: أن تقيم أحدهما مقام الفاعل، وإن نصبت اليومين نصب الظرف قلت: سير بزيد فرسخان يومين. فإن أخبرت عن الفرسخين قلت: المسيران بزيد يومين فرسخان. فإن أخبرت عن اليومين، وجعلتهما ظرفاً قلت: المسير بزيد فيهما فرسخان يومان. وإن جعلتهما اسمين على السعة قلت: المسير هما بزيد فرسخان يومان. فإن جعلت الإخبار عن الذي، وأخبرت عن الفرسخين قلت: اللذان سيرا بزيد يومين فرسخان. فإن أخبرت عن اليومين، وجعلتهما ظرفاً قلت: اللذان سير بزيد فيهما فرسخان يومان وإن جعلتهما مفعولين قلت: اللذان سيرهما بزيد فرسخان يومان، وإنما توحد الفعل لتقدمه. وتقول في الألف واللام: المسيران - إذا أخبرت عن الفرسخين - لأن الفعل لهما، وهو مردود إلى الألف واللام. وفي اليومين توحد؛ لأن الألف واللام لهما، والفعل للفرسخين، وأفردته لظهور فاعله بعده. ومثل ذلك قولك: القائمان أخواك؛ لأنك تريد: اللذان قاما، ثم تقول: القائم أبواهما أخواك؛ لأنك تريد: اللذان قام أبواهما، فتوحد الفعل؛ لظهور فاعله بعده. فإن قدمت الفرسخين على ما شرطنا في أصل المسألة قلت: الفرسخان المسيران بزيد يومين وإن قدمت اليومين قلت: اليومان المسير بزيد فيهما فرسخان. إن جعلتهما ظرفاً، وإن جعلتهما مفعولين قلت: المسير هما بزيد فرسخان. فإن قدمت الفرسخين، واليومين، وجعلت اليومين مفعولين قلت الفرسخان اليومان المسيراهما بزيدهما. بجعل الفرسخين ابتداءً، واليومان ابتداءً ثانياً، والمسيراهما ابتداءً ثالثاً؛ لأن الألف واللام للفرسخين؛ فلا يكون خبراً عن اليومين، وقولك هما ضمير اليومين على أنهما مفعولان. فإن جعلتهما ظرفين قلت: المسيران فيهما، وقولك هما خبر الألف واللام، والألف، واللام، وخبرها خبر اليومين، واليومان وما بعدهما خبر الفرسخين. وهذا إذا تأملته في الفاعل، والمفعول مثل قولك: الرجلان الجارية الضارباهما والتقدير: اللذان ضرباها هما. فإن جعلت الألف واللام في معنى التي قلت: الضاربها هما؛ لأنك أردت: التي ضربها الرجلان. ف التي خبرٌ عنها، وقولك هما إظهار الفاعلين؛ لأن الفعل جرى على غر من هو له. فعلى هذا تجري المسألة في الفرسخين. وتقول: زيد الضاربك أبوه، فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي هو الضاربك أبوه زيدٌ. وإن أخبرت عن الضارب بغير أبيه فقلت: الذي زيد هو أبوه الضاربك لم يصلح؛ لأنك كنت ترفع أباه بالضرب والضمير لا معنى لفعل فيه؛ فمن هاهنا بطل. ولكن لو قلت: زيدٌ صاحبه أبوه، على أن تجعل صاحبه ابتداءً، وأباه خبراً جاز فقلت: الذي زيدٌ هو أبوه صاحبه؛ ألا ترى أنك لو قلت: زيدٌ صاحبه عمرٌو أو زيد عمرو أبوه صلح فاعتبر هذا بالأجنبي؛ كما وصفت لك.
هذا باب
الإخبار عن البدل
وذلك قولك: مررت برجلٍ زيدٍ. فإن قال لك قائل: أخبر عن زيد فإن فيه اختلافاً. يقول قوم: الإخبار عنه: أن تخبر عن الرجل، ثم تجعله بدلاً منه، فتقول: المار به أنا رجل زيد، فتجعله بدلاً؛ كما كان في المسألة. وقال آخرون: إنما الشرط الإخبار عن البدل لا عن المبدل منه، فإنما تبدل منه في موضعه، فتقول: المار أنا برجل به زيدٌ ترد الباء؛ لأن ضمير المخفوض لا ينفصل، وردها فيما يجوز انفصاله جائز حسن. قال الله تبارك وتعالى: " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم " ، فوقع البدل برد حرف الجر. وقال الله عز وجل في موضع آخر: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " . فجاء البدل بلا حرف؛ لأنه ينفصل. فهكذا طريق البدل. فإن قلت: رأيت رجلا زيد، فخبرت عن زيد قلت: الرائي أنا رجلاً إياه زيدٌ، على هذا القول، وعلى القول الأول: الرائيه أنا رجلٌ زيدٌ، فعلى هذا فأجر البدل.
هذا باب
الإخبار في باب الفعلين المعطوف أحدهما على الآخر


وذلك قولك: ضربت، وضربني زيد. إذا أعملت الآخر فاللفظ معرًّى من المفعول في الفعل الأول، وهو في المعنى عامل، وكان في التقدير: ضربت زيداً، وضربني زيدٌ، فحذف، وجعل ما بعده دالاً عليه. وقد مضى تفسير هذا في بابه. فالعرب تختار إعمال الآخر؛ لأنه أقرب، وتحذف إذا كان فيما أبقوا دليل على ما ألقوا. قال الله عز وجل: " والذاكرين الله كثيراً والذاكرات " ، وقال: " والحافظين فروجهم والحافظات " . فالفعلان فارغان في اللفظ، معملان في المعنى. قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف
أراد: نحن راضون بما عندنا. فإذا أعملت الأول قلت: ضربت، وضربني زيدا، فإن قدمت ضربني قلت في إعمال الآخر: ضربني، وضربت زيدا قدمت الفعل مضمراً فيه الفاعل؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل، والذي بعده تفسيرٌ له، وهو من المضمر المتقدم على شريطة التفسير. وقد قلنا في هذا في موضعه ما يغني عن إعادته. وتقول: أعطيت، وأعطاني زيد درهماً، إذا أعملت الأخير. فإن أعملت الأول قلت: أعطيت وأعطانيه زيدا درهما. تريد: أعطيت زيدا درهما، وأعطانيه. وإعمال الأول في المسألة الأولى: ضربني، وضربته زيد. تريد: ضربني زيدٌ، وضربته. وتقول: ظنني، وظننت زيدا منطلقاً إياه. لا يكون إلا ذلك؛ لأن ظننت إذا تعدى إلى مفعول لم يكن من الثاني بدٌّ، فهكذا إعمال الأخير، ولم يجز أن تقول: إياه قبل أن تعطف؛ لأنك لا تضمر المفعول قبل ذكره. وإنما أضمرت الفاعل قبل فعله اضطراراً؛ لأنه لا يخلو فعلٌ من فاعل. فمن ثم وضعت إياه مؤخراً لما تقدم ما يرد الضمير إليه، وهو قولك: منطلق. فإن أعملت الأول، وقدمت ظننت، قلت: ظننت وظننيه زيدا منطلقا. أردت: ظننت زيدا منطلقا، وظننيه، وإن شئت وظنني إياه. وتقول: ظننت، وظناني منطلقاً أخويك منطلقين، على إعمال الأول، والتقدير: ظننت أخويك منطلقين، وظناني منطلقا، والضمير لا يكون هاهنا؛ لأن خبر الأخوين مخالفٌ لما يكون للواحد.وإن أعملت الآخر قلت: ظننت وظنني أخواك منطلقاً. أعملت الآخر، والأول فارغٌ في اللفظ، وهو في المعنى معمل لدلالة ما بعده عليه. وإنما يجب إذا تعدى الظن إلى المفعول الأول أن يتصل بالثاني؛ لأن الأول والثاني في محل الابتداء، وخبره. فالأول مذكورٌ ليرد إليه ما استقر له عند القائل من يقينٍ أو شك. ألا ترى أن قولك: ظننت زيداً منطلقا إنما وقع الشك في الانطلاق، والتقدير: زيدٌ منطلق في ظني. وقد مضى هذا مفسراً في أول الكتاب. وإنما ذكرنا هاهنا منه شيئاً ليصل به الإخبار عنه إن شاء الله. إذا قال القائل: ضربت وضربني زيداً. يريد: ضربت زيداً وضربني، فإن الإخبار عن التاء في قول جميع النحويين، إلا أن أبا عثمان المازني يقول في هذا الباب قولاً لم يقله أحدٌ، وقوله صحيحٌ يتبينه من سمعه، ويعلم أن ما كان اصطلاحاً.


يقول النحويون: إذا أخبروا عن التاء في ضربت وضربني زيدا: الضارب زيداً والضاربه هو أنا؛ لأن التقدير: ضربت زيداً وضربني. فلما قلت: الضارب زيداً، كانت الألف واللام لك، والفعل لك مجرى الفعل صلة لنفسه، فلم يحتج إلى إظهار ما بعده، وقلت: والضاربه هو؛ لأن الألف واللام لك، والفعل لزيد، فجرى الفعل على غير من هو له، فأظهرت الفاعل. فإن أخبرت عن زيد قلت: الضاربه أنا، والضاربي زيد. أظهرت نفسك؛ لأن الفعل لك، والألف واللام لزيد. فإن قلت: ضربت، وضربني زيد، فإن أخبرت عن نفسك قلت: الضارب زيدا، والضاربه هو أنا، فذكرت زيداً مع الفعل الأول ولم يكن الفعل من قبل الإخبار عنه متعدياً في اللفظ، فجعلته بمنزلته في المسألة الأولى. فإن أخبرت عن زيد فإن بين النحويين فيه اختلافاً: يقول قوم: الضاربه أنا، والضاربي زيد، ويقولون: ذكرنا الفعل غير متعدٍّ، ولا بد أن نعديه في الإخبار عنه؛ ليرجع الضمير إلى الألف واللام، وإلا لم يكن في صلة الذي ما يرجع إليه. وقال آخرون: تقول: الضارب أنا، والضاربي زيدٌ، فلا تذكر في الضارب شيئاً. فيقال لهم إن لم تريدوا الهاء فالكلام محالً؛ لأنه لا يرجع إلى الألف واللام اللتين في معنى الذي شيءٌ. فيقولون: نريدها، ونحن نحذفها. ولا اختلاف في أن حذفها من صلة الألف واللام رديء جداً، وإن كان يحذف من الذي فقد آل إلى القول الأول، إلا أنهم حذفوا ما إثباته أجود. فإنما كان حذفها جيداً في الذي إذا قلت: الذي ضربت زيد، والذي ضرب عبد الله زيدٌ، لأن الذي اسم بنفسه والفعل والفاعل والمفعول، فصار أربعة أشياء اسماً واحداً، فلم يجز حذف الذي وهو الموصول والمقصود، ولا حذف الفعل وهو الصلة، ولا حذف الفاعل؛ إذا كان الفعل لا يكون إلا منه، فحذف المفعول استخفافاً؛ لأن الفعل قد يخلو منه وهو في النية، ولولا ذلك لم يكن في الصلة ما يرجع إلى الموصول. والألف واللام في معنى الذي، وليس محلهما محله؛ لأنهما دخلا على ضارب؛ كما يدخلان على الرجل، إلا أن ضارباً وما أشبهه في معنى الفعل، فصارتا في معنى ما يوصل بالفعل وهذا مذهب النحويين. وهؤلاء الذين قد حذفوا الهاء قد صاروا إلى حال من أثبتها، إلا أن إثباتها أجود، وليس محلها في الصلة كمحلها في الفعل؛ لأن الموصول لا بد من أن يكون وقع في صلته ما يرجع إليه، والفعل المطلق يستغنى فيه عن ذلك، فيكون المفعول فيه فضلةً: كالحال والظرف والمصدر ونحو ذلك، مما إذا ذكرته زدت في الفائدة، وإذا حذفته لم تخلل بالكلام؛ لأنك بحذفه مستغنٍ؛ ألا ترى أنك تقول: قام زيد، فلولا الفاعل لم يستغن الفعل، ولولا الفعل لم يكن للاسم وحده معنى إلا أن يأتي في مكان الفعل بخبر. فإذا قلت: ضرب عبد الله زيدا، فإن شئت قلت: ضرب عبد الله، فعرفتني أنه قد كان منه ضرب، فصار بمنزلة: قام عبد الله، إلا أنك تعلم أن الضرب قد تعدى إلى مضروب، وأن قولك: قام لم يتعد فاعله، فإن قلت: ضرب عبد الله زيدا، أعلمتني من ذلك المفعول؟، وقد علمت أن ذلك الضرب لا بد من أن يكون في مكانٍ وزمان، فإن قلت: عندك أوضحت المكان، فإن قلت: يوم الجمعة بينت الوقت، وقد علمت أن لك حالاً، وللمفعول حالاً. فإن قلت: قائماً عرفتني الحال منك أو منه، فإن قلت: قاعداً أبنت عن خالك أو حاله. وقد علمت أن ذلك الضرب إما أن يكون كثيراً وإما قليلاً، وإما شديداً، وإما يسيراً. فإن قلت: ضرباً شديداً،أو بينت فقلت: عشرين ضربةً، زدت في الفائدة. فإن قلت: لكذا أو من أجل كذا أفدت العلة التي بسببها وقع الضرب. فكل هذا زيادةٌ في الفوائد، وإن حذفت استغنى الكلام، وليس الفاعل كذلك. ولو قلت: وعمرو حاضر، لزدت في الفائدة كنحو ما ذكرنا. وسنأتي على مسائل من هذا الباب على ما أصله النحويون، ثم نخبر عن فساد الباب في قولهم، وصحة مذهب أبي عثمان المازني إخباراً شافياً إن شاء الله. فإن قلت: أعطيت، وأعطانيه زيدا درهما. تريد: أعطيت زيدا درهما، وأعطانيه قلت: - إذا أخبرت عن نفسك - : المعطي زيدا درهما، والمعطيه هو إياه أنا. تريد: الذي أعطى زيدا درهما، والذي أعطاه زيدٌ إياه أنا. فقولك والمعطيه الألف واللام لك، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت الفاعل، ولم تظهره في الأول؛ أنه مبنًى من أعطيت فالألف واللام لك، والفعل لك. ولو أخبرت ب الذي لم تحتج إلى أعادته مرتين؛ لأنك تجعل الفعلين في


صلته، ولا يستقيم ذلك في الألف واللام، فكنت تقول: الذي أعطى زيدا درهما، وأعطاه إياه أنا؛ فلم تحتج إلى هو؛ لأنك ذكرت الفعل، وإنما تحتاج إليه في اسم الفاعل؛ ألا ترى أنك تقول: زيد أضربه فلا يحتاج إلى شيءٍ، فإن وضعت موضعه ضاربه قلت: زيد ضاربه أنا، لأن الفعل يحتمل الضمير المتصل، واسم الفاعل لا يحتمل ذلك إلا أن يجري على صاحبه، فتقول: زيد ضاربك، فلا تحتاج إلى هو؛ لأنه خبر عن صاحب الفعل. فإن أخبرت في المسألة التي ذكرنا عن زيد قلت: المعطيه أنا درهما، والمعطيه زيد، وإن شئت قلت: والمعطي إياه. وإن أخبرت عن الدرهم فإن الصواب المختار في ذلك أن تقول: المعطي أنا زيدا إياه، والمعطي هو إياه درهمٌ. والنحويون يجيزون: المعطيه أنا زيدا، والمعطيه هو درهم. وهذا في الدرهم يبين لعلم السامع بأنه لا يدفع إليك زيدا ولكن قد يقع في مثل هذه المسألة: أعطيت زيدا عمرا فيكون عمرو المدفوع. فإن قدمت ضميره صار هو القابض والدافع عند السامع. فالوجه في هذا وفي كل مسألة يدخلها اللبس أن يقر الشيء في موضعه؛ ليزول اللبس. وإنما يجوز التقديم والتأخير فيما لا يشكل. تقول: ضرب زيد عمرا، وضرب زيدا عمرو؛ لأن الإعراب مبين. فإن قلت: ضرب هذا هذا، أو ضربت الحبلى الحبلى، لم يكن الفاعل إلا المتقدم. وإنما قلت في الإخبار عن الدرهم: المعطي أنا زيدا إياه؛ والمعطى هو إياه درهم، فأظهرت ضميرك، وضمير زيد؛ لأن الألف واللام الأوليين للدرهم. وكذلك كل ما أخبرت عنه فالألف واللام له؛ لأنه خبر، والابتداء شيءٌ هو هو، والفعل لك، فجرى على غير نفسه، فأظهرت الفاعل والألف واللام الأخيرتان له، لأنهما معطوفتان على الابتداء؛ ليكون خبراً عنهما جميعاً، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت ضميره؛ إذ جرى على غير نفسه، وعطف الابتداء على الابتداء كقولك: القائم والقاعد زيد، وأخوك وصاحبك عبد الله. فإن أخبرت ب الذي لم تحتج إلى إعادتها مرتين؛ لأن الأفعال يعطف بعضها على بعض في صلة الذي. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الذي أعطى وأعطاه إياه زيدا درهما أنا. جئت بالفعل في الصلة؛ كما كان قبل الإخبار عنه. يعني من التقديم والتأخير. فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي أعطيته درهما. وأعطانيه زيد. هذا الأحسن أن تقدم الدرهم، لأنه لا بد من تقديم ضمير زيد؛ لأنك إذا قدرت على الضمير المتصل لم يجز أن تأتي بمنفصل. تقول: ضرب زيد عمرا. فإن كنيت عن عمرو قلت: ضربه زيد، ولم تقل: ضرب زيد إياه. فإن أخبرت عن الدرهم قلت: الذي أعطيته زيدا، وأعطانيه درهمٌ، وإن شئت قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهمٌ. والتقدير على ما ذكرت لك فيما يلبس. وفيما لا يلبس. وتقول: كسوت، وكسواني إياهما أخويك جبتين. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الكاسي أخويك جبتين، والكاسيه هما إياهما أنا. فالمسألة كالمسألة الأولى، إلا أنك أفردت الفعل في الكاسي؛ لأن الألف واللام لك، والفعل للأخوين. فهو فعلٌ متقدم، وأظهرت هما، لأنه اسم الفاعلين، ولهذا ذكرنا هذه المسألة. فإن قلت: أعطيت وأعطاني أخواك درهمين، وكسوت وكساني زيد جبة، فأعلمت الأخير في هذه المسألة، إذا أخبرت عن نفسك قل: المعطي، والمعطيه أخواك درهمين أنا. فإن أخبرت عن الأخوين فقد مضى القول في حذف الضمير وإثباته؛ إذ كان من حذف يقدر فيه تقدير من أثبته فيقول: المعطيهما أنا درهما، والمعطياني إياه أخواك، فيصيران في الإخبار في إعمال الثاني في منزلتهما في إعمال الأول. فهذا الذي أخبرتك به من قول النحويين وكذلك الإخبار عن الدرهم. تقول: المعطيه أنا أخويك، والمعطياي إياه درهم، وإن شئت: المعطيانيه. فهذا كما وصفنا.، ولا يستقيم ذلك في الألف واللام، فكنت تقول: الذي أعطى زيدا درهما، وأعطاه إياه أنا؛ فلم تحتج إلى هو؛ لأنك ذكرت الفعل، وإنما تحتاج إليه في اسم الفاعل؛ ألا ترى أنك تقول: زيد أضربه فلا يحتاج إلى شيءٍ، فإن وضعت موضعه ضاربه قلت: زيد ضاربه أنا، لأن الفعل يحتمل الضمير المتصل، واسم الفاعل لا يحتمل ذلك إلا أن يجري على صاحبه، فتقول: زيد ضاربك، فلا تحتاج إلى هو؛ لأنه خبر عن صاحب الفعل. فإن أخبرت في المسألة التي ذكرنا عن زيد قلت: المعطيه أنا درهما، والمعطيه زيد، وإن شئت قلت: والمعطي إياه. وإن أخبرت عن الدرهم فإن الصواب المختار في ذلك أن تقول: المعطي أنا زيدا إياه، والمعطي هو إياه درهمٌ. والنحويون يجيزون: المعطيه أنا زيدا، والمعطيه هو درهم. وهذا في الدرهم يبين لعلم السامع بأنه لا يدفع إليك زيدا ولكن قد يقع في مثل هذه المسألة: أعطيت زيدا عمرا فيكون عمرو المدفوع. فإن قدمت ضميره صار هو القابض والدافع عند السامع. فالوجه في هذا وفي كل مسألة يدخلها اللبس أن يقر الشيء في موضعه؛ ليزول اللبس. وإنما يجوز التقديم والتأخير فيما لا يشكل. تقول: ضرب زيد عمرا، وضرب زيدا عمرو؛ لأن الإعراب مبين. فإن قلت: ضرب هذا هذا، أو ضربت الحبلى الحبلى، لم يكن الفاعل إلا المتقدم. وإنما قلت في الإخبار عن الدرهم: المعطي أنا زيدا إياه؛ والمعطى هو إياه درهم، فأظهرت ضميرك، وضمير زيد؛ لأن الألف واللام الأوليين للدرهم. وكذلك كل ما أخبرت عنه فالألف واللام له؛ لأنه خبر، والابتداء شيءٌ هو هو، والفعل لك، فجرى على غير نفسه، فأظهرت الفاعل والألف واللام الأخيرتان له، لأنهما معطوفتان على الابتداء؛ ليكون خبراً عنهما جميعاً، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت ضميره؛ إذ جرى على غير نفسه، وعطف الابتداء على الابتداء كقولك: القائم والقاعد زيد، وأخوك وصاحبك عبد الله. فإن أخبرت ب الذي لم تحتج إلى إعادتها مرتين؛ لأن الأفعال يعطف بعضها على بعض في صلة الذي. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الذي أعطى وأعطاه إياه زيدا درهما أنا. جئت بالفعل في الصلة؛ كما كان قبل الإخبار عنه. يعني من التقديم والتأخير. فإن أخبرت عن زيد قلت: الذي أعطيته درهما. وأعطانيه زيد. هذا الأحسن أن تقدم الدرهم، لأنه لا بد من تقديم ضمير زيد؛ لأنك إذا قدرت على الضمير المتصل لم يجز أن تأتي بمنفصل. تقول: ضرب زيد عمرا. فإن كنيت عن عمرو قلت: ضربه زيد، ولم تقل: ضرب زيد إياه. فإن أخبرت عن الدرهم قلت: الذي أعطيته زيدا، وأعطانيه درهمٌ، وإن شئت قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهمٌ. والتقدير على ما ذكرت لك فيما يلبس. وفيما لا يلبس. وتقول: كسوت، وكسواني إياهما أخويك جبتين. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الكاسي أخويك جبتين، والكاسيه هما إياهما أنا. فالمسألة كالمسألة الأولى، إلا أنك أفردت الفعل في الكاسي؛ لأن الألف واللام لك، والفعل للأخوين. فهو فعلٌ متقدم، وأظهرت هما، لأنه اسم الفاعلين، ولهذا ذكرنا هذه المسألة. فإن قلت: أعطيت وأعطاني أخواك درهمين، وكسوت وكساني زيد جبة، فأعلمت الأخير في هذه المسألة، إذا أخبرت عن نفسك قل: المعطي، والمعطيه أخواك درهمين أنا. فإن أخبرت عن الأخوين فقد مضى القول في حذف الضمير وإثباته؛ إذ كان من حذف يقدر فيه تقدير من أثبته فيقول: المعطيهما أنا درهما، والمعطياني إياه أخواك، فيصيران في الإخبار في إعمال الثاني في منزلتهما في إعمال الأول. فهذا الذي أخبرتك به من قول النحويين وكذلك الإخبار عن الدرهم. تقول: المعطيه أنا أخويك، والمعطياي إياه درهم، وإن شئت: المعطيانيه. فهذا كما وصفنا.


وتقول في باب المفعولين اللذين لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، وهو باب ظننت وعلمت، كقولك في هذين المفعولين في إعمال الأول والثاني، وذلك نحو: ظننت، وظنني إياه زيدا ذا مال. فإن أخبرت عن نفسك قلت: الظان زيدا ذا مال، والظان هو إياه أنا؛ فلا بد من هو؛ لأن الألف واللام لك، والفعل له. فإن أخبرت عن زيد قلت: الظان أنا ذا مال، والظانيه زيدٌ، وإن شئت قلت: والظاني إياه. فإن أخبرت عن ذي المال قلت: الظان أنا زيدا إياه، والظاني هو إياه ذو المال؛ فيظهر ضميرك؛ لأن الفعل لك، والألف واللام الأولى لذي المال، والألف واللام الثانية لذي المال أيضاً، والفعل لزيد؛ فلذلك أظهرت ضمير زيدا. فإن أخبرت عن المال لم يجز في اللفظ؛ لأن قولك: ذو لا يضاف إلى المضمر. تقول: هذا ذو مال، ولا تقول: المال هذا ذوه. فإن جعلت مكانه ما يكون مثله في المعنى نحو قولك: صاحبه ومالكه صلح. فقلت - إذا أخبرت عن المال - : الظان أنا زيدا صاحبه، والظاني هو إياه المال. فإن أعملت الثاني فقلت: ظننت، وظنني زيدا منطلقا. فأخبرت عن نفسك قلت: الظان، والظانه زيدا منطلقا أنا. فإن أخبرت عن زيد قلت: الظانه أنا منطلقا، والظاني إياه زيدٌ. فلم تحتج إلى هو؛ لأن الألف واللام الثانية والفعل لزيد. فإن أخبرت عن منطلق قلت: الظان أنا زيدا إياه، والظاني هو إياه منطلق. فهذا على المنهاج الذي ذكرنا في باب أعطيت. فإن قدمت فقلت: ظنني، وظننت زيدا منطلقا إياه، على إعمال الأخير، خالف باب أعطيت؛ وذلك أنك تقول: أعطاني، وأعطاني زيد درهما، فلم تعتد بضمير الدرهم، وفي قولك: ظنني، وظننت زيدا منطلقا، لا بد من إياه؛ وذلك لأنك تقول: أعطيت زيدا، ولا تذكر المفعول الثاني فيجوز، ولا يجوز ظننت زيدا؛ لأن الشك إنما هو في المفعول الثاني؛ لأن الثاني خبر الأول، ولا يكون أبداً إلا بخبر، وأضمرت الفاعل مضطراً في قولك: ظنني قبل ذكره؛ لأنه لا يخلو فعل من فاعلٍ، ولا يضمر المفعول قبل ذكره مضطرا في قولك: ظنني؛ لأنه مستغنى عنه، فتذكره بعد أن ذكرت الاسم مظهراً حتى يرجع هذا الضمير إليه؛ فمن ثم قلنا في باب الظن والشك هما المفعولان اللذان لا يقتصر على أحدهما دون صاحبه. وكذلك: علمت، وعلمني زيد أخاك. فإن قلت: علمني وعلمت، فلا بد من إياه. تقول: علمني، وعلمت زيدا أخاك إياه. فهذا باب واحد. وكذلك الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ولا يكون في الأفعال ما يتعدى إلى أكثر من ذلك إلا ما كان من ظرف، أو حال، أو فضلة من الكلام نحوهما. فإنه في الأفعال كلها ما يتعدى منها وما لم يتعد على طريقة واحدة.


والفعل المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل قولك: أعلم الله زيدا عمرا خير الناس، فلما، أعلمه ذلك غيره صار مفعولاً بالإعلام، وما بعده على حاله، فاعتبره بأن تقول: علم زيد أن عمرا خير الناس، وأعلم الله زيدا أن عمرا خير الناس. وكذلك تقول: رأى عمرو زيداً الظريف. إذا أردت برأيت معنى علمت، لا رؤية العين. فإن أراه ذلك غيره قلت: أرى عبد الله عمرا زيدا خير الناس. وكذلك نبأت زيدا عمرا أخاك. فكذا هذه الأفعال. ولا يجوز الاقتصار على بعض مفعولاتها دون بعض؛ لأن المعنى يبطل العبارة عنه؛ لأن المفعولين ابتداءٌ وخبر. والمفعول الأول كان فاعلاً، فألزمه ذلك الفعل غيره، وصار كقولك: دخل زيد في الدار، وأدخلته إياها أنا. فإذا أخبرت عن الفاعل في قولك: أعلم زيد عمرا خالدا أخاك قلت: المعلم عمرا خالدا أخاك زيد. وإن أخبرت عن عمرو لم يجز عندي إلا أن تقول: المعلم زيدا إياه خالدا أخاك عمرٌو. فإن أخبرت عن خالد قلت: المعلم زيد عمرا إياه أخاك خالدٌ. فإن أخبرت عن الأخ قلت: المعلم زيد عمرا خالدا إياه أخوك. فإن لم تفعل هذا. وقلت: المعلمه في بعض هؤلاء المفعولين، التبس الكلام، إلا أن يكون الذي تقول فيه المعلمه المفعول الأول. فإن كان كذاك جاز، وإلا لم يفهم. وقد أجازه كثيرٌ من البصريين في المفعولات كلها، وليس قولهم في هذا شيئاً. فإن أخبرت ب الذي في قولك: أعلم زيد عمرا خالدا خير الناس قلت - إذا أخبرت عن الفاعل - : الذي أعلم خالدا عمرا خير الناس زيد. وإن أخبرت عن عمرو في قول من وصل الضمير قلت: الذي أعلم زيدا خالدا خير الناس عمرٌو. تريد: الذي أعلمه، فحذفت الهاء لطول الاسم؛ كقولك: الذي ضربت زيدٌ، وإن شئت جئت بها فقلت: الذي أعلمه. وإن فصلت الضمير قلت: الذي أعلم زيدا إياه خالدا خير الناس عمرٌو، ولا يجوز الحذف على هذا؛ لأن الحذف يصلح في صلة الذي إذا وصلتها بالمفعول الذي لا ينفصل بنفسه، فيحذف منه، كما يحذف الاسم إذا طال. نحو قولك في اشهيباب: اشهباب. وفي ميِّت: ميت، وكذلك صيرورة، وقيدودة. إنما أصل هذه المصادر: فيعلول، فألزمت التخفيف.وإذا انفصل المضمر تم بنفسه، فلم يجز حذفه؛ ألا ترى أنك تقول: الذي ضربت زيد، ولا تقول: الذي مررت زيد؛ لانفصال الكناية في الثاني. ولو قلت: الذي ضربت إياه زيدٌ، لم يجز حذف إياه لانفصاله. فعلى هذا يجري ما ذكرنا.
ثم نعود إلى تكثير المسائل في باب الفعلين المعطوف أحدهما على الآخر في قول النحويين المتقدمين، فإذا انقضى أخبرنا بفساده، وبالصواب الذي رآه أبو عثمان وأخبر عنه، ولا يجوز غيره إن شاء الله. إذا قلت: ضربني وضربت زيدا أضمرت الفاعل في ضربني مضطراً قبل ذكره؛ لأنه لا يخلو فعل من فاعل، فأخبرت عن زيد على قول النحويين قلت: الضاربي والضاربه أنا زيدٌ؛ ليكون الفعل غير متعدٍّ: كما كان في الفعل قبل الإخبار. فإن أخبرت عن المفعول، وهو أنت أيها المتكلم قلت: الضاربه هو، والضارب زيدا أنا، فخرج من هذا الشرط؛ لأنك عديت الضارب، ولو لم يكن متعدياً في الفعل؛ ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت، وضربني زيد، فأخبرت عن نفسك تقول: الضارب زيدا، والضاربه هو أنا، فتعدى ضربت في الإخبار ولم يكن متعدياً في الفعل؛ فهذا الذي ذكرت لك من أن النحويين جروا فيه على الاصطلاح. وإنما الابتداء والخبر كالفعل والفاعل، فحق الكلام أن يؤدى في الإخبار كما كان قبل؛ فإذا زاد أو نقص فسد الشرط. ألا ترى أنك إذا قلت: قام زيد، فقيل لك: أخبر عن زيد، قلت: القائم زيد. وإذا قيل لك أخبر عن الدار في قولك: زيد في الدار، قلت: التي زيد فيها الدار، فجعلت ضميره كل شيءٍ تخبر عنه في موضعه، وجعلته خبراً. وتقول في قول النحويين: أعطيت وأعطاني زيد درهما، إذا أخبرت عن نفسك قلت: المعطى والمعطيه زيدٌ درهما أنا. وإن أخبرت عن زيد قلت: المعطيه أنا درهما، والمعطيه زيدٌ، وإن شئت والمعطي إياه، فهذا على خلاف الشرط؛ لأنك عديت أعطيت، ولم يكن متعدياً في الفعل. فإن قلت: أعطاني وأعطيت زيدا درهما - قلت - إذا أخبرت عن زيد: المعطي، والمعطيه أنا درهما زيد. فإن أخبرت عن نفسك قلت: المعطيه هو درهما، والمعطيه زيدا أنا، وإن شئت: والمعطي زيدا إياه أنا؛ فهذا على ما ذكرت لك.


وتقول على هذا الشرط في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ولا يقتصر على أحدهما كما قلت في هذا، لا فصل بينهما إلا أنك في ذلك إذا عديت إلى واحد فلا بد أن تعدي إلى آخر. فإن أخبرت عن زيد قلت: الظاني منطلقا، والظانه أنا إياه زيد. وإن أخبرت عن نفسك قلت: الظانه هو منطلقا، والظان زيدا إياه أنا. وإن أخبرت عن منطلق على هذه الشريطة التي جرت في قولهم، قلت: الظاني هو إياه، والظان أنا زيدا إياه منطلقٌ. فهكذا مجرى هذا في كلامهم. وهذه المسائل تدل على ما بعدها، وتجري على منهاجها فيما ذكرنا من الأفعال مما يتعدى إلى مفعول وإلى اثنين وإلى ثلاثة، وذلك قولك فيما تعدى إلى ثلاثة مفعولين في إعمال الأول: أعلمت وأعلمني إياه زيدا عمرا خير الناس، وإن شئت: أعلمت، وأعلمنيه إياه زيدا عمرا خير الناس. فإن أعملت الآخر قلت: أعلمت، وأعلمني زيد عمرا خير الناس. وإن أخبرت عن إعمال الأول عن نفسك قلت: المعلم زيدا عمرا خير الناس والمعلمه، هو إياه إياه أنا؛ فأظهرت هو؛ لأن الألف واللام لك، والفعل لزيد. فإن أخبرت عن زيد قلت: المعلمة أنا عمرا خير الناس، والمعلمي هو إياه إياه زيدٌ، وإن شئت قلت: والمعلميه هو إياه زيد. كل ذلك حسنٌ، لأن المفعول الأول في موضعه. فإن أخبرت عن عمرو قلت: المعلم أنا زيدا إياه خير الناس والمعلمي هو إياه عمرو؛ فأظهرت أنا وهو؛ لأن الألف واللام لعمرو، والفعل الأول لك، والثاني لزيد. فلما جرى على غير نفسه أظهرت الفاعل. فإن أخبرت عن خير الناس قلت: المعلم أنا زيدا عمرا إياه والمعلمي هو إياه إياه خير الناس، وإن شئت قلت: والمعلميه إلا أن الثاني من المنصوبات إياه، وهو ضمير خير الناس، ليقع كل واحد من هذه المفعولات في موضعه. فإن وصلته وهو متباعد التبس ولم يبن موضعه؛ ألا ترى أن قولك: أعلمت زيدا أن زيدا هو الذي عرفته، فإذا قلت: عمرا خير الناس، فإنما عرفته أن عمرا خير الناس. ولو قدمت لصار المعنى: أن خير الناس المعروف بذلك هو عمرو، وكان ذلك معلوماً، وصار عمرو الفائدة؛ ألا ترى أنك إذا قلت: أعطيت زيدا عمرا، أن عمرا المدفوع وزيدا هو المدفوع إليه. فضع هذه الأشياء مواضعها لتعرف معانيها. وإن أعملت الآخر على قول النحويين قلت: أعلمت، وأعلمني زيد عمرا خير الناس، فخبرت عن نفسك قلت: المعلم والمعلمه زيد عمرا خير الناس أنا. فقلت المعلم فلم تعده كما كان في الفعل. فإن أخبرت عن زيد قلت على قولهم: المعلمه أنا عمرا خير الناس، والمعلمي إياه إياه زيدٌ، وإن شئت: والمعلميه إياه زيد؛ فصار إعمال الآخر كإعمال الأول في قولهم وفيما ذكرنا دليل على جميع الباب.
هذا باب
الإخبار في قول أبي عثمان المازني
عن هذا الباب الذي مضى


إذا قلت: ضربت، وضربني زيد، فأعملت الآخر فإن الإخبار عنك أن تقول: الضارب أنا، والضاربي زيدٌ، فتجعل الضارب مبتدأ، وتجعل أنا خبره فيكون الخبر هاهنا كالفاعل هناك؛ لأن نظير الفعل والفاعل الابتداء والخبر، ويصير قولك الضاربي زيد متعدياً؛ كما كان في الفعل، ويكون جملة معطوفة على جملة كما كانت هناك. فاعتبر هذا فإنه لا يجوز غيره. فإن قلت: ضربني، وضربت زيدا، فأعلمت الآخر أضمرت الفاعل قبل ذكره على شريطة التفسير، فأخبرت عن زيد قلت: الضاربي هو، والضاربه أنا زيدٌ. جعلت الضاربي مبتدأ وعديته؛ كما عديته في قولك: ضربني، وجعلت الخبر هو؛ لأنك احتجت إلى أن يكون مضمراً على شريطة التفسير؛ كما كان في الفعل. ومما يصحح هذا الباب: أنه ليس شيءٌ يمتنع من أن يخبر عنه، وليس هكذا يقع في قول النحويين؛ لأنك لو قلت: ظناني منطلقا، وظننت أخويك منطلقين، فأخبرت عن المضمر في قولك: ظناني لم يجز؛ لأنك كنت تقول في التقدير: الظاناني منطلقا، والظان أنا أخويك منطلقين هما، فلا يقع في قولك: والظان أنا أخويك منطلقين شيءٌ يرجع إلى الألف واللام فيبطل؛ لأنه ليس في الصلة ما يرجع إلى الموصول. وفي قول أبي عثمان إذا أخبرت عنهما قلت: الظاناني منطلقا هما، فتجعل الخبر هما وهو مضمر، ثم تقول: والظان أخويك منطلقين أنا، فتعطف الجملة على الجملة، وفي صلة كل واحد منهما ضمير يرجع إليه، وسنذكر من المسائل ما يوضح صحة هذا المذهب ويبطل ما سواه إن شاء الله. وفي قول النحويين أنك إذا قلت: ضربت، وضربني زيد، فإن الإخبار عن التاء في ضربت، وعن الياء في ضربني واحد؛ لأنهما يرجعان إلى شيءٍ واحد. وذلك قولك على مذهب النحويين: الضارب، والضاربه زيد أنا. وهذان - وإن كانا راجعين إلى شيءٍ واحد - فإنما ذلك في المعنى. فأما اللفظ والموضع فمخالفان له. وفي قول أبي عثمان إن أخبرت عن التاء قلت: الضارب أنا والضاربي زيدٌ، فتجعل الضارب مبتدأ، وأنا خبره، ولا تعده؛ كما لم يكن في الفعل متعدياً، وتأتي بالفعل، والفاعل في الإخبار وهو: والضاربي زيد؛ لأن الكلام إنما كان: ضربت وضربني زيد، فجعلت الابتداء والخبر كالفعل والفاعل، وجعلت المتعدي متعدياً، والممتنع ممتنعاً. فإن أخبرت عن الياء في ضربني قلت: الضارب أنا، والضاربه زيد أنا؛ كما كنت قائلاً إذا أخبرت عن نفسك في قولك: ضربني زيد: الضاربه زيدٌ أنا، لأن قولك: وضربني زيد هو الذي وصفنا؛ أفلا ترى إلى بيان هذا، واشتماله على كل اسم، وامتناع قول النحويين من بعض الأسماء؛ لامتناع الصلات من راجع إلى الموصولات. ويقول النحويون: إذا قلت: ظننت، وظنني أخواك منطلقا، فالتقدير في المعنى: أن يكون ظني بهما كظنهما بي. فإن أخبرت في قول النحويين عن الأخوين فقلت: الظان أنا، والظانان منطلقا أخواك كان محالاً؛ لأن قولك: الظان أنا الألف واللام للأخوين؛ لأنهما الخبر، وليس في الصلة ما يرجع إلى الموصول فهذا عندهم محال، وكذلك هو على تقديرهم، ويجيزون في الذي؛ لأنهم لا يحتاجون إلى تكريرها مرتين، ولكنهم يذكرونها مرة ويعطفون أحد الفعلين على الآخر، فيرجع الذكر في أحدهما، فيكون كلاماً. والتقدير: اللذان ظننت، وظناني منطلقا أخواك فيصير الضمير في ظناني يرجع إلى اللذين. والقول في هذه المسألة على قول أبي عثمان وهي: ظننت، وظنني أخواك منطلقا أن تقول - إذا أخبرت عن نفسك - : الظان أنا، والظانان منطلقا أخواك، فيصير الألف واللام في الظان لك، وتجعل أنا خبر الابتداء؛ كما كان في المسألة فاعلاً، ولا تعده؛ لأنه كان هناك غير متعدٍّ، ثم تعطف عليه الجملة على ما كانت في الفعل. فهذا لا يمتنع منه شيءٌ. فكل ما ورد عليك من هذا الباب فقسه على ما ذكرت لك تجده مستقيماً إن شاء الله.
هذا باب
من الذي والتي
ألفه النحويون فأدخلوا الذي في صلة الذي وأكثروا في ذلك


وإنما قياسه قياس قولك: الذي زيد أخوه أبوك، فتصل الذي بالابتداء والخبر، وقولك: أبوك خبر الذي؛ لأنه ابتداءٌ فتقول - إذا كان الذي غير مبتدأ - : أرأيت الذي أخوه أبوك، فكأنك قلت: رأيت زيدا. وقد أعلمتك أن الذي يوصل بالفعل والفاعل، وبالابتداء والخبر، والظرف، ولا بد في صلة الذي من راجع إليه يوضحه. فإذا قلت: رأيت الذي قام، فاسمه في قام، وكذلك: رأيت الذي في الدار. فإن كان الاستقرار والقيام لغيره، قلت: رأيت الذي في الدار أبوه، ورأيت الذي قام صاحبه. على ذلك يجري، كذلك: رأيت الذي إن يأتني آته؛ لأن المجازاة جملة، وفيها ما يرجع إليه. وإذا وصلت الذي بالذي فلا بد للثاني من صلة وخبر، حتى يكون في صلة الأول ابتداءً، وخبراً. تقول: الذي الذي في داره زيد أخوك. فقولك الذي ابتداءٌ، والثاني مبتدأٌ في صلته، وقولك في داره فيه ضميران: مرفوع بالاستقرار، ومخفوض بالإضافة. فالمرفوع يرجع إلى الذي الثاني، والمخفوض يرجع إلى الأول وزيد خبر الذي الثاني، وأخوك خبر الذي الأول؛ لأن الثاني صار بصلته، وخبره صلة للأول. فهذا مجرى هذا الباب. وتقول: الذي التي اللذان ضربا جاريتها أخواك عنده عبد الله. فالذي ابتداءٌ، والتي ابتداءٌ في صلة التي، واللذان ابتداءٌ في صلة التي، وقولك ضربا جاريتها صلة اللذين، والهاء في جاريتها ترجع إلى التي، وأخواك خبر اللذين فتمت صلة الذي، وقولك عبد الله خبر الذي. فإن أدخلت على هذا كان فالكلام على حاله إلا الذي، وعبد الله فإنك جاعل أحدهما اسم كان، والآخر خبره. وتقول: اللذان التي في الدار صاحبتهما أخواك على ما شرحت لك. فإن قلت الذي التي اللذان الذين التي في الدار جاريتهم منطلقون إليهما صاحباها أخته. زيدٌ، كان جيداً بالغاً. تجعل الذي مبتدأ، والتي ابتداءً في صلة الذي، واللذان ابتداءً في صلة التي، والذين ابتداءً في صلة الذين، والتي ابتداءً في صلة الذين، وقولك في الدار صلة التي وجاريتهم خبر التي، والضمير يرجع إلى الذين، وقد تمت صلتهم؛ لأن التي وصلتها ابتداءٌ، وجاريتهم خبر ذلك الابتداء. فقد تمت صلة الذين، وقولك منطلقون إليهما خبر الذين، فقد تمت صلة اللذين، وقولك صاحباها خبر اللذين فقد تمت صلة التي الأولى، وأخته خبر التي الأولى، والهاء ترجع إلى الذي فقد تمت صلة الذي، وزيد خبر الذي فقد صح الكلام.
هذا باب
الإضافة وهو باب النسب
اعلم أنك إذا نسبت رجلاً إلى حيٍّ أو بلد أو غير ذلك، ألحقت الاسم الذي نسبته إليه ياءً شديدة؛ ولم تخففها لئلا يلتبس بياء الإضافة التي هي اسم المتكلم. وذلك قولك: هذا رجلٌ قيسي، وبكري، وكذلك كل ما نسبته إليه.
واعلم أن الاسم إذا كانت فيه ياءٌ قبل آخره، وكانت الياء ساكنة، فحذفها جائز؛ لأنها حرف ميت، وآخر الاسم ينكسر لياء الإضافة، فتجتمع ثلاث ياءات مع الكسرة، فحذفوا الياء الساكنة لذلك. وسيبويه وأصحابه يقولون: إثباتها هو الوجه. وذلك قولك في النسب إلى سليم: سلمى، وإلى ثقيف: ثقفي، وإلى قريش: قرشي. وإثباتها كقولك في نمير: نميري، وقشير: قشيري، وعقيل: عقيلي، وتميم: تميمي. فإن كانت هاء التأنيث في الاسم فالوجه حذف الياء؛ لمل يدخل الهاء من الحذف والتغيير. وذلك قولك في ربيعة: ربعي، وفي حنيفة: حنفي، وفي جذيمة: جذمي، وفي ضبيعة: ضبعي. فأما قولهم في الخريبة: خريبي، وفي السليقة: سليقي فهذا بمنزلة الذي يبلغ به الأصل؛ نحو: لححت عينه، " واستحوذ عليهم الشيطان " . والوجه ما ذكرت لك. فإن كانت الياء متحركة لم تحذف. وذلك قولك في حمير: حميري، وفي عثير: عثيري.
هذا باب
النسب إلى كل اسم قبل آخره ياء مشددة


واعلم أنه لا بد من حذف إحدى الياءين؛ لاجتماع الياءات والكسرة. والتي تحذفها المتحركة؛ لأنها لو بقيت للزمها القلب والتغيير. فأما القلب فلانفتاح ما قبلها، وأما التغيير فلاجتماع الحركات مع الحروف المعتلة. فلو شئت لأسكنت. وذلك قولك في النسب إلى أسيد: أسيدي، وإلى هين: هيني، وإلى ميت: ميتي. لا يكون إلا ذلك. وقد كان يجوز التخفيف من قبل ياء النسب استثقالاً للإدغام في حروف اللين، فلما توالت الياءات والكسرة لم يكن إلا التخفيف. فأما التخفيف الأول فهو قولك في ميت: ميت، وكذلك في سيد: سيد، وفي هين: هين، ولين: لين. ويلزم التخفيف باب صيرورة، وقيدودة، وكينونة، لكثرة العدد. ولولا التخفيف لكان كينونة، وصيرورة؛ لأنها فيعلولة. فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون فعلولة؟ قيل له: لو كانت فعلولة لخالفت؛ لأن هذا البناء لا يكون إلا مضموم الأول، وكنت تقول: كونونة، وقودودة؛ لأنها من القود، والكون؛ ألا ترى أن ميت لو كان فعل لكان موت؛ لأنه من الواو، ولكنه محذوف من فيعل. فهذا أمرٌ واضح.
هذا باب
ما كان على ثلاثة أحرف مما آخره حرف لينٍ
اعلم أن ما كان من ذلك على فعلٍ فإن الألف مبدلة من يائه أو واوه. وذلك قولك: رحاً، وقفا، وعصا. واعلم أن النسب إلى ما كان من الياء كالنسب إلى ما كان من الواو. وذلك أنك تقلب هذه اللف واواً من أي البابين كانت. تقول في قفا: قفوي، وفي عصا: عصوي، وكذلك حصًى، ورحًى. تقول: حصوي، ورحوي. وإنما قلبت الألف المنقلبة من الياء واواً؛ لكراهيتك اجتماع الياءات والكسرات، فصار اللفظ في النسب إلى المقصور الذي على ثلاثة أحرف واحدا. وكذلك إن كان على فعل؛ نحو: عمٍ، وشقٍ. ذهبت به في النسب إلى فعل فقلت: عموي، وشقوي، وفي النسب إلى الشجي: شجوي؛ فإنما فعلت ذلك كراهيةً لاجتماع الياءات والكسرات. وأنت في غير المعتل كنت تفعل ذلك كراهيةً لتوالي الكسرتين والياءين. فهذا هاهنا أوجب. فأما غير المعتل فنحو قولك في النمر: نمري، وفي شقرة: شقري؛ ألا ترى أنك قد سويت بين فعل، وفعل. فلو كان مكان الكسرة ضمةٌ لم تغيره؛ لأنه لم يتوال ما تكره. وذلك قولك في سمرة: سمري لا غير. فإن كان على فعل وفعل جرى مجرى غير المعتل. وذلك أنه يسكن ما قبل آخره، فيقع عليه الإعراب كما يقع على غير المعتل. وذلك قولك: هذا ظبي، ودلو، ونحي، وجرو فاعلم. على هذا يجري جميع هذا. فإذا نسبت إليه قلت: ظبي، ونحي، وكذلك إن لحقت شيئاً منه الهاء؛ لأن ياء النسب تعاقب هاء التأنيث. فكل ما نسبت إليه فالهاء ملغاة منه، فكأنه لم تكن هاءٌ. ألا ترى أنك تقول في النسب إلى طلحة: طلحي، وإلى حمدة: حمدي. فأما قول يونس في النسب إلى ظبية: ظبوي فليس بشيءٍ. إنما القول ما ذكرت لك. فإن كانت الياء شديدة أصلية فإن النسب على ضربين: الأحسن في النسب إلى حية: حيوي. تحرك ما قبل الياء الثانية؛ لتقلبها ألفاً، فإنها إذا كانت كذلك انقلبت واواً في النسب، وإن تركت على حالها جاز، وفيه قبحٌ؛ لاجتماع أربع ياءات مع الكسرة. وذلك قولك: حيي. ومن قال: حيوي قال في النسب إلى لية - وهو المصدر من لويت - : لووي؛ لأنها لوية في الأصل. فلما زال الإدغام أظهرت الواو. فإن كانت الياء زائدة مثقلة فلا اختلاف في حذفها لياء النسب. وذلك قولك في النسب إلى بختيٍّ: بختيٌّ فاعلم، وإلى بخاتي: بخاتيٌّ فتصرف؛ لأن الياء الظاهرة ياء النسب. فإنما وجب حذف هاتين الياءين ليائي الإضافة؛ لأن ياءي الإضافة تعاقب هاء التأنيث، فتقول في النسب إلى طلحة: طلحي، وإلى حنظلة: حنظلي. وإنما عاقبتها؛ لأنه يؤتى بها زائدةً في الاسم بعد الفراغ من تمامه، فإنهما يحلان محلاً واحداً. ألا ترى أنك تقول تمرة، وتمر، وبرة وبر، فلا يكون بين الواحد والجمع إلا الهاء. وتقول على هذا: زنجي وزنج ورومي، وروم، فلا يكون بينهما إلا الياء المشددة؛ فلذلك حلتا محلاً واحداً. فلما كانت الهاء تحذف لياء النسب كان حذف الياء لها أوجب؛ لأنك أو أقررتها كنت تجمع بين أربع ياءات مع العلة التي ذكرنا من مضارعة الهاء. فعلى هذا فأجر هذا الباب.
هذا باب
الإضافة إلى الاسم الذي يكون آخره ياء مشددة
والاخيرة لام الفعل


اعلم أنك إذا نسبت إلى شيء من ذلك فإن الوجه أن تحذف من الاسم الياء الخفيفة التي كنت تحذفها من حنيفة، وثقيف، فإذا فعلت ذلك انقلبت الياء فيها ألفاً، ثم انقلبت واو ليائى النسبة؛ كما تجب في لامات الفعل.
فمن ذلك قولك في عدى: عدوى؛ لأنك لما حذفت الياء التي تزيد في فعيل صارت عد. فاعلم على وزن عم، فذهبت بفعل إلى فعل لما ذكرت لك قبل هذا الباب، فقلت: عدوى؛ كما قلت: عموى.
ومثل ذلك النسب إلى أمية. تقول: أموي. تحذف ياء التصغير، فيصير كأنك نسيت إلى فعل.
وكذلك قصى تقول في النسب إليه: قصوى. فعلى ما ذكرت لك فأخر هذا الباب.
هذا باب
النسب إلى المضاف من الأسماء
اعلم أن الإضافة على ضربين: أحدهما: ما يكون الأول معروفاً بالثاني؛ نحو قولك: هذه دار عبد الله، وغلام زيد، فإن نسبت إلى شيءٍ من هذا فالوجه أن تنسب إلى الثاني؛ لأن الأول إنما صار معرفة به. وذلك قولك في ابن الزبير: زبيري، وفي غلام زيد: زيدي. والوجه الآخر في الإضافة: أن يكون المضاف وقع علما، والمضاف إليه من تمامه، فالباب النسب إلى الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك إن نسبت إلى رجل من عبد الدر: عبديٌّ، وكذلك إن نسبت إلى أبي عبد الله بن دارم. وقد تشتق العرب من الاسمين اسماً واحداً لاجتناب اللبس؛ وكذلك لكثرة ما يقع عبد في أسمائهم مضافاً، فيقولون في النسب إلى عبد القيس: عبقسي، وإلى عبد الدار: عبدري، وإلى عبد شمس: عبشمي. والوجه ما ذكرت لك أولاً. وإنما فعل هذا لعلة اللبس.
هذا باب
الإضافة إلى الاسمين اللذين يجعلان اسماً واحداً
اعلم أنك إذا نسبت إلى اسمين قد جعلا اسماً واحداً فإنما النسب إلى الصدر منهما. وذلك قولك في النسب إلى بعلبك: بعلي، وإلى حضرموت: حضري، وإلى رام هرمز: رامي. وقد يجوز أن تشتق منهما اسماً يكون فيه من حروف الاسمين؛ كما فعلت ذلك في الإضافة. والوجه ما بدأت به لك. وذلك قولك في النسب إلى حضرموت: حضرمي؛ كما قلت في عبد شمس، وعبد الدار: عبشمي، وعبدري.
هذا باب
ما يقع في النسب بزيادة
لما فيه من المعنى الزائد على معنى النسب
وذلك قولك في الرجل تنسبه إلى أنه طويل اللحية: لحياني، وفي طويل الجمة: جماني، وفي طويل الرقبة: رقباني، وفي كثير الشعر: شعراني؛ فإنما زدت لما أخبرتك به من المعنى فإن نسبت رجلاً إلى رقبة، أو شعر، أو جمة قلت: جميٌّ، وشعريٌّ، ورقبيٌّ، لأنك تزيد فيه ما تزيد في النسب إلى زيد، وعمرو.
واعلم أن أشياء قد نسب إليها على غير القياس للبس مرةً، وللاستثقال أخرى، وللعلاقة أخرى. والنسب إليها على القياس هو الباب. فمن تلك الأشياء قولهم في النسب إلى زبينة: زباني. وإنما الوجه زبني؛ كقولك في حنيفة: حنفي، وفي ربيعة: ربعي، ولكنهم أبدلوا الألف من الياء؛ كما قالوا في بقي: بقا، وفي رضى: رضا. والبدل كثير في الكلام، وهو مشروحٌ في باب التصريف. ومن ذلك قولهم من النسب إلى الشام، واليمن: يمان يا فتى، وشآمٍ يا فتى، فجعلوا الآلف بدلاً من إحدى الياءين. والوجه: يمني، وشامي. ومن قال: يماني فهو كالنسب إلى منسوب، وليس بالوجه. وقالوا في النسب إلى تهامة: تهامي فاعلم، ومن أراد العوض غير، ففتح التاء، وجعل تهامة على وزن يمن فتقديره: تهم فاعلم، ويقال في النسب إليه تهامٍ فاعلم. ففتحة التاء تبين لك أن الاسم قد غير عن حده. وكل شيءٍ سميته باسمٍ من هذه، فنسبته إليه لم يكن إلا على القياس. ألا ترى أنك تقول: تقية، وتكأة فتبدل التاء من الواو، ولو بنيت من هذا شيئاً اسماً لحذفت التاء وردت الواو؛ لأنها الأصل. فالبدل يقع لمعانٍ في أشياء ترد إلى أصولها، فهذا ما ذكرت لك. وقد قالوا في النسب إلى البصرة: بصري، فالكسر من أجل الياء، والوجه: بصري، ولو سميت شيئاً البصرة فنسبت إليه لم تقل إلا: بصري وهو أجود القولين في النسب قبل التسمية. وكذلك قولهم في الذي قد أتى عليه الدهر عليه: دهري؛ ليفصلوا بينه وبين من يرجو الدهر، ويخافه، والقياس: دهري في جميعها. فكل ما كان على نحوٍ مما ذكرت لك فالتسمية ترده إلى القياس.
هذا باب
النسب فيما كان على أربعة أحرف ورابعه ألف مقصورة


أما ما كانت ألفه أصلاً، أو ملحقة بالأصل منصرفةً في النكرة فإن الوجه فيه، والحد إثبات الألف، وقبلها واواً؛ للتحرك الذي يلزمها، وذلك قولك في النسب إلى ملهى: ملهوي، وإلى معزًى: معزوي، وإلى أرطًى: أرطوي. فإن كانت الألف للتأنيث ففيها ثلاثة أقاويل: أجودها، وأحقها بالاختيار، وأكثرها، وأصحها، وأشكلها لمنهاج القياس حذف الألف. فتقول في النسب إلى حبلى: حبلي، وإلى دنيا: دنيي، وكذلك بشرى، وسكرى، ودفلى، وما أشبه ذلك. ويجوز أن تلحق واواً زائدة، لأنك إذا فعلت ذلك فإنما تخرجه إلى علامة التأنيث اللازمة له. وذلك قولك دنياوي، ودفلاوي حتى يصير بمنزلة حمراوي، وصحراوي. فهذا مذهب وليس على الحد، ولكنك وكدته؛ لتحقق منهاج التأنيث. والقول الثالث: أن تقلب الألف واواً؛ لأن الألف رابعة، فقد صارت في الوزن بمنزلة ما الألف من أصله. تقول: حبلوي، ودفلوي. فمن قال هذا فشبهه بملهًى، ومعزًى أجاز في النسب إلى ما الألف فيه أصلية الحذف يشبهها بألف التأنيث؛ كما شبه الألف به. تقول: ملهي، ومعزي في النسب إلى ملهًى، ومعزًى. وهو أردأ الأقاويل؛ لأن الفصل هاهنا لازم؛ إذ كان أحد الألفين أصلاً، والآخر زائداً.
فإن كانت الألف خامسة مقصورة فليس فيها إلا الحذف منصرفةً كانت أو غير منصرفة. وذلك نحو: مرامى، وحبارى، وشكاعى. تقول: مرامي، وحباري. وذلك لأنها كانت تحذف رابعة إذا كانت للتأنيث، ويجوز مثل ذلك فيها إذا كانت أصلية، فلما زاد العدد لم يكن إلا الحذف، وكلما ازداد كثرةً كان الحذف أحرى. وكذلك إن كان على أربعة أحرف ثلاثةٌ منها متحركةٌ لم يكن إلا الحذف، ولم تكن الألف إلا للتأنيث. وذلك نحو: جمزى لأنها لا يكون فيها مثل لغة من قال: حبلوي؛ لأن الحركة أخرجته عن ذلك؛ كما أخرجت قدماً عن أن تنصرف، اسم امرأة؛ كما تنصرف هند، ودعد؛ لأنها زادت عليها حركة.
فإن كان الاسم ممدوداً لم يحذف منه شيءٌ، وانقلبت المدة واواً لأنها حرفٌ حيٌّ فلا يحذف، ولأنها للتأنيث تنقلب، ولا تكون كحرف الأصل. وذلك قولك في حمراء: حمراوي، وفي خنفساء: خنفساوي. فإن كان منصرفاً وحروفه أصلٍ فالوجه إقرار الهمزة وذلك قولك في النسب إلى قراء: قرائي. فالهمزة أصلٌ، وفي رداء: ردائيُّ. فالهمزة منقلبة، وحالها كحال تلك. وكذلك الملحقة نحو: علباءٍ، و حرباءٍ، وقد يجوز القلب في هذا المنصرف؛ نحو: علباوي، وحرباوي. فهو في هذا الحيز أصلح؛ لأن الهمزة زائدة. ويجوز أيضاً في رداءٍ، وكساءٍ وهو فيهما أجود منه في قراءٍ لأن الهمزة في رداءٍ، وكساءٍ منقلبة وهو فيه أبعد أن تقول: قراوي.
هذا باب
النسب إلى الجماعة
اعلم أنك إذا نسبت إلى جماعة فإنما توقع النسب على واحدها. وذلك قولك في رجلٍ ينسب إلى الفرائض: فرضي؛ لأنك رددته إلى فريضة، فصار كقولك في النسب إلى حنيفة: حنفي. فهذا هو الباب في النسب إليها. والنسب إلى مساجد: مسجدي، وإلى أكلب: كلبي. وإنما فعل ذلك؛ ليفصل بينها وهي جمعٌ وبينها إذا كانت اسماً لشيءٍ واحد؛ لأنها إذا سمي واحدٌ بشيءٍ منها كان النسب على اللفظ؛ لأنه قد صار واحداً. وذلك قولك في رجلٍ من بني كلاب: كلابي. فإن نسبته إلى الضباب قلت: ضبابي. وتقول رجل معافري ومعافر بن مر أخو تميم. وتقول في النسب إلى أكلب من خثعم: أكلبي، وكذلك هذا أجمع. ونظير ذلك قولك في النسب إلى المدائن: مدائني؛ لأنها اسمٌ لبلد واحد. وتقول في رجل من أبناء سعد. أبناوي؛ لأنه قد صار اسمٌ لهم، ولو قلت ابنائي كان جيداً؛ كما تقول: كسائي وكساوي. فإن نسبت إليه وأنت تقدر أن كل واحد منهم ابن على حياله، ثم تجمعهم. قلت: ابني وبنوي. أي ذلك قلته فصوابٌ: لأنه النسب إلى ابن.
هذا باب
النسب إلى كل اسم على حرفين


اعلم أنه ما كان من الأسماء على حرفين فإن رد الحرف الثالث إليه في الجمع بالتاء، أو التثنية. فالنسبة ترده. لا يكون إلا ذلك. وذلك قولك في النسب إلى أخت: أخوي؛ لقولك: أخوات، وإلى سنة: سنوي فيمن قال: سنوات. ومن قال: سانهت، مسنيهة في التحقير قال: سنهي. وفي النسب إلى أب، وأخ: أبوي، وأخوي؛ لقولك: أبوان، وأخوان، وكذلك هذا الجمع لا يكون غير ما ذكرت لك. وإن لم ترد الحرف الثالث في تثنية، ولا جمع بالتاء فأنت في النسب مخير: إن شئت رددته، وإن شئت لم تردده. وذلك قولك في النسب إلى دمٍ: دميٌّ، ودمويٌّ، وفي النسب إلى يدٍ: يدي، ويدوي في قول سيبويه. فأما الأخفش فبقول: يديٌّ، ويديي، ويقول: أصل يدٍ فعل، فإن رددت ما ذهب رجعت بالحرف إلى أصله. فهذا قوله في كل هذا. وسيبويه وأصحابه يقولون: رددنا إلى حرف قد لزمه الإعراب لجهد الاسم؛ فلا يحذف ما كان يلزمه قبل الرد. وسيبويه يزعم أن دما فعل في الأصل، وهذا خطأ؛ لأنك تقول: دمي يدمى فهو دمٍ. فمصدر هذا لا يكون إلا فعل؛ كما تقول: فرق يفرق، والمصدر الفرق، والاسم فرقٌ، وكذلك الحذر، والبطر، وجميع هذا الباب. ومن الدليل أنه فعلٌ أن الشاعر لما اضطر جاء به على فعل. قال:
جرى الدميان بالخبر اليقين
فأما يدٌ ففعل ساكنة لا اختلاف في ذلك؛ لأن جمعها أيدٍ وأفعل إنما هو جمع فعل؛ نحو: أكلب، وأفلس، وأفرخ. وغدٌ فعل؛ لأن أصله غدو.
وحق هذه السماء المحذوفة أن يحكم عليها بسكون الأوسط إلا أن تثبت الحركة؛ لأن الحركة زيادة؛ فلا تثبت إلا بحجة؛ ألا ترى أن الشاعر لما اضطر إلى الرد رد على الإسكان فقال:
إن مع اليوم أخاه غدوا
وقال الشاعر:
وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدواً بلاقع
وإنما كانت الإضافة رادةً ما رجع في التثنية والجمع بالتاء وما لم ترده تثنيه ولا جمعٌ لأن الإضافة أردٌ؛ وذلك أنها مغيرة أواخر الأسماء لا محالة؛ لأن الإعراب عليها يقع، ولأنه يلزمها الحذف من قولك: أسيدي، وأموي، وحنفي، ونحو ذلك. والتغير في مثل بصري وما ذكرنا يدل على ما بعده؛ فلذلك كنت راداً في الإضافة ما يرجع في تثنية أو جمع بالتاء لا محالة، ومخيراً فيما لم يرجع في تثنية ولا جمع.
واعلم أن كل ما كان من بنات الحرفين فحذفن منه حرفاً مزيداً تجعل عدته ثلاثة فلا بد من الرد؛ لأنك لما حذفت ما ليس منه لزمك أن ترد ما هو منه؛ إذ كنت قد ترد فيما لا تحذف منه شيئاً؛ لأنه له في الحقيقة. وذلك قولك في النسب إلى ابن: ابني إذا اتبعت اللفظ، فإن حذفت ألف الوصل رددت موضع اللام فقلت: بنوي. ولا تقول في أخت إلا أخوي؛ لأن التاء تحذف كما تحذف الهاء في النسب؛ لأنها تلك في الحقيقة. وذلك قولك في طلحة: طلحي، وفي عمرة: عمري، فإذا حذفت التاء من أخت لم تقل إلا أخوي، وكذلك بنت: بنوي؛ لأن التاء تذهب. ومن قال: ابنة. قال: ابني على قولك: ابني في ابن. ومن قال في ابن: بنوي قال في مؤنثه: بنوي. وذلك أن النسب إلى كل مؤنثٍ كالنسب إلى مذكره. تقول في النسب إلى ضارب: ضاربي، وكذلك هو إلى ضاربة.
هذا باب ما كان على حرفين مما ذهب منه موضع الفاء


وذلك قولك: عدة، وزنة؛ لأن الأصل كان وعدة، ووزنة؛ لأنه من وعدت، ووزنت، وكذلك رثة من قولك: ورثته رثة، وجدة. وكل مصدر على فعلة مما فاؤه واو فهذه سبيله، وقد مضى القول في حذف هذه الواو في موضعه فإذا نسبت إلى شيءٍ منه لم تغيره؛ لبعده من ياء النسب. تقول: عدي، وزني. فإن نسبته إلى شيةٍ فلا بد من الرد؛ لأنه على حرفين أحدهما حرف لين، ولا تكون الأسماء على ذلك. فإنما صلح قبل النسب من أجل هاء التأنيث. فإذا نسبته إليه حذفت الهاء. وكان سيبويه يقول في النسب إليه: وشوي على أصله؛ لأنه إذا رد لم يغير الحرف عن حركته. هذا مذهبه، ومذهب الخليل على ما تقدم من قولنا حيث ذكرنا يدا وقوله فيها: يدوي فيمن رد، وغدوي في غدٍ فيمن رد. وكان أبو الحسن الأخفش يقول في النسب إليها: وشيي؛ لأنه يقول: إذا رددت ما ذهب من الحرف رددته إلى أصله، وثبتت الياء لسكون ما قبلها؛ كما تقول في النسب إلى ظبي: ظبيي. وقد مضى ذكر القولين في موضعه. واعلم أنه من رد في الاسم من ذوات الحرفين الذي لا يرجع منه في تثنية ولا جمع بالتاء نحو: دموي، ويدوي فإنه لا يرد في عدة؛ لأن الذاهب منه ليس مما تغيره الإضافة. وكذلك ما ذهب منه موضع العين فغير مردود ولكن مذي فاعلم. فقد شرحت لك أن ياء الإضافة لا يرد لها ما كان على حرفين إلا موضع اللام؛ لأنها لا تغير غير اللام. تقول: هذا زيد فاعلم، فإذا نسبت إليه قلت: زيدي، فكسرت الدال من أجل الياء، ولم تقرها على الإعراب؛ لأن الإعراب في الياء، ولا يكون في اسم إعرابان. فأما قوله:
هما نفثا في فيَّ من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام
فإنما فم أصله: فوه؛ لأنه من تفوهت بكذا، وجمعه أفواه على الأصل، فإذا قلت: هذا فو زيد، فقد حذفت موضع اللام، ولولا الإضافة لم يصلح اسم على حرفين أحدهما حرف لين. ولكن ثبت في الإضافة؛ لأنها تمنعه التنوين. وكذلك قولك: هذا ذو مال، فأنت تقول: رأيت فا زيد، ومررت بفي زيد، فإن أفردت لم يصلح اسم على حرفين أحدهما حرف لين؛ لأن التنوين يذهب حرف اللين فيبقى الاسم على حرف. فتقول في الإفراد فم فاعلم، فتبدل الميم من الواو؛ لأنهما من مخرج واحد. وإنما الميم والباء والواو من الشفة، ثم تهوي إلى الفم،؛ لما فيها من المد واللين، حتى تنقطع عند مخرج الألف. والميم تهوي في الفم حتى تتصل بالخياشيم؛ لما فيها من الغنة. والباء لازمة لموضعها. فأما قوله: فمويهما فإنه جعل الواو بدلاً من الهاء لخفائها للين وأن الهاء خفيةٌ. فمن قال فمان قال في النسب: فمي، وفموي. ومن قال فموان لم يجز في النسب إلا فموي.
هذا باب
النسبة إلى التثنية والجمع
اعلم أنك إذا نسبت إلى مثنى حذفت منه الألف والنون، وحذفهما لأمرين: أحدهما: أنهما زيدا معاً، وقد مضى هذا في باب عطشان وحمراء. والوجه الثاني: أنه يستحيل النسب إليه وألف التثنية أو ياؤها فيه؛ لأنه يجتمع في الاسم رفعان، أو نصبان، أو خفضان. فإن أضفت إلى جمع مذكر فهو كذلك. تقول في النسب إلى مسلمين أو مسلمين: مسلمي، وإلى رجلين: رجلي؛ كما ينسب إلى الواحد، وكما ذكرت لك قبل الجماعة؛ لتفصل بينها وبين الواحد المسمى بجماعة. وتقول في النسب إلى مسلمات: مسلمي، فتحذف الألف والتاء؛ كما حذفت الألف والنون، والواو والنون؛ وكما تحذف هاء التأنيث إذا قلت في طلحة: طلحي.
هذا باب
ما يبنى عليه الاسم لمعنى الصناعة
لتدل من النسب على ما تدل عليه الياء
وذلك قولك لصاحب الثياب: ثواب، ولصاحب العطر: عطار، ولصاحب البز: بزاز. وإنما أصل هذا لتكرير الفعل كقولك: هذا رجلٌ ضراب، ورجلٌ قتال، أي: يكثر هذا منه، وكذلك خياط، فلما كانت الصناعة كثيرة المعاناة للصنف فعلوا به ذلك. وإن لم يكن منه فعلٌ؛ نحو: بزاز، وعطار. فإن كان ذا شيءٍ، أي: صاحب شيءٍ بني على فاعل؛ كما بني الأول على فعال، فقلت: رجل فارس، أي: صاحب فرس، ورجل دارع، ونابل، وناشب، أي: هذا آلته. قال الشاعر:
وغررتني، وزعمت أنك لابنٌ بالصيف تامر
فأما قوله:
وليس بذي رمحٍ فيطعنني به ... وليس بذي سيفٍ وليس بنبال
فإنه كان حقه أن يقول: وليس بنابل، ولكنه كثر ذلك منه ومعه.


واعلم أن قولهم: عيشةٍ راضيةٍ، ورجلٌ طاعمٌ كأسٍ. إنما هو على ذا. معناه: عيشة فيها رضًا، ورجل له طعام وكسوة. وكذلك همٌّ ناصب. إنما هو: فيه نصب. وكذلك كل مؤنث نعت بغير هاءٍ؛ نحو: طامث، وحائض، ومئتم، وطالق. فما كان من هذا مبنياً على فعل فهو كقولك: ضربت فهي ضاربة، وجلست فهي جالسة. قال الله عز وجل: " يوم ترونها تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت " ، لأنه جاء مبنياً على أرضعت. وما كان على غير فعل فعلى معنى النسب الذي ذكرت لك. وذلك انك تريد: لها حيض، ومعها طلاق. وتأويله: هي ذات كذا. فأما قول بعض النحويين: إنما تنزع الهاء من كل مؤنث لا يكون له مذكر، فيحتاج إلى الفصل فليس بشيء؛ لأنك تقول: رجل عاقر، وامرأة عاقر، وناقة ضامر، وبكر ضامر. وكذلك امرأة قتول، ورجل قتول، وامرأة معطار، ورجل معطار فهذا على ما وصفت لك. فأما قولهم: بعير عاضهٌ، وبعير حامضٌ فهو على هذا إنما معناه: أنه معتاد لأكل الحمض ولأكل العضاه. فوقع النسب على معنى قولك: هو كذا، فهذا بابه.
هذا باب
المحذوف والمزيد فيه
وتفسير ما أوجب ذلك فيهما
فمن المحذوف ما يكون حذفه قياساً؛ لأن العلة جارية فيه وذلك ما كان من باب وعد، ووزن، وقد مضى قولنا في ذلك. ومن ذلك ما كان آخره ألفاً أو ياءً أو واواً من الأفعال فإن الجزم يذهب هذه الحروف؛ لأن الجزم حذف الأواخر، فإذا صادفت الحرف متحركاً حذفت الحركة، وإن صادفنه ساكناً كان الحرف هو المحذوف، وبقي ما قبله على حركته وذلك قولك: لم يغز، ولم يخش، ولم يرم، فإذا وصلت قلت: لم يخش يا فتى، ولم يرم يا فتى، ولم يغز يا فتى. تدع الحركة على ما كانت عليه، لأنك حذفت الحرف للجزم فلم يكن لك على الحركة سبيلٌ؛ كما أنك لما حذفت الحركة من يضرب ونحوه لم يكن لك على الحرف سبيلٌ، فبقي كهيئته. فما كان من حذف لعلة تشمله فذلك جامع لبابه.
ومن المحذوف ما يحذف استخفافاً من الشيء؛ لأنه لا يكون أصلاً في بابه، ويكون الحرف الذي في آخره من الحروف التي أمرها الحذف، أو مضارعاً لها. فمن ذلك قولهم: لم أبلن ولم يك، ولا أدر. أما قولهم: لم يك فإن الحد لم يكن وهو الوجه، أسكنت النون للجزم، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين؛ كما تقول: لم أقل، ولم أبع. فأما من قال: لم أك فإنه لما رأى النون ساكنة، وكانت مضارعةً للياء والواو بأنها؛ تدغم فيهما، وتزاد حيث تزادان، فتكون للصرف، كما تكونان للإعراب، وتبدل الألف منهما، كما تبدل منها في قولك: اضربا، إذا أردت النون الخفيفة، وفي قولك: رأيت زيدا، وتحل محل الواو في قولك: بهراني، وصنعاني، وتحذف النون الخفيفة؛ كما تحذف الياء والواو لالتقاء الساكنين. وكانت تكون الأصل فيما مضى وما لم يقع. وذلك قولك: أقام زيد؟ فتقول: قد كان ذاك. وتقول: يقوم زيد، فتقول: يكون. فكانت العبارة دون غيرها من الأفعال. فقد بانت بعلة ليست في غيرها من أنها عبارة وترحمة، فحذقت لسكونها استخفافاً؛ فإن تحركت النون لم يجز حذفها. تقول: لم يك زيد منطلقا، ولا تقول: لم يك الرجل؛ لأنها تتحرك هاهنا لالتقاء الساكنين إذا قلتك لم يكن الرجل.
وأما لم أبله فإنه كثر في كلامهم، وكان الأصل في كل مطرح، وكان يقول في الوقف: لم أبال، فيلتقي ساكنان: الألف، واللام، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين؛ لكثرة هذه الحروف. ولولا كثرته لم يحذف؛ لأنه يلتقي ساكنان في الوقف. ومنهم من يقول: لم أبله؛ فيحذف الألف؛ لأنها زائدة لما ذكرت لك من كثرة هذه الحروف. فأما قولهم:
ويهاً فداءٌ لك يا فضاله ... أجره الرمح ولا تهاله


فإن حرك اللام لالتقاء الساكنين؛ لأنه قد علم أنه لا بد من حذف، أو تحريك، فكان الباب هاهنا الحذف، فيقول: لا تهل، ولكن للقافية حرك؛ لأن الحد لا تهال، فتسكن اللام للجزم، ثم تحذف الألف لالتقاء الساكنين. فهذا حرك اللام من أجل القافية حركة اعتلال، وحركها بالفتح؛ لفتح ما قبلها ولما منه الفتح وهي اللف؛ كما تقول: عض يا فتى، وانطلق يا فتى فيمن أسكن، وأدخل الهاء لبيان الحركة. وقولهم: لا أدر رديء. وإنما كان يقف عليه، فوصله على وقفه، وقياسه قياس سبسباً، وكلكلاً، ونحوهما. وقد مضى القول في هذا مفسراً في موضع الوقف. فأما ما يزاد في مثل قولهم: أمهات وهي في الإفراد: أم، وكذلك قولهم: يا أمت، ويا أبت في النداء فإن الهاء في يا أمت، ويا أبت بدلٌ من ياء الإضافة؛ لأنه من قال: يا أبي لا تفعل، ويا أمي لا تفعلي، لم يقل: يا أم، ويا أب، ولكنه يقول: يا أبة لا تفعل، فيجعل الهاء بدلاً من الياء، ويلزمها الكسر؛ لتدل على الياء؛ لأن هاء التأنيث لا تكون ساكنة؛ لأنها كاسم ضم إلى اسم. فأما أمهات فالهاء زائدة؛ لأنها من حروف الزوائد. تزاد لبيان الحركة في غير هذا الموضع فزيدت. ولو قلت: أمات لكان هذا على الأصل، ولكن أكثر ما يستعمل أمهات في الإنس، وأمات في البهائم. فكأنها زيدت للفرق، ولو وضع كل واحدة في موضع الأخرى لجاز. ولكن الوجه ما ذكرت لك. والآخر إنما يجوز في شعر. ترده إلى الأصل فتقول: كل واحدة منهما أم. فما جاز من زيادة في هذا أو حملٍ على الأصل فهو في الآخر جائز. قال الشاعر:
قوال معروفٍ، وفعاله ... عقار مثنى أمهات الرباع
واعلم أن لا أدري، ولم يكن، ولم أبال يا فتى الوجه، والحد والاختيار: الإتمام؛ وإنما ذكرنا الحذف لما فيه من العلل. فأما باب عدة وزنة، فحذف ذلك الحد والقياس.
والأسماء التي تنقص من الثلاثة لا يجوز أن ينقص منها شيءٌ إلا ما كانت لامه ياءً أو واواً؛ لأنها تعتل، أو تكون من المضاعف، فتحذف للاستثقال، أو يكون خفياً، فيحذف لخفائه. وحرف الخفاء هو الهاء. فأما ما حذفت منه الياء الواو فنحو: يدٍ، وأصله: يديٌ. والمحذوف ياءٌ. يدلك على ذلك قولهم: يديت إليه يدا. وتقول في الجمع أيدي. وكذلك دمٌ من دميت. فأما ما حذفت الهاء منه فشفة؛ لأنها من شافهت. وكذلك سنة فيمن قال سنيها، وسانهت، ومن قال: سنية جعل المحذوف واواً من قولك: سنوات. فاعتبر هذا بهذا الضرب. فإن قلت: مذ قد حذفت النون منه؛ فإنما ذلك لمضارعتها حروف اللين، وقد ذكرنا دخولها في مداخلهن، وبيناه تبييناً واضحاً، وذكرنا حروف الزوائد، ومواقع زيادتهن، وبيناه تبييناً يغني عن إعادته.
هذا باب
ما يعرب من الأسماء وما يبنى
اعلم أن حق الأسماء أن تعرب جمع وتصرف. فما امتنع منها من الصرف فلمضارعته الأفعال؛ لأن الصرف إنما هو التنوين، والأفعال لا تنوين فيها ولا خفض، فمن ثم لا يخفض ما لا ينصرف إلا أن تضيفه أو تدخل عليه ألفاً ولاماً، فتذهب بذلك عنه شبه الأفعال، فترده إلى أصله؛ لأن الذي كان يوجد فيه ترك الصرف قد زال. وكل ما لا يعرب من السماء فمضارعٌ به الحروف؛ لأنه لا إعراب فيها. وسنذكر من هذه الأسماء جملة تدل على جميعها، ونذكر ما ضارعت فيه الحروف؛ لأنا قد أحكمنا باب ما ينصرف وما لا ينصرف. فمن تلك الأسماء: كم، وأين وكيف، وما، ومتى، وهذا، وهؤلاء، وجميع المبهمة، ومنها: الذي والتي، ومنها: حيث. واعلم أن الدليل على أن ما ذكرنا أسماءٌ، وقوعها في مواضع الأسماء، وتأديتها ما يؤديه سائر الأسماء.


أما من فتكون فاعلة، ومفعولة، وغير ذلك. تقول: جاءني من في الدار، وضربت من في الدار، وضربت من عنك، ومررت بمن أكرمك. وموقعها في الكلام في ثلاثة مواضع: تكون خبراً فتكون معرفة إذا وصلت، ونكرة إذا نعتت، وتكون استفهاماً، وجزاءً. وتقول في الاستفهام: من ضربك؟؛ كما تقول: أزيدٌ ضربك؟ وتقول: من ضربت؟، وبمن مررت؟ كما تقول في زيد. وكذلك الجزاء. تقول: من يأتك تأته، ف من مرفوعة على تقدير: إن يأتك زيدٌ تأته، وتقول: من تعط يكرمك على تقدير: زيدا تضرب، وكذلك بمن تمرر أمرر به. فهذا قد أوضح لك أنها اسم. فأما ما بنيت من أجله، ومنعت الإعراب لمضارعته، فإنها ضارعت في الجزاء إن التي هي حرف الجزاء، وفي الاستفهام تضارع الألف وهل. فأما في الخبر فلا يجب أن تعرب، لعلل منها: وقوعها في الاستفهام والجزاء، ومنها أنها في الخبر لا تتم إلا بصلة فإنما تمامها صلتها، والإعراب بأواخر الأسماء. ومن هذه الأسماء أين، وكيف، ومضارعتها لحروف الاستفهام والجزاء قد وضحت لك، وتحريك آخرها؛ لالتقاء الساكنين، حركت بالفتح للياء التي قبل أواخرها. فكذلك: حيث في قول من فتح. فأما من ضم آخرها فإنما أجراها مجرى الغايات؛ إذ كانت غاية، وتفسير هذا في موضعه من هذا الباب إن شاء الله. وكل مبني مسكن آخره إن ولي حرفاً متحركاً؛ لأن الحركات إنما هي في الأصل للإعراب، فإن سكن ما قبل آخره فلا بد من تحريك آخره؛ لئلا يلتقي ساكنان. فهذه حال المبنية إلا ما ضارع منها المتمكنة، أو جعل في موضع لعلة بمنزلة غير المتمكنة، وقد ذكرناه في الكتاب وسنعيده في هذا الباب، لأنه موضعه.
ومن المبنيات أمس. تقول: مضى أمس بما فيه، ولقيتك أمس يا فتى. وإنما بني؛ لأنه اسم لا يخص يوماً بعينه، وقد ضارع الحروف. وذلك أنك إذا قلت: فعلت هذا أمس يا فتى إنما تعني اليوم الذي يلي يومك، فإذا انتقلت عن يومك انتقل اسم أمس عن ذلك اليوم؛ فإنما هي بمنزلة من التي لابتداء الغاية فيما وقعت عليه، وتنتقل من شيءٍ إلى شيءٍ، وليس حد الأسماء إلا لزوم ما وضعت علاماتٍ عليه. وحيث زيدٌ جالسٌ. فحيث انتقل زيد فحيث منتقل معه. فأما كسر آخر أمس فلالتقاء الساكنين: الميم، والسين. وإنما كان الحد الكسر لما أذكره لك: وهو أنه إذا كان الساكن الذي تحركه في الفعل كسرته؛ لأنك لو فتحته لالتبس بالفعل المنصوب، ولو ضممته لالتبس بالفعل المرفوع، فإذا كسرته علم أنه عارض في الفعل؛ لأن الكسر ليس من إعرابه. وإن كان الساكن الذي تحركه في اسم كسرته؛ لأنك لو فتحته لالتبس بالمنصوب غير المنصرف، وإن ضممت التبس بالمرفوع غير المنصرف، فكسرته لئلا يلتبس بالمخفوض؛ إذ كان المخفوض المعرب يلحقه التنوين لا محالة؛ فلذلك كان الكسر اللازم لالتقاء الساكنين.
فأما الغايات فمصروفة عن وجهها؛ وذلك أنها مما تقديره الإضافة؛ لأن الإضافة تعرفها وتحقق أوقاتها، فإذا حذفت منها، وتركت نياتها فيها، كانت مخالفة للباب معرفةً بغير إضافة، فصرفت عن وجوهها، وكان محلها من الكلام أن يكون نصباً أو خفضاً. فلما عن مواضعها ألزمت الضم، وكان ذلك دليلاً على تحويلها، وأن موضعها معرفة وإن كانت نكرةً أو مضافةً، لزمها الإعراب وذلك قولك: جئت قبلك، وبعدك، ومن قبلك، ومن بعدك، وجئت قبلاً وبعداً، كما تقول أولاً وآخراً. فإن أردت قبل ما تعلم فحذفت المضاف إليه قلت: جئت قبل وبعد، وجئت من قبل ومن بعد. قال الله عز وجل: " والذين من قبلهم " و " ومن بعد أن أظفركم عليهم " وكذلك جئت من علو، وصب عليهم من فوق، ومن تحت يا فتى إذا أردت المعرفة. وكذلك من دون يا فتى.
وحيث فيمن ضم وهي اللغة الفاشية. والقراءة المختارة " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " . فهي غاية، والذي يعرفها ما وقعت عليه من الابتداء والخبر. وإنما حق هذا وبابه للظروف من الزمان، وحيث ظرف من المكان. ولكن ظروف الزمان دلائل على الأفعال، والأفعال توضح معانيها. ولو أفردت حيث لم يصح معناها. فأضفتها إلى الفعل والفاعل، والى الابتداء والخبر؛ كما تفعل بظروف الزمان؛ لمضارعتها، ومشاركتها إياها بالإبهام؛ فلذلك تقول: قمت حيث قمت، وقمت حيث زيدٌ قائم؛ كما تقول: قمت يوم قام زيد، وحين زيدٌ أميرٌ، والغايات كلها بمنزلة ما ذكرناه.


وأما ظروف الزمان فإنما كانت بالفعل أولى؛ لأنها إنما بنيت لما مضى منه، ولما لم يأت. تقول: جئت وذهبت، فيعلم أن هذا فيما مضى من الدهر، وإذا قلت: سأجيء وسأذهب، علم أنه فيما يستقبل من الدهر، وليس للمكان ما يقع هذا الموضع؛ لأنه ثابت لا يزول، ومرئي مميز: كزيد، وعمرو. والزمان كالفعل: إنما هو مضي الليل والنهار. فإذا قلت: هذا يوم زيد. فمعناه: الذي فعل فيه، أو عرف فيه، أو حدث له فيه حادث، أو حدث به. فإذا قلت: هذا يوم يخرج زيد، فقد أضفته إلى هذه الجملة، فاتصل بالفعل لما فيه من شبهه، وأتبعه الفاعل؛ لأنه لا يخلو منه. وهو معرفة؛ لأن قولك: هذا يوم يخرج زيد: هذا يوم خروج زيد في المعنى، و " هذا يوم لا ينطقون " : هذا يوم منعهم من النطق. واتصل بالابتداء والخبر، والفعل والفاعل؛ كما يكون ذلك في إذ. وإذ يقع بعدها الفعل والفاعل، والابتداء والخبر. وإذا لا يقع بعدها إلا الفعل، نحو: آتك إذا جاء زيد. وكنت في إذ تقول: أتيتك إذ زيدٌ أميرٌ، وأتيتك إذ جاء زيد. فأما جواز الوجهين في إذ؛ فلأن الابتداء والخبر كالفعل والفاعل؛ لأنهما جملتان. فأما امتناع الابتداء والخبر من إذا فلأن إذا في معنى الجزاء، والجزاء لا يكون إلا بالفعل. ألا تراها تحتاج إلى الجواب؛ كما تحتاج حروف الجزاء. تقول: إذا جاء زيد فأعطه، وإذا جئتني أكرمتك فإن قلت: أكرمك إذا جئتني: فأكرمك في موضع الجواب؛ كما تقول في حروف الجزاء: أكرمك إذا جئتني. فكل ما كان من أسماء الزمان في معنى إذ فهو مضاف إلى ما يضاف إليه إذ من الابتداء والخبر، والفعل والفاعل. وما كان في معنى إذا وهو الذي لم يأت فلا يضاف إلا إلى الفعل إذا كان كذلك. تقول: جئتك يوم زيدٌ أميرٌ، وأتيتك يوم قام زيد. وتقول في المستقبل: أتيتك يوم يقوم زيد، ولا يجوز: يوم زيدٌ أميرٌ لما ذكرت لك. قال الله عز وجل: " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " . وقال: " هذا يوم لا ينطقون " .
فأما إذا التي تقع للمفاجأة فهي التي تسد مسد الخبر، والاسم بعدها مبتدأ وذلك قولك: جئتك فإذا زيد، وكلمتك فإذا أخوك. وتأويل هذا: جئت، ففاجأني زيد، وكلمتك، ففاجأني أخوك، وهذه تغني عن الفاء، وتكون جواباً للجزاء؛ نحو: إن تأتني إذا أنا أفرح على حد قولك: فأنا أفرح. قال الله عز وجل: " وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون " فقوله: " إذا هم يقنطون " في موضع: يقنطوا. وقوله: إن تأتني فلك درهم في موضع إن تأتني أعطك درهما؛ كما أن قوله عز وجل: " سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون " في موضع: أم صمتم. فمن جعل حيث مضمومة - وهو أجود القولين - فإنما ألحقها بالغايات؛ نحو: من قبل، ومن بعد، ومن عل يا فتى، وابدأ بهذا أول يا فتى، ونحوه. ومن فتح فللياء التي قبل آخره، وأنه ظرف بمنزلة أين، وكيف. فأما قولهم: يا زيد وما أشبهه في النداء، فقد مضت العلة فيه في موضعها، والمبنيات كثيرة، وفيما ذكرنا دليلٌ على ما تركنا. وباب حذام، وتراك، وحلاق، وبداد، ونزال، قد ذكرناه فيما يجري وما لا يجري.
فأما ما كان من سوى ذلك في معنى الفعل المأمور به؛ نحو: صه، ومه، وإيه، وإيها، ومهلاً يا فتى، وما أشبه ذلك فنحن ذاكروه: أما صه، ومه، وقد التي بمعنى حسب، فمبنيات على السكون لحركة ما قبل أواخرها، وأنها في معنى افعل. وأما إيه يا فتى فحركت الهاء لالتقاء الساكنين، وترك التنوين؛ لأن الأصوات إذا كانت معرفة لم تنون. قال الشاعر:
وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ ... وما بال تكليم الرسوم البلاقع
ولو جعله نكرة لقال: إيهٍ يا فتى؛ كما يقول: إيهاً يا فتى: إذا أمرته بالكف، وويها: إذا أغريته. قال الشاعر:
ويهاً فداءٌ لكم أمي وما ولدت ... حاموا على مجدكم واكفوا من اتكلا
وكذلك قولهم: قال الغراب: غاق يا فتى، فإن جعلته نكرة نونت، وكذلك ما كان مثله.
هذا باب
الاسم الذي تلحقه صوتاً أعجمياً
نحو: عمروية وحمدوية، وما أشبهه، والاختلاف في هيهات، وذية، وذيت، وكية، وكيت


اعلم أن الاسم الأعجمي الذي يلحق الصدر مجراه مجرى الأصوات، فحقه أن يكون مكسوراً بغير تنوين ما كان معرفةً. فإن جعلته نكرة نونته على لفظه؛ كما تفعل ذلك بالأصوات، نحو قولك: إيه يا فتى في المعرفة، وإيهٍ، إذا أردت النكرة، وقال الغراب: غاق، وغاقٍ في النكرة. وتأويل ترك التنوين فيه: أنه قال الشيء الذي كنت تعرفه به؛ والنكرة إنما هو قال صوتاً هذا مثاله. فأما الصدر فلا يكون إلا مفتوحاً؛ كقولك: حضرموت يا فتى، وخمسة عشر، وما يفتح قبل هاء التأنيث؛ نحو: حمدة، وما أشبهها. وذلك الاسم ما كان نحو: عمروية، وحمدوية؛ كما قال الشاعر:
يا عمرويه انطلق الرفاق ... مالك لا تبكي ولا تشتاق
وزعم سيبويه مع التفسير الذي فسرناه أن العرب إذا ضمت عربياً إلى عربيٍّ مما يلزمه البناء ألزمته أخف الحركات، وهي الفتحة، فقالوا: خمسة عشر يا فتى، وهو جاري بيت يا فتى، ولقيته كفة كفة، و " يا ابن أم لا تأخذ " وإذا بنوا أعجمياً مع ما قبله حطوه عن ذلك، فألزموه الكسر،وهذا مطرد في كلامهم. فأما هيهات فتأويلها: في البعد، وهي ظرف غير متمكن؛ لإبهامها، ولأنها بمنزلة الأصوات. فمنهم من يجعلها واحدا كقولك: علقاة فيقول: " هيهات هيهات لما توعدون " فمن قال ذلك فالوقف عنده هيهاه وترك التنوين للبناء. ومنهم من يجعلها جمعاً كبيضات فيقول: " هيهات هيهات لما توعدون " وإذا وقف على هذا القول وقف بالتاء، والكسرة إذا أردت الجمع للبناء كالفتحة إذا أردت الواحد. ومن جعلها نكرة في الجميع نون فقال: هيهاتٍ يا فتى. وقال قوم: بل نون وهي معرفة؛ لأن التنوين في تاء الجمع في موضع النون من مسلمين. قال: والدليل على ذلك أن معناه في البعد كمعناه، فلو جاز أن تنكره وهو جمع لجاز أن تنكره وهو واحد، وهذا قول قوي. وينشد هذا البيت على وجهين، قال:
ها أنذا آمل الحياة وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا
أبا امرئ القيس،هل سمعت به؟ ... هيهات هيهات طال ذا عمرا
بعضٌ يفتح وبعضٌ يكسر.
فأما ذيت وذيت، وذية فإنما هي كنايات عن الخبر؛ كما يكنى عن الاسم المعروف بفلان، وعن العدد بأن يقول: كذا وكذا. ولم يوضع على الإفراد؛ فلذلك بنيت، والتاء متحركة بالفتح؛ لالتقاء الساكنين من حيث حركت آخر أين، وكيف، وما أشبه ذلك. وكل اسمين أزيلا فحكمهما إذا بنيا كذلك؛ نحو: لقيته كفة كفة، وبيت بيت. فقد تجوز فيهما الإضافة وترك البناء للمعنى. وذلك أن معنى كفة كفة: كفةً لكفة، أي: قابلت صفحة صفحة. فيجوز أن تقول: لقيته كفة كفةٍ يا فتى. وكذلك هو جاري بيت بيتٍ يا فتى؛ لأن المعنى: بيته إلى بيتي. فعلى ما ذكرت لك تصلح الإضافة، وتمتنع. فأما شغر بغر فاسمان ليس في أحدهما معنى الإضافة إلى الآخر؛ فلذلك لم يكن فيهما وفيما أشبههما إلا البناء. وفيما ذكرت لك من المبنيات ما يدل على جميعها إن شاء الله.
هذا باب
الأسماء واختلاف مخارجها
اعلم أن الأسماء تقع على ضروب: فمنها ما يقع للفصل غير مشتق، وذلك نحو: حجر، وجبل، وكل ما كان مثل هذا فهذا سبيله، وهو نكرة لا يعرف بالاسم منه إلا أنه واحد من جنس. ومن الأسماء ما يكون مشتقاً نعتاً، ومشتقاً غير نعت. فأما النعت فمثل: الطويل، والقصير، والصغير، والعاقل، والأحمق، فهذه كلها نعوتٌ جارية على أفعالها: لأن معنى الجاهل: المعروف بأنه يجهل، والطويل: المعروف بأنه طال. فكل ما كان من هذا فعلاً له أو فعلاً فيه فقد صار حلية له.


والأسماء المشتقة غير النعوت مثل: حنيفة؛ وإنما اشتقاقه من الحنيف، وأصله المخالف في هيئته. يقال: رجل أحنف لما في رجليه، ودين حنيف، أي: مخالف لخطأ الأديان. ولو كان على الفعل فكان من تحنف لكان الفاعل متحنفاً. وكذلك مضر إنما هو مشتق من قولك: مضر اللبن، إذا حمض. كما أن عيلان من العيلة، وقحطان من القحط، وليست على أفعالها. ومن الأسماء المبهمة، وهي التي تقع للإشارة، ولا تخص شيئاً دون شيءٍ، وهي: هذا، وهذاك، وأولئك، وهؤلاء ونحوه. ومن السماء الأعلام، وإنما هي ألقاب محدثة؛ نحو: زيد، وعمرو. ومن الأسماء المضمرة، وهي التي لا تكون إلا بعد ذكر، نحو: الهاء في به، والواو في فعلوا، والألف في فعلا. فأنكر الأسماء قول القائل: شيء؛ لأنه مبهم في الأشياء كلها. فإن قلت جسم فهو نكرة، وهو أخص من شيءٍ؛ كما أن حيواناً أخص من جسم، وإنساناً أخص من حيوان، ورجلاً أخص من إنسان. والمعرفة: ما وضع على شيءٍ دون ما كان مثله، نحو: زيد وعبد الله فإن أشكل زيد من زيد فرقت بينهما الصلة. وقد ذكرنا هذا مفسراً في باب المعرفة والنكرة.
هذا باب
مخارج الأفعال
واختلاف أحوالها وهي عشرة أنحاء
فمنها: الفعل الحقيقي الذي لا يتعدى الفاعل إلى مفعوله، وهو قولك: قام زيد، وجلس عمرو، وتكلم خالد. فكل هذا وما كان مثله غير متعدٍّ. وكل فعل تعدى أو لم يتعد فهو متعدٍّ إلى اسم الزمان، واسم المكان والمصدر، والحال، وذلك قولك: قام عبد الله ضاحكاً يوم الجمعة عندك قياماً حسناً؛ وذلك أن فيه دليلاً على هذه الأشياء. فقولك: قام زيد بمنزلة قولك: أحدث قياماً، وتعلم أن ذلك فيما مضى من الدهر، وأن للحدث مكاناً، وأنه كان على هيئة. وكذلك إن قلت: قام عبد الله ابتغاء الخير، فجئت بالعلة التي لها وقع القيام. وكل ما كان فعله على فعل فغير متعدٍّ؛ لأنه لانتقال الفاعل إلى حال عن حال؛ فلا معنى للتعدي؛ وذلك قولك: كرم زيد، وشرف عبد الله. والتقدير: ما كان كريماً ولقد كرم، وما كان شريفاً وقد شرف، فهذا نحو من الفعل. ونحوٌ آخر لا يتعدى الفعل فيه الفاعل، وهو للفاعل على وجه الاستعارة. ويقع على ضربين: أحدهما: سقط الحائط، وطال عبد الله، وأنت تعلم أنهما لم يفعلا على الحقيقة شيئاً. فهذا ضربٌ. والضرب الثاني الذي يسميه النحويون فعل المطاوعة. وذلك قولك: كسرتهفانكسر، وشويته فانشوى، وقطعته فانقطع، وإنما هذا ما أشبهه على أنك بلغت فيه ما أردت، وانتهيت منه إلى ما أحببت؛ لا أن له فعلاً. ومن الأفعال ما يتعدى الفاعل إلى مفعول واحد وفعله واصل مؤثر كقولك: ضربت زيدا، وكسرت الشيء يا فتى. فأما المصدر، والحالات، والظروف، فلا يمتنع منها فعلٌ البتة. ومن هذه المتعدية إلى مفعول ما يكون غير واصل، نحو: ذكرت زيدا، وشتمت عمرا، وأضحكت خالدا. فهذا نوع آخر.


ومن الأفعال ما يتعدى إلى مفعولين ولك أن تقتصر على أحدهما. وذلك قولك: أعطيت زيدا درهما، وكسوت زيدا ثوبا، وألبست زيدا جبة. ومنها ما يتعدى إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما وذلك نحو: ظننت زيدا أخاك، وحسبت زيدا ذا الحفاظ، وخلت عبد الله يقوم في حاجتك. والفصل بين هذا والأول أن الأول فعل حقيقي يقع مفعولاه مختلفين. تقول: أعطيت زيدا، فتخبر أنه كان منك عطاءٌ، وإن شئت أن تذكره بعد ذكرته. فأما قولك: ظننت زيدا فلا يستقيم؛ لأن الشك إنما وقع في المفعول الثاني. فالثاني خبر عن الأول، والتقدير: زيد منطلق في طني، إلا أن تريد بظننت: اتهمت. فهذا من غير هذا الباب، وكذلك: إذا أردت بعلمت: عرفت. فهو من باب ما يتعدى إلى مفعول؛ كما قال عز وجل: " لا تعلمونهم الله يعلمهم " إنما هو: لا تعرفونهم الله يعرفهم. وكذلك: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " . ومن هذه الأفعال ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، وهو من باب الفعل المتعدي إلى مفعولين، ولكنك جعلت الفاعل في ذلك الفعل مفعولاً بأنه كان يعلم، فجعل غيره أعلمه، فيقول: أعلم الله زيدا عمرا خير الناس، ونبأتك عبد الله صاحب ذلك. فما كان من هذا فهذا سبيله. ومنها ما يتعدى إلى مفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيءٍ واحد، وليست أفعالاً حقيقية، ولكنها في وزن الأفعال، ودخلت لمعانٍ على الابتداء والخبر؛ كما أن مفعولي ظننت إنما هما ابتداءٌ وخبر. وذلك قولك: كان زيد أخاك، وأمسى عبد الله ظريفاً يا فتى. وكذلك ليس، ومازال، ومادام، فهذه ثمانية أفعال متصرفة.
ومنها فعل التعجب وهو غير متصرف؛ لأنه وقع لمعنى، فمتى صرف زال المعنى. وكذلك كل شيءٍ دخله معنى من غير أصله على لفظ فهو يلزم ذلك اللفظ لذلك المعنى، وهو قولك: ما أحسن زيدا؛ وما أظرف أخاك. وقد مضى تفسيره في بابه وهو فعل صحيح.
والعاشر: ما أجري مجرى الفعل وليس بفعل، ولكنه يشبه الفعل بلفظ، أو معنى. فأما ما أشبه الفعل فدل على معناه مثل دلالته ف ما النافية، وما أشبهها. تقول: ما زيد منطلقا؛ لأن المعنى: ليس زيد منطلقا، وما أشبهه في اللفظ، ودخل على الابتداء والخبر دخول كان، وإن وأخواتهما. وقد ذكرنا الحجج في بابها.
هذا باب
الصلة والموصول في مسائله
فأما أصوله فقد ذكرناها


تقول: رأيت الذي أبوه منطلق. ف الذي مرئي، وأبوه منطلق صلته. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان. لم يجز؛ لأن قولك: أبواهما منطلقان صلة للذين، واللذان في صلة الذي. وهما ابتداءٌ لا خبر له. فلم تتم الصلة. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان في الدار، لم يجز أيضاً وإن كنت قد جئت بخبر؛ أنه ليس في صلة الذي ما يرجع إليه. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان في داره أو عنده أو ما أشبه ذلك، فقد صحت المسألة، وصار التقدير: رأيت الذي أخواك عنده. فإن قلت: رأيت الذي اللذان أبواهما منطلقان إليه لم يجز، لأن منطلقان خبر الأبوين، وإليه متصل بمنطلقين، فكأنك قلت: رأيت الذي أخواه. فهذا ابتداءٌ لا خبر له. فعلى هذا فقس. فإن قلت: رأيت اللذين الذي قاما إليه، فهو غير جائز؛ لأن قولك: الذي قاما إليه ابتداءٌ لا خبر له. وتصحيح المسألة: رأيت اللذين الذي قاما إليه أخوك. فترجع الألف في قاما إلى اللذين والهاء في إليه إلى الذي، وأخوك خبر الذي، فتمت صلة اللذين، وصح الكلام. ولو قلت: ظننت الذي التي تكرمه يضربها، لم يجز، وإن تمت الصلة؛ لأن التي ابتداءٌ وتكرمه صلتها، ويضربها خبر الابتداء. فقد تم الذي بصلته؛ وإنما فسد الكلام؛ لأنك لم تأت بمفعول ظننت الثاني. فإن أتيت فقلت: أخاك أو ما أشبهه صح الكلام. وتقول: ضرب اللذان القائمان إلى زيد أخواهما الذي المكرمه عبد الله. فتجعل الذي منصوبا، وإن جعلته مرفوعا نصبت اللذين. وتقول: رأيت الراكب الشاتمه فرسك. والتقدير: رأيت الرجل الذي ركب الرجل الذي شتمته فرسك. وتقول: مررت بالدار الهادمها المصلح داره عبد الله. فقولك: الهادمها في معنى التي هدمها الرجل الذي أصلح داره عبد الله. وتقول: رأيت الحامل المطعمه طعامك غلامك. أردت: رأيت الرجل الذي حمل الرجل الذي أطعمه طعامك غلامك، فغلامك هو الحامل، والهاء في المطعمه ترجع إلى الألف واللام الأولى. ولو قلت: وافق ضربك صاحبك أخوك غلامك، كان جيداً. رفعت الضرب بأنه الموافق غلامك، وضربك تقديره: أن ضربك، وصاحبك هو الفاعل، وأخوك نعت أو بدل. فهذا جيد. وإنما يحتاج المصدر إلى الصلة إذا كان في معنى أن فعل أو يفعل. فأما إذا قلت: ضربت ضرباً، فليس المصدر مما يحتاج إلى الصلة. فإذا قلت: أعجبني ضرب زيدٍ عمرا، فمعناه: أعجبني أن ضرب زيد عمرا وكذلك إن قلت: ضرب زيدٍ عمرٌو فمعناه: أن ضرب زيدا عمرو. وإن قلت: قيام القائم إليه زيدٌ معجبٌ الشارب ماءه الآكل طعامك، صار معناه: أن قام الذي قام إليه زيد معجب الذي شرب ماءه الرجل الذي أكل طعامك. وتقول: أعجب حسن حذاء نعلك حذاؤها لابس نعل أخيك، وإن شئت قلت: لابسا نعل أخيك.
وهذه مسائل يسيرة صدرنا بها لتكون سلماً إلى ما نذكره بعدها إن شاء الله من مسائل طويلة أو قصيرة معماة الاستخراج. تقول: أعجب المدخل السجن المدخله الضارب الشاتم المكرم أخاه عبد الله زيدا. أردت: أعجب زيدا المدخل السجن المدخله الرجل الذي ضرب الرجل الذي شتم الرجل الذي أكرم أخاه عبد الله إن شئت نصبت عبد الله بأنه الأخ فبينته به، وإن شئت جعلته بدلاً، وأبدلته من بعض المنصوبات التي لم تذكر أسماءها إذا كان إلى جانبه من الصلة، فإن فصلت بين ما في الصلة وبين ما تبدله منها لم يجز، لأنك إذا أبدلت شيئاً مما في الصلة أو نعت به ما في الصلة صار في الصلة، ولا تفرق بين الصلة والموصول؛ لأنه اسم واحد. أو قلت: رأيت الذي ضرب أخاك يخاطب زيدا عمرا، فجعلت عمرا بدلاً من الأخ، ويخاطب حالاً للذي أو مفعولاً ثانياً لرأيت وهي في معنى علمت لم يجز. فإن جعلت يخاطب زيدا حالاً لأخيك دخل في الصلة، فأبدلت عمرا فهو جيد حينئذ؛ لأنه كله في الصلة.


وتقول: سر ما إن زيداً يحبه من هند جاريته. فوصلت ما وهي في معنى الذي بإن، وما عملت فيه لأن إن إنما دخلت على الابتداء والخبر، والمعنى كذلك، وكذلك أخواتها. قال الله عز وجل: وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة. وتقول على هذا: جاءني الذي كأن زيدا أخوه، ورأيت الذي ليته عندنا وكذلك كل شيءٍ يكون جملة. تقول: الذي إن تأته يأتك زيد، ورأيت الذي من يأته يكرمه. فإن قلت: رأيت الذي من يأتيه يكرمه جاز. تجعل من في موضع الذي. فكأنك قلت: رأيت الذي زيد يكرمه؛ لأن من صلتها: يأتيه، وخبرها: يكرمه. فأما قول الله عز وجل: " فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه " فإن من الأولى في معنى الذي، ولا يكون الفعل بعدها إلا مرفوعاً. فأما الثانية فوجهها الجزم بالجزاء، ولو رفع رافع على معنى الذي كان جيداً؛ لأن تصييرها على معنى الذي لا يخرجها من الجزاء. ألا ترى أنك تقول: الذي يأتيك فله درهم. فلولا أن الدرهم يجب بالإتيان لم يجز دخول الفاء؛ كما لا يجوز: زيد فله درهم، وعبد الله فمنطلق.وقال الله عز وجل: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربهم " . فقد علمت أن الأجر إنما وجب بالإنفاق. فإذا قلت: الذي يأتيك له درهم لم تجعل الدرهم له بالإتيان. فإذا كانت في معنى الجزاء جاز أن تفرد لها وأنت تريد الجماعة؛ كما يكون من وما، قال الله عز وجل: " والذي جاء بالصدق وصدق به " . فهذا لكل من فعل، ولذلك قال: " فأولئك هم المتقون " . فهذه أصول، ونرجع إلى المسائل إن شاء الله.
تقول: محبتك شهوة زيد طعام عبد الله وافقت أخاك، أردت في ذلك: أن أحببت أن اشتهى زيدٌ طعام عبد الله وافقت هذه المحبة أخاك. ولو قلت: أعجبت إرادتك قيام زيد إلى المعجبه ضرب أخيه أخاك زيداً، كان زيد مفعولاً بأعجبت، والكلام ماضٍ على ما كان عليه مما شرحت لك. فالأسماء الموصولة المصادر إذا كانت في معنى: أن فعلت، والألف واللام إذا كانت في معنى الذي، والتي، ومن، وما، وأي في الخبر، وألى التي في معنى الذين. فأما ما كان من النكرات؛ نحو: هذا ضاربٌ زيدا فليس قول من يقول من النحويين إن زيدا من صلة الضارب بشيءٍ؛ لأن ضارباً في معنى يضرب. يتقدم زيد فيه ويتأخر. فتقول: هذا زيدا ضاربٌ، زيدا عبد الله شاتمٌ. فإنما الصلة والموصول كاسم واحد لا يتقدم بعضه بعضا، فهذا القول الصحيح الذي لا يجوز في القياس غيره.
واعلم أن الصلة موضحة للاسم؛ فلذلك كانت في هذه الأسماء المبهمة، وما شاكلها في المعنى؛ ألا ترى أنك لو قلت: جاءني الذي، أو مررت بالذي لم يدللك ذلك على شيءٍ حتى تقول: مررت بالذي قام، أو مررت بالذي من حاله كذا وكذا، أو بالذي أبوه منطلق. فإذا قلت: هذا وما أشبهه وضعت اليد عليه. فإذا قلت: أريد أن تقوم يا فتى، فتقوم من صلة أن حتى تم مصدراً، فصار المعنى: أريد قيامك، وكذلك يسرني أن تقوم يا فتى. تقوم من صلة أن حتى تم مصدرا، فصار المعنى: يسرني قيامك. قال الله عز وجل: " وأن يستعففن خيرٌ لهن " ، و " وأن تصوموا خيرٌ لكم " فهذا على ما وصفت لك. وكذلك أن الثقيلة. تكون مع صلتها مصدراً. تقول: بلغني أنكم منطلقون، أي: بلغني انطلاقكم. وكذلك ما بصلتها تكون مصدراً. تقول: سرني ما صنعت، أي: سرني صنيعك. فأما قولهم: أنا مقيمٌ ما أقمت، وجالسٌ ما جلست، فهو هذا الذي ذكرنا من المصدر؛ ألا ترى أنك تقول: آتيك مقدم الحاج، وأتيتك إمرة فلان. إنما تريد: وقت إمرة فلان، ووقت قدوم الحاج. فإذا قلت: أقيم ما أقمت، فإنما تقديره: أقيم وقت مقامك، ومقدار مقامك.


واعلم أنك إذا أدخلت شيئاً في الصلة، فنعته وفعله والبدل منه داخلات في الصلة. ولو قلت: جاءني الذي ضرب عبد الله زيدا الظريف يوم الجمعة قائماً في داره لكان هذا أجمع في صلة الذي، ويعلق بها الهاء التي في قولك: داره، ودخل الظريف في الصلة؛ لأنه نعت لزيد وهو في الصلة. فعلى هذا تجري هذه الأشياء. تقول: رأيت المكرمه المطعمه المعطيه درهما عبد الله. فهذه المسألة صحيحة، وتأويلها: رأيت الرجل الذي أطعمه الرجل الذي أكرمه الرجل الذي أعطاه درهما عبد الله. فعبد الله هو المعطي، والمعطي هو المكرم، والمكرم هو المطعم.ولو قلت: طعاماً طيباً عند قولك: رأيت المطعمه أو بعد عبد الله، جاز، فإن جعلته بين شيءٍ من هذا وبين صلته لم يجز أن تفصل بين الصلة والموصول. ولو قلت: رأيت المعطي أخاك الشاتمه، درهما زيد لم يجز؛ لأنك فصلت بين زيد وبين شاتمه، وقلت درهما بعد الشاتمه، ففصلت بالشاتمه بينه وبين المعطي. ولكن لو رأيت المعطي أخاك درهما الشاتمه زيد، إذا نصبت الشاتمه بالنعت للمعطى، أو جعلت رأيت من رؤية القلب، فجعلت الشاتمه مفعولاً ثانياً. فإن أردت أن ترفع الشاتم لأنه المعطي لم يكن بدٌّ من أن تجعل فيه كناية ترجع إلى الألف واللام في المعطي. فتقول: رأيت المعطي أخاك درهما الشاتمه أخوه، تجعل الهاء من أخيه ترجع إلى الألف واللام، فتصير بمنزلة قولك: رأيت الضارب زيدا أخوه، فإنما رأيت رجلاً ضرب أخوه زيدا ولن ترى أنت الضارب؛ لأن الضارب هو الأخ، وإنما رأيت واحداً الضارب زيدا أخوه. فعلى هذا قلت: رأيت المعطي أخاك درهما الرجل الذي شتمه أخوه؛ لأن المعنى: رأيت الذي أعطى الرجل الذي شتمه أخوه أخاك درهما. وتقول: رأيت الذي اللذان التي قامت إليهما عنده أخواك، فهذا كلامٌ جيدٌ؛ لأن قولك: اللذان مبتدأ في صلة الذي، والتي مبتدأه في صلة اللذين، وقامت إليهما صلة التي، وعنده ظرفٌ داخل في الصلة وحقه أن يقال: وعنده خبر التي وقولك: أخواك خبر اللذين. فتمت صلة الذي فصار تقدير هذا: رأيت الذي أخواه قائمان. ولو قلت: جاءني الذي التي اللتان اللذان الذي يحبهما عندهما في دارهما عنده جاريتك كان جيداً؛ لأن الكلام الذي في صلة الذي الأخير. فكل ما زدت من هذا فهذا قياسه.
واعلم أن أن الخفيفة إذا وصلت بفعل لم يكن في الفعل راجعٌ إليها. وكذلك أن الثقيلة؛ لأنهما حرفان، وليسا باسمين. وإنما يستحق الواحد منهما أن يكون اسماً بما بعده، والذي، ومن، وأي أسماءٌ، فلا بد في صلاتها مما يرجع إليها؛ ألا ترى أنك تقول: جاءني اللذان في الدار، فيعرف. وتقول: أيهم يأتيك تضربه، وأيهم يأتيك فاضرب.
وما عند سيبويه إذا كانت والفعل مصدراً بمنزلة أن والأخفش يراها بمنزلة الذي مصدراً كانت أو غير مصدر. وسنشرح ما ذكرنا شرحاً بيناً شافياً إن شاء الله. وتقول: أن تأتيني خيرٌ لك، فليس في تأتيني ذكرٌ لأن. ولو قلت: رأيت الذي تقوم لم يجز؛ لأنك لم تردد إلى الذي شيئاً وهو اسم حتى تقول: رأيت الذي تقوم إليه. ولو قلت: بلغني أنك منطلق لم تردد إلى أن شيئا. ولو قلت: جاءني من إنك منطلق لم يجز حتى تقول: إنك منطلق إليه أو عنده. فهذا أمر الحروف، وهذه صفات الأسماء.
فأما اختلاف الأخفش وسيبويه في ما إذا كانت والفعل مصدراً فإن سيبويه كان يقول: إذا قلت: أعجبني ما صنعت فهو بمنزلة قولك: أعجبني أن قمت. فعلى هذا يلزمه: أعجبني ما ضربت زيدا؛ كما تقول: أعجبني أن ضربت زيدا، وكان يقوله. والأخفش يقول: أعجبني ما صنعت، أي: ما صنعته؛ كما تقول: أعجبني الذي صنعته، ولا يجيز: أعجبني ما قمت؛ لأنه لا يتعدى، وقد خلط، فأجاز مثله، والقياس والصواب قول سيبويه. فإن أردت ب ما معنى الذي، فذاك ما ليس فيه كلام؛ لأنه الباب والأكثر، وهو الأصل، وإنما خروجها إلى المصدر فرع.
هذا باب
ما جرى مجرى الفعل وليس بفعل ولا مصدر


ولكنها أسماءٌ وضعت للفعل تدل عليه، فأجريت مجراه ما كانت في مواضعها؛ ولا يجوز فيها التقديم والتأخير؛ لأنها لا تصرف تصرف الفعل؛ كما لم تصرف إن تصرف الفعل، فألزمت موضعاً واحداً، وذلك قولك: صه ومه، فهذا إنما معناه: اسكت، واكفف، فليس بمتعدٍّ، وكذلك: وراءك وإليك، إذا حذرته شيئاً مقبلاً عليه، وأمرته أن يتأخر، فما كان من هذا القبيل فهو غير متعدٍّ. ومنها ما يتعدى وهو قولك: عليك زيدا، ودونك زيدا، إذا أغريته. وكذلك: هلم زيدا، إذا أردت: هات زيدا فهذه اللغة الحجازية: يقع هلم فيها موقع ما ذكرنا من الحروف، فيكون للواحد وللاثنين والجمع على لفظٍ واحد، كأخواتها المتقدمات. قال الله عز وجل: " والقائلين إخوانهم هلم إلينا " . فأما بنو تميم فيجعلونها فعلاً صحيحاً، ويجعلون الهاء زائدة، فيقولون: هلم يا رجل، وللاثنين: هلما، وللجماعة: هلموا، وللنساء: هلممن؛ لأن المعنى: الممن، والهاء زائدة. فأما قول الله عز وجل: " كتاب الله عليكم " ، فلم ينتصب كتاب بقوله " عليكم " ، ولكن لما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم " أعلم أن هذا مكتوبٌ عليهم، فنصب كتاب الله للمصدر؛ لأن هذا بدلٌ من اللفظ بالفعل؛ إذ كان الأول في معنى: كتب الله عليكم، وكتب عليكم. ونظير هذا قوله: " وترى الجبال تحسبها جامدةٌ وهي تمر مر السحاب صنع الله " ؛ لأنه قد أعلمك بقوله: " وهي تمر مر السحاب " أن ثم فعلاً، فنصب ما بعده؛ لأنه قد جرى مجرى: صنع الله. وكذلك: " الذي أحسن كل شيءٍ خلقه " . قال الشاعر:
ما إن يمس الأرض إلا منكبٌ ... منه وحرف الساق طي المحمل
لأنه ذكر على ما يدل على أنه طيان من الطي، فكان بدلاً من قوله طوى، وكذلك قوله:
إذا رأتني سقطت أبصارها ... دأب بكارٍ شايحت بكارها
لأن قوله: إذا رأتني معناه: كلما رأتني، فقد خبر أن ذلك دأبها؛ فكأنه قال: تدأب دأب بكار؛ لأنه بدل منه. ومثل هذا - إلا أن اللفظ مشتقٌّ من فعل المصدر، ولكنهما يشتبهان في الدلالة - قوله عز وجل: " وتبتل إليه تبتيلا " على: وبتل غليه، ولو كان على تبتل لكان تبتلاً. وكذلك: " والله أنبتكم من الأرض نباتاً " . لو كان على أنبت لكان إنباتاً. ولكن المعنى - والله أعلم - : أنه إذا أنبتكم نبتم نباتاً. وقال الشاعر:
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
وهذا كثيرٌ جداً.
ومن الحروف التي تجري مجرى الفعل ما يكون أشد تمكناً من غيره، وذلك أنك تقول للرجل - إذا أردت تباعده - : إليك فيقول: إلي. كأنك قلت: تباعد، فقال: أتباعد. وتقول: على زيدا، فمعناه: أولني زيدا، وتقول: عليك زيدا، أي: خذ زيدا. فإن سأل سائل عن اختلافها قيل: هي بمنزلة الأفعال التي منها ما يتعدى، ومنها ما لا يتعدى، ومنها ما يتعدى إلى مفعولين.
ومن هذه الحروف: حيهل فإنما هي اسمان جعلا اسماً واحداً، وفيه أقاويل: فأجودها: حيهل بعمر. فإذا وقفت قلت: حيهلا، فجعلت الألف لبيان الحركة. وجائزٌ أن تجعله نكرة فتقول: حيهلاً يا فتى، وجائزٌ أن تثبت الألف، وتجعله معرفة، فلا تنون والألف زيادة، ومعناه: قربه، وتقديره في العربية: بادر بذكره، وإنما حي في معنى: هلم. ومن ذلك قولهم: حي على الصلاة. قال الشاعر:
وهيج القوم من دارٍ فظل لهم ... يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهلةٍ
وقال فيما أثبت فيه الألف:
بحيهلا يزجون كل مطيةٍ ... أمام المطايا سيرها متقاذف
وأدخل الباء عليه؛ لأنه اسم في موقع المصدر.
ومن أسماء الفعل رويد ولها باب تفرد به نذكره بعد هذا الباب إن شاء الله. ومن المصادر ويح، وويل، وويب، وإنما هي إذا قلت: ويلٌ لزيد في موضع: قبوحٌ لزيد. ولكن لم يجز أن يكون منها أفعال لعلة مشروحة في التصريف. وكذلك أفةً وتفة، وإنما هي في موضع: نتناً ودفراً. ومنها: سبحان الله، وريحانه، ومعاذ الله، وعمرك الله، وقعدك الله في النداء.
هذا باب
تفسير ما ذكرنا من هذه الأسماء الموضوعة..
موضع المصادر وما أشبهها من الأسماء


المدعو بها من غير المصادر؛ نحو: تربا وجندلا، وما أشبه ذلك. أما رويد زيدا، فاسم للفعل، وليس بمصدر، وبني على الفتح؛ لأنه غير متصرف كما فعلت بأخواته المبنيات، نحو: صه، ومه، ولم يسكن آخره؛ لأن قبله حرفاً ساكناً، واخترت له الفتح للياء التي قبله؛ كما فعلت في أين، وكيف وما أشبه ذلك. قال الشاعر:
رويد عليا جد ما ثدي أمهم ... إلينا ولكن ودهم متماين
فإن قلت: أرودته كان المصدر إرواداً، وتصرف تصرف جميع المصادر، فإن حذفت الزوائد على هذه الشريطة صرفت رويد فقلت: رويداً يا فتى. وإن نعت به قلتك ضعه وضعاً رويداً، وتفرده وتضيفه؛ لأنه كسائر المصادر. وتقول: رويد زيدٍ؛ كما قال الله عز وجل: " فضرب الرقاب " ، ورويداً زيدا؛ كما تقول: ضربا زيدا في الأمر. فأما قولك: رويدك زيدا فإن الكاف زائدة، وإنما زيدت للمخاطبة، وليست باسم، وإنما هي بمنزلة قولك: النجاءك يا فتى، وأريتك زيدا ما فعل؟، وكقولك: أبصرك زيدا. إنما الكاف زائدة للمخاطبة، ولولا ذلك كان النجاءك محالاً؛ لأنك لا تضيف الاسم وفيه الألف واللام، وقوله عز وجل: " أرأيتك هذا الذي كرمت علي " قد أوضح لك أن الكاف زائدة. ولو كانت في رويدك علامةً للفاعلين لكان خطأ إذا قلت: رويدكم؛ لأن علامة الفاعلين الواو؛ كقولك: أرودوا.
واعلم أن هذه الأسماء ما كان منها مصدراً، أو موضوعاً موضع المصدر فإن فيه الفاعل مضمراً؛ لأنه كالفعل المأمور به. تقول: رويدك أنت وعبد الله زيدا، وعليك أنت وعبد الله أخاك. فإن حذفت التوكيد قبح، وإعرابه الرفع على كل حال؛ ألا ترى أنك لو قلت: قم وعبد الله كان جائزاً على قبح حتى تقول: قم أنت وعبد الله، و " فاذهب أنت وربك فقاتلا " و " اسكن أنت وزوجك الجنة " . فإن طال الكلام حسن حذف التوكيد؛ كما قال الله عز وجل: " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " وقد مضى هذا مفسراً في موضعه. وكذلك ما نعته بالنفس في المرفوع. إنما يجري على توكيد فإن لم تؤكد جاز على قبح. وهو قولك: قم أنت نفسك. فإن قلت: قم نفسك جاز. وذلك قولك: رويدك أنت نفسك زيدا، وعليك أنت نفسك زيدا، والحذف جائز قبيح إذا قلت: رويدك نفسك زيدا.
واعلم أنك إذا قلت: عليك زيدا ففي عليك اسمان: أحدهما: المرفوع الفاعل. والآخر: هذه الكاف المخفوضة. تقول: عليكم أنفسكم أجمعون زيدا، فتجعل قولك أجمعون للفاعل: وتجعل قولك: أنفسكم للكاف. وإن شئت أجريتهما جميعاً على الكاف فخفضته، وإن شئت أكدت، ورفعتهما لما ذكرت لك من قبح مجرى النفس في المرفوع إلا بتوكيد، وإن شئت رفعت بغير توكيد على قبح. وإن قلت: رويد نفسك، أو رويدك. جعلت النفس مفعولة بمنزلة زيد؛ كما قال الله عز وجل: " عليكم أنفسكم " .
هذا باب
إياك في الأمر
اعلم أن إياك اسم المكنى عنه في النصب؛ كما أن أنت اسمه في الرفع، وهما منفصلان. لا تقول: إياك إذا قدرت على الكاف في رأيتك وأخواتها؛ نحو: ضربته، وضربني. وكذلك أنت لا تقع موقع التاء وأخواتها في ضربت وضربنا، وزيد قام يا فتى، فيقع الضمير في النية، وقد مضى القول في هذا. فلما كانت إياك لا تقع إلا اسماً لمنصوب كانت بدلاً من الفعل، دالةً عليه، ولم تقع هذه الهيئة إلا في الأمر؛ لأن الأمر كله لا يكون إلا بفعل. وذلك قولك: إياك والأسد يا فتى وإنما التأويل: اتق نفسك والأسد. وإياك منصوب بالفعل؛ لأنه والأسد متقيان. وكذلك: إياك والصبي، وإياك ومكروه عبد الله، وإن أكدت رفعت إن شئت، فقلت: إياك أنت وزيدٌ؛ لأن مع إياك ضميراً، وهو الضمير الذي في الفعل الذي نصبها. ألا ترى أن معنى إياك إنما هو: احذر، واتق، ونحو ذلك، وإن شئت قلت: إياك أنت وزيدا، فجعلت أنت توكيداً لذلك المضمر، فإن قلت: إياك وزيدٌ فهو قبيح وهو على قبحه جائزٌ كجوازه في قم وزيدٌ. والبيت يستوي فيه الوجهان؛ لأنه فيه توكيد وهو قوله:
إياك أنت وعبد المسيح أن تقربا قبلة المسجد


ولا يجوز أن تقول: إياك زيدا؛ كما لا يجوز أن تقول: زيدا اضرب عمرا حتى تقول: وعمرا. وأما قوله: إياك أن تقرب الأسد فجيد، لأن أن تحذف معها اللام لطولها بالصلة. تقول: أكرمتك أن اجتر مودة زيد. فالمعنى: إياك احذر من أجل كذا، فهذا جائز، وإن أدخلت الواو فجيد؛ لأن أن وصلتها مصدر. فأما إياك الضرب فلا يجوز في الكلام؛ كما لا يجوز: إياك زيدا. فإن اضطر شاعرٌ جاز؛ لأنه يشبهه للضرورة بقوله: أن تقربا. وعلى هذا:
إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعاءٌ وللشر جالب
فاضمر بعد قوله: إياك فعلاً آخر على كلامين؛ لأنه لما قال: إياك أعلمه أنه يزجره، فأضمر فعلاً. يريد: اتق المراء يا فتى.
والفصل بين المصدر نحو: الضرب والقتل. وبين أن يضرب، وأن يقتل في المعنى. أن الضرب اسم للفعل يقع على أحواله الثلاثة: الماضي، والموجود، والمنتظر. فقولك: أن تفعل لا يكون إلا لما يأتي. فإن قلت: أن فعلت، فلا يكون إلا للماضي ولا يقع للحال البتة. وقراءة من قرأ: " وامرأةً مؤمنةً أن وهبت نفسها للنبي " معناه: المضي. وإن قرأ: " إن وهبت نفسها للنبي " فمعناه: متى كان ذا؛ لأنها إن التي للجزاء والحذف مع أن وصلتها مستعمل في الكلام لما ذكرت لك من أنها علة لوقوع الشيء فعلى هذا يكون، وهذا بينٌ واضح. وأما قول الله عز وجل: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " . فإن قال قائل: قوله: " أن تضل إحداهما " لما ذكر. وهو لم يعدد الإشهاد؛ لأن تضل إحداهما. فالجواب في ذلك: أنه إنما أعد الإشهاد للتذكير، ولكن تقدمت أن تضل؛ لتوقع سبب التذكرة. ونظيره من الكلام: أعددت هذا أن يميل الحائط. فأدعمه، ولم يعدده طلباً لأن يميل الحائط، ولكنه أخبر بعلة الدعم، فاستقصاء المعنى: إنما هو: أعددت هذا لأن إن مال الحائط دعمته، فإن الأولى هي الثانية. وقد يحذف الفعل في التكرير وفي العطف وذلك قولك: رأسك والحائط، ورأسه والسيف يا فتى. فإنما حذف الفعل للإطالة والتكرير، ودل على الفعل المحذوف بما يشاهد من الحال. ومن أمثال العرب: رأسك والسيف، ومن أمثالهم: أهلك والليل وقد دل هذا على أنه يريد: بادر أهلك والليل. والأول على أنه: نح رأسك من السيف. وتقديره في الفعل: اتق رأسك والسيف. فلو أفردت لم يجز حذف الفعل إلا وعليه دليل. نحو: زيدا. لو قلت ذلك لم يدر ما الفعل المحذوف. فإن رأيت رجلاً قد أشار بسيف فقلت: زيدا أو ذكرت أنه يضرب أو نحو ذلك جاز لأن المعنى: أوقع ضربك بزيد. فإن كان مصدراً فقد دل على فعل، فمن ذلك: ضرباً ضرباً، إذا كنت تأمر. وإنما كان الحذف في الأمر جائزاً؛ لأن الأمر لا يكون إلا بفعل. قال الله عز وجل: " فإما منا بعد وإما فداءً " وقال: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " . فالمصدر المأمور به يكون نكرة، وبالألف واللام، ومضافاً. كل ذلك مطرد في الأمر، وكل شيءٍ كان في معنى المصدر فمجراه مجرى المصدر، وسنبين ذلك إن شاء الله. فأما قولك: الحمد لله في الخبر، وسقياً لزيد، ورعياً له. فله باب يفرد به إن شاء الله.
هذا باب
ما جرى مجرى المصادر وليس بمتصرف من فعل
فمن ذلك: سبحان الله، ومعاذ الله، وقولهم: أفةً، وتفةً، وويلا لزيد، وويحا له، وسلامٌ على زيد، وويلٌ لزيد، وويحٌ له، وتربا له. كل هذا معناه في النصب واحدٌ، ومعناه في الرفع واحد. ومنه ما لا يلزمه إلا النصب، ومنه ما لا يجوز فيه إلا الرفع لعلل نذكرها إن شاء الله. ومنه قولك: مرحبا، وأهلاً وسهلاً، وويلةً، وعولةً. فأما قولهم: سبحان الله فتأويله: براءة الله من السوء، وهو في موضع المصدر، وليس منه فعل. فإنما حده الإضافة إلى الله - عز وجل - وهو معرفة. وتقديره، إذا مثلته فعلاً: تسبيحاً لله. فإن حذفت المضاف إليه من سبحان لم ينصرف؛ لأنه معرفة، وإنما نكرته بالإضافة؛ ليكون معرفة بالمضاف إليه. فأما قول الشاعر:
سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
في رواية: نعوذ به. فإنما نون مضطراً، ولو لم يضطر لكان كقول الآخر:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر


فهذا في موضع: براءةً منه. ومعاذ الله كذلك لا يكون إلا مضافاً. وتقديره تقدير: عياذ الله، أي: عذت بالله عياذاً. فهذا موضع هذا. ومثل ذلك: حجرة،إنما معناه: حراماً. فهو في موضعه لو تكلمي به. فمن ذلك قول الله عز وجل: " حجراً محجوراً " أي: حراماً محرماً. وأما قولهم: مرحباً وأهلاً، فهو في موضع قولهم: رحبت بلادك رحبا، وأهلت أهلا، ومعناه: الدعاء. يقول: صادفت هذا. ولو قلت: حجرٌ، ومرحبٌ، لصلح، تريد: أمرك هذا. وأما سبحان وما كان مثله مما لا يكون إلا مضافاً، فلا يصلح فيه إلا النصب. وهذا البيت ينشد على وجهين: على الرفع والنصب وهو:
وبالسهب ميمون النقيبة قوله ... لملتمس المعروف: أهلٌ ومرحب
وقال الآخر:
إذا جئت بواباً له قال: مرحباً ... ألا مرحبٌ واديك غير مضيق
فأما قولهم: سلاماً، وسلامٌ يا فتى، فإن معناه: المبارأة والمتاركة. فمن قال: لا تكن من فلان إلا سلامٌ بسلام فمعناه: لا تكن إلا وأمرك وأمره المتاركة والمبارأة،وإنما رفعت؛ لأنك جعلته ابتداءً وخبراً في موضع خبر كان. ولو نصبته كان جيداً بالغاً. فمن ذلك قوله عز وجل: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " تأويله: المتاركة، أي: لا خير بيننا وبينكم ولا شر. ومن كلامهم: سبحان الله، وريحانه. فتأويل ريحان في هذا الموضع: الرزق. وتقديره في المصادر: تسبيحاً، واسترزاقاُ وتصديق هذا في قوله عز وجل: " والحب ذو العصف والريحان " . فأما قولهم: ويلٌ لزيد، وويحٌ لزيد، وتبٌ لزيد، وويسٌ له. فإن أضفت لم يكن إلا النصب فقلت: ويحه، وويله. فإنما ذلك لأن هذه مصادر. فإن أفردت فلم تضف، فأنت مخير بين النصب والرفع. تقول: ويلٌ لزيد، وويلاٌ لزيد فأما النصب فعلى الدعاء، وأما الرفع فعلى قولك: ثبت ويل له؛ لأنه شيءٌ مستقرٌ. فويلٌ مبتدأ، وله خبره. وهذا البيت ينشد على وجهين، وهو:
كسا اللؤم تيماً خضرةً في جلودها ... فويلٌ لتيمٍ من سرابيلها الخضر
فأما قوله عز وجل: " ويلٌ للمطففين " وقوله: " ويلٌ يومئذٍ للمكذبين " . فإنه لا يكون فيه إلا الرفع؛ إذ كان لا يقال: دعاءٌ عليهم، ولكنه إخبارٌ بأن هذا قد ثبت لهم. فإن أضفت فقلت: ويله، وويحه، لم يكن إلا نصباً؛ لأن وجه الرفع قد بطل بأنه لا خبر له، فكذا هذه التي في معنى المصادر. فإن كان مصدراً صحيحاً يجري على فعله فالوجه النصب. وذلك قولك: تباً لزيد، وجوعاً لزيد؛ لأن هذا من قولك: جاع يجوع، وتب يتب. وكذلك سقياً، ورعياً. والرفع يجوز على بعد؛ لأنك تبتدئ بنكرة، وتجعل ما بعدها خبرها. فأما سلامٌ عليك فاسم في معنى المصدر، ولو كان على سلم لكان تسليما. فإن كانت هذه المصادر معارف فالوجه الرفع، ومعناه كمعنى المنصوب، ولكن يختار الرفع؛ لأنه كالمعرفة، وحق المعرفة الابتداء. وذلك قولك: الحمد لله رب العالمين ولعنة الله على الظالمين. والنصب يجوز. وإنما تنظر في هذه المصادر إلى معانيها؛ فإن كان الموضع بعدها أمراً أو دعاءً لم يكن إلا نصباً. وإن كان لما قد استقر لم يكن إلا رفعاً وإن كان يقع لهما جميعاً كان النصب والرفع. فمما يدعى به أسماءٌ ليست من الفعل، ولكنها مفعولات. وذلك قولك: ترباً، وجندلا. إنما تريد: أطعمه الله، ولقاه الله، ونحو ذلك. فإن أخبرت أنه مما قد ثبت رفعت. قال الشاعر:
لقد ألب الواشون ألباً لبينهم ... فتربٌ لأفواه الوشاة وجندل
فأما قوله: أفةً وتفةً فإنما تقديره من المصادر: نتناً، ودفراً فإن أفردت أف بغير هاءٍ فهو مبني؛ لأنه في موضع المصدر وليس بمصدر، وإنما قوي حيث عطفت عليه؛ لأنك أجريته مجرى الأسماء المتمكنة في العطف. فإذا أفردته بني على الفتح والكسر والضم، وتنونه إن جعلته نكرة. وفي كتاب الله عز وجل: " فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما " . وقال: " أفٍّ لكم ولما تعبدون " كل هذا جائزٌ جيد. وهذه المبنيات إذا جعلت شيئاً منها نكرةً نونت، نحو: إيه يا فتى، وقال الغراب: غاقٍ غاقٍ يا فتى كذا تأويلها.


واعلم أن من المصادر التي لا أفعال لها تجري عليها وإنما يوضع موضع المصادر ما يكون مثنى لمبالغة. وذلك قولك: لبيك وسعديك، وحنانيك، إنما أراد حناناً بعد حنان، أي: كل ما كنت في رحمةٍ منك فلتكن موصولة بأخرى. وتأويل حنانيك: إنما هو رحمةٌ بعد رحمة. يقال: تحنن فلان على فلان: إذا رحمه. قال الشاعر:
تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقامٍ مقالا
وقال الآخر:
أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
فهذا مما يجوز إفراده، فإذا أفردت فأنت مخير: إن شئت نصبت بالفعل وإن شئت ابتدأت. فإذا ثنيت لم يكن إلا منصوباً؛ لأنه وضع موضع ما لا يتمكن؛ نحو: لبيك وسعديك. وقال الشاعر فيما أفرد فيه:
ويمنحها بنو شمجى بن جرمٍ ... معيزهم حنانك ذا الحنان
وقال الآخر، فرفع:
فقالت: حنانٌ ما أتى بك ههنا؟ ... أذو نسبٍ أم أنت بالحي عارف
والفصل بين الرفع والنصب أن الناصب دعا له. كأنه قال: رحمتك يا ذا الرحمة وقوله:
حنانٌ ما أتى بك هاهنا؟
إنما أراد: أمرنا حنانٌ؛ كقوله عز وجل: " مثل الجنة التي وعد المتقون " فالتقدير: فيما يتلى عليكم مثل الجنة، ثم قال: فيها، وفيها. ومن قال: إنما معناه: صفة الجنة فقد أخطأ؛ لأن مثل لا يوضع في موضع صفة. إنما يقال: صفة زيد أنه ظريف، وأنه عاقل. ويقال: مثل زيد مثل فلان. وإنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعت. فأما تأويل قولهم: لبيك: فإنما يقال: ألب فلان على الأمر: إذا لزمه ودام عليه فمعناه: مداومةً على إجابتك، ومحافظةً على حقك. فإذا قال العبد لربه: لبيك فمعناه: ملازمةً لطاعتك، ومحافظةً على أمرك. وقولك: سعديك. إنما معناه من قولك: قد أسعد فلان فلاناً على أمره، وساعده عليه. فإذا قال: اللهم لبيك وسعديك، فإنما معناه: اللهم ملازمةً لأمرك، ومساعدةً لأوليائك، ومتابعةً على طاعتك. فلو كان الباب واسعاً لكان متصرفاً؛ لأنه بمنزلة الضرب من ضربت، ولكنهما مشتقان للمبالغة من الفعل كسبحان الله، ومعاذ الله؛ فلذلك ألزما طريقةً واحدة. فأما حنانٌ فمنفرد؛ لأنه من حننت، مثل قولك: ذهبت ذهاباً، ويتصرف في الكلام في غير الدعاء وحناناً من لدنا وتقول: تحنن علي. فهذا وجه ما جاء على فعله، وما لم يأت عليه فعل. فأما قولهم: شكرانك لا كفرانك، فهما مصدران لحقتهما الزيادة. وإنما التقدير: شكراً لا كفراً. ولكن وقعت الزيادة للمبالغة.
واعلم أن المصدر كسائر الأسماء إلا أنه اسم للفعل، فإذا نصبت فعلى إضمار الفعل. فمن المصادر ما يكثر استعماله، فيكون بدلاً من فعله ومنها ما لا يكون له حق الاسم. فأما ما كثر استعماله حتى صار بدلاً من الفعل فقولك: حمداً وشكراً، لا كفراً. وعجباً إنما أردت: أحمد الله حمداً. فلولا الاستعمال الذي أبان عن ضميرك لم يجز أن تضمر؛ لأنه موضع خبر، وإنما يحسن الإضمار ويطرد في موضع الأمر؛ لأن الأمر لا يكون إلا بفعل. نحو قولك: ضرباً زيدا. إنما أردت: اضرب ضربا. وكذلك ضرب زيد. نصبت الضرب باضرب، ثم أضفته إلى زيد لما حذفت التنوين؛ كما تقول: هذا ضارب زيد غدا. والأصل إثبات التنوين وحذفه استخافٌ لعلم المخاطب. ألا ترى أن الاسم المضاف إلى معرفة على نية التنوين لا يكون إلا نكرة؛ لأن التنوين في النية، نحو قوله عز وجل: " هذا عارضٌ ممطرنا " و " هدياً بالغ الكعبة " . هو وصف للنكرة، وتدخل عليه رب كما تدخل على النكرة. وقد مضى تفسير هذا في بابه. قال الشاعر:
يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدةً منكم وحرمانا
يريد: غابطٍ لنا. ومن ذلك قوله عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " وإنما التقدير - والله أعلم - : فضرباً الرقاب. فهذا يدل على ما بعده، وما يرد من جنسه ونظائره.
هذا باب
المصادر في الاستفهام على جهة التقدير
وعلى المسألة
وذلك قولك: أقياماً وقد قعد الناس. لم تقل هذا سائلاً، ولكن قلته موبخاً منكراً لما هو عليه، ولولا دلالة الحال على ذلك لم يجز الإضمار؛ لأن الفعل إنما يضمر إذا دل عليه دالٌّ؛ كما أن الاسم لا يضمر حتى يذكر، وإنما رأيته في حال قيام في وقت يجب فيه غيره، فقلت له منكراً. ومثله: أقعوداً وقد سار الناس، كما قال:
أطرباً وأنت قنسريٌّ


فإنما قال إنكاراً على نفسه الطرب وهو على غير حينه. وكذلك إن أخبرت على هذا المعنى فقلت: قياماً - علم الله - وقد قعد الناس، وجلوساً والناس يسيرون. وإن شئت وضعت اسم الفاعل في موضع المصدر فقلت: أقائماً وقد قعد الناس. فإنما جاز ذلك؛ لأنه حال. والتقدير: أتثبت قائماً، فهذا يدلك على ذلك المعنى. وتقول في بابٍ منه آخر: ما أنت إلا سيرا، وما أنت إلا ضربا، وكذلك: زيدٌ سيرا، وزيدٌ أبداً قياما، وإنما جاز الإضمار لأن المخاطب يعلم أن هذا لا يكون إلا بالفعل، وأن المصدر إنما يدل على فعله، فكأنك قلت: زيد يسير سيراً، وما أنت إلا تقوم قياما، وإن شئت قلت: زيد سيرٌ يا فتى. فهذا يجوز على وجهين: أحدهما: أن يكون: زيدٌ صاحب سيرٍ، فاقمت المضاف إليه مقام المضاف؛ لما يدل عليه؛ كما قال الله عز وجل: " واسأل القرية التي كنا فيها " إنما هو: أهل القرية كما قال الشاعر:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار
أي: ذات إقبال وإدبار، ويكون على أنه جعلها الإقبال والإدبار لكثرة ذاك منها. وكذلك قوله عز وجل: " ولكن البر من آمن بالله " . والوجه: ولكن البر بر من آمن بالله. ويجوز أن يوضع البر في موضع البار على ما ذكرت لك. فإذا قلت: ما أنت إلا شرب الإبل فالتقدير: ما أنت إلا تشرب شرب الإبل، والرفع في هذا أبعد؛ لأنه إذا قال: ما أنت إلا سيرٌ. فالمعنى: ما أنت إلا صاحب سيرٍ؛ لأن السير له. فإذا قال: ما أنت إلا شرب الإبل ففيه فعل؛ لأن الشرب ليس له. وإنما التقدير: إلا تشرب شرباً مثل شرب الإبل، فإذا أراد الضمير في الرفع كثر، فصار المعنى: ما أنت إلا صاحب شربٍ كشرب الإبل، فهذا ضعيفٌ خبيث. ومثل الأول قوله:
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب. فهذا كقوله عز وجل: " ولكن البر من آمن بالله " . ومن ذلك قول الشاعر:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعلٍ في ذي الفقارة عاقل
واعلم أن المصادر لا تمتنع من إضمار أفعالها إذا ذكرت ما يدل عليها، أو كان بالحضرة ما يدل على ذلك. وقياسها قياس سائر الأسماء في رفعها ونصبها وخفضها، إلا أنها تبدل من أفعالها. ألا ترى قوله عز وجل: " في أربعةٍ أيامٍ سواءً للسائلين " وأن قوله " أربعة " قد دل على أنها قد تمت. فكأنه قال: استوت استواءً. ومثله: " الذي أحسن كل شيءٍ خلقه " ؛ لأن فعله خلق فقوله: " أحسن " ؛ أي خلق حسنا خلق، ثم أضافه. ومثل ذلك: " وعد الله " ؛ لأنه لما قال: " ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله " علم أن ذلك وعدٌ منه، فصار بمنزلة: وعدهم وعداً، ثم أضافه. وكذلك: " كتاب الله عليكم " . لما قال: " حرمت عليكم أمهاتكم " أعلمهم أن ذلك مكتوب عليهم، فكأنه قال: كتب الله ذلك. ومن زعم أن قوله: " كتاب الله عليكم " نصب بقوله: عليكم كتاب الله، فليس يدري ما العربية؛ لأن السماء الموضوعة موضع الأفعال لا تتصرف تصرف الأفعال، فتنصب ما قبلها. فمن ذلك قوله:
ما إن يمس الأرض إلا منكبٌ ... منه وحرف الساق طي المحمل
وذلك أنه دل بهذا الوصف على انه منطوٍ فأراد: طوي طي المحمل. فهذه أوصاف تبدل من الفعل لدلالتها عليه.
هذا باب
ما يكون من المصادر توكيدا
وذلك قولك: لا إله إلا الله قولاً حقاًّ. كأنك قلت: أقول قولاً حقاً؛ لأن قولك: لا إله إلا الله هو حقٌّ، وكذلك: لأضربنك قسماً حقاً؛ لأنه بدلٌ من قولك: أقسم، وكذلك: لأقومن قسما لأن قولك: لأقومن فيه لام القسم. ومثله.
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل


فإن قال قائل: قد تقع اللام فيما لا قسم فيه. قيل: تقع على تقدير القسم؛ لأن قولك: والله لأفعلن متصل، ولو أقسم مقسمٌ على فعل لم يقع، لم يكن ليتصل به إلا اللام والنون، فإنما حقه القسم ذكر أو حذف، وكذلك ما كان مثل الكعيت يعني البلبل، والجميل، إنما هو مصغر، وإن كان تكبيره غير مستعمل لعلة قد ذكرناها في باب التصغير. ألا ترى أنه يرد إلى الأصل في جمعه، فيجمع على تكبيره، وذلك قولك في جمع كميت: كمتٌ؛ كما تقول: أشقر وشقر؛ لأن الأصل أكمت، وإنما هو مصغر تصغير الترخيم. وكذلك تقول: كعتان، وجملان؛ لأن تكبيره: فعل؛ كما تقول في النغر، والصرد، والجعل: جعلان، ونغران، وصردان. فمثل ذلك كرسي، وقمري. إنما هو فعل. والياء ياء النسب وإن لم يستعمل غير منسوب، وليس فيه نسب إلى أرض ولا رجل ولا غير ذلك.
ومن المصادر ما يقع في موضع الحال فيسد مسده، فيكون حالاً، لأنه قد ناب عن اسم الفاعل، وأغنى غناءه، وذلك قولهم: قتلته صبرا. إنما تأويله: صابراً أو مصبراً، وكذلك: جئته مشياً؛ لأن المعنى: جئته ماشياً. فالتقدير: أمشي مشياً، لأن المجيء على حالات، والمصدر قد دل على فعله من تلك الحال. ولو قلت: جئته إعطاءً لم يجز؛ لأن الإعطاء ليس من المجيء، ولكن جئته سعياً، فهذا جيد؛ لأن المجيء يكون سعياً. قال الله عز وجل: " ثم ادعهن يأتينك سعياً " . فهذا اختصار يدل على ما يرد مما يشاكلها، ويجري مع كل صنف منها.
هذا باب الأسماء التي توضع موضع المصادر التي تكون حالاً وذلك قولك: كلمته فاه إلى في، وبايعته يداً بيدٍ. فإنما انتصب؛ لأنه أراد: كلمته مشافهةً، وبايعته نقداً، فوضع قوله: فاه إلى في موضع مشافهةً، ووضع قوله: يدا بيد في موضع نقداً. فلو قلت: كلمته فوه إلى في لجاز؛ لأنك تريد: كلمته وفوه إلى في. وأما بايعته يداً بيدٍ فلا يجوز غيره؛ لأن المعنى: بايعته نقداً، أي: أخذت منه، وأعطيت، ولست تخبر أنك بايعته ويدٌ بيدٍ؛ كما أنك كلمته وفوه إلى فيك. ولكن تقول: بايعته يده فوق رأسه، أردت: ويده فوق رأسه، أي: وهذه حاله؛ لأن هذا ليس من نعت المبايعة؛ كما كان قولك: مشافهة ونقدا من نعت الفعل، فكذلك بايعته ويده في يدي.
واعلم أن من المصادر ما يدل على الحال وإن كان معرفة وليس بحال، ولكن دل على موضعه، وصلح للموافقة، فنصب، لأنه في موضع ما لا يكون إلا نصباً. وذلك قولك: أرسلها العراك. وفعل ذلك جهده وطاقته، لأنه في موضع: فعله مجتهداً، وأرسلها معتركةً؛ لأن المعنى: أرسلها وهي تعترك، وليس المعنى أرسلها؛ لتعترك قال الشاعر:
فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال
واعلم أن هذه المنتصبات عن المصادر في موضع الأحوال، وليست بأحوال، ولكنها موافقة، وموضوعة في مواضع غيرها؛ لوقوعها معه في المعنى. وكذلك: جاءني القوم قاطبةً، وطرًّا. إنما معناه: جاءني القوم جميعاً، ولكن وقع طرًّا في معنى المصدر؛ كما تقول: جاءني القوم جميعاً إذا أخذته من قولك: جمعوا جمعاً. وقد يكون الجمع اسماً للجماعة. قال الله عز وجل: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " . فأما قولك: طرًّا فقد كان يونس يزعم أنه اسم نكرة للجماعة وإن لم يقع إلا حالاً. ويقال: طررت القوم، أي: مررت بهم جميعاً. وقال النحويون سوى يونس: إنه في موضع المصدر الذي يكون حالاً.
هذا باب
الأسماء الموضوعة في مواضع المصادر
إذا أريد بها ذلك أو أريد بها التوكيد جرت على ما قبلها مجرى كلهم وأجمعين


وذلك قولك: مررت بزيد وحده، ومررت بأخويك وحدهما، ومررت بالقوم خمستهم، ومررت بهم ثلاثتهم، وأتاه القوم قضهم بقضيضهم. أما قولك: مررت بزيد وحده فتأويله: أوحدته بمروري إيحاداً؛ كقولك: أفردته بمروري إفرادا. وقولك: وحده في معنى المصدر، فلا سبيل إلى تغييره عن النصب. وأما قولك: مررت بالقوم خمستهم فجائز أن تجريه على الأول فتقول: مررت بالقوم خمستهم، وما أشبه الخمسة من قولك: ثلاثتهم، وأربعتهم، والمعنى مختلف لأنك إذا قلت: مررت بالقوم خمستهم، فمعناه: بهؤلاء تخميساً؛ كقولك: مررت به وحده؛ أي: لم أخلط معه أحدا. فكذلك قولك في الجماعة إنما هو خصصتهم. وإذا قلت: مررت بالقوم خمستهم، فهو على أنه قد علم أنهم خمسة، فإنما أجري مجرى كلٍّ. أراد: مررت بالقوم كلهم، أي: لم أبق من هؤلاء الخمسة أحداً. فالمعنى يحتمل أن تكون قد مررت بغيرهم؛ كما أنك إذا قلت: مررت بإخوتك كلهم جاز أن تكون قد مررت بغيرهم أيضاً. وأما قولك: مررت بالقوم قضهم بقضيضهم فعلى هذا، كأنك قلت: مررت بالقوم كلهم وجماعتهم. ومن قال: قضهم بقضيضهم أراد: انقضاضاً، أي: انقض أولهم على آخرهم. ولا يجوز مررت بزيد كله؛ لأن كلاًّ لا يقوم في هذا الموضع، ولا يجوز: مررت بأخويك اثنيهما؛ لأن الاثنين هما الهاء والميم، والشيء لا يضاف إلى نفسه. وإنما قلت: خمستهم؛ لأن هم لكل جمع، فاقتطعت من الجمع شيئاً، فأضفته إلى جميعه، فصار مختصاً به. وهما لا يكون إلا تثنية. فإن قلت: فأنت تقول: كلاهما منطلق ف كلا لا يكون إلا لاثنين، فلم أضفته إلى ضميرهما؟ فالجواب في ذلك: أن كلاً اسم واحد فيه معنى التثنية، فإنما أضفت واحداً إلى اثنين. ألا ترى أنك تقول: الاثنان منطلقان، وكلاهما منطلقٌ، وكلانا كفيلٌ ضامنٌ عن صاحبه. فإنما تأويله: كل واحد منا؛ كما قال الشاعر:
أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص
ومع هذا إن التثنية إنما تخرج عن الواحد. تقول: رجلٌ ورجلان، وامرأةٌ امرأتان. فمن هذا الوجه أيضا إذا قلت للواحد: مررت به وحده، قلت للاثنين: مررت بهما وحدهما فذا بينٌ جداً. فأما قولهم: هذا نسيج وحده فلا معنى له إلا الإضافة، لأنه يخبر أنه ليس في مثاله أحد، فلو لم يضف إليه لقال: هذا نسيجٌ إفرادا. فالإضافة في الحقيقة إلى المصدر. وكذلك عيير وحده، وجحيش وحده. ولو قال: جحيش نفسه. وعيير نفسه وحدها لصلح؛ لأنه الرجل الذي يخدم نفسه وحدها. فهذا بينٌ جداً. وكان أبو الحسن الأخفش لا يجيز: اختصم أخولك كلاهما، ولا اقتتل أخواك كلاهما، ويقول: اختصم لا يكون إلا من اثنين أو أكثر؛ وإنما أقول: جاءني أخواك كلاهما؛ لأعلم السامع أنه لم يأت واحد، وكذلك: جاءني إخوتك كلهم؛ لأعلم أني لم أبق منهم واحدا، فقيل له: فقل: اختصم أخواك كلاهما؛ لأنه لا يلتبس بما بعد التثنية، فذهب أن كلاهما يكثر به، ولا يقلل به. وهذا قول كثير من النحويين وليس كما قال إذا حدد. وذلك أن كلاً عموم؛ لأن الأعداد قد يقتصر على الشيء منها، فيكون كلاماً، فتقول: جاءني بنو فلان، فيجوز أن تعني بعضاً دون الكل فإذا قلت: كلهم دخلت لتدل على العموم. وكلا ليس كذلك. إنما تقع على الاثنين وأنت تريد كل واحد منهما. فهذا لا يقع إلا على ما وصفنا لأن جماعةً أكثر من جماعة، ولا يكون اثنان أعثر عدداً من اثنين فتقول: تكثير أو تقليل. ومن قول الأخفش أنه يجوز: استوى زيد وعمرو كلاهما: لأن الاستواء لا يكون من واحد، إذا أراد: ساوى فلانً فلانا، بل يدخل في باب اقتتل، واختصم، ونحوه. وإنما تستخرج هذه المسائل بالتفتيش والقياس.


واعلم أن من الأسماء أسماءً محتملة لا تنفصل بأنفسها. فمتى ما سمع منها شيءٌ علم أن صوابه أن يكون محمولاً على غيره، وذلك قولك: جاءني رجلٌ آخر، ولا يجوز هذا إلا أن تكون قد ذكرت قبله رجلا، فتقول: جاءني فلانٌ ورجلٌ آخر، أو يقول القائل: هل جاءك فلان؟ فتقول: جاءني رجلٌ آخر. وكذلك:سائر كذا وكذا. لا يكون إلا مضافاً إلى شيءٍ قد ذكر بعده. تقول: رأيت الأمير دون سائر الأمراء، وجاءني عبد الله. وتأخر عني سائر إخوتي، إذا كان عبد الله أخاك، فإن لم يكن أخاك لم تجز المسألة إذا لم يكن بعضا أضفت السائر إليه. ولو قلت: أتتني جاريتك وامرأة أخرى كان غير جائز. فإن قلت: أتاني أخوك، وإنسان آخر جاز وإن عنيت بالإنسان امرأة؛ لأن الباب الذي ذكرتها به يجمعها. وكذلك: جاءتني جاريتك وإنسان آخر، وأنت تعني بالإنسان رجلاً فهو جيد بالغ. فأما قوله:
صلى على عزة الرحمن وابنتها ... ليلى وصلى على جاراتها الأخر
فإنه جعل ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز. ألا ترى إلى قول الله عز وجل: " فعدةٌ من أيامٍ أخر " لما قدم من ذكر الأيام. وكذلك: " منه لآياتٌ محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهاتٌ " . فهذا باب هذا. وكان حد آخر أن يكون معه من كذا، وكذا إلا أن أفعل يقع على وجهين: أحدهما: أن يكون نعتاً قائماً في المنعوت، نحو: أحمر، وأصفر، وأعور. والوجه الآخر: أن يكون للتفضيل، نحو: هذا أفضل من زيد، وأكبر من عبد الله فإن أردت هذا الوجه لم يكن إلا أن تقول: من كذا، كذا، أو بالألف واللام؛ نحو: هذا الأصغر، والأكبر. فأما قوله في الآذان: الله أكبر، فتأويله: كبير؛ كما قال عز وجل: " وهو أهون عليه " . فإنما تأويله: وهو عليه هين؛ لأنه لا يقال: شيءٌ أهون عليه من شيءٍ. ونظير ذلك قوله:
لعمرك ما أدري وإني لأوجلعلى أينا تعدو المنية أول
أي: إني لوجل. فأما إذا أردت من كذا وكذا فلا بد من منه أو الألف واللام؛ كقولك: جاءني زيد ورجل آخر، إنما معناه: آخر منه. ولكن علم أن الآخر لا يكون إلا بعد مذكور أو بعد أول، فلم يحتج إلى منه. والدليل على أن الأصل هذا قولهم في مؤنثه: أخرى؛ كما تقول: هذا أول منك، وهذه الأولى، والأوسط، والوسطى، والأكبر والكبرى. فلولا أن آخر قد استغنى فيه عن ذكر من كذا لكان لازماً؛ كما يلزم قولك: هذه أول من ذاك؛ ولذلك قلت: في أخر بغير الصرف؛ لأنها محدودة عن وجهها؛ لأن الباب لا يستعمل إلا بالألف واللام أو من كذا. فلما سقط، من كذا سقط ما يعاقبه، فلم يصرف. قال الله عز ذكره: " وأخر متشابهاتٌ " فلم يصرف. وقال: " فعدةٌ من أيامٍ أخر " ، فلم يصرف. فهذان دليلان بينان مع المعنى الذي يجمعه.
واعلم أن أفعل إذا أردت أن تضعه موضع الفاعل فمطرد. فمن ذلك قوله:
قبحتم يا آل زيد نفرا ... ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا
يريد: صغيراً وكبيراً. فهذا سبيل هذا الباب.
هذا باب
مسائل أفعل مستقصاةً بعد ما ذكرنا من أصوله
تقول: مررت برجل خيرٌ منك أبوه، وجاءني رجل خيرٌ منك أخوه، ورأيت رجلاً أفضل منك أخوه. يختار في هذا الرفع والانقطاع من الأول؛ لأنه ليس اسم الفاعل الذي يجري على الفعل؛ نحو: فاعل وما أشبه ذلك مما هو اسم الفاعل، نحو: مررت برجلٍ حسنٍ أبوه؛ لأنه اسم من حسن يحسن، ومررت برجلٍ كريمٍ أبوه لأنه من كرم كضارب من ضرب. وأفضل فيه معنى الفعل، فإن أجريته على الأول فبذلك المعنى، كأنك قلت: يفضله أبوه. وإن لم تجره فلما ذكرت لك، وهو الباب. فإن جرى على الأول أتبعه لأنه نعت له خاصةً، وذلك قولك: مررت برجلٍ خيرٍ منك، ومررت بدرهم سواءٍ يا فتى، ومررت برجلٍ سواءٍ درهمه. فإن قلت: برجلٍ سواءٍ هو والعدم خفضت؛ لأن سواءً له خاصة. فعلى هذا يجري هذا الباب.


ثم نذكر المسائل، ونقول: ما رأيت رجلاً أحسن عنده زيدٌ من عمرو. فأجريت أحسن على الأول خلافاً لما ذكرت أنه المختار، ولم يجز هاهنا غيره؛ وذلك أنك إذا قلت: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، فأردت أن ترفع أحسن كنت قد أضمرت قبل الذكر، وذلك لأن الهاء في قولك منه إنما هي الكحل. ولو قلت: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، كنت قد فصلت بين الكحل وما هو له بما ليس من الكلام، ووضعته في غير موضعه. فإن أخرت الكحل، فقلت: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل وأنت تقدر أن أحسن هو الابتداء، كان خطأ لمل قدمت من ضمير الكحل قبل ذكره. وإن قدرت أن يكون الكحل هو الابتداء فجيدٌ بالغ، وتأخيره كتقديمه. فكأنك قلت: ما رأيت رجلاً الكحل في عينه أحسن منه في عين زيد. وكذلك لو قلت: ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة كان هو الوجه إلا أن تقدم فتقول: ما من أيام الصوم إلى الله فيها منه في عشر ذي الحجة أو تأخر الصوم، ومعناه التقديم، فيكون كتأخيرك الكحل في المسألة الأولى. وتقول: زيد أفضل منه عبد الله، ورأيت زيدا أفضل منه عبد الله. أردت: رأيت زيدا عبد الله أفضل منه، فتجعله ابتداءً وخبراً في موضع المفعول الثاني. وأما قولهم: مررت برجلٍ أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون، ومررت برجلٍ خير ما يكون خيرٍ منك خير ما تكون. فهذا على إضمار إذ كان، وإذا كان، واحتمل الضمير؛ لأن المعنى يدل عليه. والتقدير: مررت برجلٍ خيرٍ منك إذا كان خير ما يكون إذا كنت خير ما تكون. ومثل هذا قولك: هذا بسرا أطيب منه تمرا، فإن أومأت إليه وهو بسر، تريد: هذا إذ صار بسرا أطيب منه إذا صار تمرا، وإن أومأت إليه وهو تمر قلت: هذا بسرا أطيب منه تمرا، أي هذا إذ كان بسراً أطيب منه إذ صار تمراً، فإنما على هذا يوجه؛ لأن الانتقال فيه موجود. فإن أومأت إلى عنب قلت: هذا عنبٌ أطيب منه بسرٌ، ولم يجز إلا الرفع؛ لأنه لا يتنقل فتقول: هذا عنبٌ أطيب منه بسرٌ، تريد: هذا عنبٌ البسر أطيب منه. فأما هذا البيت فينشد على ضروب:
الحرب أول ما تكون فتيةً ... تسعى بزينتها لكل جهول
منهم من ينشد: الحرب أول ما تكون فتيةً يجعل أول ابتداءً ثانياً، ويجعل الحال يسد مسد الخبر وهو فتيةً فيكون هذا كقولك: الأمير أخطب ما يكون قائماً، وقد بينا نصب هذا في قول سيبويه، ودللنا على موضع الخبر في مذاهبهم وما كان الأخفش يختار، وهو الذي لا يجوز غيره. فأما تصييره فتية حالاً لأول، أول مذكر، وفتية مؤنثة، فلأن المعنى مشتمل عليها. فخرج هذا مخرج قول الله عز وجل: " ومنهم من يستمعون إليك " ؛ لأن من وإن كان موحد اللفظ فإن معناه هاهنا الجمع، وكذلك: " فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين " ، وهذا كثيرٌ جداً. ومنه قول الشاعر:
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
أراد مثل اثنين ومثل اللذين. وقرأ القراء: " ومن تقنط منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً " . وأما أبو عمرو فقرأ: " ومن يقنط منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً، فحمل ما يلي على اللفظ، وما تباعد منها على المعنى، ونظير ذلك قوله عز وجل: " بلا من أسلم وجهه لله وهو محسنٌ فله أجره عند ربه " فهذا على لفظ من، ثم قال: " ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون " على المعنى. وهذا كثيرٌ جداً. ومنهم من ينشد:
الحرب أول ما تكون فتيةٌ
يريد: الحرب فتيةٌ في هذا الوقت. ومنهم من ينشد:
الحرب أول ما تكون فتيةً
على غير هذا التفسير الأول ولكن على قوله: أول ما تكون تسعى بزينتها فتيةً، فقدم الحال. ومنهم من ينشد:
الحرب أول ما تكون فتيةٌ
أراد: الحرب فتية وهي أول ما تكون. ومنهم من ينشد:
الحرب أول ما تكون فتيةً
فخبر أنها أول شيءٍ في هذه الحال. فهذه الوجوه تدل على ما بعدها. ولو قال قائل: معناه: أنها أول ما تكون إذا كانت فتية، على قياس: هذا بسراً أطيب منه تمراً، كان مجيداً. فأما قولهم: البر أرخص ما يكون قفيزاً بدرهم، والزيت أرخص ما يكون ون وين بدرهم فعلى هذا. وقولهم: أرخص ما يكون البر بستين، تأويله: الكربستين ولكنهم حذفوا الكر لعلمهم بأن التعسير عليه يقع. فكل ما كان معلوماً في القول جارياً عند الناس فحذفه جائز لعلم المخاطب. فعلى هذا فأجره.


هذا باب
التسعير
تقول: أخذت هذا بدرهمٍ فصاعدا، وأخذته بدرهمين فزائداً. لم ترد: أنك أخذته بدرهمٍ وبصاعد، فجعلتهما ثمناً، ولكن التقدير: أنك أخذته بدرهمٍ، ثم زدت صاعداً؛ فمن ثم دخلت الفاء، ولو أدخلت ثم لكان جائزاً؛ نحو: أخذته بدرهم ثم صاعداً، ولكن الفاء أجود، لأن معناه الاتصال، وشرحه على الحقيقة: أخذته بدرهم فزاد الثمن صاعداً. ومن ذلك قولك: بعت الشاء شاةً ودرهما. إنما تأويله على الحقيقة: بعت الشاء مسعراً شاةٌ بدرهم. فإن قلت: لك الشاء شاةً ودرهما كنت بالخيار: إن شئت رفعت؛ لأن لك ظرف. فهو بمنزلة قولك: عبد الله في الدار قائمٌ، وقائماً. إن قلت: قائمٌ فإنما خبرت عن قيامه. وإن قلت: قائماً فإنما خبرت عن كونه في هذا المحل، فاستغنى الكلام به. ومن قال: في الدار عبد الله - وهو يريد أن يرفع القائم - ، فليس بكلامٌ تام؛ لأنه لم يأت بخبر. وإنما قائمٌ هو الخبر، ف في الدار ظرفٌ للقائم لا لزيد. وإذا كان في الدار خبراً فهو لزيد لا لقائم. وقد مضى تفسير هذا. وتقدير قولك: الشاء شاةً ودرهما: وجب لك الشاء مسعراً شاةٌ بدرهم؛ كما أنه إذا قال: زيدٌ في الدار قائما، وإذا قال: لك الشاء شاةٌ ودرهم فإنما المعنى: الشاء شاةٌ بدرهم، ثم أخبر أنه بهذا السعر، فعلى هذا يجري هذا الباب.
هذا باب ما يقع في التفسير من أسماء الجواهر التي لا تكون نعوتاً تقول: مررت ببرٍّ قفيزٌ بدرهم؛ لأنك لو قلت: مررت ببرٍّ قفيزٍ كنت ناعتاً بالجوهر. وهذا لا يكون؛ لأن النعوت تحلية، والجواهر هي المنعوتات. وتقول: العجب من برٍّ مررنا به قفيزاً بدرهم. فإن قلت: فكيف أجعله حالاً للمعرفة، ولا أجعله صفةً للنكرة؟ فإن سيبويه اعتل في ذلك بأن النعت تحلية وأن الحال مفعول فيها، وهذا على مذهبه صحيحٌ بين الصحة. وشرحه وإن لم يذكر سيبويه: إنما هو موضوع في موضع قولك: مسعراً. فالتقدير: العجب من برٍّ مررنا به مسعراً على هذه الحال. وإذا قال: مرت ببر قفيزٌ بدرهم فتأويله: قفيزٌ منه بدرهم، ولولا ذلك لم يجز أن يتصل بالأول ويكون في موضع نعته ولا راجع إليه منه. وإنما هذا كقولك: مررت برجل غلامٌ له قائم. وقد أجاز قومٌ كثير أن ينعت به فيقال: هذا راقودٌ خلٌّ، ولهذا خاتمٌ حديدٌ. وسنشرح ما ذهبوا إليه، ونبين فساده على النعت، وجوازه في الإتباع لما قبله إن شاء الله. ويقال للذي أجاز هذا على النعت: إن كنت سمعته من العرب مرفوعاً فإن رفعه غير مدفوع، وتأويله: البدل؛ لأن معناه: خاتمٌ حديدٌ، وخاتمٌ من حديد. فيكون رفعه على البدل والإيضاح. فأما ادعاؤك أنه نعت: وقد ذكرت أن النعت إنما هو تحلية، فقد نقضت ما أعطيت، والعلة أنت ذكرتها، وإنما حق هذا أن تقول: راقود خلٍّ، أو راقودٌ خلاً على التبيين. فهذا حق هذا. فإن اعتل بقوله: مررت برجل فضة خاتمه، ومررت برجل أسد أبوه، على قبحه فبما ذكره وبعده، فإن هذا في قولك: فضة خاتمه غير جائز، إلا أن تريد: شبيه بالفضة، ويكون الخاتم غير فضة. فهذا ما ذكرت لك أن النعت تحلية. وعلى هذا: مررت برجل أسدٍ أبوه؛ لأنه وضعه في موضع شديدٍ أبوه. ألا ترى أن سيبويه لم يجز: مررت بدابة أسد أبوها إذا أراد السبع بعينه، فإذا أراد الشدة جاز على ما وصفت، وليس كجواز: مررت برجل قائم أبوه، لأن لهذا اللفظ والمعنى، وذاك محمول على معناه. فحق الجواهر أن تكون منعوتة؛ ليعرف بعضها من بعض. وحق الأسماء المأخوذة من الأفعال أن تكون نعوتاً لما وصفت لك. فإن قلت: مررت ببرٍّ قفيزٍ بدرهم. جاز على البدل، ويجيزه على النعت من عبنا قوله، وأوضحنا فساده. فإن قيل: معناه مسعر. فحق هذا النصب؛ لأن التسعير يعمل فيه. فعلى هذا فأجر هذا الباب. فأما قولهم: هذا خاتمٌ حديدا على الحال فتأويله: أنك نبهت له في هذه الحال. فإن قلت: الحال بابها الانتقال؛ نحو: مررت بزيد قائما. قيل: الحال على ضربين: فأحدهما: التنقل، والآخر: الحال اللازمة. وإنما هي مفعول فاللزوم يقع لما في اسمها، لا لما عمل فيها. فمن اللازم قوله عز وجل: " فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها " فالخلود معناه: البقاء. وكذلك: " وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها " فهذا الاسم لا لما عمل فيه.
هذا باب
ما يجوز لك فيه النعت والحال


ولا يكون مجازهما واحداً، ولما تحمل كل واحدٍ منهما عليه
وذلك قولك: مررت بامرأةٍ معها رجلٌ قائمةٍ يا فتى، إذا حملت ذلك على مررت بامرأة، وإن حملته على الهاء في معها قلت: رجلٌ قائمةً. والمعنى - إذا نصبت - : أنك مررت به معها في حال قيامها، فكانت المقارنة في هذه الحال. ومن ذلك: هذه دابةٌ تشتد مكسوراً سرجها. إن حملته على الضمير في تشتد، وإن حملته على دابة رفعت، فيكون نعتاً كأنك قلت: هذه دابة مكسورٌ سرجها، وفي الباب الآخر أنها تشتد في هذه الحال. وتقول: نحن قومٌ ننطلق عامدين بلد كذا، وكذا فتنصب عامدين لما في قولك ننطلق. فإن أردت أن تجريه على قوم رفعت. وقد قرأوا هذه الآية: " ويخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً " ، أي يخرج له طائره كتابا. ومن هذا الباب: مررت برجل معه صقرٌ صائدٍ به، وصائداً به. فإن قلت: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربها ضاربته كان جيداً، وأجود منه أن تقول: مررت برجل معه امرأة ضاربته ضاربها، فيجري نعت المرأة وهو إلى جنبها، وإن شئت قلت: ضاربها للهاء في معه. وتقول: مررت برجل معه فرس راكباً برذونا، وراكبٍ على ما وصفت لك. وتقول: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربها هو لا يكون إلا كذلك؛ لأنك أجريت النعت عليها، والفعل له. وكذلك لو قلت: مررت برجل معه امرأة ضاربته هي. لم يكن من إظهار الفاعل بدٌّ؟ لأنه الفعل جرى على غير من هو له وإنما يكون هذا الإظهار في اسم الفاعل؛ لأنه تبين فيه الإضمار، وأنه محمول على الفعل. فإن كان فعلاً لم تحتج فيه إلى إظهار. تقول: مررت برجل معه امرأة يضربها ومعه امرأة تضربه. وكذلك تقول: زيد هند ضاربته؛ لأن الفعل لها. فإن قلت: زيد هند ضاربها. قلت هو، ويجري على وجهين: إن شئت جعلت زيداً ابتداءً، وهند ابتداءً ثانياً، وضاربها خبر عن هند، والهاء والراجعة إليها، وهو إظهار فاعل، ورجوعه إلى زيد. وإن شئت جعلت قولك ضاربها ابتداءً ثالثاً، وجعلت هو خبره، وجعلتهما خبراً عن هند، وجعلت هنداً وما بعدها خبراً عن زيد. وتقول: مررت بزبد وهندٌ الضاربته، أي وهند التي تضربه، فموضعها موضع الحال بمنزلة قولك: كلمت زيدا، وعمرو عنده. فتقدير الواو: تقدير إذ؛ كما قال الله عز وجل: " يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمتهم أنفسهم " أي: إذ طائفة في هذه الحال. وتقول: أنت زيد ضاربه أنت؛ لأنك ابتدأت أنت، وجعلت زيدا مبتدأ بعده، وضاربه لك، فكان مبتدأ ثالثا، وأنت خبره، وإن شئت كان خبراً عن زيد، وأنت فاعله. ولو أدخلت على هذا كان لم تغيره عن لفظه، إلا أنك تجعل زيدا مرفوعاً بكان. ولو أدخلت عليه ظننت أو أن لنصبت زيدا، وتركت سائر الكلام على حاله؛ لأنه قد عمل بعضه في بعض. فصار كقولك: كان زيد أبوه منطلق، وإن زيدا أبوه منطلق. واعلم أنك إذا قلت: كان زيد أبوه منطلق. أن أباه ومنطلقا في موضع نصب، والجمل لا يعمل فيها ما قبلها، وكذلك: كان زيد يقوم يا فتى؛ لأنه فعل وفاعل، فهو كالابتداء والخبر، فهذا مما يؤكد عندك أن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال. ولا يجوز أن تدخل بين الشيء وما يعمل فيه شيئاً مما لا يعمل فيه، نحو: أنت زيد ضاربه. إذا جعلت ضاربه جارياً على زيد، والمسائل كثيرةٌ، والأصل ما وقفتك عليه. فقس تصب إن شاء الله.
هذا باب
المصادر التي تشركها أسماء الفاعلين
ولا تكون واقعة هذا الموقع إلا ومعها من مشاهدة، فهي منصوبة على ذلك، خبراً كانت أو استفهاماً
وذلك قولك: أقائماً يا فلان وقد قعد الناس، وذلك أنه رآه في حال قيام، فوبخه بذلك. فالتقدير: أتثبت قائماً وقد قعد الناس، وليس يخبر عن قيامٍ منقضٍ، ولا عن قيام تستأنفه. وكذلك لو قال: أقياماً وقد قعد الناس، وأجلوساً والناس يسيرون، ومثله: أتخلفاً عن زيد مع بره بك وفضله. ومن ذلك قول الشاعر:
أطرباً وأنت قنسري
إنما رأى نفسه في حال طرب مع سنه، فوبخها بذلك. ولو لم تستفهم لقلت منكراً: قاعداً علم الله، وقد سار الناس، قائماً كما يرى والناس قعودٌ. فهذا لا يكون إلا لما تشاهد من الحال؛ فلذلك استغنيت عن ذكر الفعل.


واعلم أن الأسماء التي لم تؤخذ من الأفعال تجري هذا المجرى. وذلك أن ترى الرجل في حال تلون وتنقل، فتقول: أتميمياً مرة، وقيسياً أخرى، تريد: أتتحول وتتلون، وأغناه عن ذكر الفعل ما شاهد من الحال. وكذلك إن لم تستفهم قلت: تميمياً مرة - علم الله - وقيسياً أخرى. ومن ذلك قول الشاعر:
أفي السلم أعياراً جفاءً وغلظةً ... وفي الحرب أشباه النساء العوارك
وقال الآخر:
أفي الولائم أولاداً لواحدةٍ ... وفي العيادة أولاداً لعلات
هذا باب
ما وقع من المصادر توكيدا
وذلك قولك: هذا زيدٌ حقاً؛ لأنك لما قلت: هذا زيد فخبرت، إنما خبرت بما هو عندك حق، فاستغنيت عن قولك: أحق ذاك، وكذلك هذا زيدٌ الحق لا الباطل؛ لأن ما قبله صار بدلاً من الفعل. ولو قلت: هذا زيدٌ الحق، لكان رفعه على وجهين، وليس على ذلك المعنى، ولكن على أن تجعل زيدا هو الحق، وعلى أنك قلت: هذا زيد، ثم قلت: الحق، تريد: قولي هو الحق، لأن هذا زيد إنما هو قولك. وقد قرئ هذا الحرف على وجهين، وهو قوله عز وجل: " ذلك عيسى بن مريم قول الحق " ، وقول الحق. وتقول: هذا القول لا قولك، أي: ولا أقول قولك. فتأويل هذا: أن قولك بمنزلة هذا القول حقاً، وهذا القول غير قيلٍ باطل؛ لأنه توكيدٌ للأول. ولو قلت: هذا القول لا قولاً لم يكن لهذا الكلام معنى؛ لأنك إنما تؤكد الأول بشيءٍ تحقه، فإذا قلت: غير قيلٍ باطل، فقد أوجبت أنه حق فإذا قلت: لا قولك، فقد دللت على أنه قول باطل، فعلى هذا تؤكد. ومن ذلك: لأضربن زيدا قسما حقا. ومن ذلك قوله:
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
لما قال: إني لأمنحك الصدود، وإنني إليك لأميل، علم أنه مقسم، فكان هذا بدلاً من قوله: أقسم قسما.
واعلم أن المصادر كسائر الأسماء، إلا أنها تدل على أفعالها فأما في الإضمار والإظهار والإخبار عنها والاستفهام، فهي بمنزلة غيرها. تقول إذا رأيت رجلاً في ذكر ضربٍ: زيدا، تريد: زيداً اضرب، واستغنيت عن قولك: إضرب بما كان فيه من الذكر، فعلى هذا إذا ذكر فعلاً. فقال: لأضربن، قلت: نعم، ضرباً شديداً. فإن لم يكن ذكر، ولا حالٌ دالة، لم يكن من الإظهار بدٌّ، إلا أن يكون موضع أمرٍ، فتضمر، وتصير المصدر بدلاً من اللفظ بالفعل، وإنما يكون ذلك في الأمر والنهي خاصة؛ لأنهما لا يكونان إلا بفعل، فتأمر بالمصدر نكرة، ومعرفة بالألف واللام والإضافة، ولذلك موضع آخر: وهو أن يكون المصدر قد استعمل في موضع الفعل حتى علم ما يراد به. ومن ذلك سقياً لزيد؛ لأن الدعاء كالأمر، والنهي وإنما أردت: سقى الله زيدا سقياً. فإن قلت ذلك لم تحتج إلى قولك: لزيد. وإن قلت: سقياً قلت بعده: لفلان؛ لتبين ما تعني، وإن علم من تعني. فإن شئت أن تحذفه حذفته. ومن ذلك قول عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " إنما هو: فاضربوا الرقاب ضرباً، ثم أضاف. وكذلك قوله، تبارك وتعالى: " فإما مناً بعد وإما فداءً " إنما تقديره: فإما مننتم مناً، وإما فاديتم فداءً. وكذلك " وعد الله حقاً " و " صنع الله " .
واعلم أن من المصادر مصادر تقع في موضع الحال، وتغني غناءه، فلا يجوز أن تكون معرفة؛ لأن الحال لا تكون معرفة. وذلك قولك: جئتك مشياً، وقد أدى عن معنى قولك: جئتك ماشيا، وكذلك قوله عز وجل: " ثم ادعهن يأتينك سعياً " . ومنه: قتلته صبرا. وإنما الفصل بين المصدر وبين اسم الفاعل أنك إذا قلت: عجبت من ضرب زيدٍ عمرا، أن ضرباً في معنى: أن ضرب فيحتاج ما بعدها إلى الفاعل والمفعول. فإذا قلت: عجبت من ضارب عمرا، فقد جئت بالفاعل، وإنما بقي المفعول، والفاعل يحمل على المصدر؛ كما حمل المصدر عليه.تقول: قم قائماً فالمعنى: قم قياماً. فمن ذلك قوله:
على حلفةٍ لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام
إنما أراد: لا أشتم، ولا يخرج من في زور كلام؛ فأراد: ولا خروجاً فوضع خارجاً في موضعه، وهذا قول عامة النحويين. وكان عيسى بن عمر يأبى ما فسرنا ويقول: إنما قال:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاجٍ قائماً ومقام
على حلفةٍ لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام


يريد: عاهدت ربي على أمور وأنا في هاتين الحالتين: لا شاتماً، ولا خارجاً من في مكروه.
هذا باب
ما يكون حالاً
وفيه الألف واللام على خلاف ما تجري به الحال لعلةٍ دخلت
وذلك قولك: ادخلوا الأول فالأول، وادخلوا رجلاً رجلاً. تأويله: ادخلوا واحداً بعد واحد. فأما الأول فإنما انتصب على الحال وفيه الألف واللام؛ لأنه على غير معهود، فجريا مجرى سائر الزوائد. ألا ترى أنك لو قلت: الأول فالأول أتونا، لم يجز؛ لأنك لست تقصد إلى شيءٍ بعينه، ولو قلت: الرجال أتونا، كان جيداً. وإن شئت قلت: دخلوا الأول فالأول على البدل. كأنك قلت: دخل الأول فالأول. وكذلك لو قلت: دخلوا رجلٌ فرجلٌ، فأبدلت النكرة من المعرفة؛ كما قال الله عز وجل: " بالناصية ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ " . فإذا قلت: ادخلوا الأول فالأول، فلا سبيل عند أكثر النحويين إلى الرفع؛ لأن البدل لا يكون من المخاطب؛ لأنك لو قدرته بحذف الضمير لم يجز. فأما عيسى بن عمر فكان يجيزه، ويقول: معناه: ليدخل الأول فالأول، ولا أراه إلا جائزاً على المعنى؛ لأن قولك: ادخل إنما هو: لتدخل في المعنى.
وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فبذلك فلتفرحوا " فإذا قلت: ادخلوا الأول والآخر، والصغير، والكبير، فالرفع؛ لأن معناه: ادخلوا كلكم. فهذا لا يمون إلا مرفوعاً، ولا يكون إلا بالواو؛ لأن الفاء تجعل شيئاً بعد شيءٍ، والواو تتصل على معنى قولك: كلكم. ألا ترى أنك تقول: مررت بزيد أخيك، وصاحبك، فتدخل الواو على حد قولك: زيد العاقل الكريم، وكذلك زيد العاقل، والكريم. ولو قلت: العاقل فالكريم، أو العاقل ثم الكريم، لخبرت أنه استوجب شيئاً بعد شيءٍ. وكان سيبويه يقول: جيدٌ أن تقول: هذا خاتمك حديدا، وهذا سرجك خزاً، ولا تقول على النعت: هذا خاتمٌ حديدٌ إلا مستكرهاً، إلا أن تريد البدل؛ وذلك لأن حديداً وفضة وما أشبه ذلك جواهر، فلا ينعت بها؛ أن النعت تحلية. وإنما يكون هذا نعتاً مستكرهاً إذا أردت التمثيل. وتقول: هذا خاتم مثل الحديد، أي في لونه وصلابته، وهذا رجلٌ أسدٌ أي: شديد. فإن أردت السبع بعينه لم تقل: مررت برجل أسد أبوه. هذا خطأ، وإنما أجاز سيبويه: هذا خاتمك حديدا، وهو يريد الجوهر بعينه؛ لأن الحال مفعول فيها، والأسماء تكون مفعولة، ولا تكون نعوتاً حتى تكون تحلية. وهذا في تقدير العربية كما قال، ولكن لا أرى المعنى يصح إلا بما اشتق من الفعل، نحو: هذا زيد قائماً؛ لأن المعنى أنبهك له في حال قيام. وإذا قال: هذا خاتمك حديداً، فالحديد لازم. فليس للحال هاهنا موضعٌ بين، ولا أرى نصب هذا إلا على التبيين؛ لأن التبيين إنما هو بالأسماء. فهذا الذي أراه، وقد قال سيبويه ما حكيت لك. ولو قلت: مررت بزيدٍ رجلاً صالحاً لصلحت الحال لقولك صالحاً إلا أن يكون علم أنك مررت بزيد وهو بالغ فتقول: مررت بزيد رجلاً، أي في حال بلوغه. فقد دللتك بهذا على معنى الحال.


ومن الحالات قولك: ما شأنك قائماً والتقدير: ما أمرك في هذه الحال. فهذا التقدير، والمعنى: لم قمت؟ كما أنك تقول: غفر الله لزيد، واللفظ لفظ الإخبار، والمعنى معنى الدعاء، وقولك: يعلم الله لأقومن. اللفظ لفظ: يذهب زيد والمعنى القسم. ومثل هذا: ما لك قائماً؟ والتقدير: أي شيءٍ لك في حال قيامك؟ والمعنى: لم قمت؟ قال الله جل ذكره: " فما لهم عن التذكرة معرضين " . والمعنى: - والله أعلم - ما لهم يعرضون؟ أي: لم أعرضوا؟. ولو قلت: من زيدٌ قائما؟ لم يجز؛ لأن قولك: من زيد؟ سؤال يقتضي أن تعرف: أبن عمرو هو أم ابن خالد؟ التميمي هو أم القيسي؟ فالسؤال قد وقع عن تعريف الذات، فليس للحال هاهنا موضع. ولو قلت: زيدٌ أخوك قائماً وأنت تريد النسب فهو محال لأن النسب لازم فليس له في القيام معنى، ويستحيل في تقدير العربية مع استحالته في المعنى؛ لأن الفعل ينصب الحال. ولو قلت: زيدٌ أخوك قائماً، تريد الصداقة، لكان جيداً. المعنى: يصادقك في هذه الحال. وكل شيءٍ كان فيه فعل مجرد أو معنى فعل، فالحال فيه صحيحة؛ نحو: المال لك قائماً، أي: تملكه في هذه الحال، وكذلك: المال لك يوم الجمعة، ولا يصلح: زيد أخوك يوم الجمعة إذا كان من النسب؛ لأنه لا فعل فيه. وظروف الزمان لا تضمن الفعل الجثث. وكل ما كان فعلاً أو في معنى الفعل فعمله في ظروف الزمان كعمله في الحال. فأما قولهم: الليلة الهلال، فمعناه: الحدوث، ولولا ذلك لم يجز؛ كما لا تقول: الليلة زيدٌ. وتقول: خرجت من الدار فإذا زيدٌ. فمعنى إذا هاهنا المفاجأة. فلو قلت على هذا: خرجت فإذا زيد قائماً، كان جيداً؛ لأن معنى فإذا زيد، أي: فإذا زيد قد وافقني.
هذا باب
المخاطبة
فأول كلامك لما تسأل عنه، وآخره لمن تسأله، وذلك قولك: إذا سألت رجلاً عن رجلٍ: كيف ذاك الرجل؟ فتحت الكاف؛ لأنها للذي تكلم. وقولك ذاك إنما زدت الكاف على ذا، وكانت لما تومئ إليه بالقرب. فإن قلت هذا ف ها للتنبيه، وذا هي الاسم، فإذا خاطبت زدت الكاف للذي تكلمه ودل الكلام بوقوعها على أن الذي تومئ إليه بعيدٌ، وكذلك جميع الأسماء المبهمة إذا أردت التراخي زدت كافاً للمخاطبة؛ لأنك تحتاج إلى أن تنبه بها المخاطب على بعد ما تومئ إليه. فإن سألت امرأة عن رجل قلت: كيف ذاك الرجل؟ تكسر الكاف؛ لأنها لمؤنث. قال الله عز وجل: " قال كذلك الله يخلق ما يشاء " . وتقول - إذا سألت رجلاً عن امرأة - : كيف تلك المرأة؟ بفتح الكاف؛ لأنها لمذكر. فإن سألت امرأةً عن امرأة قلت: كيف تلك المرأة، بكسر الكاف من أجل المخاطبة. فإن سألت امرأتين عن رجلين قلت: كيف ذانكما الرجلان؟. وإن سألت رجلين عن امرأتين قلت: كيف تانكما المرأتان؟. وإن سألت رجلين عن امرأة قلت: كيف تلكما المرأة؟. وإن سألت امرأتين عن رجل قلت: كيف ذاكما الرجل؟. وإن شئت قلت: ذلكما، تدخل اللام زائدة، فمن قال في الرجل ذاك قال في الاثنين ذانك. ومن قال في الرجل ذلك قال في الاثنين ذانك بتشديد النون. تبدل من اللام نوناً، وتدغم إحدى النونين في الأخرى، كما قال عز وجل: " فذانك برهانان من ربك " . وإن سألت رجلاً عن نساءٍ قلت: كيف أولئكم النساء؟ وإن سألت نساءً عن رجالٍ قلت: كيف أولئكن الرجال؟ وإن سألت نساءً عن رجل قلت بغير اللام: كيف ذاكن الرجل؟ وباللام: كيف ذلكن الرجل؟ كما قال الله عز وجل: " فذلكن الذي لمتنني فيه " .
وقد يجوز أن تجعل مخاطبة الجماعة على لفظ الجنس؛ إذ كان يجوز أن تخاطب واحداً عن الجماعة، فيكون الكلام له، والمعنى يرجع إليهم؛ كما قال الله تبارك وتعالى: " ذلك أدنى أن لا تعولوا " . ولم يقل ذلكم؛ لأن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فما ورد من هذا الباب فقسه على ما ذكرت لك تصب إن شاء الله.
هذا باب
تأويل هذه الكاف التي تقع للمخاطبة
إذا اتصلت بالفعل نحو: رويدك وأرأيتك زيدا ما حاله؟، وقولك: أبصرك زيدا


اعلم أن هذه الكاف زائدة زيدت لمعنى المخاطبة. والدليل على ذلك أنك إذا قلت: أرأيتك زيدا فإنما هي أرأيت زيدا؛ لأن الكاف لو كانت اسماً استحال أن تعدي رأيت إلى مفعولين: الأول والثاني هو الأول. وإن أردت رؤية العين لم يتعد إلا إلى مفعول واحد، ومع ذلك أن فعل الرجل لا يتعدى إلى نفسه، فيتصل ضميره إلا في باب ظننت وعلمت، لما قد ذكرنا في موضعه. فأما ضربتني، وضربتك يا رجل فلا يكون. وكذلك أبصرك زيدا يا فلان، إنما هو: أبصر زيدا، ودخلت الكاف للإغراء توكيداً للمخاطبة. وكذلك رويد. يدلك أنك إذا قلت: رويدك زيدا، إنما تريد: أرود زيدا، والكاف للمخاطبة. ألا ترى أنها لو كانت اسم الفاعل كان خطأ؛ لأن الواحد المرفوع لا تظهر علامته في الفعل. وإن كان الفعل لاثنين أو ثلاثة قلت: رويدكما، ورويدكم. فلو كان اسم الفاعل لكان ألفاً في التثنية، وواواً في الجماعة؛ كما تقول: اذهبا، واذهبوا. وقد تقول: رويد زيدا إذا لم ترد أن تبين المخاطبة؛ كما تقول: أرأيت زيدا، وأبصر زيدا. وزعم سيبويه أن قولك: رويدك زيدا إذا أدخلت الكاف كقولك: يا فلان لمن هو مقبل عليك توكيداً للتنبيه ولمن هو غير مقبل عليك لتعطفه بالنداء. فكذلك تنبه بالمخاطبة، وتركها كتركك يا فلان استغناءً بإقبالك عليه، وإنما القول بغير الكاف: رويد زيدا؛ لأن رويد في موضع المصدر وهو غير متمكن؛ لأن المصدر من أرودت إنما هو الإرواد. ومن أراد أن يجعل رويد مصدراً محذوف الزوائد جاز له ذلك فقال: رويداً زيدا. فنظير الأول قوله:
رويد عليًّا جد ما ثدى أمهم ... إلينا ولكن ودهم متماين
ومن جعله مصدراً صحيحاً قال: رويداً زيدا ورويد زيدٍ؛ كما تقول: ضرب الرقاب. وإن كان نعتاً فهو مصروف منون على كل حال، وذلك قولك: ضعه وضعاً رويداً؛ كما قال عز وجل: " فمهل الكافرين أمهلهم رويداً " . وإنما صرفنا هذا المصدر عندما جرى من ذكره مع كاف المخاطبة.
هذا باب
مسائل من هذه المصادر التي جرت
اعلم أنك إذا قلت: رويدك وعبد الله فهو جائز وفيه قبحٌ حتى تقول: رويدك أنت وعبد الله وقد تقدم تفسير هذا في باب عطف الظاهر على المضمر. فإن جعلت رويد متصرفةً قلت: رويد عبد الله، وزيدٍ، ولا تقول: رويدك، ورويد زيدٍ إذا جعلت رويد غير متصرفة والكاف للمخاطبة؛ لأن الكاف ليست باسم، ورويد اسم، ولا يقع العطف على استواءٍ إلا أن تجعل الكلام الثاني على غير معنى الكلام الأول، فذلك جائز متى أردته. وكل جملة بعدها جملةٌ فعطفها عليها جائزٌ وإن لم يكن منها؛ نحو: جاءني زيد، وانطلق عبد الله، وأخوك قائم، وإن تأتني آتك. فهذا على ذا. ولو قلت: ضعه وضعاً رويداً، لم تقع رويد المحذوفة التنوين هذا الموضع؛ لأن تلك لا تقع إلا في الأمر على معنى: أرود زيدا.
واعلم أن الكاف في قولك: النجاءك إنما هي للمخاطبة بمنزلة كاف رويدك والدليل على ذلك لحاقها مع الألف واللام، ولو كانت اسماً كان هذا محالاً؛ لأنك لا تضيف ما فيه الألف واللام. فهذا بين جداً.
وفي هذه المصادر في الأمر والنهي من الضمير ما في الفعل، تقول: النجاءك نفسك، والنجاءكم كلكم والخفض خطأ؛ لأن الكاف ليست باسم. فأما عليك، ودونك، وما أشبه ذلك، فإن الكاف في موضع خفض وله ضمير المرفوع الذي يكون به فاعلاً، وإن شئت أتبعته التوكيد مرفوعاً، وإن شئت كان مخفوضاً. تقول: عليك نفسك زيدا، وإن شئت نفسك، لأنك تريد: أنظر نفسك. والدليل على أن الكاف لها موضع أن حروف الإضافة لا تعلق ولا تنفرد فهي واقعة على الأسماء. وكل شيءٍ كان في موضع الفعل ولم يكن فعلاً قلا يجوز أن تأمر به غائباً، ولا يجوز أن تقول: على زيدٍ عمرا، ولا يجوز أن تقدم فيه ولا تؤخر، فتقول: زيدا عليك، وزيدا دونك. ومن زعم أن قول الله عز وجل: " كتاب الله عليكم " إنما نصبه بعليكم فهذا خطأ، وقد مضى تفسير هذا. وإنما قالوا: عليه رجلا ليسني، لأن هذا مثل، والأمثال تجري في الكلام على الأصول كثيراً.
هذا باب
ما يحمل على المعنى وحمله على اللفظ أجود


اعلم أن الشيء لا يجوز أن يحمل على المعنى إلا بعد استغناء اللفظ، وذلك قولك: ما جاءني غير زيد وعمرٌو. حمل عمرو على الموضع؛ لأن معنى قوله: غير زيد إنما هو إلا زيدٌ، فحمل عمرو على هذا الموضع. وكذلك قوله: ما جاءني من أحدٍ عاقلٌ. رفعت العاقل، ولو خفضته كان أحسن. وإنما جاز الرفع؛ لأن المعنى: ما جاءني أحد. ومن ذلك قراءة بعض الناس: " زين لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " . لما قال: قتل أولادهم، تم الكلام، فقال: شركاؤهم على المعنى؛ لأنه علم أن لهذا التزيين مزيناً فالمعنى: زينه شركاؤهم. ومثل ذلك قول الشاعر:
ليبك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٌ مما تطيح الطوائح
لما قال: ليبكي يزيد علم أن له باكيا. فكأنه قال: ليبكه ضارعٌ لخصومة. ومن هذا قولهم:
قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما
فنصب الأفعوان؛ لأنك تعلم أن القدم مسالمة؛ كما أنها مسالمة فكأنه قال: قد سالمت القدم الأفعوان والشجاع. ومن ذلك قول الله عز وجل: " انتهوا خيراً لكم " .
زعم الخليل أنه لما قال: انتهوا علم أنه يدفعهم عن أمر، ويغريهم بأمر يزجرهم عن خلافه، فكان التقدير: ائتوا خيراً لكم. وقد قال قوم: إنما هو على قوله: يكن خيراً لكم. وهذا خطأ في تقدير العربية؛ لأنه يضمر الجواب ولا دليل عليه، وإذا أضمر ايتوا فقد جعل انتهوا بدلاً منه، وكذلك انته يا فلان أمراً قاصداً. وقد مر من ذكر المضمرات ما يغني عن إعادته. ومن ذلك قول الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاءٌ ... وجناتٍ وعيناً سلسبيلا
فنصبهما؛ لأن الوجدان في المعنى واقعٌ عليهما. ومثل ذلك:
لن تراها وإن تأملت إلا ... ولها في مفارق الرأس طيبا
لأن الرؤية قد اشتملت على الطيب. وهذا البيت أبعد ما مر؛ لأنه ذكره من قبل استغناء. وإنما جاز نصبه على رأيت؛ لأن المعنى: لن تراها إلا وأنت ترى لها في مفارق الرأس طيبا. فهذا على الإضمار. فأما قوله:
تواهق رجلاها يديه ورأسه
فمن أنشده برفع اليدين فقد أخطأ؛ لأن الكلام لم يستغن، ولو جاز لجاز: ضارب عبد الله زيدٌ؛ لأن من كل واحد منهما ضرباً.
هذا باب
أم وأو
فأما أم فلا تكون إلا استفهاماً، وتقع من الاستفهام في موضعين: أحدهما أن تقع عديلةً على معنى أي. وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو؟ وكذلك: أأعطيت زيداً أم حرمته؟. فليس جواب هذا لا، ولا نعم؛ كما أنه إذا قال: أيهما لقيت؟ أو: أي الأمرين فعلت؟ لم يكن جواب هذا لا ولا نعم؛ لأن المتكلم مدعٍ أن أحد الأمرين قد وقع، ولا يدري أيهما. فالجواب أن تقول: زيدٌ أو عمرو. فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب أن تقول: لم ألق واحدا، أو كليهما. فمن ذلك قول الله عز وجل: " اتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار " . وقوله: " أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها " ومثله: " أهم خيرٌ أم قوم تبعٍ " ، فخرج هذا مخرج التوقيف والتوبيخ، ومخرجه من الناس يكون استفهاماً، ويكون توبيخاً. فهذا أحد وجهيها.
ويدخل في باب التسوية مثل قولك: سواءٌ علي أذهبت أم جئت، وما أبالي أقبلت أم أدبرت، وليت شعري أزيدٌ في الدار أم عمرو؟. فقولك: سواءٌ علي تخبر أن الأمرين عندك واحد، فأدخلت حروف الاستفهام هاهنا لإيجابها التسوية. ألا ترى أنك إذا قلت: أزيدٌ في الدار أم عمرو، أنهما في علمك متساويان، فهذه مضارعة، ولهذا تقول: قد علمت أزيدٌ في الدار أم عمرو؛ لأنهما استويا عند السامع؛ كما استوى الأولان في علمك. وأي داخلة في كل موضع تدخل فيه أم مع الألف. تقول: قد علمت أيهما في الدار؟ تريد: إذا أم ذا. قال الله عز وجل: " فلينظر أيها أزكى طعاماً " . وعلى ذلك قول الشاعر:
سواءٌ عليه أي حينٍ أتيته ... أساعة نحسٍ جئته أم بأسعد
فقس أيًّا بالألف وأم؛ كما تقول: أي الرجلين أفضل أزيدٌ أم عمرو؟ وسنفرد باباً للمسائل بعد فراغنا من الأصول، فهذا أحد موضعيها.


والموضع الثاني: أن تكون منقطعة مما قبلها، خبراً كان أو استفهاماً، وذلك قولك فيما كان خبراً: إن هذا لزيد أم عمرو يا فتى. وذلك أنك نظرت إلى شخص، فتوهمته زيدا، فقلت على ما سبق إليك، ثم ادركك الظن أنه عمرو، فانصرفت عن الأول، فقلت: أم عمرو مستفهماً. فإنما هو إضراب عن الأول على معنى بل، إلا أن ما يقع بعد بل يقين، وما يقع بعد أم مظنون مشكوك فيه، وذلك أنك تقول: ضربت زيدا ناسياً أو غالطاً، ثم تذكر أو تنبه، فتقول: بل عمرا مستدركاً مثبتاً للثاني، تاركاً الأول. ف بل تخرج من غلط إلى استثبات، ومن نسيان إلى ذكرٍ. وأم معها ظن أو استفهام، وإضراب عما كان قبله. ومن ذلك: هل زيدٌ منطلق أم عمرو يا فتى قائما. أضرب عن سؤاله عن انطلاق زيد، وجعل السؤال عن عمرو. فهذا مجرى هذا، وليس على منهاج قولك: أزيدٌ في الدار أم عمرو. وأنت تريد: أيهما في الدار؟ لأن أم عديلة الألف، وهل إنما تقع مستأنفة. ألا ترى أنك تقول: أما زيد في الدار على التقرير، وتقول: يا زيد، أسكوتاً والناس يتكلمون. توبخه بذلك وقد وقع منه السكوت، ولا تقع هل في هذا الموضع. ألا ترى إلى قوله:
أطرباً وأنت قنسري
وإنما هو: أتطرب وهو في حال طرب؟. وذلك لأن الألف و أم حرفا الاستفهام اللذان يستفهم بهما عن جميعه، ولا يخرجان منه، وليس كذا كسائر حروف الاستفهام؛ لأن كل حرفٍ منها لضربٍ لا يتعدى ذلك إلى غيره، ألا ترى أن أين إنما هي سؤال عن المكان لا يقع إلا عليه. ومتى سؤال عن زمان، وكيف سؤال عن حال، وكم سؤال عن عدد. وهل تخرج من حد المسألة فتصير بمنزلة قد نحو: قوله عز وجل: " هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً " . فالألف وأم لا ينقلان عن الاستفهام كما تنقل هذه الحروف. فتكون جزاءً، ويكون ما كان منها يقع للناس وغيرهم، نحو: من، وما، وأي كذلك، ويكون في معنى الذي. وحرفا الاستفهام اللذان لا يفارقانه: الألف وأم، وهما يدخلان على هذه الحروف كلها. ألا ترى أن القائل يقول: هل زيد بالدار أم هل عمرٌو هناك؟ وتقول: كيف صنعت أم كيف صنع أخوك؟. فدخل هذان الحرفان على حروف الاستفهام لتمكنهما وانتقالهما. فمن ذلك قوله:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبيرٌ بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم
فأدخل أم على هل، وقال:
سائل فوارس يربوعٍ بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم
وقال:
كيف القرار ببطن مكة بعدما ... هم الذين تحب بالإنجاد
أم كيف صبرك إذ ثويت معالجا ... سقماً خلافهم وسقمك بادي
وتدخل حروف الاستفهام على من، وما، وأي إذا صرن في معنى الذي بصلاتهن. وكذلك أم، كقول الله عز وجل: " أم من يجيب المضطر إذا دعاه " ، وكقوله: " أفمن يلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يوم القيامة " ، فقد أوضحت لك حالهما. فأما قول الله عز وجل: " آلم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه " وقوله: " أم تسألهم أجراً " ، وما كان مثله، نحو قوله عز وجل: " أم اتخذ مما يخلق بنات " فإن ذلك ليس على جهة الاستفهام؛ لأن المستخبر غير عالم، إنما يتوقع الجواب فيعلم به. والله - عز وجل - منفيٌّ عنه ذلك. وإنما تخرج هذه الحروف في القرآن مخرج التوبيخ والتقرير، ولكنها لتكرير توبيخ بعد توبيخ عليهم. ألا تراه يقول عز وجل: " أفمن يلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يوم القيامة " - وقد علم المستمعون كيف ذلك - ليزجرهم عن ركوب ما يؤدي إلى النار، كقولك للرجل: السعادة أحب إليك أم الشقاء؛ لتوقفه أنه على خطأ وعلى ما يصيره إلى الشقاء؛ ومن ذلك قوله: " أليس في جهنم مثوًى للمتكبرين " . كما قال:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وأنت تعلم أنه لم يستفهم، ولكن قررهم بأنهم كذلك وأنه قد ثبت لهم، فمجاز هذه الآيات - والله أعلم - : أيقولون افتراه؟ على التوبيخ لهم، وأنهم قالوا، فنبه الرسول والمسلمين على إفكهم، وترك خبراً إلى خبر لا على جهة الإضراب، ولكن على جهة تكرير خبرٍ بعد خبرٍ: كما يقع أمر بعد زجر، وأمر بعد أمر الترغيب، والترهيب. والله أعلم.
هذا باب
من مسائل أم


في البابين المتقدمين لنوضح كل باب على حياله، ونبينه من صاحبه إن شاء الله
تقول: أعندك زيدٌ أم عمرو، فإذا أردت: أيهما عندك فهذا عربيٌّ حسن، والأجود: أزيدٌ عندك أم عمرو؛ لأنك عدلت زيدا بعمرو، فأوقعت كل واحد منهما إلى جانب حرف الاستفهام، وجعلت الذي لا تسأل عنه بينهما، وهو قولك: عندك. وكذلك: أزيدا ضربت أم عمرا، أزيدٌ قام أم عمرو. ولو قلت: أقام زيدٌ أم عمرو؟ وأزيدٌ أم عمرو قام؟ وأزيدٌ أم عمرو عندك؟ وأزيدا أم عمرو ضربت؟ كان ذلك جائزاً حسناً، والوجه ما وصفت لك، وكل هذا غير بعيد. فإن أردت أن تجريه على استفهامين قلت: أزيدٌ عندك، أم عندك عمرو يا فتى. استفهم أولاً عن زيد، ثم أدركه الشك في عمرو، فأضرب عن زيد، ورجع إلى عمرو، فكأنه قال: أزيدٌ عندك بل أعندك عمرو؟ فهذا تمثيل ذلك، ومثله قول كثير:
أليس أبي بالنضر أم ليس والدي ... لكل نجيبٍ من خزاعة أزهرا
ترك استفهام الأول، ومال إلى الثاني، وإنما أخرجه مخرج التقرير في اللفظ، كالإستخبار.
وأم المنقطعة تقع بعد الاستفهام كموقعها بعد الخبر، ومن ذلك قولك: أزيد في الدار أم لا؟ ليس معنى هذا: معنى أيهما، ولكنك استفهمت على أنك ظننت أنه في الدار، ثم أدركك الشك في أنه ليس فيها، فأضربت عن السؤال عن كونه فيها، وسألت عن إصغارها منه. فأما قول ابن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً بسبعٍ رمين الجمر أم بثمان
فليس على الإضراب، ولكنه أراد: أبسبعٍ؟ فاضطر، فحذف الألف، وجعل أم دليلاً على إرادته إياه؛ إذ كان المعنى على ذلك، كما قال الشاعر:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً شعيث ابن سهمٍ أم شعيث ابن منقر
يريد: أشعيث؟. فأما قول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلام من الرباب خيالا
فيكون على ضربين: يجوز أن يكون: أكذبتك عينك، فحذف الألف. ويجوز أن يكون ابتدأ كذبتك عينك مخبراً، ثم أدركه الشك في أنه قد رأى، فاستفهم مستثبتاً. وأما ما حكى الله عن فرعون من قوله: " أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهينٌ " - فإنما تأويله - والله أعلم - : أنه قال: أفلا تبصرون. أم أنا خير؟ على أنهم ما قالوا له: أنت خير لكانوا عنده بصراء، فكأنه قال - والله أعلم - : أفلا تبصرون. وهذه أم المنقطعة؛ لأنه أدركه الشك في بصرهم، كالمسألة في قولك: أزيدٌ في الدار أم لا، وقد مضى تفسير هذا. فهذا في قول جميع النحويين لا نعلم بينهم اختلافاً فيه. فأما أبو زيد وحده فكان يذهب إلى خلاف مذاهبهم، فيقول: أم زائدة، ومعناه: أفلا تبصرون أنا خير، وكان يفسر لهذا البيت:
يا دهر أم كان مشيي رقصاً ... بل قد تكون مشيتي توقصا
يريد: يا دهر، ما كان مشى رقصاً. وهذا لا يعرفه المفسرون، ولا النحويون، لا يعرفون أم زائدةً ولكن إذا عرض الشيء في الباب ذكرناه، وبينا عليه.
وتقول: ليت شعري أزيد في الدار أم عمرو؟ وما بالي: أقمت أم قعدت، وسواءٌ علي: أذهبت أم جئت، وقد ذكرنا هذا قبل، ولكن رددناه لاستقصاء تفسيره؛ لأن هذا ليس باستفهام، ولا قولك: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو. إنما هو أنك قد علمت أن أحدهما في الدار. لا تدري أيهما هو؟ فقد استويا عندك، فهذه الأشياء التي وصفنا مستويةٌ، وإن لم تكن استفهاماً. فالتسوية أجرت عليه هذه الحروف؛ إذ كانت لا تكون إلا التسوية. والدليل على ذلك أن أياً لا تكون إلا لهذا المعنى داخلةً على جميعها. ألا ترى أنك إذا قلت: أزيد في الدار أم عمرو فمعناه: أيهما في الدار، وإذا قلت: سواءٌ علي أذهبت أم جئت. فمعناه: سواءٌ علي أي ذلك كان، كما تقول: ما أبالي: أقمت أم قعدت، أي ما أبالي أي ذلك كان، وليت شعري! أي ذلك كان. ألا ترى أنه لا يدخل على الاستفهام من الأفعال إلا ما يجوز أن يلغى؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وهذه الأفعال هي التي يجوز ألا تعمل خاصةً، وهي ما كان من العلم والشك فعلى هذا: " لنعلم أي الحزبين " ، " ولقد علموا لمن اشتراه " ؛ لأن هذه اللام تفصل ما بعدها مما قبلها. فتقول: علمت لزيدٌ خير منك. وعلى ذلك قوله:
لا أبالي أنب بالحزن تيسٌ ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم
وقول الشاعر:


ليت شعري وأين مني ليتٌ ... أعلى العهد يلبنٌ فبرام
وقال الشاعر:
سواءٌ عليك اليوم انصاعت النوى ... بخرقاء أم أنحى لك السيف ذابح
ونظير إدخالهم التسوية على الاستفهام لاشتمال التسوية عليها. قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، فأجروا حرف النداء على العصابة وليست مدعوة؛ لأن فيها الاختصاص الذي في النداء، وإنما حق النداء أن تعطف به المخاطب عليك، ثم تخبره، أو تأمره، أو تسأله، أو غير ذلك مما توقعه إليه، فهو مختص من غيره في قولك: يا زيد، ويا رجال. فإذا قلت: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. فأنت لم تدع العصابة، ولكنك اختصصتها من غيرها؛ كما تختص المدعو، فجرى عليها اسم النداء، أعني أيتها، لمساواتها إياه في الاختصاص؛ كما أنك إذا قلت: ما أدري أزيدٌ في الدار أم عمرو، فقد استويا عندك في المعرفة وإن لم يكن هذا مستفهماً عنه، ولكن محله من الاستفهام كمحل ما ذكرت لك من النداء. وعلى هذا تقول: على المضارب الوضيعة أيها الرجل، ولا يجوز أن تقول: يا أيها الرجل، ولا يا أيتها العصابة؛ لأنك لا تنبه إنساناً إنما تختص و يا إنما هي زجر وتنبيه. وتقول: أزيدٌ في الدار أم في البيت عمرو. لا تريد معنى أيهما ولكنك أضربت عن الأول، واستفهمت عن الثاني على ما شرحت. وكل ما كان من الإخبار، ومن حروف الاستفهام غير الألف فليست تقع أم بعده إلا مستأنفةً، وتكون مع الألف مستأنفةً إذا أجريتها على ما وصفت لك. فإذا أردت معنى أيهما عدلتها بالألف، وتدخل عليها ما كان للتسوية على ما وصفنا. وكان الخليل يجيز: لأضربنه أذهب أم مكث. يريد: لأضربنه أي ذلك كان، وإنما عبارة الألف وأم ب أي فحيث صلحت أي، صلحتا، وكان يجيز على هذا: كل حقٍّ لها سميناه أم لم نسمه، على معنى قوله: أي ذلك كان، والوجه في هذا أو، وتفسيره في بابها إن شاء الله.
هذا باب
أو
وحقها أن تكون في الشك واليقين لأحد الشيئين، ثم يتسع بها الباب، فيدخلها المعنى الذي في الواو من الإشراك على أنها تخص ما لا تخصه الواو. فأما الذي يكون فيه لأحد الأمرين يقيناً أو شكًّا فقولك: ضربت زيدا أو عمرا، علمت أن الضرب قد وقع بأحدهما. وذهب عنك أيهما هو؟ وكذلك: جاءني زيد أو أخوك. فأما اليقين فقولك: ايت زيدا أو عمرا، أي: قد جعلتك في ذلك مخيراً، وكذلك: لأعطين زيدا أو عمرا درهما. لم تنس شيئاً، ولكنك جعلت نفسك فيه مخيرة.
والباب الذي يتسع فيه قولك: ائت زيدا أو عمرا أو خالدا. لم ترد: ائت واحداً من هؤلاء، ولكنك أردت: إذا أتيت فائت هذا الضرب من الناس؛ كقولك: إذا ذكرت فاذكر زيدا أو عمرا أو خالدا. فإذا نهيت عن هذا قلت: لا تأت زيدا أو عمرا أو خالدا، أي لا تأت هذا الضرب من الناس؛ كما قال الله عز وجل: " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " . والفصل بين أو وبين الواو أنك إذا قلت: اضرب زيداً وعمراً، فإن ضرب أحدهما فقد عصاك، وإذا قال: أو فهو مطيعٌ لك في ضرب أحدهما أو كليهما. وكذلك إذا قال: لا تأت زيدا وعمرا. فأتى أحدهما فليس بعاصٍ، وإذا قال: لا تأت زيدا أو عمرا فليس له أن يأتي واحداً منهما، فتقديرها في النهي: لا تأت زيدا ولا عمرا، وتقديرها في الإيجاب: ائت زيدا؛ وإن شئت فائت عمرا معه. وتقول: لأضربنه ذهب أو مكث؛ أي: لأضربنه في هذه الحال كان أو في هذه الحال. وعلى هذا تقول: وكل حقٍّ لها داخلٍ فيها أو خارجٍ منها، وإن شئت داخلٍ فيها وخارجٍ منها. أما الواو فعلى قولك: كل حقٍّ لها من الداخل، والخارج. وأما أو فعلى قولك: إن كان ذلك الحق داخلاً أو كان خارجاً. وهذا البيت ينشد على وجهين:
إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أو تناهى فأقصر


وينشد أم تناهى. أما أو فعلى قولك: إن طال، وإن قصر. وأما أم فعلى قولك: أيٌّ ذلك كان؟ والألف في أطال ألف استفهام، والأحسن في هذا أو؛ لأن التقدير: إن كان كذا.، وإن كان كذا، وكذلك كل موضع لا يقع فيه استفهام على معنى أيهما، وأيهم، ونسق به على هذا التقدير. وكل موضعٍ يقع فيه أي كائناً ما كان فألف الاستفهام وأم تدخلانه، وإن كان الأحسن فيهما ما قصصنا. وتقول: ما أدري أزيدا أوعمرا ضربت أم خالدا. لم ترد أن تعدل بين زيد، وعمرو، ولكنك جعلتهما جميعاً عدلاً لخالد في التقدير، والمعنى: ما أدري أحد هذين ضربت أم خالدا. وتقول: قد علمت أربعي أم مضري أنت أم تميمي كأنه قال: قد علمت أم من أحد هذين الشعبين أنت أم تميمي. وعلى هذا ينشد قول صفية بنت عبد المطلب:
كيف رأيت زبرا
أأقطاً أم تمرا
أم قرشياً صقرا
لم ترد أن تجعل الأقط عدلاً للتمر فتقول: أهذا، أم هذا ولكن أرادت: أطعاماً رأيت أم قرشياً. لا يصلح في المعنى إلا هذا. فأما قول الله عز وجل: " وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون " فإن قوماً من النحويين يجعلون أو في هذا الموضع بمنزلة بل. وهذا فاسدٌ عندنا من وجهين: أحدهما: أن أو لو وقعت في هذا الموضع موقع بل لجاز أن تقع في غير هذا الموضع، وكنت تقول: ضربت زيدا أو عمرا، وما ضربت زيدا أو عمرا على غير الشك، ولكن على معنى بل فهذا مردودٌ عند جميعهم.
والوجه الآخر: أن بل لا تأتي في الواجب في كلام واحد إلا للإضراب بعد غلطٍ أو نسيان، وهذا منفي عن الله عز وجل؛ لأن القائل إذا قال: مررت بزيد غالطاً فاستدرك، أو ناسياً فذكر، قال: بل عمرو؛ ليضرب عن ذلك، ويثبت ذا. وتقول عندي عشرة بل خمسة عشر على مثل هذا، فإن أتى بعد كلامٍ قد سبق من غيره فالخطأ إنما لحق كلام الأول؛ كما قال الله عز وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً " فعلم السامع أنهم عنوا الملائكة بما تقدم من قوله: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاُ " .وقال: " أم اتخذ مما يخلق بناتٍ " وقال: " ويجعلون لله ما يكرهون " وقال: " بل عبادٌ مكرمون " ، أي: بل هؤلاء الذين ذكرتم أنهم ولدٌ عبادٌ مكرمون. ونظير ذلك أن تقول للرجل: قد جاءك زيدٌ، فيقول: بل عمرو. ولكن مجاز هذه الآية عندنا مجاز ما ذكرنا قبل في قولك: ائت زيدا أو عمرا أو خالدا، تريد: ايت هذا الضرب من الناس، فكأنه قال - والله أعلم - : إلى مائة ألف أو زيادة. وهذا قول كل من نثق بعلمه. وتقول: وكل حقٍّ لها علمناه أو جهلناه. تريد توكيد قولك: كل حقٍّ لها، فكأنك قلت: إن كان معلوماً، أو مجهولاً فقد دخل في هذا البيع جميع حقوقها.
ولها في الفعل خاصةٌ أخرى نذكرها في إعراب الأفعال إن شاء الله. وجملتها أنك تقول: زيد يقعد أو يقوم يا فتى، وإنما أكلم لك زيدا، أو أكلم عمرا. تريد: أفعل أحد هذين؛ كما قلت في الاسم: لقيت زيدا أو عمرا، وأنا ألقى زيدا أو عمرا، أي: أحد هذين. وعلى القول الثاني: أنا أمضي إلى زيد، أو أقعد إلى عمرو، أو أتحدث، أي: أفعل هذا الضرب من الأفعال. وعلى هذا القول الذي بدأت به قول الله عز وجل: " تقاتلونهم أم يسلمون " ، أي: يقع أحد هذين. فأما الخاصة في الفعل فأن تقع على معنى: إلا أن، وحتى، وذلك قولك: الزمه أو يقضيك حقك، واضربه أو يستقيم. وفي قراءة أبيٍّ: " تقاتلونهم أو يسلموا " ، أي: إلا أن يسلموا، وحتى يسلموا. وهذا تفسيرٌ مستقصًى في بابه إن شاء الله.
هذا باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام


وذلك قولك - إذا قال القائل: رأيت زيدا عند عمرو - : أو هو ممن يجالسه؟ استفهمت على حد ما كنت تعطف. كأن قائلاً قال: وهو ممن يجالسه، فقال: أو هذا كذا؟ وهذه الألف لتمكنها تدخل على الواو، وليس كذا سائر حروف الاستفهام، إنما الواو تدخل عليهن في قولك: وهل هو عندك؟ فتكون الواو قبل هل. وتقول: وكيف صنعت؟ ومتى تخرج؟ وأين عبد الله؟ وكذلك جميعها إلا الألف. ولا تدخل الواو على أم، ولا أم عليها، لأن أم للعطف والواو للعطف. ونظير هذه الواو، والفاء، وسائر حروف العطف قول الله عز وجل: " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون " " أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحًى وهم يلعبون " . فالواو هاهنا بمنزلة الفاء في قولك: " أفأمنوا مكر الله " . وإنما مجاز هذه الآيات - والله أعلم - إيجاب الشيء. والتقدير كما شرحت لك أولاً. وهذه الواو، وواو العطف مجازهما واحد في الإعراب. وتكون في الاستفهام والتقرير كما ذكرنا في الألف، وللتعجب، وللإنكار. فأما الاستفهام المحض فنحو قولك: إذا قال الرجل: رأيت زيدا فتقول: أوَيوصل إليه، فأنت مسترشد أو منكر ما قال؟ فيقول: أوَأدركته؟ تستبعد ذلك. فأما التعجب والإنكار فقول المشركين " أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون " . والتقرير ما ذكرت لك في الآيات في الفاء والواو في قوله عز وجل: " أو أمن أهل القرى " .
هذا باب
ما يجري وما لا يجري
بتفصيل أبوابه وشرح معانيه واختلاف الأسماء، وما الأصل فيها.
اعلم أن التنوين في الأصل للأسماء كلها علامةٌ فاصلةٌ بينها وبين غيرها، وأنه ليس للسائل أن يسأل: لم انصرف الاسم؟ فإنما المسألة عما لم ينصرف: ما المانع له من الصرف؟ وما الذي أزاله من منهاج ما هو اسمٌ مثله؛ إذ كانا في الاسمية سواءً؟ ونفسر ذلك بجميع معانيه إن شاء الله.
اعلم أن كل ما لا ينصرف مضارعٌ به الفعل، وإنما تأويل قولنا: لا ينصرف، أي: لا يدخله خفض ولا تنوين؛ لأن الأفعال لا تخفض ولا تنون، فلما أشبهها جرى مجراها في ذلك. وشبهه بما يكون في اللفظ، ويكون في المعنى، بأي ذين أشبهها وجب أن يترك صرفه؛ كما أنه ما أشبه الحروف التي جاءت لمعنى من الأسماء فمتروك إعرابه؛ إذ كانت الحروف لا إعراب فيها وهو الذي يسميه النحويون: المبني.
فمما لا ينصرف: كل اسم في أوله زيادة من زوائد الأفعال يكون بها على مثال الفعل، فمن ذلك أكلب، وأحمد، وإثمد، وإصبع؛ لأن ما كان من هذا على أفعَل فهو بمنزلة: أذهب، وأعلم، وما كان منها على أفعِل فهو بمنزلة: أضرب، وأجلس، وما كان منها على مثال إثمد فهو بمنزلة اضرب في الأمر، وكل ما لم نذكر في هذا الباب فعلى هذا منهاجه. فمن ذلك تنصب، وتتفل؛ لأنهما على مثال تقعد، وتقتل. وسنفسر ما يلحق هذه الحروف زوائد وما يكون من نفس الحرف إن شاء الله.
هذا باب
أفعل
اعلم أن ما كان من أفعل نعتاً فغير منصرف في معرفة ولا نكرة، وذلك: أحمر، وأخضر، وأسود. وإنما امتنع هذا الضرب من الصرف في النكرة؛ لأنه أشبه الفعل من وجهين: أحدهما أنه على وزنه. والثاني: أنه نعت؛ كما أن الفعل نعت. ألا ترى أنك تقول: مررت برجلٍ يقوم. ومع هذا أن النعت تابع للمنعوت كاتباع الفعل الاسم. فإن كان اسماً انصرف في النكرة؛ لأن شبهه بالفعل من جهة واحدة، وذلك نحو: أفكل، وأحمد، تقول: مررت بأحمد، وأحمدٍ آخر. فإن قال القائل: ما بال أحمد مخالفاً لأحمر؟ قيل من قبل أن أحمد، وما كان مثله لا يكون نعتاً إلا أن يكون معه من كذا فإن ألحقت به من كذا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة؛ لأنه قد صار نعتاً كأحمر. وذلك قولك: مررت برجل أحمد من عبد الله، وأكرم من زيد. وكل ما سميت به من الأفعال لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة، نحو: يزيد، ويشكر، ويضرب، ونحوه لو كان اسماً، تقول: مررت بيزيد، ويزيدٍ آخر. فإن قال قائل: ما باله انصرف في النكرة، وهو فعل في الأصل، وقد ذكرت أن ما لا ينصرف إنما امتنع بشبهه بالفعل، وأحمر وما كان مثله لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وهي أسماءٌ؟.


قيل له: إن أحمر أشبه الفعل وهو نكرة، فلما سميت به كان على تلك الحال، فلما رددته إلى النكرة رددته إلى حال قد كان فيها لا ينصرف؛ فلذلك خالفه. هذا قول النحويين، ولست أراه كما قالوا. أرى إذا سمي بأحمر، وما أشبهه، ثم نكر أن ينصرف؛ لأنه امتنع من الصرف في النكرة؛ لأنه نعت، فإذا سمي به فقد أزيل عنه باب النعت، فصار بمنزلة أفعل الذي لا يكون نعتاً، وهذا قول أبي الحسن الأخفش، ولا أراه يجوز في القياس غيره. وكل ما لا ينصرف إذا أدخلت فيه ألفاً ولاماً، أو أضفته انخفض في موضع الخفض؛ لأنها أسماءٌ امتنعت من التنوين والخفض؛ لشبهها بالأفعال، فلما أضيفت وأدخل عليها الألف واللام باينت الأفعال، وذهب شبهها بها؛ إذ دخل فيها ما لا يكون في الفعل، فرجعت إلى الاسمية الخالصة، وذلك قولك: مررت بالأحمر يا فتى، ومررت بأسودكم.
هذا باب
ما يسمى به من الأفعال
وما كان على وزنها
اعلم أنك إذا سميت رجلاً بشيءٍ من الفعل ليست في أوله زيادة، وله مثال في الأسماء، فهو منصرف في المعرفة، والنكرة. فمن ذلك: ضرب، وما كان مثله، وكذلك: علم، وكرم، وبابهما؛ لأن ضرب على مثال: جمل، وحجر، وعلم على مثال: فخذ، وكرم على مثال: رجل، وعضد. وكذلك ما كثر عدته، وكان فيه هذا الشرط الذي ذكرنا. فمن ذلك: دحرج؛ لأن مثاله: جعفر، وحوقل؛ لأن مثاله كوثر، والملحق بالأصل بمنزلة الأصلي. فإن سميت بفعل لم تسم فاعله: لم تصرفه؛ لأنه على مثالٍ ليست عليه الأسماء، ونحو ذلك: ضرب، ودحرج، وبوطر، إلا أن يكون معتلاً أو مدغماً؛ فإنه إن كان كذلك خرج إلى باب الأسماء، وذلك نحو: قيل، وبيع، ورد، وما كان مثلها؛ لأن رد بمنزلة: كرٍّ، وبرد، ونحوهما، وقيل بمنزلة فيلٍ، وديك. وكذلك إن سميت بمثل قطع، وكسر لم ينصرف في المعرفة؛ لأن الأسماء لا تكون على فعل. فإن قلت: قد جاء مثل بقم، فإنه أعجميٌّ. وليست الأسماء الأعجمية بأصول، إنما داخلة على العربية. فأما قولهم: خضم للعنبر بن عمرو بن تميم فإنما هو لقب لكثرة أكلهم. وخضم بعد إنما هو فعل. ولو سميت رجلاً ضارب، أو ضارب من قولهم: ضارب زيدا إذا أمرته انصرف؛ لأن ضارب بمنزلة ضاربٍ الذي هو اسم، وضارب بمنزلة خاتم، فعلى هذا يجري ما ينصرف وما لا ينصرف.
فأما ما كان فيه زيادةٌ من زوائد الأفعال الأربع: الهمزة، والياء، والتاء، والنون، كان بها على مثال الفعل فقد قلنا فيه، وسنقول في شرحه، وما يحكم عليه منها بالزيادة، وإن لم يكن له فعل، وما يحكم بأنه أصليٌّ حتى يتبين. أما ما كانت الهمزة في أوله، والياء فحكمه أن تكونا فيه زائدتين إذا كانت حروفه الثلاثة أصلية؛ لأنك لم تشتق من هذا شيئاً إلا أوضح لك أنهما فيه زائدتان، فحكمت بما شاهدت منه على ما غاب عنك. وذلك نحو: أفكل، وأيدع، ويرمع؛ لأنك لم ترها في مثل أحمر، وأصفر، وأخضر، ولا يكون له فعل إلا زائدة، وكذلك الياء؛ لأنك لم ترها في مثل اليعملة وما كان نحوها إلا زائدة؛ لأن أحمر من الحمرة، وكذلك أخضر، واسود، ويعملة من العمل.
فأما أولق فإن فيه حرفين من حروف الزيادة: الهمزة والواو، فعند ذلك تحتاج إلى اشتقاق؛ ليعلم أيهما الزائدة. تقول فيه: ألق الرجل فهو مألوق، فقد وضح لك أن الهمزة أصل والواو زائدة؛ لأن الهمزة في موضع الفاء من الفعل؛ فقد وضح لك أنها فوعل. وكذلك أيصر؛ لأن فيه ياءً، وهمزة. فكلاهما من الحروف الزوائد، فجمعه على إصار؛ فقد بان لك أن أيصر فيعل. قال الأعشى:
فهذا يعد لهن الخلى ... ويجمع ذا بينهن الإصارا


فأما النون والتاء، فيحكم بأن كل واحد منهما أصل حتى يجيء أمرٌ يبين زيادتها. فمن ذلك قولك: نهشل، ونهسر الذئب. يدلك على أصليهما أنك تقول: نهشلت المرأة ونهشل الرجل: إذا أسنا، وقد وضح لك أنه بمنزلة دحرج؛ لأن النون أصلية. وكذلك توأم إنما هو فوعل من أتأمت المرأة كما تقول: أكرمت. فأما تتفل، ونرجس فقد وضح لك أن فيهما زائدتين؛ لأنهما على مثال لا تكون الأسماء عليه. ألا ترى أنه ليس في الأسماء مثل جعفر، ولا جعفر؛ فقد وضح لك أن تتفلا مثل تقتل فلو سميت به رجلاً لم تصرفه. وكذلك نرجس بمنزلة نضرب. فهذا حكمه. فأما من قال: تتفل فإنه يصرف إن سمي به؛ وذلك لأنه على مثال لا يكون الفعل عليه ليس في الأفعال تفعل. ألا ترى أن الزيادة لا تمنع الصرف من الأسماء إلا ما كان منها على وزن الأفعال. فما كان في أوله زيادة ليس هو بها على وزن الأفعال فهو مصروف، وذلك نحو:يربوع، وتعضوض، وطريق أسلوب؛ لأن الأفعال لا تكون عليه، وكذلك إسكاف، وفيما قلنا دليلٌ على ما يرد عليك إن شاء الله.
هذا باب
ما ينصرف وما لا ينصرف
مما سميت به مذكراً من الأسماء الغربية
اعلم أن كل ما لا ينصرف من مذكر أو مؤنث، عربي أو أعجمي، قلت حروفه أو كثرت في المعرفة فإنه ينصرف في النكرة، إلا خمسة أشياء فإنها لا تنصرف في معرفة، ولا نكرة فمنها: ما كان من أفعل صفةً، نحو: أخضر، وأحمر. وما كان من فعلان الذي له فعلى؛ نحو: سكران، وسكرى، وعطشان، وعطشى، وغضبان وغضبى، وسنذكر علته في موضعه إن شاء الله. وما كان فيه ألف التأنيث مقصوراً كان أو ممدوداً. فالمقصور؛ نحو: سكرى وغضبى. والممدود؛ نحو: حمراء، وصفراء، وصحراء. وما كان من الجمع على مثال لا يكون عليه الواحد؛ نحو: مساجد، وقناديل، ورسائل. وما كان معدولاً في حال النكرة؛ نحو: مثنى، وثلاث، ورباع. فإذا سميت مذكراً باسم عربي فهو مصروف إلا أن يمنعه أحد هذه الموانع التي وصفت، أو ما أذكره لك مما يوجب ترك الصرف في المعرفة، إلا المعدول فإن له حكماً آخر إذا سمي به نذكره إن شاء الله. فمن ذلك أن تسميه بمؤنث فيها هاء التأنيث فإنه لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة. وإنما منعه من الصرف في المعرفة علم التأنيث الذي فيه، وذلك نحو رجل سميته حمدة، أو طلحة أو نحو ذلك. وقد تقدم قولنا: إن كل ما كان فيه الهاء مؤنثاً كان أو مذكراً. عربياً كان أو أعجمياً لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة. فإن قال قائل: ما باله ينصرف في النكرة وما كانت فيه ألف التأنيث لا ينصرف في معرفة، ولا نكرة؟. قيل: إن الفصل بينهما أن ما كان فيه الهاء فإنما لحقته وبناؤه بناء المذكر؛ نحو قولك: جالسٌ؛ كما تقول: جالسة، وقائم ثم تقول: قائمة. فإنما تخرج إلى التأنيث من التذكير، والأصل التذكير. وما كانت فيه الألف فإنما هو موضوع للتأنيث على غير تذكير خرج منه فامتنع من الصرف في الموضعين؛ لبعده من الأصل. ألا ترى أن حمراء على غير بناء أحمر، وكذلك عطشى على غير بناء عطشان.
وما كان مؤنثاً لا علامة فيه سميت به مذكراً، وعدد حروفه ثلاثة أحرف فإنه ينصرف إذا لم تكن فيه هاء التأنيث، تحركت حروفه أو سكن ثانيها. وذلك نحو: دعد، وشمس، وقدم، وقفاً فيمن أنثها. إن سميت بشيءٍ من هذا رجلاً انصرف. وكذلك كل مذكر سوى الرجل. فإن كان على أربعة أحرف فصاعداً ومعناه التأنيث لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة. وذلك نحو رجل سميته عقرباً أو عناقا أو عقاباً فإنه ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة. وإنما انصرف في الثلاثة لخفته؛ لأن الثلاثة أقل أصول الأسماء. وكذلك إن كان الاسم أعجمياً.
ألا ترى أن نوحاً، ولوطاً مصروفان في كتاب الله - تبارك وتعالى - وهما اسمان أعجميان، وأن قارون، وفرعون غير مصروفين للعجمة، وكذلك إسحق، ويعقوب، ونحوهما، ونذكر هذا في باب الأعجمية إن شاء الله. فأما صالح وشعيب، فاسمان عربيان، وكذلك محمد صلى الله عليهم أجمعين. فكل ما اشتققته، فرأيت له فعلاً، أو كانت عليه دلالة بأنه عربي، ولم يمنعه من الصرف تأنيث، ولا عجمة، ولا زيادةٌ من زوائد الفعل تكون بها على مثاله، ولا أن يكون عل مثال الأفعال، ولا عدل فهو مصروف في المعرفة، والنكرة.
هذا باب
ما كان من أسماء المذكر
أو سمي به ما هو على ثلاثة أحرف


اعلم أن جميع ذلك منصرف إلا ما استثنيناه مما فيه هاء التأنيث؛ نحو: شاة، وشية. أو تكون فيه زائدة يكون بها على مثال الفعل؛ نحو: يضع، ويزن. أو يكون معدولاً؛ نحو: عمر، وزفر. أو يكون على مثالٍ لا يكون إلا للأفعال نحو: ضرب، وقتل. فأما غير ذلك فمصروف.
هذا باب
ما كان من هذه الأسماء على مثال فُعَل
وإنما ذكرناه لنبين المعدول منه من غيره. فأما ما كان منه نكرة، ويعرف بالألف واللام فهو مصروف، واحداً كان أو جمعاً. فالواحد؛ نحو: صرد، ونغرٍ، وجعلٍ، ينصرف في المعرفة والنكرة والجمع، نحو: ثقب، وحفر، وعمر: إذا أردت جمع عمرة، وكذلك إن كان نعتاً نحو: سكع، وختع، وحطم كما قال:
قد لفها الليل بسواقٍ حطم
ولبد وهو الكثير من قول الله عز وجل: " أهلكت مالاً لبداً " . فأما ما كان منه لم يقع إلا معرفة؛ نحو: عمر، وقثم، ولكع، فإنه غير مصروف في المعرفة؛ لأنه الموضع الذي عدل فيه. ألا ترى أنك لا تقول: هذا القثم، ولا هذا العمر؛ كما تقول: هذا الجعل، وهذا النغر.
هذا باب
ما كان من فُعِل
اعلم أنه ما كان على فعل غير معتلٍ لم يكن إلا فعلاً، وكذلك كل بناءٍ من الفعل معناه فعل إذا كان غير معتل؛ نحو: دحرج، واستخرج، وضورب. فإن سميت من هذا رجلاً لم تصرفه في المعرفة؛ لأنه مثال لا يكون للأسماء، وإنما هو فيها مدخل. فإن كان من ذوات الواو والياء، أو مما يلزمه الإدغام، فكان ذلك مخرجاً له إلى مثال الأسماء، انصرف في المعرفة، لأن المانع له قد فارقه، وذلك قولك: قد قيل، وبيع، ورد، وشد إذا أردت مثل فعل؛ لأنه قد خرج إلى مثال فيل، وديك؛ كما خرج المدغم إلى مثال البر، والكر. وإن كان على مثال: أطيع، وأستطيع، وقوول لم ينصرف في المعرفة، وكذلك: احمور في هذا المكان، لأنه لم يخرج إلى مثال من أمثلة الأسماء. فهذا جملة هذا.
هذا باب
ما اشتق للمذكر من الفعل
فمن ذلك ما كان اسماً للفاعل؛ نحو: مجاهد، مقاتل، وضارب، ومكرم، ومستطيع، ومدحرج، فكل هذا منصرف؛ لأنه لا مانع له من الصرف، وكذلك إن كان مفعولاً، نحو: مخرج، ومضروب، ومستطاع؛ لأنها أسماءٌ مشتقة. وما كان من الأعجمية معرباً فهذا سبيله. والمعرب منها ما كان نكرة في بابه؛ لأنك تعرفه بالألف واللام، فإذا كان كذلك كان حكمه حكم العربية. لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنعها. فمن ذلك: راقود، وجاموس، وفرند؛ لأنك تعرفه بالألف واللام. فإذا كان معرفة في كلام العجم فغير منصرف لامتناعه بالتعريف الذي فيه من إدخال الحروف العربية عليه. وذلك نحو: إسحق، ويعقوب، وفرعون، وقارون؛ لأنك لا تقول: الفرعون ولو سميته بيعقوب - تعنى ذكر القبج - لانصرف؛ لأنه عربي على مثال يربوع. والزوائد التي في أوله لا تمنعه من الصرف؛ لأنها لا تبلغ به مثال الفعل؛ لأن الفعل لا يكون على يفعول. وكذلك إسحاق إذا أردت به المصدر من قولك: أسحقه الله إسحاقاً، وتعرق هذا من ذاك بأن إسحق ويعقوب الأعجميين على غير هذه الحروف، وإنما لاءمت هذه الحروف العرب. ونظير إسحق في القصد إلى العربي والعجمي ما قلت لك في عمر من أنك إذا أردت به جمع عمرة صرفته. وإن أردت به المعدول عن عامر امتنع من الصرف. وإن كان الأعجمي قد أعرب ولم يكن على مثال الأسماء المنصرفة ولا غيرها، صرف وصار كعربيٍّ لا ثاني له؛ لأنه إذا أعرب فهو كالعربية الأصلية. فمن ذلك آجر مصروف لدخوله في التعريف؛ إذ كان نكرة. فهو بمنزلة عربي منفرد ببنائه نحو: إبل، وإطل، وصعفوق. فأما بقم فلا ينصرف في المعرفة وإن كان قد أعرب؛ لأنه قد وقع من أمثلة العرب على ما لا يكون إلا فعلاً، نحو: ضرب، وقطع فمنعه الصرف ما منع ضرب لو سميت به رجلاً. وكذلك سراويل لا ينصرف عند النحويين في معرفة ولا نكرة؛ لأنها وقعت على مثال من العربية لا يدخله الصرف، نحو: قناديل، ودهاليز. فكانت لما دخلها الإعراب كالعربية. فهذا جملة القول في الأعجمي الواقع على الجنس، والمخصوص به الواحد للعلامة.
هذا باب
الجمع المزيد فيه وغير المزيد


أما ما كان من الجمع على مثال مفاعل، ومفاعيل؛ نحو: مصاحف، ومحاريب، وما كان على هذا الوزن؛ نحو: فعالل، وفواعل، وأفاعل، وأفاعيل وكل ما كان مما لم نذكره على سكون هذا وحركته وعدده، فغير منصرف في معرفة ولا نكرة. وإنما امتنع من الصرف فيهما؛ لأنه على مثال لا يكون عليه الواحد، والواحد هو الأصل، فلما باينه هذه المباينة، وتباعد هذا التباعد في النكرة، امتنع من الصرف فيها، وإذا امتنع من الصرف فيها فهو من الصرف في المعرفة أبعد، ويدلك على ذلك قول الله عز وجل: " من محاريب وتماثيل " وقوله: " لهدمت صوامع وبيع وصلواتٌ ومساجد " . كل هذا هذه علته. فإن لحقته الهاء للتأنيث انصرف في النكرة على ما وصفت لك في الهاء أولاً؛ لأن كل ما كانت فيه فمصروف في النكرة، وممتنع من الصرف في المعرفة؛ لأن الهاء علم تأنيث، فقد خرجت بما كان من هذا الجمع إلى باب طلحة، وحمدة؛ وذلك نحو: صياقلة، وبطارقة. فإن قال قائل: فما باله انصرف في النكرة، وقد كان قبل الهاء لا ينصرف فيها؟ فالجواب في ذلك: أنه قد خرج إلى مثال يكون للواحد. ألا ترى أنك تقول: رجل عباقية، وحمار حزابية، فالهاء أخرجته إلى هذا المثال؛ كما أن ياءي النسب يخرجانه إلى باب تميمي، وقيسي. وذلك قولك: مدائني ونحوه، ينصرف في المعرفة والنكرة؛ ألا ترى أن مدائنياً إنما هو للواحد، فبالياء خرج إليه؛ كما أخرجته الهاء إلا أن ما كانت فيه الهاء لا ينصرف من أجل التأنيث، وما كانت فيه ياء النسب فمصروف في المعرفة، والنكرة. فأما سراري، وبخاتي، وكراسي فغير مصروف في معرفة ولا نكرة؛ لأن الياء ليست للنسب، وإنما هي الياء التي كانت في الواحد في بختية وكرسي. فأما قولك: حوالي، وحواري فهو حال، وحوار، فنسب إليه، فإنما على هذا تعتبر ما وصفت لك. فأما قولهم: رباع، ويمان فنذكره في باب: ما اعتل من هذا الجمع إن شاء الله.
فأما ما كان من الجمع على مثال أفعال، وفعول، نحو: أجمال، وفلوس فمنصرف في المعرفة والنكرة، لأنه على مثال يكون للواحد. وهو جمعٌ مضارع للواحد؛ لأنه لأدنى العدد. أعني أفعالاً. وفعول وإن كان لأكثر العدد فمضارعته للواحد؛ لأنه يجمع كما يجمع الواحد. فأما أفعال فما يكون منه على مثال الواحد قولهم: برمة أعشار وحبل أرمام، وأقطاع، وثوب أكياش: متمزق، ويجمع كما يجمع الواحد وذلك قولك: أنعام وأناعيم، وأعراب وأعاريب. وما كان على فعول للواحد فقولك: سدوس للطيلسان الأخضر. وما يكون من هذا مصدراً أكثر من أن يحصى؛ نحو: قعدت قعوداً، وجلست جلوساً، وسكت سكوتاً. ويجمع كما يجمع الواحد تقول: بيوت وبيوتات. فهما ينصرفان في المعرفة والنكرة على كل حال: أعني أفعالاً، وفعولاً إلا أن تسمي بهما مؤنثاً فيمنعهما التأنيث الصرف؛ لأن كل مؤنث، على ثلاثة أحرف متحركات غير منصرف، وكلما زاد في عدد الحروف كان ذلك أوكد لترك صرفه، ولهذا موضع نذكره قيه إن شاء الله.
وأما ما كان من الجمع على مثال أفعل نحو: أكلب وأكعب، فغير منصرف في المعرفة؛ وإنما منعه الصرف أنه على مثال الفعل؛ نحو: أعبد، وأقتل، وينصرفان في النكرة كما ذكرت لك فيما يكون على مثال الفعل. وما كان من الجمع على مثال فعلان، وفعلان؛ نحو: قطبان وظلمان، فغير منصرف في المعرفة لزيادة الألف والنون، وخروجه إلى باب عثمان وسرحان، وينصرفان في النكرة؛ لأن الممتنع من الصرف في المعرفة والنكرة من هذا الباب فعلان الذي له فعلى على ما ذكرت لك؛ نحو: غضبان، وسكران. كما أن الممتنع من باب ما كان على مثال أفعل من أن يصرف في المعرفة والنكرة، فأفعل الذي هو نعت؛ نحو: أحمر، وأصفر. وما كان من الجمع على مثال فعال فمصروف، وذلك نحو: كعاب، وكلاب؛ لأنه بمنزلة الواحد نحو: حمار، وكتاب. وفي هذه الجملة دلالةٌ على كل ما يرد عليك من الجمع إن شاء الله.
هذا باب
ما كان من جمع المؤنث بالألف والتاء


فهذا الجمع في المؤنث نظير ما كان بالواو والنون في المذكر؛ لأنك فيه تسلم بناء الواحد كتسليمك إياه في التثنية. والتاء دليل التأنيث، والضمة علم الرفع، واستوى خفضه ونصبه، كما استوى ذلك في مسلمين. والتنوين في مسلماتٍ عوضٌ من النون في قولك: مسلمين. فإن سميت بمسلمات رجلاً أو امرأة لحقه التنوين؛ لأنه عوض فلذلك كان لازماً. وعلى ذلك قوله عز وجل: " فإذا أفضتم من عرفات " وعرفات معرفة؛ لأنه اسم موضع بعينه. هذا في قول من قال: هؤلاء مسلمون، ومررت بمسلمين يا فتى، وكل ما كان على وزن المسلمين فالوجه فيه أن يجري هذا المجرى وإن لم يكن في الأصل جمعاً؛ كما أن كرسياً وبختياً كالمنسوب وإن لم يكن فيه معنى نسب إلى حيٍّ، ولا إلى أرضٍ، ولا غير ذلك. فمن ذلك عشرون، وثلاثون. قال الله عز وجل: " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين " . وما أدراك ما عليون. وتقول على هذا: قنسرون، ومررت بقنسرين، وهذه يبرون، ومررت بيبرين. ومن لم يقل هذا، وقال: قنسرين كما ترى، وجعل الإعراب في النون، وقال: هذه سنونٌ فاعلم، فإنه يفعل مثل هذا بالمؤنث إذا كان واحداً، ويجيزه في الجمع؛ كما تقول: هؤلاء مسلمينٌ فاعلم، كما قال الشاعر:
وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين
وقال الآخر:
إني أبيَّ أبي ذو محافظةٍ ... وابن أبيٍّ أبي من أبيين
وقال الله عز وجل: " فيما كان واحدا " : " ولا طعامٌ إلا من غسلينٍ " فمن رأى هذا قال: هذه عرفات مباركاً فيها، وعلى هذا ينشد هذا البيت:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عالي
وقال الآخر:
تخيرها أخو عانات دهرا
والوجه المختار في الجمع ما بدأت به. وأما الواحد؛ نحو: غسلين، وعليين، فالوجهان مقولان معتدلان.
هذا باب
ما لحقته ألف ونون زائدتان
أما ما كان من ذلك على فعلان الذي له فعلى فقد تقدم قولنا فيه أنه غير مصروف في معرفة ولا نكرة. وإنما امتنع من ذلك؛ لأن النون اللاحقة بعد الألف بمنزلة الألف اللاحقة بعد الألف للتأنيث في قولك: حمراء وصفراء. والدليل على ذلك أن الوزن واحد في السكون، والحركة، وعدد الحروف، والزيادة. وأن النون، والألف تبدل كل واحدة منهما من صاحبتها. فأما بدل النون من الألف فقولك في صنعاء، وبهراء: صنعاني، وبهراني. وأما بدل الألف منها فقولك - إذا أردت ضربت زيداً فوقفت - قلت: ضربت زيدا، وفي قولك: اضربن زيدا ولنسفعاً بالناصية إذا وقفت قلت: اضربا زيدا، ولنسفعا، وزعم الخليل أن الدليل على ذلك: أن كل مؤنث تلحقه علامة التأنيث بعد التذكير فإنما تلحقه على لفظه إلا ما كان مضارعاً لتأنيث أو بدلاً في أن علامة التأنيث لا تلحقه على لفظه؛ لأنه لا يدخل تأنيث على تأنيث، وكذلك لا يدخل على ما كان بمنزلته. ألا ترى أنك لا تقول: حمراءة ولا صفراءة. فكذلك لا تقول: غضبانة، ولا سكرانة، وإنما تقول: غضبى، وسكرى. فإن كان فعلان ليس له فعلى، أو كان على غير هذا الوزن مما الألف والنون فيه زائدتان، انصرف في النكرة، ولم ينصرف في المعرفة؛ نحو: عثمان، وعريان، وسرحان. وإنما امتنع من الصرف في المعرفة للزيادة التي في آخره؛ لأنها كالزيادة التي في آخر سكران وانصرف في النكرة؛ لأنه ليست مؤنثة فعلى؛ لأنك تقول: في مؤنثة: عريانة، وخمصانة، فقد وجبت فيه حقيقة التذكير فمنزلة هذا من باب غضبان كمنزلة أفكل من باب أحمر، وكمنزلة حبنطى من باب حبلى وسكرى. وسنذكرها بعقب هذا الباب إن شاء الله. فأما حسان، وسمان، وتبان، فأنت في هذه الأسماء مخير: إن أخذت ذلك من السمن، والتبن، والحسن، فإنما وزنها فعال. وإن أخذت حسان من الحس، وسمان من السم، وتبان من التب، لم تصرفه في المعرفة لزيادة الألف والنون، وصرفته في النكرة. فأما فينان فالنون فيه أصل بمنزلة الدال من حماد، وذلك منصرف في المعرفة والنكرة؛ لأن معناه: كثير الفنون، كأفنان الشجر، فهو منصرف على كل حال، وتقديره من الفعل فيعال على وزن بيطار. وكذلك مران لأنه فعال، ومعناه: المرانة، أي: اللين. فعلى هذا تصريف ما ينصرف وما لا ينصرف من هذا الباب. فأما ما كانت نونه زائدةً وليست فيها ألف فمنصرف في المعرفة والنكرة؛ لأنه لا يشبه فعلان فعلى المنقلبة نونه من ألفه. فمن ذلك: رعشنٌ إنما هو من الارتعاش قال:


من كل رعشاء وناجٍ رعشن
وكذلك سرحان لو صغرته فقلت سريحين لصرفت سريحيناً في المعرفة والنكرة، وما كان مثله نحو تصغيرك سلطانا، وضبعانا إذا قلت: سليطين، وضبيعين. وكذلك ضيفن النون زائدة؛ لأنه الذي يجيء مع الضيف، فتقدره: فعلن.
هذا باب
ما كانت آخره ألف مقصورةٌ للتأنيث وللإلحاق
أما ما كانت ألفه للتأنيث؛ نحو: حبلى، وسكرى فقد تقدم قولنا فيه أنه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وأما ما كانت الألف فيه زائدة للإلحاق فمصروف في النكرة؛ لأنه ملحق بالأصول، وممنوع من الصرف في المعرفة؛ لأن ألفه زائدة كزيادة ما كان للتأنيث، فموضعه من حبلى وأخواتها كموضع أفكلٍ من أحمر وكموضع عثمان من عطشان. فمن ذلك حبنطًى إنما هو من حبط بطنه، فالنون والألف زائدتان؛ لتبلغ بهما بناء سفرجل، وعلى هذا تقول للمرأة: حبنطاةٌ، ولو كانت الألف للتأنيث لم تدخل عليها الهاء؛ لأنه لا يدخل تأنيثٌ على تأنيثٍ. وكذلك أرطًى ملحق بجعفر، ووزنه فعلًى ملحق بفعلل، وعلى ذلك تقول في الواحدة: أرطاة. ومثله معزًى ملحق بهجرع، ودرهم. فأما ما كان مثل ذفرى، وتترى الذي يكون فيه الأمران: الإلحاق والتأنيث، وما كان من بابه فسنذكره في موضعه إن شاء الله.
هذا باب
ما كان من أفعل نعتاً يصلح فيه التأويلان جميعاً
فمن ذلك أجدل، وأخيل؛ الأجود فيهما أن يكونا اسمين؛ لأن الأجدل إنما يدل على الصقر بعينه، والأخيل أيضاً: اسم طائر. فإذا قال قائل: إن أجدل إنما هو مأخوذ من الجدل وهي شدة الخلق، وأخيل إنما هو أفعل مأخوذ من الخيلان، وكذلك أفعى إنما هو أفعل مأخوذ من النكادة. قيل له فإنه كذلك، وإلى هذا كان يجب من يراه نعتا: ولا يصرفه في معرفة ولا نكرة، وليس بأجود القولين، أجودهما أن تكون أسماءً منصرفة في النكرة؛ لأنها - وإن كان أصلها ما ذكرنا - فإنما تدل على ذات شيءٍ بعينه. ألا ترى أن أجدل لا يدل إلا على الصقر، تقول: أجدلٌ بمنزلة قولنا: صفر. وكذلك أفعى لا يدل إلا على هذا الضرب من الحيات. ومثل ذلك أخيل؛ لأنه يدل على طائرٍ بعينه. وهو الذي يلزم عندي في أبغث لطائر. فأما الأسود - إذا عنيت الحية، والأدهم - إذا أردت القيد، والأرقم - إذا عنيت الحية - فنعوتٌ غير منصرفة في معرفة ولا نكرة؛ لأنها تحلية لكل ما نعت بها غير دالةً على لونٍ بعينه.
فأما أول فهو يكون على ضربين: يكون اسماً، ويكون نعتاً موصولاً به من كذا. وأما كونه نعتاً فقوله: هذا رجلً أول منك، وجاءني هذا أول من مجيئك، وجئتك أول من أمس.
وأما كونه اسماً فقوله: ما تركت له أولاً ولا آخراً كما تقول: ما تركت له قديماً ولا حديثاً. وعلى أي الوجهين سميت به رجلاً انصرف في النكرة؛ لأنه على باب الأسماء بمنزلة أفكل، وعلى باب النعوت بمنزلة أحمر. فأما أرمل فإنه اسمٌ نعت به. والدليل على ذلك أن مؤنثه على لفظه. تقول للمرأة: أرملة، ولو كان نعتاً في الأصل لكان مؤنثه فعلاء؛ كما تقول: أحمر، وحمراء. فقولهم: أرملة دليل على أنه اسم. وكذلك أربعٌ إنما هو اسمٌ للعدد وإن نعت به في قولك: هؤلاء نسوةٌ أربعٌ. لا اختلاف في ذلك. وإنما جاز أن يقع نعتاً وأصله الاسم؛ لأن معناه: معدودات؛ كما تقول: مررت برجل أسدٍ؛ لأن معناه: شديد. فإن قال قائل: فالرجل ليس بأسد ولكن معناه: مثل أسد، والأربع حقيقة عدد. قيل: إنما يخرج هذا وشبهه على تأويل الفعل وصحته إذا جاز في التمثيل، ومثل الشيء غيره؛ إذا كان المثل مضافاً إليه ولكنه الأول الذي هو نعته. فالشيء الذي يخرج على أنه الأول على غير حذف أجود.
إلا ترى أن قولك: زيد أسد معناه مثل أسد، فقد حذفت المثل وأنت تريده. ولولا تقديرك المثل لم يكن كلاماً. وقولك:جواريك أربعٌ حقيقة على غير حذف، ولكن لما أردت النعت قدرت تقدير الفعل؛ لأن النعت تحلية؛ ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجلٍ مثلك، فإنما أردت مشبه لك، ولولا ذلك لم يكن نعتاً. وكان الأخفش لا يصرف أرمل، ويزعم أنه نعت في الأصل، وله احتجاج نذكره في موضعه إن شاء الله. وليس على هذا القول أحد النحويين علمناه.


فأما أجمع وأكتع، فمعرفة ولا يكون إلا نعتاً. فإن سميت بواحدٍ منهما رجلاً صرفته في النكرة. والفصل بينه وبين أحمر وجميع بابه، أن أحمر كان نعتاً وهو نكرة، فلما سميت به ازداد ثقلاً، وأجمع لم يكن نكرة، إنما هو نكرة ونعت، فإذا سميت به صرفته في النكرة لأنك لست ترده إلى حال كان فيها لا ينصرف.
فأما أولق، وأيصر فإن في كل واحدٍ منهما حرفين من حروف الزيادة، ففي أولق الهمزة والواو، فلا بد من الاشتقاق حتى يعلم أيهما الأصل؟ فنظرت إلى أولق فإذا الفعل منه ألق الرجل فهو مألوق: إذا أصابه لممٌ من الجنون، فعلمنا أن الهمزة أصل، وأن الواو زائدة؛ فتقديره: فوعل مثل كوثر، فهو مصروف في المعرفة والنكرة. وكذلك أيصر يجمع على فعال فيقال في جمعه: إصار، فتثبت الهمزة، وتسقط الياء. كما قال الأعشى:
فهذا يعد لهن الخلى ... وينقل ذا بينهن الإصارا
هذا باب
تسمية الواحد مؤنثاً كان أو مذكراً بأسماء الجمع
قد تقدم قولنا في جمع التكسير إنه بمنزلة الواحد. يمنعه من الصرف ما يمنع الواحد، فإذا نقلت منه شيئاً، فسميت به مذكراً فهو على تلك الحال، وذلك أنك إن سميت مذكراً أنمارا، أو كلابا انصرف؛ كما ذكرت لك في أفعال؛ لأن هذا المثال ينصرف في المعرفة والنكرة. فإن سميته أكلب، وأكعب لم ينصرف في المعرفة لزيادة الهمزة في أوله؛ لأنها على مثال أعبد، وأقتل. وينصرف هذا المثال في النكرة؛ لأنه ليس بنعت، وإنما الممتنع من الصرف من هذا المثال في النكرة أفعل الذي يكون نعتاً؛ لأنه لا يقع شيءٌ مما على وزن الأفعال نعتاً إلا ما كان على أفعل. فإن سميته بغلمان لم ينصرف وكان كسرحان الذي هو واحد. فإن سميته بقضبان فحاله كحال عثمان في الامتناع من الصرف في المعرفة، وأنه ينصرف في النكرة لأنه ليس شيءٌ من هذا المثال يكون له فعلى إلا ما كان على فعلان الذي هو في السكون والحركة، والزيادتين على مثال حمراء. فهذا يجمع هذا الضرب من الجمع.
فأما ما كانت فيه هاء التأنيث، جمعاً كان أو واحداً، نحو: طلحة، ونسابة، وأجربة، وصياقلة فقد أجملنا القول فيه أنه لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، واحداً كان أو جمعاً، قليل العدد كان أو كثيراً، عربياً كان أو أعجمياً. فإن سميت رجلاً بمساجد، وقناديل فإن النحويين أجمعين لا يصرفون ذلك في معرفة ولا نكرة؛ ويجعلون حاله وهو اسمٌ لواحد كحاله في الجمع. وعلى هذا لم يصرفوا سراويل وإن كانت قد أعربت؛ لأنها وقعت في كلام العرب على مثال ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة.
فأما العجمة فقد زالت عنها بأنها قد أعربت، إلا أبا الحسن الأخفش فإنه كان إذا سمى بشيءٍ من هذا رجلاً أو امرأة صرفه في النكرة، فهذا عندي هو القياس، وكان يقول إذا منعه من الصرف أنه مثال لا يقع عليه الواحد، فلما نقلته فسميت به الواحد خرج من ذلك المانع. وكان يقول: الدليل على ذلك ما يقول النحويون في مدائنيّ وبابه أنه مصروف في المعرفة والنكرة. وصياقلة أنه مصروف في النكرة ممتنع بالهاء من الصرف في المعرفة؛ لأنهما قد خرجا إلى مثال الواحد. قيل له: فلم لم تصرف مساجد إذا كان اسم الرجل في المعرفة. فقال: إن بناءه قد بلغ به مثال ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهو عنده في هذا المثال بمنزلة الملحق بالألف مما فيه ألف التأنيث، ومنزلة أفكلٍ وبابه. من أحمر وبابه، وبمنزلة عثمان وسرحان، من باب غضبان وسكران. فأما سراويل فكان يقول فيها: العرب يجعلها بعضهم واحداً، فهي عنده مصروفة في النكرة على هذا المذهب. ومن العرب من يراها جمعاً واحدها سروالة: وينشدون:
عليه من اللؤم سروالةٌ
فمن رآها جمعاً يقال له: إنما هي اسمٌ لشيءٍ واحد، فيقول: جعلوه أجزاءً؛ كما تقول: دخاريص القميص والواحد دخرصة فعلى هذا كان يرى أنها بمنزلة قناديل؛ لأنها جمع لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ولكن إن سمى بها صرفها في النكرة كما وصفت لك في غيرها.


واعلم أن كل جمعٍ ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه جارٍ على سنة الواحد وإن عنيت به جمع الشيء؛ لأنه جنس. من أنثه فليس إلى الاسم يقصد، ولكنه يؤنثها على معناه؛ كما قال عز وجل: " تنزع الناس كأنهم أعجاز نخلٍ منقعرٍ " ؛ لأن النخل جنس. وقال: " فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ " ؛ لأنه جمع نخلة فهو على المعنى جماعة. ألا ترى أن القوم اسمٌ مذكر! وقال عز وجل: " كذبت قبلهم قوم نوحٍ " لأن التقدير - والله أعلم - : إنما هو جماعة قوم نوح. وذلك الجمع؛ نحو: حصاة، وحصًى، وقناة وقنًى، وشعيرة وشعير، وكل ما كان مثل هذا فهذا مجازه.
ومن الجمع ما يكون اسماً للجمع، ولا واحد له من لفظه، فمجاز ذلك أن يكون مؤنثاً كالواحد الذي يعنى به الشيء المؤنث، إلا ما كان لجماعة الآدميين، وذلك نحو: غنم، وإبل فإنك تقول في تصغيره: غنيمة، وأبيلة، كما تقول في تصغير دار: دويرة، وتصغير هند: هنيدة. وأما ما كان من الآدميين من ذلك فنحو: رهط، ونفر وقوم، لا تقول في تصغير شيءٍ من ذلك إلا كما تقول في تصغير الواحد المذكر: قويم، ورهيط، ونفير. فإن سميت بشيءٍ من جميع هذا المؤنث الذي ليس فيه علامة تأنيث، ولا مانع مما ذكرت رجلاً فهو مصروف في المعرفة والنكرة، وذلك نحو: عنوق: جمع عناق. وكذلك كل ما كان جمعه لمذكر أو مؤنث، ولم يمنعه من الصرف ما يمنع الواحد فهو مصروف إذا سميت به مذكراً. فإن قال قائل: فكيف انصرف في المعرفة وأصله التأنيث؟ فإنما ذلك لأن تأنيثه ليس بحقيقي، إنما قلت: هي الجمال، وهي الرجال على معنى هي جماعة الرجال، وجماعة الجمال.
ألا ترى أن المؤنث والمذكر يخرجان إلى اسم واحد، فتقول: هي أنيق، كما تقول هي الجمال فمانما تريد بها جميعاً: جماعة. فأما الواحد فتأنيثه وتذكيره واقعان له. والتأنيث، والتذكير في الواحد على ضربين: أحدهما: حقيقة، والآخر: لفظ، فهما في ترك الصرف سواءٌ، لأن الصرف إنما هو للفظ، وليسا في الإخبار عنهما سواءً. فأما الحقيقي فما كان في الرجل والمرأة، وجميع الحيوان؛ لأنك لو سميت رجلاً طلحة لخبرت عنه كما يخبر إذا كان اسمه مذكراً. ولو سميت امرأة، أو غيرها من إناث الحيوان باسمٍ مذكر لخبرت عنها كما تخبر عنها واسمها مؤنث. وذلك نحو امرأةً سميتها جعفرا فتقول: جاءتني جعفر؛ كما تقول: جاءتني حمدة، ولا يجوز أن تقول: جاءني؛ لأن التأنيث حقيقة، كما لا يجوز أن تقول: جاءتني طلحة وأنت تعني رجلاً. والتأنيث الثاني، والتذكير نحو قولك: يوم، وليلة، وبلدة، ودار ومنزل، فليس في هذا أكثر من اللفظ. فلو قلت: قصر ليلتك، وعمر دارك لجاز؛ لأن الدار والمنزل شيءٌ واحد. ليس في الدار حقيقة تصرفها عن ذلك، وكذلك البلد والبلدة. قال الله عز وجل: " من جاءه موعظةٌ من ربه " وقال: " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " . وقال في تأنيث الجمع: " وقالت نسوةٌ في المدينة " ؛ لأن الإخبار ليس عن واحد. فإن قال: قام جواريك صلح، ولو قال: قام جاريتك لم يجز، وكذلك لا يجوز: قام مسلماتك، وجاراتك ولكن قامت؛ لأن هذا جمعٌ حقيقيٌّ. لا يغير الواحد عن بنائه إلا أن يضطر شاعر كما قال:
لقد ولد الأخيطل أم سوءٍ
ولو قال في الشعر: قام جاريتك لصلح، وليس بحسن حتى تذكر بينهما كلاماً، فتقول: قام يوم كذا وكذا جاريتك، ولا يجوز مثل هذا عندنا في الكلام. وهذا الجمع إنما هو على حد التثنية. فالألف والتاء في المؤنث كالواو والنون في المذكر.
هذا باب تسمية المؤنث


اعلم أن كل أنثى سميتها باسمٍ على ثلاثة أحرف فما زاد فغير مصروف، كانت فيه علامة التأنيث أم لم تكن، مذكراً كان الاسم أو مؤنثاً، وذلك نحو امرأة سميتها قدما أو قمرا أو فخذا أو رجلا. فإن سميتها بثلاثة أحرف أوسطها ساكن، فكان ذلك الاسم مؤنثاً أو مستعملاً للتأنيث خاصةً، فإن شئت صرفته، وإن شئت لم تصرفه إذا لم يكن في ذلك الاسم علم التأنيث نحو: شاة، فإن ذلك قد تقدم قولنا فيه. وذلك نحو امرأةً سميتها بشمس أو قدم، فهذه الأسماء المؤنثة. وأما المستعملة للتأنيث فنحو: جمل، ودعد، وهند. فأنت في جميع هذا بالخيار، وترك الصرف أقيس. فأما من صرف فقال: رأيت دعدا، وجاءتني هندٌ، فيقول: خفت هذه الأسماء لأنها على أقل الأصول، فكان ما فيها من الخفة معادلاً ثقل التأنيث. ومن لم يصرف قال: المانع من الصرف لما كثر عدته؛ نحو: عقرب وعناق، موجود فيما قل عدده؛ كما كان فيه علامة تأنيث في الكثير العدد والقليله سواءً.
فإن سميت مؤنثاً باسم على هذا المثال أعجميٍّ، فإنه لا اختلاف فيه أنه لا ينصرف في المعرفة. وذلك نحو امرأةً سميتها بخش، أو بدل، أو بجاز؛ لأنه جمع مع التأنيث عجمة، فاجتمع فيه مانعان.
فإن سميت مؤنثاً بمذكر على هذا الوزن عربيٍّ فإن فيه اختلافاً: فأما سيبويه والخليل والأخفش والمازني، فيرون أن صرفه لا يجوز؛ لأنه أخرج من بابه إلى باب يثقل صرفه، فكان بمنزلة المعدول. وذلك نحو امرأة سميتها زيدا أو عمرا. ويحتجون بأن مصر غير مصروفة في القرآن؛ لأن اسمها مذكر عنيت به البلدة. وذلك قوله عز وجل: " أليس لي ملك مصر " فأما قوله عز وجل: " اهبطوا مصراً " . فليس بحجةٍ عليه؛ لأنه مصرٌ من الأمصار، وليس مصر بعينها، هكذا جاء في التفسير، والله أعلم.
وأما عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب، وأبو عمر الجرمي وأحسبه قول أبي عمرو ابن العلاء فإنهم كانوا إذا سموا مؤنثاً بمذكر على ما ذكرنا رأوا صرفه جائزاً، ويقولون: نحن نجيز صرف المؤنث إذا سميناه بمؤنث على ما ذكرنا. وإنما أخرجناه من ثقلٍ إلى ثقل، فالذي إحدى حالتيه حال خفة أحق بالصرف؛ كما أن لو سمينا رجلاً، أو غيره من المذكر باسم مؤنث على ثلاثة أحرف ليس له مانع لم يكن إلا الصرف. وذلك أنك لو سميت رجلاً قدما أو فخذا أو عضدا، لم يكن فيه إلا الصرف، لخفة التذكير. وكذلك لو سميته باسم أعجميٍّ على ثلاثة أحرف متحركات جمع، أو ساكنة الحرف الأوسط لكان مصروفاً. لا يجوز إلا ذلك؛ لأن الثلاثة أقل الأصول، والتذكير أخف الأبواب. فكل مذكر بثلاثة أحرف فمصروف إلا أن تكون فيه هاء التأنيث؛ نحو: شاة، وثبة فقد قلنا في الهاء، أو تكون فيه زيادة فعل نحو: يعد، ويضع، أو يكون من المعدول: كعمر، وقثم، أو يكون على ما لا تكون عليه الأسماء؛ نحو: ضرب، وقتل، وقد تقدم قولنا في هذا. فأما ما كان من المذكر المسمى باسم مؤنث على أربعة أحرف فصاعداً، أو بأعجمي على هذه العدة فغير منصرف في المعرفة؛ وذلك لأنه إنما انصرف فيما كان من المؤنث على ثلاثة أحرف مما ذكرت لك؛ لأنها الغاية في قلة العدد، فلما خرج عن ذلك الحد منعه ثقل المؤنث من الانصراف. والأعجمي المذكر يجري مجرى العربي المؤنث في جميع ما صرف فيه.
ألا ترى أن نوحا ولوطا اسمان أعجميان وهما مصروفان في كتاب الله عز وجل! فأما قوله عز وجل: " وعاداً وثمود وأصحاب الرس " وقوله: " ألا إن ثمود كفروا ربهم " " وإلى ثمود أخاهم صالحاً " فإن ثمود اسم عربيٌّ، وإنما هو فعول من الثمد، فمن جعله اسماً لأب أوحىٍّ صرفه، ومن جعله اسماً لقبيلة أو جماعة لم يصرفه. ومكانهم من العرب معروف؛ فلذل كان لهم هذا الاسم. وعلى ذلك اسم صالح. فأما الأسماء المشتقة غير المغيرة فهي تبين لك عن أنفسها. واعلم أن الشاعر إذا اضطر صرف ما لا ينصرف. جاز له ذلك؛ لأنه إنما يرد الأسماء إلى أصولها. وإن اضطر إلى ترك صرف ما ينصرف لم يجز له ذلك؛ وذلك لأن الضرورة لا تجوز اللحن، وإنما يجوز فيها أن ترد الشيء إلى ما كان له قبل دخول العلة، نحو قولك في رادٍّ إذا اضطررت إليه: هذا رادد؛ لأنه فاعل في وزن ضارب، فلحقه الإدغام، كما قال:
مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي ... إني أجود لأقوامٍ وإن ضننوا
لأن ضن إنما هو ضنن، فلحقه الإدغام وذلك قوله:
يشكو الوجى من أظللٍ وأظلل
وعلى هذا قال الشاعر:


فلتأتينك قصائدٌ وليركبن ... جيشٌ إليك قوادم الأكوار
ونحو ذلك. ألا ترى أنه ما كان من ذوات الياء فإن الرفع والخفض لا يدخلانه؛ نحو: هذا قاضٍ فاعلم، ومررت بقاضٍ، فلما احتاج إليه الشاعر رده إلى أصله فقال:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب
وقال الشاعر مثله:
فيوماً يجارين الهوى غير ماضيٍ ... ويوماً ترى منهن غولٌ تغول
فعلى هذا إجراء ما لا يجري لما وصفت لك.
هذا باب تسمية السور والبلدان أما قولك: هذه هودٌ، وهذه نوحٌ، فأنت مخير: إن أردت هذه سورة نوح، وهذه سورة هود، فحذفت سورة على مثال ما حذف من قوله عز وجل: " واسأل القرية " فمصروف. تقول: هذه هودٌ، وهذه نوحٌ. وإن جعلت واحداً منهما اسماً للسورة لم تصرفه في قول من رأى ألا يصرف زيدا إذا كان اسماً لامرأة. هذا في هود خاصةً. وأما نوح فإنه اسمٌ أعجميٌّ لا ينصرف إذا كان اسماً لمؤنث، كما ذكرت لك قبل هذا. فأما يونس، وإبراهيم فغير مصروفين، للسورة جعلتهما أو للرجلين؛ للعجمة. ويدلك على ذلك أنك إذا قلت: هذه يونس أنك تريد: هذه سورة يونس، فحذفت؛ كما أنك تقول: هذه الرحمن.
وأما حاميم فإنه اسمٌ اعجميٌّ لا ينصرف، للسورة جعلته أو للحرف؛ ولا يقع مثله في أمثلة العرب. لا يكون اسم على فاعيل. فإنما تقديره تقدير: هابيل. وكذلك طس، ويس فيمن جعلهما اسماً؛ كما قال لما جعله اسماً للسورة:
يذكرني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آيةً ... تأولها منا تقيٌّ ومعرب
وأما فواتح السور فعلى الوقف؛ لأنها حروفٌ مقطعة؛ فعلى هذا تقول: آلم ذلك و " حم والكتاب " لأن حق الحروف في التهجي التقطيع؛ كما قال:
أقبلت من عند زيادٍ كالخرف ... تخط رجلاي بخطٍّ مختلف
تكتبان في الطريف لامَ الِف
فهذا مجاز الحروف. فأما نون في قولك: قرأت نوناً يا فتى، فأنت مخير: إن أردت سورة نون، وجعلته اسماً للسورة جاز فيه الصرف فيمن صرف هندا، وتدع ذلك في قول من لم يصرفها. وكذلك صاد، وقاف. وهذه الأسماء التي على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن إنما هي بمنزلة امرأة سميتها دارا.
فأما البلاد فإنما تأنيثها على أسمائها، وتذكيرها على ذلك؛ تقول: هذا بلد، وهذه بلدة، وليس بتأنيث الحقيقة، وتذكيره كالرجل والمرأة. فكل ما عنيت به من هذا بلداً، ولم يمنعه من الصرف ما يمنع الرجل فاصرفه. وكل ما عنيت به من هذا بلدة منعه من الصرف وما يمنع المرأة، وصرفه ما يصرف اسم المؤنث على أن منها ما يغلب عليه أحد المذهبين والوجه الآخر فيه جائزٌ، والأصل ما ذكرت لك. وذلك نحو: فلج، وحجر، وقباء، وحراء. فأما المدينة، والبصرة، والكوفة، ومكة، فحرف التأنيث يمنعها. وأما بغداد ونحوها، فالعجمة تمنعها. وعمان، ودمشق فالأكثر فيهما التأنيث؛ يراد البلدتان والتذكير جائز، يراد: البلدان. كما أن واسطاً الأغلب عليه التذكير؛ لأنه اسم مكان وسط البصرة والكوفة، فإنما هو نعتٌ سمي به، ومن أراد البلدة لم يصرفها؛ وجعلها كامرأة سميت ضارباً. ألا ترى أنه لما جعل حراء اسماً لبقعة لم يصرفه وقال:
ستعلم أينا خيرٌ قديماً ... وأعظمنا ببطن حراء نارا
فأصل هذا ما تقصد به إليه. ألا ترى أنه يقول:
من كان ذا شكٍّ فهذا فلج ... ماءٌ رواءٌ، وطريقٌ نهج
فقال: فهذا، ولم يقل فهذه؛ لأنه أراد بلداً.
هذا باب أسماء الأحياء والقبائل فمجاز هذا مجاز ما ذكرنا قبل في البلدان. تقول: هذه تميمٌ، وهذه أسدٌ، إذا أردت هذه قبيلة تميم، أو جماعة تميم، فتصرف؛ لأنك تقصد قصد تميم نفسه. وكذلك لو قلت: أنا أحب تميما، أو أنت تهجو أسدا. إذا أردت ما ذكرنا، أو جعلت كل واحدٍ منهما اسماً للحي. فإن جعلت شيئاً من ذلك اسماً للقبيلة لم تصرفه على ما ذكرنا قبل. تقول: هذه تميم فاعلم، وهذه عامر قد أقبلت. وعلى هذا تقول: هذه تميم بنة مرٍّ، وإنما تريد القبيلة، كما قال:
لولا فوارس تغلب بنة وائلٍ ... نزل العدو عليك كل مكان


وكما قال الله عز وجل: " كذبت قوم نوحٍ المرسلين " ؛ لأن المعنى: الجماعة، وعلى هذا " كذبت عادٌ " و " كذبت ثمود بالنذر " ؛ لأنه عنى القبيلة والجماعة.
فأما ما كان من هذا اسماً لا يقع عليه بنو كذا، فإن التذكير فيه على وجهين: على أن تقصد قصد الحي، أو تعمد للأب الذي سمي به القبيل، وذلك نحو: قريش، وثقيف. تقول: جاء قريشٌ يا فتى، إنما تريد: حي قريش، وجماعة قريش. فهي بمنزلة ما قبلها إلا فيما ذكرنا من أنك لا تقول: بنو قريش؛ كما تقول: بنو تميم؛ لأنه اسم للجماعة وإن كانوا إنما سموا بذلك لرجلٍ منهم. وقد اختلف الناس في هذه التسمية لأي معنًى وقعت؟ إلا أن الثبت عندنا أنها إنما وقعت لقصي بن كلاب ولذلك قال اللهبي:
وبنا سميت قريشٌ قريشا
وثقيف كذلك إنما هو تلقيب القبيلة أو الحي، المقصود في ذلك أبوها قسي بن منبه ابن بكر بن هوازن. ومن جعل هذه الأسماء واقعة على قبائل أو جماعات، لم يصرفه، كما قال:
غلب المساميح الوليد سماحةً ... وكفى قريشا المعضلات وسادها
جعله اسماً للقبيلة؛ كما قال الأعشى:
ولسنا إذا عد الحصى بأقلة ... وإن معد اليوم مودٍ ذليلها
جعل معد اسماً للقبيلة يدلك على ذلك قوله: مودٍ ذليلها. على أنه قد يجوز أن يقول مودٍ ذليلها، لو أراد أبا القبيلة لأنه يريد: جماعة معدٍّ، ولكن ترك الصرف قد أعلمك أنه يريد القبيلة، وأن ذليلها على ذلك جاء. فإذا قلت: ولد كلابٌ كذا، وولد تميمٌ كذا، فالتذكير والصرف لا غير؛ لأنك الآن إنما تقصد الآباء. وأما قوله:
بكى الخز من عوفٍ وأنكر جلده ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف
فإنه جعله اسماً للقبيلة.
وأما قولك: هذه رقاش يا فتى على مذهب بني تميم، وهذه رقاش في قول أهل الحجاز، فلهذا موضع سنبينه في عقب هذا الباب إن شاء الله. ورقاش امرأة، وأبو القبيل عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. وكذلك سلول، وسدوس فليس من هذا مصروفاً إلا في النكرة، وإنما ذلك بمنزلة باهلة، وخندف وإن كان في باهلة علامة التأنيث.
هذا باب تسمية الرجال والنساء بأسماء السور والأحياء والبلدان اعلم أنك إذا سميت رجلاً باسم شيءٍ من ذلك على ثلاثة أحرف ليس فيه مانع مما قدمنا ذكره فهو مصروف وإن وقع في الأصل مؤنثاً، كما ذكرت لك في رجل يسمى هندا أو قدما أو فخذا. فإن سمي بشيءٍ على أربعة أحرف أو أكثر، وكان عربياً مذكراً، فهو مصروف. وإن كان أعجمياً أو مؤنثاً لم ينصرف. وذلك قولك في رجلٍ يسمى حاميم: هذا حاميم مقبلاً؛ لأنه أعجميٌّ على ما وصفت لك. فإن سميته صالحاً أو شعيباً، وذلك الاسم اسمٌ لسورة، انصرف؛ لأنه في الأصل مذكر، وإن علقته على مؤنث فإنما ذلك بمنزلة غزال وسحاب، سميت بواحدٍ منهما امرأة، ثم سميت بذلك الاسم رجلاً فإنما ترده إلى أصله.
وإنما ذكرنا أن هنداً ودعداً وجملا أسماءٌ مؤنثة؛ لأنها وقعت مشتقة للتأنيث، فكانت بمنزلة ما أصله التأنيث إذ كان المؤنث المختص بها. ومن ثم لا يصرف عند أكثر النحويين أسماء بن خارجة؛ لأن أسماء قد اختص به النساء حتى كأن لم بكن جمعاً قط، والأجود فيه الصرف وإن ترك إلى حالته التي كان فيها جمعاً للاسم، وعلى ذلك صرف هؤلاء النحويون ذراعاً اسم رجل؛ لكثرة تسمية الرجال به، وأنه وصف للمذكر في قولك: هذا حائط ذراعٌ، والأجود ألا يصرف اسم رجل؛ لأن الذراع في الأصل مؤنثة.
فإن سميت السورة أو الرجل أو غير ذلك بفعل، أجريته مجرى الأسماء، وذلك أنك تقول إذا أضفت إلى " اقتربت الساعة وانشق القمر " : قرأت سورة إقتربه؛ لأنك إذا سميت بفعل فيه تاء تأنيث صارت في الوقف هاءً؛ لأنك نقلته إلى اسم، فصار آخره كآخر حمدة؛ لأنه في الأصل مدرج بالتاء، والتاء علامة التأنيث، وإنما تبدل منها في الوقف هاءً، وتقطع ألف الوصل؛ كما أنك لو سميت رجلاً بقولك: اضرب في الأمر قطعت الألف حتى تصير كألفات الأسماء فتقول: هذا إضرب قد جاء، فتصيره بمنزلة إثمد. فعلى هذا قلت: هذه سورة إقتربه فإن وصلت قلت: هذه سورة اقتربت الساعة؛ لأنها الآن فعل رفعت بها الساعة، وسميت بهما جميعاً؛ كما أنك لو سميت رجلاً: قام زيدٌ لقلت: هذا قام زيدٌ؛ لأنك سميت بفعل وفاعل. ولهذا موضع نذكره فيه على حدته إن شاء الله.
هذا باب


ما كان من الأسماء المعدولة على فعال اعلم أن الأسماء التي تكون على هذا الوزن على خمسة أضرب: فأربعة منها معدولة، وضرب على وجهه. فذلك الضرب هو ما كان مذكراً، أو مؤنثاً غير مشتقٍّ، ويجمع ذلك أن تكون مما أصله النكرة فأما المذكر فنحو قولك: رباب، وسحاب، وجمال. وأما المؤنث فنحو قولك: عناق، وأتان، وصناع. فما كان من هذا مذكراً فمصروف إذا سميت به رجلاً، أو غيره من المذكر. وما كان منه مؤنثاً فغير مصروف في المعرفة، ومصروف في النكرة، لمذكرٍ كان أو لمؤنث. وأما ما كان معدولاً فمجراه واحدٌ في العدل وإن اختلفت أنواعه. فمن ذلك ما يقع في معنى الفعل نحو قولك: حذار يا فتى، ونظار يا فتى، ومعناه: احذر، وانظر. فهذا نوع. ومنه ما يقع في موضع المصدر نحو قولك: الخيل تعدو بداد يا فتى ومعناه: بدادا، ومثله: لا مساس يا فتى، أي: لا مماسة. فهذا نوع ثان. وتكون صفة غالبة حالة محل الاسم؛ كتسميتهم المنية حلاق يا فتى فهذا نوعٌ ثالث. والنوع الرابع ما كان معدولاً للنساء؛ نحو: حذام وقطام، إلا أن جملة هذا أنه لا يكون شيء من هذه الأنواع الأربعة إلا مؤنثة معرفة. فأما ما لم يكن كذلك فغير داخل في هذا الباب. ونحن بادئون في تفسيره نوعاً نوعاً. أما ما كان في معنى الأمر فإنما كان حقه أن يكون موقوفاً؛ لأنه معدول عن مصدر فعل موقوف موضوع في موضعه، فإنما مجازه مجاز المصدر، إلا أنها المصادر التي يؤمر بها؛ نحو: ضرباً زيدا؛ كما قال الله عز وجل: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " إلا أن المصدر مقدر مؤنثاً علماً لهذا المعنى وذلك نحو قوله:
تراكها من إبل تراكها
إنما المعنى: اتركها إلا أنه اسم مؤنث موقوف الآخر محرك بالكسر، لالتقاء الساكنين. وحركته الكسر لما أذكره لك إن شاء الله، ومن ذلك قوله:
مناعها من إبل مناعها ... ألا ترى الموت لدى أرباعها
وقال آخر:
حذار من أرماحنا حذار
وقال آخر:
نظار كي أركبه نظار
ويدلك على تأنيثه قول زهير:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر
فقال: دعيت. وقال زيد الخليل:
وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريهٌ كلما دعيت نزال
وأما ما كان اسماً لمصدر غير مأمور به فنحو قوله:
وذكرت من لبن المحلق شربةً ... والخيل تعدو بالصعيد بداد
وقرأ القراء: فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس. فإن قال قائل: ما بالنا لا نجد أكثر المصادر إلا مذكراً. وهذا إنما هو معدول عما لا نجد التأنيث في لفظه. قيل له: قد وجدتم في المصادر مؤنثاً كثيراً، كقولك: أردت إرادة، واستخرت استخارة؛ وقاتلت مقاتلة. وكل مصدر تريد به المرة الواحدة فلا بد من دخول الهاء فيه، نحو: جلست جلسةً واحدةً وركبت ركبةً، وإنما هذا معدول عن مصدر مؤنث كنحو ما ذكرت لك. والدليل على ذلك أن المذكر من المصادر، وغيرها الذي هو على هذا الوزن مصروف متصرف؛ نحو: ذهبت ذهاباً، ولقيته لقاءً، وأنه لما أراد المكسور قال: دعيت نزال. وأما ما كان نعتاً غالباً فمنه قوله:
لحقت حلاق بهم على أكسائهم ... ضرب الرقاب، ولا يهم المغنم
يريد: المنية؛ كما قال مهلهل:
ما أرجي العيش بعد ندامى ... كلهم قد سقوا بكأس حلاق
وإنما هذا نعت غالب نظير قوله:
ونابغة الجعدي بالرمل بيته ... عليه صفيحٌ من تراب منضد
وإنما النابغة نعت في الأصل، ولكنه غلب حتى صار اسماً.
وأما ما كان اسماً علماً نحو: حذام، وقطام، ورقاش، فإن العرب تختلف فيه: فأما أهل الحجاز فيجرونه مجرى ما ذكرنا قبل؛ لأنه مؤنث معدول. وإنما أصله حاذمة، وراقشة، وقاطمة. ففعال في المؤنث نظير فعل في المذكر.


ألا ترى أنك تقول للرجل: يا فسق، يا لكع، وللمرأة: يا فساق، يا لكاع. فلما كان المذكر معدولاً عما ينصرف عدل إلى ما لا ينصرف ولما كان المؤنث معدولاً عما لا ينصرف عدل إلى ما لا يعرب؛ لأنه ليس بعد ما لا ينصرف إذ كان ناقصاً منه التنوين إلا ما ينزع منه الإعراب؛ لأن الحركة والتنوين حق الأسماء، فإذا أذهب العدل التنوين لعلة أذهب الحركة لعلتين. واختير له الكسر؛ لأنه كان معدولاً عما فيه علامة التأنيث، فعدل إلى مافية تلك العلامة؛ لأن الكسر من علامات التأنيث، ألا ترى أنك تقول للمؤنث: إنك فاعلة، وأنت فعلت، وأنت تفعلين؛ لأن الكسرة من نوع الياء؛ فلذلك ألزمته الكسرة. فإن نكرت شيئاً من هذا أعربته وصرفته، فقلت: رأيت قطام، وقطاماً أخرى. ولو سميت به مذكراً أعربته ولم تصرفه؛ لأنك لا تصرف المذكر إذا سميته بمؤنث على أربعة فصاعداً فإنما هو بمنزلة رجل سميته عقرباً، وعناقاً، تقول: هذا حذام قد جاء، وقطام يا فتى، وهذا حذامٌ آخر. وإنما فعلت ذلك؛ لأنه لم يلزم الكسر للتأنيث، ولو كان للتأنيث لكان هذا في عقرب وعناق، ولكنه للمعنى، فإذا نقلته إلى المذكر زال المانع منه، وجرى مجرى مؤنث سميت به مذكراً مما لم يعدل. وأما بنو تميم فلا يكسرون اسم امرأة، ولكنهم يجرونه مجرى غيره من المؤنث؛ لأنهم لا يذهبون به إلى العدل، والدليل على ذلك أنهم إذا أرادوا العدل قالوا: يا فساق أقبلي ويا خباث أقبلي، لأن هذا لا يكون إلا معدولاً.
وما كان في آخره راءٌ من هذا الباب فإن بني تميم يتبعون فيه لغة أهل الحجاز، وذلك أنهم يريدون إجناح الألف، ولا يكون ذلك إلا والراء مكسورة وهذا مبين في باب الإمالة. فتقول للضبع: هذه جعار فاعلم. وإنما جعار نعت غالب، فصار اسماً للضبع، فمن ذلك قوله:
فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امرئٍ لم يشهد اليوم ناصره
ومنهم من يجري الراء مجرى غيرها، ويمضي على قياسه الأول. فمن ذلك قوله:
ومر دهرٌ على وبار ... فهلكت عنوةً وبار
والقوافي مرفوعة. ومن المعدول: أخر، وسحر، وعدلهما مختلف. فأما أخر فلولا العدل انصرفت؛ لأنها جمع أخرى. فإنما هي بمنزلة الظلم، والنقب، والحفر، ومثلها مما هو على وزنها: الكبرى والكبر، والصغرى والصغر. فباب فعلى في الجمع كباب فعلة نحو: الظلمة والظلم، والغرفة والغرف. وإنما استويا في الجمع؛ لاستواء الوزن، وأن آخر كل واحدٍ منهما علامة التأنيث، فإنما عدلت أخر عن الألف واللام من حيث أذكره لك: وذلك أن أفعل الذي معه من كذا وكذا، لا يكون إلا موصولاً بمن، أو تلحقه الألف واللام، نحو قولك: هذا أفضل منك، وهذا الأفضل، وهذه الفضلى، وهذه الأولى، وهذه الكبرى. فتأنيث الأفعل الفعلى من هذا الباب، فكان حدٌّ آخر أن يكون معه من نحو قولك: جاءني زيدٌ ورجل آخر انما كان اصله آخر منه؛ كما تقول: أكبر منه، وأصغر منه. فلما كان لفظ آخر يغني عن من لما فيه من البيان أنه رجلٌ معه. وكذلك: ضربت رجلاً آخر، قد بينت أنه ليس بالأول استغناءً عن من بمعناه. فكان معدولاً عن الألف واللام خارجاً عن بابه، فكان مؤنثه كذلك فقلت: جاءتني امرأة أخرى، ولا يجوز جاءتني امرأة صغرى ولا كبرى، إلا أن يقول: الصغرى أو الكبرى، أو تقول: أصغر منك أو أكبر، فلما جمعناها فقلنا: أخر كانت معدولة عن الألف واللام؛ فذلك الذي منعها الصرف. قال الله عز وجل: " وأخر متشابهاتٌ " وقال: " فعدةٌ من أيامٍ أخر " . فإن سميت به رجلاً فهي منصرفة في قول الأخفش ومن قال به. لأنه يصرف أحمر إذا كان نكرة اسم رجل؛ لأنه قد زال عنه الوصف، وكان هذا قد زال عنه العدل، وصار بمنزلة أصغر لو يسمى به رجلاً.
وسيبويه يرى أنه على عدله ولكل مذهبٌ قويٌّ يطول الكلام بشرحه، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله.


فأما سحر فإنه معدول - إذا أردت به يومك - عن الألف واللام؛ فإن أردت سحراً من الأسحار صرفته لأنه غير معدول. ألا ترى أنك تقول: جاءني زيد ليلةً سحراً. وقمت مرةً سحراً، وكل سحرٍ طيب، فهذا منصرف فتقول إذا أردت تعريفه: هذا السحر خيرٌ لك من أول الليل، وجئتك في أعلى السحر وعلى هذا قوله عز وجل: " إلا آل لوطٍ نجيناهم بسحرٍ " . فأما في يومك فإنه غلب عليه التعريف بغير إضافة؛ كما غلب ابن الزبير على واحد من بنيه، وكما غلب الوصف في قولك: النابغة فصار كالاسم اللازم، فلما كان ذلك امتنع من الصرف؛ كما امتنع أخر فقلت: سير عليه سحر يا فتى، ولم يكن متمكناً فترفعه، وتجريه مجرى الأسماء؛ كما تقول: سير عليه يوم الجمعة، وسير عليه يومان، فامتنع من التصرف؛ كما امتنع من الصرف. فإن عنيت الذي هو نكرة صرفته وصرفته. وإن صغرت هذا الذي هو معرفة صرفته؛ لأن فعيلا لا يكون معدولاً، وصار كتصغير عمر؛ لأنه قد خرج من باب العدل، ولكنك لا تصرفه في الرفع، فتقول: سير عليه سحير يا فتى إذا عنيت المعرفة. ولم ينصرف إذا كان مكبراً معدولاً. فإن سميت به رجلاً فلا اختلاف في صرفه. فيقال لسيبويه: ما بالك صرفت هذا اسم رجل، ولم تفعل مثل ذلك في باب أخر؟ فمن حجة من يحتج عنه أن يقول: إن أخر على وزن المعدول، وعدل في باب النكرة، فلما امتنع في النكرة كان في المعرفة أولى. وأما أنا فلا أرى الأمر فيهما إلا واحداً، ينصرفان جميعاً إذا كانا لمذكر، وترجع أخر إذا فارقه العدل إلى باب صرد ونغر.
فأما غدوة فليست من هذا الباب؛ لأنها بنيت اسماً للوقت علماً على خلاف بنائها وهي نكرة. تقول: هذه غداةٌ طيبة، وجئتك غداة يوم الأحد. فإن أردت الوقت بعينه قلت: جئتك اليوم غدوة يا فتى، فهي ترفع وتنصب، ولا تصرف لأنها معرفة.
فأما بكرة ففيها قولان: قال قوم: نصرفها. لأنا إذا أردنا بها يوماً بعينه فهي نكرة؛ لأن لفظها في هذا اليوم وفي غيره واحد. وقال قوم: لا نصرفها؛ لأنها في معنى غدوة؛ كما أنك تجري كلهم مجرى أجمعين فتجريه على المضمر وإن كان كلهم قد يكون اسماً وإن لم يكن جيداً نحو قولك: رأيت كلهم، ومررت بكلهم. ولكن لما أشبهتها في العموم، وأجريت مجراها على المضمر، فقلت: إن قومك في الدار كلهم، كما تقول: أجمعون: وكما فتحت يذر وليس فيها حرف من حروف الحلق؛ لأنها في معنى يدع. وكلا القولين مذهب، والقائل فيها مخير، أعني في جعل بكرة إذا أردت يومك، نكرة إن شئت، ومعرفة إن شئت.
ومن المعدول قولهم: مثنى، وثلاث، ورباع، وكذلك ما بعده. وإن شئت جعلت مكان مثنى ثناء يا فتى حتى يكون على وزن رباع وثلاث. وكذلك أحاد، وإن شئت قلت: موحد؛ كما قلت مثنى. قال الله عز وجل: " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " وقال عز وجل: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " . قال الشاعر:
منت لك أن تلاقيني المنايا ... أحاد أحاد في شهر حلال
وقال الآخر:
ولكنما أهلي بوادٍ أنيسه ... ذئابٌ تبغى الناس مثنى وموحد
وتأويل العدل في هذا: أنه أراد واحداً واحداً، واثنين اثنين. ألا تراه يقول: " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " والعدل يوجب التكثير؛ كما أن يا فسق مبالغة في قولك: يا فاسق وكذلك يا لكع، ويا لكاع.
وأما قولهم: الثلاثاء والأربعاء يريدون: الثالث والرابع، فليس بمعدول؛ لأن المعنى واحد، وليس فيه تكثير، ولكنه مشتق بمعنى اليوم كالعديل والعدل، والعديل: ما كان من الناس، والعدل: ما كان من غير ذلك، والمعنى في المعادلة سواء. ألا ترى أن الخميس مصروف فهذان دليلان، وكذلك لزوم الألف واللام لهذه الأيام؛ كما يلزم النجم، والدبران؛ لأنهما معرفة. وقد أبان ذلك الأحد والاثنان؛ لأنه على وجهه. وقد فسرت لك باب العدل لتتناول القياس من قرب، وتميز بعضه من بعض إن شاء الله. ونظير العدل والعديل قولهم: امرأة ثقال، ورزان. وتقول لما ثقل وزنه: ثقيل، ورزين. إنما تريد في المرأة أنها متوقرة لازمة لموضعها؛ فعلى هذا بناؤه إن شاء الله.
هذا باب
الأمثلة التي يمثل بها أوزان الأسماء والأفعال


تقول: كل أفعلٍ في الكلام يكون نعتاً فغير مصروف، وإن كان اسماً انصرف. فإن قال قائل: لم قلت، كل أفعلٍ يكون وصفاً لا ينصرف، وأنت قد صرفت أفعلا هذه التي ذكرت أنها تكون وصفاً؟ قيل له: أفعل ليس وصفاً في الكلام مستعملاً وإنما هو مثال يمثل به. فإنما قلت: إذا كان هذا المثال وصفاً لم ينصرف، ولو كان هذا شيئاً قد علم وصفاً لم تصرفه، ولم تقل: إذا كان وصفاً، ولكن تقول: لأنه وصف؛ كما تقول: كل آدمٍ في الكلام لا ينصرف؛ لأن آدم نعت مفهوم وعلى هذا تقول: كل أفعل في الكلام تريد به الفعل فهو مفتوح؛ لأن أفعلا مثال، وليس بفعل معروف، وموقعه بعد كل وهو مفرد يدلك على أنه اسم. ولكن لو قلت: كل أفعل زيدٌ مفتوح، لم يكن إلا هكذا؛ لأنك قد رفعت به زيدا، فأخلصته فعلا، ووقعت كل عليه؛ لأنه عامل ومعمول فيه، فهو حكاية. ونظير ذلك قولك: هذا رجل أفعل فاعلم؛ فلا تصرف أفعل؛ لأنك وضعته موضع النعت؛ كما وضعت الأول موضع الفعل. هذا قول الخليل وسيبويه.
وكان المازني يقول: هذا رجلٌ أفعلٌ، فيصرف أفعلاً هذا، ويقول: لأنه ليس بنعت معلوم. وأما أفعل زيدٌ فيجعله فعلا؛ لأنه قد رفع زيداً به، وهو مذهب. وقول الخليل وسيبويه أقوى عندنا. فإذا قلت أفعل إذا كان نعتاً لم ينصرف أفعل لأنه معرفة وإنما بدأت به لذلك. فكأنك قلت: هذا البناء إذا كان نعتاً. وتقول: كل فعلانٍ له فعلى لا ينصرف وإن لم تكن له فعلى فمصروف. وإنما صرفت فعلانا هاهنا؛ لأنه ليس بشيءٍ معروف له فعلى والقول فيه القول في الأول وعلى ذلك تقول: فعلان إذا كانت له فعلى لم ينصرف، فلا تصرف فعلان لأنه معرفة؛ كما قلنا فيما قبله. وتقول: كل فعنلًى في الكلام فاصرفه؛ لأن هذا مثال ما ينصرف في النكرة. وكل لا يقع بعدها إلا نكرة، وإنما هو مثال حبنطًى، وسرندًى، وسبندًى، ونحوه. وتقول: كل فعلى في الكلام، وفعلى فلا ينصرف؛ لأن الألف للتأنيث، وإن شئت قلت: كل فعلًى في الكلام وفعلًى يا فتى، فتصرفه، لأن هذا المثال للإلحاق يكون وللتأنيث. وإنما تمنعه ألفه لا معناه، فإن قدرتهما تقدير الملحق انصرفتا، وكانت كمعزًى، وأرطًى. فإن قدرتهما تقدير التأنيث كانتا كدفلى، وتترى تكون للأمرين جميعاً، والأجود التأنيث وتقول: كل فعلى في الكلام لا ينصرف لأن هذا المثال لا يكون إلا للتأنيث وهو باب حبلى، وبهمى. وكذلك كل فعلاء في الكلام لا ينصرف، هذا المثال لا يكون إلا للتأنيث نحو: حمراء، وصحراء. وتقول: كل فعلاء، وفعلاء فمصروف لأنه مثال لا يكون إلا ملحقاً مصروفاً في المعرفة والنكرة. وذلك نحو علباء، وحرباء. وأما فعلاء فنحو قولك: قوباء فاعلم: لأنه ملحق بفسطاط؛ كما أن علباءً ملحق بسرداح. فهذا يبين لك جميع هذه الأمثلة إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق