الأحد، 3 مارس 2013

1. الكتاب سيبويه الجزء الثاني

الكتاب : الكتاب
المؤلف : أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، سيبويه (المتوفى : 180هـ)

الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
؟هذا باب مجرى نعت المعرفة عليها


فالمعرفةُ خمسة أشياء: الأسماء التي هي أعلامٌ خاصةً، والمضاف الى المعرفة، إذا لم ترد معنى التنوين، والألف واللامُ، والأسماء المبهمة، والإضمارُ. فأما العلامة المختصة فنحو زَيدٍ وعَمرٍو، وعبدِ الله، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفةً لأنه اسمٌ وقع عليه يُعرف به بعينه دون سائر أمته.
وأما المضاف الى معرفة فنحو قولك: هذا أخوك، ومررتُ بأبيك، وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفةً بالكاف التي أضيف إليها، لأن الكاف يراد بها الشيء بعينه دون سائر أمّته.
وأما الألف واللام فنحو الرجل والفرس والبعير وما أشبه ذلك. وإنما صار معرفة لأنك أردت بالألف واللام الشيء بعينه دون سائر أمته، لأنك قلت: مررتُ برجلٍ، فإنك إنما زعمت أنك إنما مررت بواحدٍ ممن يقع عليه هذا الاسمُ، لا تريد رجلاً بعينه يعرفه المخاطَب. وإذا أدخلتَ الألف واللام فإنما تُذكّره رجلاً قد عرَفه، فتقول: الرجل الذي من أمره كذا وكذا؛ ليتوهّم الذي كان عهدَه ما تذكّر من أمره.
وأما الأسماء المبهمة فنحو هذا وهذه، وهذان وهاتان، وهؤلاء، وذلك وتلك، وذانك وتانك، وأولئك، وما أشبه ذلك. وإنما صارت معرفةً لأنها صارت أسماء إشارة الى الشيء دون سائر أمّته.
وأما الإضمار فنحو: هو، وإياه، وأنتَ، وأنا، ونحن، وأنتم، وأنتنّ، وهنّ، وهم، وهي، والتاء التي في فعَلتُ وفعلَتْ وفعلْتِ، وما زِيدَ على التاء نحو قولك: فعلتما وفعلتم وفعلتنّ، والواو التي في فعلُوا، والنون والألف اللتان في فعلْنا في الاثنين والجميع، والنون في فعلْنَ، والإضمار الذي ليست له علامة ظاهرة نحو: قد فعل ذلك، والألف التي في فعَلا، والكاف والهاء في رأيتُكَ ورأيته، وما زيدَ عليهما نحو: رأيتكما ورأيتكم، ورأيتهما، ورأيتهم، ورأيتكنّ ورأيتهنّ، والياء في رأيتُني، والألف والنون اللتان في رأيتَنا وغُلامُنا، والكاف والهاء اللتان في بكَ وبه وبها، وما زيد عليهنّ نحو قولك: بكما وبكم وبكنّ وبهما وبهم وبهنّ، والياء في غلامي وبي.
وإنما صار الإضمار معرفة لأنك إنما تضمِر اسماً بعد ما تعلم أن مَنْ يحدَّث قد عرف مَن تعني وما تعني، وأنك تريد شيئاً يعلمه.
واعلم أن المعرفة لا توصَف إلا بمعرفة، كما أن النكرة لا توصَف إلا بنكرة.
واعلم أن العَلَم الخاص من الأسماء يوصَف بثلاثة أشياء: بالمضاف الى مثله، وبالألف واللام، وبالأسماء المبهمة.
فأما المضاف فنحو: مررتُ بزيدٍ أخيك. والألف واللام نحو قولك: مررت بزيد الطويل، وما أشبه هذا من الإضافة والألف واللام. وأما المبهمة فنحو: مررتُ بزيد هذا وبعمرو ذاك.
والمضاف الى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء: بما أضيف كإضافته، وبالألف واللام، والأسماء المبهمة؛ وذلك: مررتُ بصاحبك أخي زيد، ومررتُ بصاحبك الطويل ومررت بصاحبك هذا.
فأما الألف واللام فتوصف بالألف واللام، وبما أضيف الى الألف واللام؛ لأن ما أضيف الى الألف واللام بمنزلة الألف واللام فصار نعتاً، كما صار المضاف الى غير الألف واللام صفةً لما ليس فيه الألف واللام، نحو مررتُ بزيد أخيك، وذلك قولك: مررتُ بالجميل النبيل، ومررتُ بالرجل ذي المال.
وإنما منع أخاك أن يكون صفةً للطويل أن الأخ إذا أضيف كان أخصَّ، لأنه مضاف الى الخاص والى إضماره، فإنما ينبغي لك أن تبدأ به وإن لم تكتفِ بذلك زدتَ من المعرفة ما تزداد به معرفة.
وإنما منع هذا أن يكون صفةً للطويل والرجل أن المخبِر أراد أن يقرّب به شيئاً ويشير إليه لتعرفه بقلبك وبعينك، دون سائر الأشياء. وإذا قال الطويل فإنما يريد أن يعرّفك شيئاً بقلبك ولا يريد أن يعرّفكه بعينك، فلذلك صار هذا يُنعت بالطويل ولا يُنعت الطويل بهذا، لأنه صار أخصَّ من الطويل حين أراد أن يعرّفه شيئاً بمعرفة العين ومعرفة القلب. وإذا قال الطويل فإنما عرّفه شيئاً بقلبه دون عينه، فصار ما اجتمع فيه شيئان أخصّ.


واعلم أن المبهمة توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام والصفات التي فيها الألف واللام جميعاً. وإنما وُصفتْ بالأسماء التي فيها الألف واللام لأنها والمبهمة كشيء واحد، والصفات التي فيها الألف واللام هي في هذا الموضع بمنزلة الأسماء وليست بمنزلة الصفات في زيد وعمرو إذا قلتَ مررتُ بزيد الطويل، لأني لا أريد أن أجعل هذا اسماً خاصاً ولا صفةً له يُعرف بها، وكأنك أردت أن تقول مررت بالرجل، ولكنك إنما ذكرت هذا لتقرّب به الشيء وتشير إليه.
ويدلّك على ذلك أنك لا تقول: مررتُ بهذين الطويل والقصير وأنت تريد أن تجعله من الاسم الأول بمنزلة هذا الرجل، ولا تقول: مررتُ بهذا ذي المال كما قلت: مررتُ بزيد ذي المال.
واعلم أن صفات المعرفة تجري من المعرفة مجرى صفات النكرة من النكرة، وذلك قولك: مررتُ بأخوَيْك الطويلَيْن؛ فليس في هذا إلا الجرّ كما ليس في قولك: مررت برجل طويل، إلا الجرّ.
وتقول: مررت بأخوَيْك الطويل والقصير، ومررتُ بأخوَيك الراكع والساجد، ففي هذا البدل، وفي هذا الصفة، وفيه الابتداء، كما كان ذلك في مررت برجلين صالح وطالح.
وإذا قلت: مررت بزيد الراكع ثم الساجد، أو الراكع فالساجد، أو الراكع لا الساجد، أو الراكع أو الساجد، أو إما الراكع وإما الساجد، وما أشبه هذا، لم يكن وجه كلامه إلا الجرّ كما كان ذلك في النكرة. فإن أدخلتَ بل ولكنْ جاز فيهما ما جاز في النكرة. فعلى هذا فقِس المعرفة. وقد مضى الكلام في النكرة فأغنى عن إعادته في المعرفة، لأن الحكم واحد.
واعلم أن كل شيء كان للنكرة صفةً فهو للمعرفة خبر، وذلك قولك: مررت بأخويك قائمَيْن، فالقائمان هنا نصب على حدّ الصفة في النكرة. وتقول: مررت بأخويك مسلماً وكافراً هذا على مَن جرّ وجعلهما صفةً للنكرة، ومن جعلهما بدلاً من النكرة جعلهما بدلاً من المعرفة كما قال الله عز وجل: " لَنَسْفَعاً بالناصيةِ. ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئة " . وأنشدنا لبعض العرب الموثوق بهم:
فإلى ابنِ أمّ أناسٍ ارحلُ ناقتي ... عمرٍو فتُبلغُ حاجتي أو تُزحِفُ
ملِكٍ إذا نزل الوفودُ ببابه ... عرَفوا مواردَ مُزبِدٍ لا يُنزَفُ
ومَن رفع في النكرة رفع في المعرفة. قال الفرزدق:
فأصبح في حيثُ التقينا شريدُهمْ ... طليقٌ ومكتوفُ اليدينِ ومُزعِفُ
وقال آخر، رجل من بني قُشير:
فلا تجعلي ضيفَيّ ضيفٌ مُقرَّبٌ ... وآخرُ معزولٌ عن البيت جانبُ
والنصب جيّد كما قال النابغة الجعدي:
وكانت قُشَيرٌ شامتاً بصديقها ... وآخرَ مَرزيّا وآخرَ رازِيا
وقال الآخر، وهو ذو الرمّة:
تَرى خلقَها نِصفٌ قناة قويمة ... ونصفٌ نقاً يرتجّ أو يتمرْمرُ
وبعضهم ينصب على البدل. وإن شئت كان بمنزلة رأيتُه قائماً، كأنه صار خبراً على حدّ من جعله صفة للنكرة على الأوجه الثلاثة. واعلم أن المضمر لا يكون موصوفاً، من قِبل أنك إنما تضمِر حين ترى أن المحدَّث قد عرف مَن تعني، ولكن لها أسماء تُعطَف عليها، تعمّ وتؤكد، وليست صفةً؛ لأن الصفة تحلية نحو الطويل، أو قرابة نحو أخيك وصاحبك وما أشبه ذلك، أو نحو الأسماء المبهمة، ولكنها معطوفة على الاسم تجري مجراه، فلذلك قال النحويون صفة. وذلك قولك: مررت بهم كلهم، أي لم أدعْ منهم أحداً، ويجيء توكيداً كقولك: لم يبق منهم مُخبّر وقال بقي منهم. ومثله أيضاً: مررتُ بهم أجمعين أكتعين، ومررتُ بهم جُمَعَ كُتَع، ومررتُ بهم أجمعَ أكتعَ، ومررتُ بهم جميعهم. فهكذا هذا وما أشبه.
ومنه مررتُ به نفسِه، ومعناه مررتُ به بعينه.
واعلم أن الخاص من الأسماء لا يكون صفةً، لأنه ليس بحليةٍ ولا قرابة ولا مبهم، ولكنه يكون معطوفاً على الاسم كعطف أجمعين. وهذا قول الخليل رحمه الله، وزعم أنه من أجل ذلك قال: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ. قال: لو لم يكن على الرجل كان غيرَ منوَّن. وإنما صار المبهم بمنزلة المضاف لأن المبهم تقرِّب به شيئاً أو تُباعده، وتُشير إليه.


ومن الصفة: أنت الرجل كلُّ الرجل، ومررت بالرجل كلِّ الرجل. فإن قلت: هذا عبد الله كلُّ الرجل، أو هذا أخوك كلُّ الرجل، فليس في الحُسن كالألف واللام؛ لأنك إنما أردت بهذا الكلام هذا الرجل المبالغ في الكمال، ولم ترد أن تجعل كل الرجل شيئاً تعرّف به ما قبله وتبيّنه للمخاطب، كقولك: هذا زيد. فإذا خفت أن يكون لم يُعرَف قلت: الطويل، ولكنك بنيت هذا الكلام على شيء قد أثبتّ معرفته، ثم أخبرت أنه مستكمِلٌ للخِصال.
ومثل ذلك قولك: هذا العالِم حقُّ العالِم وهذا العالم كلُّ العالم، إنما أراد أنه مستحقٌ للمبالغة في العلم. فإذا قال هذا العالم جِدُّ العالم فإنما يريد معنى هذا عالِم جداً، أي هذا قد بلغ الغاية في العلم. فجرى هذا الباب في الألف واللام مجراه في النكرة إذا قلت: هذا رجلٌ كلُّ رجل، وهذا عالمٌ حقُّ عالم، وهذا عالمٌ جدُّ عالم.
ويدلّك على أنه لا يريد أن يثبّت بقوله كلُّ الرجل الأول أنه لو قال: هذا كلُّ الرجل، كان مستغنياً به، ولكنه ذكر الرجل توكيداً، كقولك: هذا رجلٌ صالحٌ، ولم يرد أن يبيّن بقوله كلُّ الرجل ما قبله، كما يبين زيداً إذا خاف أن يلتبس فلم يرد ذلك بالألف واللام، وإنما هذا ثناء يحضُرك عند ذكرك إياه.
ومن الصفة قولك: ما يَحسن بالرجل مثلِك أن يفعل ذاك، وما يحسن بالرجل خيرٍ منك أن يفعل ذاك.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما جرّ هذا على نية الألف واللام، ولكنه موضعٌ لا تدخله الألف واللام كما كان الجَمّاء الغفيرَ منصوباً على نيّة إلقاء الألف واللام، نحو طُرّاً وقاطبةً والمصادر التي تشبهها.
وزعم رحمه الله أنه لا يجوز في: ما يحسن بالرجل شبيهٍ بك، الجرّ، لأنك تقدّر فيه على الألف واللام. وقال: وأما قولهم: مررتُ بغيرك مثلك، وبغيرك خيرٍ منك، فهو بمنزلة مررتُ برجل غيرك خيرٍ منك، لأن غيرك ومثلك وأخواتها يكنّ نكرة، ومَن جعلها معرفة قال: مررتُ بمثلك خيراً منك، وإن شاء خيرٍ منك على البدل. وهذا قول يونس والخليل رحمهما الله.
واعلم أنه لا يَحسن ما يحسن بعبد الله مثلِك على هذا الحد. ألا ترى أنه لا يجوز: ما يَحسن بزيد خيرٍ منك، لأنه بمنزلة كل الرجل في هذا. فإن قلت: مثلِك وأنت تريد أن تجعله المعروف بشبهه جاز، وصار بمنزلة أخيك. ولا يجوز في خيرٍ منك، لأنه نكرة، فلا تُثبِت به المعرفة. ولم يُرد في قوله: ما يحسن بالرجل خيرٍ منك، أن يُثبِت له شيئاً بعينه ثم يعرّفه به إذا خاف التباساً.
واعلم أن المنصوب والمرفوع يجري معرفتُهما ونكرتُهما في جميع الأشياء كالمجرور.
؟باب بدل المعرفة من النكرة
والمعرفة من المعرفة وقطع المعرفة من المعرفة مبتدأة
أما بدل المعرفة من النكرة فقولك: مررتُ برجلٍ عبدِ الله. كأنه قيل له: بمَن مررت؟ أو ظنّ أنه يقال له ذاك، فأبدل مكانه ما هو أعرفُ منه.
ومثل ذلك قوله عزّ وجل ذكره: " وإنك لَتَهدي الى صِراطٍ مستقيمٍ صِراطِ الله " .
وإن شئت قلت: مررتُ برجلٍ عبدُ الله، كأنه قيل لك: مَن هو؟ أو ظننت ذلك.
ومن البدل أيضاً: مررتُ بقوم عبدِ الله وزيد وخالد، والرفعُ جيد. وقال الشاعر، وهو بعض الهُذليين، وهو مالك بن خُويلد الخُناعي:
يا مَيّ إن تَفقِدي قوماً وَلدتِهمِ ... أو تُخلَسيهم فإن الدهر خلاسُ
عمرٌو وعبدُ مناف والذي عهدَتْ ... ببطن عرعرَ آبي الضيم عباسُ
والرفع جائز قوي، لأنه لم ينقض معنىً كما فعل ذلك في النكرة.
وأما المعرفة التي تكون بدلاً من المعرفة، فهو كقولك: مررتُ بعبد الله زيد، إما غلطتَ فتداركتَ، وإما بدا لك أن تُضرِب عن مرورك بالأول وتجعله للآخر.
وأما الذي يجيء مبتدأ فقول الشاعر، وهو مُهلهلٌ:
ولقد خبَطنَ بيوتَ يَشكُرَ خَبطةً ... أخوالُنا وهُمُ بنو الأعمامِ
كأنه حين قال: خبطنَ بيوت يشكرَ قيل له: وما هم؟ فقال: أخوالُنا وهم بنو الأعمام.
وقد يكون مررتُ بعبد الله أخوك، كأنه قيل له: مَن هو؟ أو مَن عبدُ الله، فقال: أخوك. وقال الفرزدق:
ورثتُ أبي أخلاقَه عاجِلَ القِرى ... وعَبطَ المَهاري كُومُها وشَبوبُها
كأنه قيل له: أيُّ المهاري؟ فقال: كومُها وشَبوبُها.


وتقول: مررتُ برجلٍ الأسدِ شدةً، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ كامل، لأنك أردت أن ترفع شأنَه. وإن شئت استأنفتَ، كأنه قيل له: ما هو.
ولا يكون صفةً كقولك: مررتُ برجلٍ أسدٍ شدةً، لأن المعرفة لا توصَف بها النكرة، ولا يجوز أن توصَف بنكرة أيضاً لما ذكرتُ لك. والابتداء في التبعيض أقوى. وهذا عربي جيد: قوله أخولُنا، وقد جاء في النكرة في صفتها، فهو في ذا أقوى. قال الراجز:
وساقيَيْن مثلِ زيدٍ وجُعَل ... سَقْيانٍ مَمشوقان مَكنوزاً العَضَلْ
؟باب ما يجري عليه صفةُ ما كان من سببه
وصفتُ ما التبس به أو بشيء من سببه كمجرى صفته التي خَلصتْ له هذا ما كان من ذلك عملاً. وذلك قولك: مررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه رجلاً، ومررتُ برجلٍ ملازمٍ أبوه رجلاً. ومن ذلك أيضاً: مررت برجل ملازم أباه رجلٌ، ومررت برجل مخالط أبه داءٌ. فالمعنى فيه على وجهين: إن شئت جعلته يلازمه ويخالطه فيما يُستقبل، وإن شئت جعلته عملاً كائناً في حال مرورك. وإن ألقيتَ التنوينَ وأنت تريد معناه جرى مثله إذا كان منوّناً.
ويدلّك على ذلك أنك تقول: مررتُ برجلٍ ملازمك. فيَحسُن ويكون صفة للنكرة، بمنزلته إذا كان منوّناً. وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أباه رجلٌ، وحين قلت: مررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، فكأنك قلت في جميع هذا: مررتُ برجل ملازم أباه، ومررتُ برجلٍ ملازم أبيه، لأن هذا يجري مجرى الصفة التي تكون خالصةً للأول.
وتقول: مررتُ برجلٍ مخالِطِ بَدنه أو جسدِه داءٌ، فإن ألقيتَ التنوينَ جرى مجرى الأول إذا أردتَ ذلك المعنى، ولكنك تلقي التنوين تخفيفاً.
فإن قلت: مررتُ برجلٍ مخالطِه داء، وأردتَ معنى التنوين جرى على الأول، كأنك قلت: مررتُ برجل مخالطٍ إياه داء. فهذا تمثيل، وإن كان يقبحُ في الكلام.
فإذا كان يجري عليه إذا التبس بغيره فهو إذا التبس به أحرى أن يجري عليه.
وإن زعم زاعمٌ أنه يقول مررتُ برجل مخالطِ بدنه داء، ففرق بينه وبين المنوَّن. قيل له: ألستَ تعلم أن الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواء، إذا أردت بإسقاط التنوين معنى التنوين، نحو قولك: مررتُ برجل ملازمٍ أباك، ومررت برجلٍ ملازمِ أبيك، أو ملازمِك، فإنه لا يجد بُدّاً من أن يقول نعم، وإلا خالف جميعَ العرب والنحويين. فإذا قال ذلك قلتَ: أفلستَ تجعل هذا العمل إذا كان منوّناً وكان لشيء من سبب الأول أو التبس به، بمنزلته إذا كان للأول؟ فإنه قائل: نعم، وكأنك قلت مررتُ برجل ملازم. فإذا قال ذلك قلتَ له: ما بالُ التنوين وغير التنوين استويا حيث كانا للأول واختلفا حيث كانا للآخِر، وقد زعمتَ أنه يجري عليه إذا كان للآخِر كمجراه إذا كان للأول. ولو كان كما يزعمون لقلتَ: مررتُ بعبد الله الملازمِه أبوه؛ لأن الصفة المعرفة تجري على المعرفة كمجرى الصفة النكرة على النكرة. ولو أن هذا القياس لم تكن العرب الموثوق بعربيتها تقوله لم يُلتفت إليه، ولكنّا سمعناها تنشد هذا البيت جرّا، وهو قول ابن ميّادة المُرّيّ، من غَطَفان:
وارتَشْنَ حين أردنَ أن يَرميننا ... نَبلاً بلا ريشِ ولا بقِداحِ
ونظرْنَ من خَلَل الخدور بأعيُنٍ مَرضى مُخالطها السّقامُ صِحاحِ وسمعنا من العرب من يرويه ويروي القصيدة التي فيها هذا البيت، لم يلقّنه أحدٌ هكذا.
وأنشد غيره من العرب بيتاً آخر فأجروه هذا المجرى، وهو قوله:
حَمينَ العَراقيبَ العصا وتركنَه ... به نَفَسٌ عالٍ مُخالطُه بُهْرُ
فالعمل الذي لم يقع والعمل الواقع الثابت في هذا الباب سواء، وهو القياس وقولُ العرب.
فإن زعموا أن ناساً من العرب ينصبون هذا فهم ينصبون: به داء مخالطَه، وهو صفة للأول.
وتقول: هذا غلامٌ لك ذاهباً. ولو قال: مررتُ برجل قائماً جاز، فالنصب على هذا.


وإنما ذكرنا هذا لأن ناساً من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين، ويفرقون إذا لم ينوّنوا بين العمل الثابت الذي ليس فيه علاجٌ يرونه، نحو الآخذ واللازم والمخالط وما أشبهه، وبين ما كان علاجاً يرونه، نحو الضارب والكاسر، فيجعلون هذا رفعاً على كل حال، ويجعلون اللازم وما أشبهه نصباً إذا كان واقعاً، ويُجرونه على الأقل إذا كان غير واقع. وبعضهم يجعله نصباً إذا كان واقعاً ويجعله على كل حال رفعاً إذا كان غير واقع. وهذا قول يونس، والأول قول عيسى.
فإذا جعله اسماً لم يكن فيه إلا الرّفعُ على كل حال. تقول: مررتُ برجلٍ ملازمُه رجل، أي مررت برجلٍ صاحبُ ملازَمتِه رجلٌ، فصار هذا كقولك: مررتُ برجل أخوه رجل.
وتقول على هذا الحد: مررت برجلٍ ملازمُوه بنو فلان. فقولك ملازموه يدلّك على أنه اسم، ولو كان عملاً لقلت: مررت برجلٍ ملازمه قومُه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ ملازمٍ إياه قومُه، أي قد لزم إياه قومُه.
؟هذا باب
ما جرى من الصفات غير العمل على الاسم الأول
إذا كان لشيء من سببه
وذلك قولك: مررت برجلٍ حسَنٍ أبوه، ومررتُ برجلٍ كريمٍ أخوه وما أشبه هذا، نحو المسلم والصالح والشيخ والشاب.
وإنما أُجريت هذه الصفات على الأول حتى صارت كأنها له لأنك قد تضعها في موضع اسمِه فيكون منصوباً ومجروراً ومرفوعاً، والنعتُ لغيره. وذلك قولك: مررت بالكريم أبوه، ولقيتُ موسَّعاً عليه الدنيا، وأتاني الحسنةُ أخلاقُه، فالذي أتاك والذي أتيتَ غيرُ صاحب الصفة، وقد وقع موقعَ اسمه وعمل فيه ما كان عاملاً فيه، وكأنك قلت: مررتُ بالكريم، ولقيتُ موسَّعاً عليه، وأتاني الحسنُ، فكما جرى مجرى اسمه كذلك جرى مجرى صفته.
؟باب الرفع فيه وجه الكلام
وهو قول العامة
وذلك قولك: مررتُ بسرجٍ خَزٌّ صُفَّتُه، ومررت بصحيفةٍ طينٌ خاتَمُها، ومررت برجلٍ فضّةٌ حِليةٌ سيفه. وإنما كان الرفع في هذا أحسن من قبل أنه ليس بصفة. لو قلت: له خاتمٌ حديدٌ، أو هذا خاتمٌ طينٌ، كان قبيحاً، إنما الكلام أن تقول: هذا خاتم حديد وصُفّةُ خزّ، وخاتمٌ من حديد وصفةٌ من خزّ. فكذلك هذا وما أشبهه.
ويدلّك أيضاً على أنه ليس بمنزلة حسنٍ وكريمٍ، أنك تقول: مررت بحسَنٍ أبوه وقد مررت بالحسن أبوه، فصار هذا بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت: مررتُ بحسَنٍ، إذا جعلتَ الحسن للمرور به. فمن ثمّ أيضاً قالوا: مررتُ برجل حسنٍ أبوه، ومررتُ برجل ملازمِه أبوه؛ كأنهم قالوا: مررت برجل حسنٍ، وبرجل ملازمٍ. ولا تقول: مررت بخزّ صُفَّتُه، ولا بطينٍ خاتَمُه، لأن هذا اسم.
وقد يكون في الشعر: هذا خاتَم طينٌ وصُفَّةٌ خَزٌّ، مستكرَهاً.
فالجرّ يكون في: مررت بصحيفة طينٍ خاتمُها على هذا الوجه. ومن العرب من يقول: مررت بقاعٍ عرفَجٍ كلُه، يجعلونه كأنه وصفٌ.
؟باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة
مجرى الأسماء التي لا تكون صفة
وذلك أفعلُ منه ومثلُك وأخواتُهما، وحسبُك من رجلٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشرّ، وأيُّما رجلٍ، وأبو عَشَرةٍ، وأبٌ لك وأخٌ لك وصاحبٌ لك، وكلُ رجل، وأفعلُ شيء نحو خيرُ شيء وأفضلُ شيء، وأفعلُ ما يكون، وأفعلُ منك.
وإنما صار هذا بمنزلة الأسماء التي لا تكون صفةً من قبَل أنها ليست بفاعلة، وأنها ليست كالصفات غير الفاعلة، نحو حَسَنٍ وطويل وكريم، من قبل أن هذه تُفرَد وتؤنّث بالهاء كما يُؤنّث فاعلٌ، ويدخلها الألف واللام وتضاف الى ما فيه الألف واللام، وتكون نكرةً بمنزلة الاسم الذي يكون فاعلاً حين تقول هذا رجلٌ ملازمُ الرجل. وذلك قولك: هذا حسنُ الوجه.
ومع ذلك أنك تدخِل على حسَن الوجه الألف واللام فتقول: الحسنُ الوجه، كما تقول الملازم الرجل. فحسنٌ وما أشبهه يتصرّف هذا التصرّف. ولا تستطيع أن تُفرد شيئاً من هذه الأسماء الأُخَر، لو قلت: هذا رجلٌ خيرٌ، وهذا رجلٌ أفضلُ، وهذا رجلٌ أبٌ، لم يستقم ولم يكن حسناً.
وكذلك أيٌّ. لا تقول: هذا رجلٌ أيٌّ.


فلما أضفتَهنّ وأوصلتَ إليهنّ شيئاً حَسُنّ وتممنَ به، فصارت الإضافة وهذه اللواحقُ تحسّنه. ولا تستطيع أن تدخِل الألف واللام على شيء منها كما أدخلتَ ذلك على الحسن الوجه، ولا تنوّن ما تنوّن منه على حد تنوين الفاعل فتكون بالخيار في حذفه وتركه، ولا تؤنّث كما تؤنّث الفاعل فلم يَقوَ قوّة الحَسَن إذا لم يُفرد إفرادَه. فلما جاءت مضارعةً للاسم الذي لا يكون صفة البتّة إلا مستكرَهاً، كان الوجهُ عندهم فيه الرفعَ إذا كان النعتُ للآخِر، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٌ أبوه.
ومع ذلك أيضاً أن الابتداء يحسُن فيهنّ، تقول: خيرٌ منك زيدٌ، وأبو عشرةٍ زيدٍ، وسواءٌ عليه الخيرُ والشرّ. ولا يحسن الابتداء في قولك: حسنٌ زيد.
فلما جاءت مضارعةً للأسماء التي لا تكون صفةً وقَويت في الابتداء كان الوجه فيها عندهم الرفعَ، إذا كان النعت للآخِر. وذلك قولك: مررت برجلٍ خيرٌ منه أبوه، ومررتُ برجل سواءٌ عليه الخيرُ والشرّ، ومررت برجل أبٌ لك صاحبُه، ومررت برجل حَسبُك من رجلٍ هو، ومررتُ برجل أيُّما رجل هو.
وإن قلت: مررتُ برجلٍ حسبُك به من رجلٍ رفعلتَ أيضاً.
وزعم الخليل رحمه الله أن به ههنا منزلة هو، ولكن هذه الباء دخلت ههنا توكيداً كما قال: كفى الشيبُ والإسلامُ وكفى بالشيب والإسلام.
فإن قلت: مررتُ برجل شديدٍ عليه الحرّ والبردُ جررتَ، من قبل أن شديداً قد يكون صفةً وحدَه مستغنياً عن عليه، وعن ذكر الحرّ والبرد، ويدخل في جميع ما دخل الحَسنُ.
وإن قلت: مررت برجلٍ سواءٍ في الخير والشرّ جررت، لأن هذا من صفة الأول، فصار كقولك: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
وإن قلت: مررتُ برجل مُستوٍ عليه الخيرُ والشرّ جررتَ أيضاً لأنه صار عملاً بمنزلة قولك: مررتُ برجلٍ مفضّضٍ سيفُه، ومررتُ برجل مسمومٍ شرابُه؛ ويدخله جميعُ ما يدخل الحَسنَ. فإذا قلت سمٌّ وفضّةٌ رفعت.
وتقول: مررت برجل سواءٌ أبوه وأمه، إذا كنت تريد أنه عدلٌ وتقول: مررت برجل سواءٌ درهمُه، كأنك قلت: مررت برجل تامٍ درهمُه.
وزعم يونس أن ناساً من العرب يجرّون هذا كما يجرّون مررتُ برجلٍ خَزٍّ صُفَّتُه.
ومما يقوّيك في رفع هذا أنك لا تقول مررتُ بخيرٍ منه أبوه، ولا بسواء عليه الخير والشرّ، كما تقول بحسَنٍ أبوه.
وتقول: مررتُ برجل كلُّ ماله درهمان، لا يكون فيه إلا الرفع؛ لأن كل مبتدأ والدرهمان مبنيان عليه. فإن أردت بقولك: مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه جاز، لأنه قد يوصف به، تقول هذا مال كلُّ مالٍ. وليس استعماله وصفاً بقوة أبي عشرةٍ ولا كثرته، وليس بأبعد من مررت برجل خز صُفته، ولا قاعٍ عرْفجٍ كلُّ.
ومن جواز الرفع في هذا الباب أني سمعت رجلين من العرب عربيين يقولان: كان عبد الله حسبُك به رجلاً. وهذا أقرب الى أن يكون فيه الإجراء على الأول إذا كان في الخزّ والفضة؛ لأن هذا يوصَف به ولا يوصَف بالخزّ ونحوه.
؟هذا باب ما يكون من الأسماء صفة منفرداً
وليس بفاعل ولا صفةٍ تشبَّه بالفاعل كالحَسن وأشباهه
وذلك قولك: مررت بحيةٍ ذراعٌ طولُها، ومررت بثوب سبعٌ طوله، ومررت برجلٍ مائةٌ إبله، فهذه تكون صفاتٍ كما كانت خيرٌ منك صفةً. يدلّك على ذلك قول العرب: أخذ بنو فلان من بني فلان إبلاً مائةً، فجعلوا مائةً وصفاً. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
لئن كنتَ في جُبّ ثمانين قامةً ... ورُقّيتَ أسبابَ السماء بسلّمِ
فاختير الرفعُ فيه لأنك لا تقول: ذراعٌ الطول، منوَّناً ولا غير منوّن. ولا تقول مررت بذراعٍ طوله. وبعض العرب يجرّه كما يجرّ الخزّ حين يقول: مررت برجل خزّ صُفّته، ومنهم من يجرّه وهم قليل، كما تقول: مررت برجلٍ أسد أبوه، إذا كنت تريد أن تجعله شديداً، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنتَ تشبّهه.
فإن قلت: مررت بدابّة أسدٌ أبوها فهو رفعٌ، لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السّبع. فإن قلت: مررتُ برجل أسدٌ أبوه على هذا المعنى رفعتَ، إلا أنك لا تجعل أباه خَلقُه كخِلقة الأسد ولا صورته. هذا لا يكون، ولكنه يجيء كالمثل.


ومن قال: مررت برجلٍ أسد أبوه قال: مررت برجل مائةٍ إبله. وزعم يونس أنه لم يسمعه من ثقة ولكنهم يقولون: هو نارٌ حُمرةً، لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها؛ فالرفعُ فيه الوجه، والرفع فيه أحسنُ وإن كنتَ تريد معنى أنه مبالغٌ في الشدة، لأنه ليس بوصف.
ومثل ذلك: مررت برجلٍ رجل أبوه، إذا أردتَ معنى أنه كامل. وجرّه كجرّ الأسد. وقد تقوله على غير هذا المعنى، تقول: مررت برجل رجلٌ أبوه، تريد رجلاً واحداً لا أكثر من ذلك.
وقد يجوز على هذا الحد أن تقول: مررت برجل حسنٌ أبوه. وهو فيه أبعد، لأنه صفة مشبهة بالفاعل. وإن وصفته فقلت: مررت برجل حسنٌ ظريفٌ أبوه فالرفع فيه الوجه والحد، والجرّ فيه قبيح، لأنه يفصل بوصف بينه وبين العامل. ألا ترى أنك لو قلت مررتُ بضاربٍ ظريفٍ زيداً، وهذا ضاربٌ عاقلٌ أباه كان قبيحاً، لأنه وصفه فجعل حاله كحال الأسماء، لأنك إنما تبتدئ بالاسم ثم تصفه.
فإن قلت: مررت برجل شديدٌ رجلٌ أبوه، فهو رفع لأن هذا وإن كان صفةً فقد جعلته في هذا الموضع اسماً بمنزلة أبي عشرة أبوه، يقبح فيه ما يقبح في أبي عشرة.
ومن قال: مررت برجلٍ أبي عشرة أبوه قال: مررت برجل شديد رجلٍ أبوه. وإذا قال: مررت برجل حسنٍ الوجه أبوه فليس بمنزلة أبي عشرةٍ أبوه، لأن قولك: حسن الوجه أبوه، بمنزلة قولك مررت برجل حسنٍ الوجه، فصار هذا بدخول التنوين يشبه ضارباً إذا قلت: مررتُ برجل ضاربٍ أباه.
وأبو عشرة لا يدخله التنوين ولا يجري مجرى الفعل، ولكنك ألقيتَ التنوين استخفافاً، فصار بمنزلة قولك: مررت برجلٍ ملازم أباه رجلٌ، ومررتُ برجل ملازم أبيه رجلٌ، إذا أردتَ معنى التنوين، فكأنك قلت: مررتُ برجلٍ حسن أبوه.
وتقول: مررتُ برجل حسن الوجه أبوه، كما تقول: مررت بالرجل الحسن الوجه أبوه، وكما تقول: مررتُ بالرجل الملازمِه أبوه. فصار حسنُ الوجه بمنزلة حسن، ومُلازمٌ أباه بمنزلة ملازمٍ. وليس هذا بمنزلة أبي عشرة وخير منك. ألا ترى أنك لا تقول: مررتُ بخير منه أبوه ولا بأبي عشرة أبوه، كما لا تقول مررتُ بالطين خاتمُه.
وأما قوله: مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ، فهو قبيح حتى تقول: هو والعدمُ، لأن في سواء اسماً مضمَراً مرفوعاً، كما تقول مررتُ بقوم عربٍ أجمعون، فارتفع أجمعون على مضمر في عربٍ بالنية. فهي هنا معطوفة على المضمر وليست بمنزلة أبي عشرة. فإن تكلّمتَ به على قبحه رفعتَ العدمَ، وإن جعلته مبتدأ رفعتَ سواءً.
وتقول: ما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرّ منه إليه، وما رأيت أحداً أحسنَ في عينه الكُحل منه في عينه. وليس هذا بمنزلة خيرٌ منه أبوه، لأنه مفضّل للأب على الاسم في مِن، وأنت في قولك: أحسن في عينه الكحلُ منه في عينه، لا تريد أن تفضّل الكحل على الاسم الذي في من، ولا تزعم أنه قد نقص عن أن يكون مثله، ولكنك زعمت أن للكحل ههنا عملاً وهيئةً ليست له في غيره من المواضع، فكأنك قلت: ما رأيت رجلاً عاملاً في عينه الكحل كعمله في عين زيد؛ وما رأيت رجلاً مبغضاً إليه الشرُّ كما بُغِّض إلى زيد.
ويدلّك على أنه ليس بمنزلة خيرٌ منه أبوه، أن الهاء التي تكون في مِن، هي الكحلُ والشرّ، كما أن الإضمار الذي في عمله وبُغّض، هو الكحل والشرّ.
ومما يدلّك على أنه على أوّله ينبغي أن يكون، أن الابتداء فيه مُحال: أنك لو قلت: أبغضُ إليه منه الشرُّ لم يجز، ولو قلت: خيرٌ منه أبوه جاز.
ومثل ذلك: ما من أيامٍ أحبَّ الى الله عز وجل فيها الصومُ منه في عشرِ ذي الحجة.
وإن شئت قلت: ما رأيت أحداً أحسن في عينه الكحل منه، وما رأيت رجلاً أبغضَ إليه الشرّ منه، وما من أيامٍ أحبَّ الى الله فيها الصومُ من عشر ذي الحجة؛ فإنما المعنى الأول، إلا أن الهاء هنا الاسم الأول، ولا تخبر أنك فضّلت الكحلَ عليه ولا أنك فضّلت الصوم على الأيام، ولكنك فضّلت بعضَ الأيام على بعضٍ. والهاء في الأول هو الكحل، وإنما فضلته في هذا الموضع على نفسه في غير هذا الموضع، ولم ترد أن تجعله خيراً من نفسه البتّة. قال الشاعر، وهو سُحيمُ بن وَثيل:
مررتُ على وادي السّباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يُظلمُ واديا
أقلَّ به ركْبٌ أتَوْه تَئيّةً ... وأخوفَ، إلا ما وَقى الله، ساريا


وإنما أراد: أقلَّ به الرّكبُ تَئيّةً منهم به، ولكنه حذف ذلك استخفافاً، كما تقول: أنت أفضل، ولا تقول من أحد. وكما تقول: الله أكبر، ومعناه الله أكبر من كل شيء. وكما تقول: لا مالَ ولا تقول لك، وما يشبهه. ومثل هذا كثيرٌ.
واعلم أن الرفع والنصبَ تجري الأسماء ونعتُ ما كان من سببها ونعتُ ما التبس بها وما التبس بشيء من سببها فيهما مجراهنّ في الجرّ.
واعلم أن ما جرى نعتاً على النكرة فإنه منصوب في المعرفة، لأن ما يكون نعتاً من اسم النكرة يصير خبراً للمعرفة، لأنه ليس من اسمه. وذلك قولك: مررتُ بزيد حسناً أبوه، ومررتُ بعبد الله ملازمك.
واعلم أن ما كان في النكرة رفعاً غير صفة فإنه رفعٌ في المعرفة. من ذلك قوله جلّ وعزّ: " أم حَسِبَ الذين اجتَرحوا السّيّئاتِ أن تجعلَهُم كالذين آمنوا وعملوا الصّالحات سَواءٌ مَحياهُم ومَماتُهُم " .
وتقول: مررت بعبد الله خيرٌ منه أبوه. فكذلك هذا وما أشبهه. ومن أجرى هذا على الأول فإنه ينبغي له أن ينصبه في المعرفة فيقول: مررتُ بعبد الله خيراً منه أبوه. وهي لغةٌ رديئة. وليست بمنزلة العمل نحو ضارب وملازم، وما ضارعه نحو حَسن الوجه. ألا ترى أن هذا عملٌ يجوز فيه يَضربُ ويلازم وضربَ ولازَمَ. ولو قلت: مررت بخيرٍ منه أبوه كان قبيحاً، وكذلك بأبي عشرة أبوه. ولكنه حين خلَص للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك.
ومن قال: مررتُ برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه، فشبّه بقوله: مررتُ برجل حسنٍ أبوه. فهو ينبغي له أن يقول: مررتُ بعبد الله أبي العشرة أبوه، كما قال: مررتُ بزيدٍ الحسنِ أبوه.
ومن قال: مررتُ بزيدٍ أخوه عمرٌو لم يكن فيه إلا الرفع، لأن هذا اسمٌ معروف بعينه، فصار بمنزلة قولك: مررتُ بزيدٍ عمرٌو أبوه ولو أن العشرة كانوا قوماً بأعيانهم قد عرفهم المخاطَب لم يكن فيه إلا الرفع؛ لأنك لو قلت: مررتُ بأخيه أبوك، كان مُحالاً أن ترفع الأبَ بالأخ، وهي في مررتُ بأبي عشرة أبوه وبأبي العشرة أبوه، إذا لم يكن شيئاً بعينه، تجوز على استكراهٍ. فإن جعلتَ الأخَ صفةً للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررتُ بأخيك، فصار الشيء بعينه نحو زيد وعمرو، وضارع أبو عشرة حَسنٌ حين، ولم يكن شيئاً بعينه قد عرفه كمعرفتك، على ضعفه واستكراهه.
واعلم أن كل شيء من العمل وما أشبهه نحو حسن وكريم، إذا أدخلتَ فيه الألفَ واللام جرى على المعرفة كمجراه على النكرة حين كان نكرةً، كقولك: مررت بزيد الحَسن أبوه، ومررتُ بأخيك الضاربِهِ عمرو.
واعلم أن العرب يقولون: قومٌ مَعْلُوجاء، وقومٌ مَشيخةٌ، وقوم مَشيوخاء، يجعلونه صفةً بمنزلة شيوخ وعُلوج.
؟هذا باب
ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها
من الصفات التي ليست بعمل نحو الحسن والكريم وما أشبه ذلك
مجرى الفعل إذا أظهرتَ بعده الأسماء أو أضمرتَها
وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حسنٍ أبواه، وأحسنٌ أبَواه، وأخارجٌ قومُك. فصار هذا منزلة قال أبواك وقال قومُك، على حدّ من قال: قومك حسنون إذا أخّروا، فيصير هذا بمنزلة أذاهبٌ أبواك، وأمنطلِقٌ قومُك.
فإن بدأتَ بالاسم قبل الصفة قلت: قومُك منطلقون، وقومك حسنون، كما تقول أبواك قالا ذاك، وقومك قالوا ذاك.
فإن بدأتَ بنعتٍ مؤنّث فهو يجري مجرى المذكّر إلا أنك تُدخِل الهاء، وذلك قولك: أذاهبةٌ جاريتاك، وأكريمةٌ نساؤكم. فصارت الهاء في الأسماء بمنزلة التاء في الفعل، إذا قلت: قالت نساؤكم، وذهبتْ جاريتاك. وإنما قلت: أكريمةٌ نساؤكم على قول من قال: أنساؤكم كريمات، إذا أخّر الصفة. والألفُ والتاء، والواو والياء والنون في الجميع، والألفُ والنون في التثنية، بمنزلة الواو والألف في قالا وقالوا، وبمنزلة الواو والنون في يقولون.
وكذلك: أقُرَشيٌّ قومُك وأقرشيّ أبواك، إذا أردت الصفة جرى مجرى حسن وكريم. وإنما قالت العرب: قال قومُك وقال أبواك؛ لأنهم اكتفوا بما أظهروا عن أن يقولوا قالا أبواك، وقالوا قومك، فحذفوا ذلك اكتفاءً بما أظهروا.
قال الشاعر:
أليسَ أكرمَ خلقِ الله قد علِموا ... عند الحفاظ بَنو عمرو بنِ حُنجودِ


صار ليس ههنا بمنزلة ضرب قومَك بنو فلان؛ لأن ليس فعلٌ، فإذا بدأتَ بالاسم قلت: قومُك قالوا ذاك، وأبواك قد ذهبا؛ لأنه قد وقع ههنا إضمارٌ في الفعل وهو أسماؤهم، فلابد للمضمَر أن يجيء بمنزلة المظهر. وحين قلت: ذهب قومُك لم يكن في ذهب إضمار. وكذلك قالت جاريتاك وجاءت نساؤك. إلا أنهم أدخلوا التاء ليفصلوا بين التأنيث والتذكير، وحذفوا الألف والنون لمّا بدءوا بالفعل في تثنية المؤنث وجمعه، كما حذفوا ذلك في التذكير.
فإن بدأتَ بالاسم قلت: نساؤك قُلنَ ذاك، كما قلت: قومُك قالوا ذاك. وتقول: جاريتاك قالتا كما تقول: أبواك قالا، لأن في قُلن وقالتا إضماراً كما كان في قالا وقالوا.
وإذا قلت: ذهبتْ جاريتاك أو جاءتْ نساؤك، فليس في الفعل إضمارٌ، ففصلوا بينهما في التأنيث والتذكير، ولم يفصلوا بينهما في التثنية والجمع. وإنما جاءوا بالتاء للتأنيث لأنها ليست علامةَ إصمار كالواو والألف، وإنما هي كهاء التأنيث في طَلْحة، وليست باسم.
وقال بعض العرب: قال فُلانةُ.
وكلما طال الكلام فهو أحسنُ، نحو قولك: حضر القاضي امرأةٌ؛ لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، وكأنه شيءٌ يصير بدلاً من شيء، كالمعاقبة نحو قولك: زنادقة وزناديق، فتحذف الياء لمكان الهاء، وكما قالوا في مُغتَلِم: مُغَيلِم ومُغَيليم، وكأن الياء صارت بدلاً مما حذفوا.
وإنما حذفوا التاء لأنهم صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء، كما كفاهم الجميعُ والإثنان حين أظهروهم عن الواو والألف.
وهذا في الواحد من الحيوان قليل، وهو في المَوات كثير، فرقوا بين المَوات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم. تقول: هم ذاهبون، وهم في الدار، ولا تقول: جمالُك ذاهبون، ولا تقول: هم في الدار وأنت تعني الجِمال، ولكنك تقول: هي وهنّ ذاهبة وذاهبات.
ومما جاء في القرآن من المَوات قد حُذفت فيه التاء قوله عزّ وجلّ: " فمنْ جاءهُ موعظةٌ من ربّه فانتهى " وقوله: " مِن بعدِ ما جاءهُم البَيّناتُ " .
وهذا النحو كثيرٌ في القرآن، وهو في الواحدة إذا كانت من الآدميين أقل منه في سائر الحيوان. ألا ترى أن لهم في الجميع حالاً ليست لغيرهم، لأنهم الأوّلون وأنهم قد فُضِّلوا بما لم يفضَّل به غيرهم من العقل والعلم. وأما الجميع من الحيوان الذي يكسّر عليه الواحد فبمنزلة الجميع من غيره الذي يكسَّر عليه الواحد في أنه مؤنّث. ألا ترى أنك تقول: هو رجلٌ، وتقول: هي الرجال، فيجوز لك. وتقول: هم جملٌ وهي الجِمال، وهو عَيْرٌ وهي الأعيار؛ فجرت هذه كلها مجرى هي الجُذوع. وما أشبه ذلك يُجرى هذا المجرى؛ لأن الجميع يؤنّث وإن كان كلُّ واحد منه مذكّراً من الحيوان. فلما كان كذلك صيّروه بمنزلة المَوات؛ لأنه قد خرج من الأول الأمكن حيث أردت الجميع. فلما كان ذلك احتملوا أن يُجروه مُجرى الجميع المَوات، قالوا: جاء جواريك، وجاء نساؤك، وجاء بناتُك. وقالوا فيما لم يكسَّر عليه الواحد لأنه في معنى الجمع كما قالوا في هذا، كما قال الله تعالى جده: " ومنهم مَن يستمعون إليكَ " ، إذ كان في معنى الجميع، وذلك قوله تعالى: " وقال نسوةٌ في المدينة " .
واعلم أن من العرب من يقول: ضربوني قومُك، وضرباني أخواك، فشبّهوا هذا بالتاء التي يُظهرونها في قالت فُلانة، وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامةً كما جعلوا للمؤنّث، وهي قليلة. قال الشاعر: وهو الفرزدق:
ولكنْ دِيافيٌّ أبوه وأمُّه ... بحَورانَ يعصِرنَ السّليطَ أقاربُهْ
وأما قوله جلّ ثناؤه: " وأسَرّوا النّجوى الذين ظلموا " فإنما يجيء على البدل، وكأنه قال: انطلقوا فقيل له: مَن؟ فقال: بنو فلان. فقوله جلّ وعزّ: " وأسَرّوا النجوى الذين ظلموا " على هذا فيما زعم يونس.
وقال الخليل رحمه الله تعالى: فعلى هذا المثال تجري هذه الصفات. وكذلك شابٌّ وشيخٌ وكهلٌ، إذا أردتَ شابّينَ وشيخينَ وكهلينَ. تقول: مررتُ برجلٍ كهلٍ أصحابه، ومررتُ برجلٍ شابٍّ أبواه.
قال الخليل رحمه الله: فإن ثنّيتَ أو جمعتَ فإن الأحسن أن تقول: مررتُ برجلٍ قُرَشيان أبواه، ومررتُ برجلٍ كهلون أصحابه؛ تجعله اسماً بمنزلة قولك: مررت برجلٍ خزٌّ صُفّته.


وقال الخليل رحمه الله: من قال أكلوني البراغيث أجرى هذا على أوله فقال: مررت برجل حَسنيْن أبواه، ومررتُ بقومٍ قُرَشيّينَ آباؤهم. وكذلك أفعل نحو أعورَ وأحمر، تقول: مررت برجل أعورَ أبواه وأحمرَ أبواه. فإن ثنّيت قلت: مررتُ برجلٍ أحمران أبواه تجعله اسماً. ومن قال أكلوني البراغيث قلت على حدّ قوله: مررتُ برجلٍ أعورَيْن أبواه. وتقول: مررت برجل أعورَ آباؤه، كأنك تكلّمت به على حدّ أعورِينَ وإن لم يُتكلّم به، كما توهّموا في هَلكى وموتى ومرضى أنه فُعل بهم، فجاءوا به على مثال جَرحى وقتلى، ولا يقال هُلِك ولا مُرض ولا مُوِت. قال الشاعر، وهو النابغة الجعدي:
ولا يشعر الرّمحُ الأصمُّ كُعوبُه ... بثروةِ رهطِ الأعيَطِ المتظلِّمِ
وأحسنُ من هذا أعورٌ قومُك؟ ومررتُ برجلٍ صُمٍّ قومُه.
وتقول: مررت برجلٍ حسانٍ قومُه، وليس يجري هذا مجرى الفعل، إنما يجري مجرى الفعل ما دخله الألفُ والنون والواو والنون في التثنية والجمع ولم يغيّره، نحو قولك: حسنٌ وحسنان، فالتثنية لم تغيّر بناءَه. وتقول: حسنون، فالواو والنون لم تغيّر الواحدَ، فصار هذا بمنزلة قالا وقالوا؛ لأن الألف والواو لم تغيّر فعلَ. وأما حِسانٌ وعُورٌ فإنه اسمٌ كُسّر عليه الواحد، فجاء مبنياً على مثالٍ كبناء الواحد، وخرج من بناء الواحد الى بناء آخر لا تلحقه في آخره زيادة كالزيادة التي لحقت في قُرشيّ في الاثنين والجميع. فهذا الجميع له بناءٌ بُني عليه كما بُني الواحد على مثاله، فأُجرى مجرى الواحد.
ومما يدلّك على أن هذا الجميع ليس كالفعل، أنه ليس شيءٌ من الفعل إذا كان للجميع يجيء مبنياً على غير بنائه إذا كان للواحد؛ فمن ثم صار حِسانٌ وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد، نحو مررتُ برجلٍ جُنُبٍ أصحابُه، ومررت برجل صَرورةٍ قومُه. فاللفظُ واحدٌ والمعنى جميعٌ.
واعلم أن ما كان يُجمع بغير الواو والنون نحو حَسَنٍ وحِسان، فإن الأجود فيه أن تقول: مررتُ برجلٍ حِسان قومُه. وما كان يُجمع بالواو والنون نحو منطلِق ومنطلقين، فإن الأجود فيه أن يُجعل بمنزلة الفعل المتقدّم، فتقول: مررتُ برجلٍ منطلِق قومُه.
واعلم أنه من قال ذهبَ نساؤك قال: أذاهبٌ نساؤك. ومن قال: " فمَنْ جاءهُ موعظةٌ من ربّه " قال: أجائيَّ موعظةٌ، تذهب الهاء هاهنا كما تذهب التاء في الفعل.
وكان أبو عمرو يقرأ: " خاشعاً أباصرُهُم " . قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهُذَليّ:
بعيدُ الغَزاة فما إن يَزا ... لُ مُضطَمراً طُرّتاه طَليحا
وقال الفرزدق:
وكُنا وَرثناه على عهدِ تُبّعٍ ... طويلاً سَواريه شديداً دعائمُهْ
وقال الفرزدق أيضاً:
قَرَنْبى يَحكّ قفا مُقرِفٍ ... لئيمٍ مآثرُه قُعدُدِ
وقال آخر، وهو أبو زبيد الطائي:
مُستَحِنٌّ بها الرياحُ فما يَجْ ... تابُها في الظلام كلُّ هَجودِ
وقال آخر، من بني أسد:
فلاقى ابنَ أنثى يبتغي مثلَ ما ابتغى ... من القوم مَسقيَّ السِّمام حدائدُهْ
وقال آخر، الكُميت بن معروف:
ومازِلت مَحمولاً عليَّ ضغينةٌ ... ومُضطَلِعَ الأضغان مُذ أنا يافعُ
وهذا في الشعر أكثر من أن أحصيه لك. ومن قال ذهب فلانةُ قال: أذاهبٌ فلانةُ وأحاضرٌ القاضيَ امرأةٌ. وقد يجوز في الشعر موعظةٌ جاءنا، كأنه اكتفى بذكر الموعظة عن التاء. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
فإما ترَيْ لِمّتي بُدِّلَتْ ... فإنّ الحوادث أودى بها
وقال الآخر، وهو عامرُ بن جُوَين الطائي:
فلا مُزنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أبقَلَ إبقالَها
وقال الآخر، وهو طُفَيلٌ الغَنَويّ:
إذ هي أحْوى من الرِّبعيّ حاجبُهُ ... والعينُ بالإثمِدِ الحاريّ مَكحولُ


وزعم الخليل رحمه الله أن " السماء منفطِرٌ به " كقولك: معضِّلٌ للقَطاة. وكقولك: مُرضِعٌ، للتي بها الرِّضاعُ. وأما المنفطرة فيجيء على العمل، كقولك منشقّةٌ، وكقولك مرضعة للتي ترضع. وأما " كُلٌّ في فَلَك يسبحون " ، و " رأيتُهُم لي ساجدين " ، و " يا أيها النّملُ ادخُلوا مساكنكم " فزعم أنه بمنزلة ما يعقل ويسمع، لما ذكرهم بالسّجود، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدّثتَ عنه كما تحدّث عن الأناسيّ. وكذلك " في فلك يسبحون " لأنها جُعلت - في طاعتها وفي أنه لا ينبغي لأحد أن يقول: مُطرنا بنَوْء كذا، ولا ينبغي لأحد أن يعبد شيئاً منها - بمنزلة من يَعقل من المخلوقين ويُبصر الأمور.
قال النابغة الجعديّ:
شَربتُ بها والدّيكُ يدعو صَباحهُ ... إذا ما بنو نعشٍ دَنوْا فتصوّبوا
فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تُؤمَر وتُطيع، وتفهم الكلام وتعبد، بمنزلة الآدميين.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: ما أحسنَ وجوهَهما؟ فقال: لأن الإثنين جميعٌ، وهذا بمنزلة قول الإثنين: نحن فعلنا ذاك، ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفرداً وبين ما يكون شيئاً من شيء. وقد جعلوا المفردين أيضاً جميعاً، قال الله جلّ ثناؤه: " وهل أتاكَ نبأ الخصمِ إذ تسوّروا المِحرابَ. إذ دخلوا على داودَ ففزِعَ منهم قالوا لا تخَفْ خَصمانِ بَغى بعضُنا على بعض " .
وقد يثنّون ما يكون بعضاً لشيء. زعم يونس أن رؤية كان يقول: ما أحسنَ رأسيهما. قال الراجز، وهو خِطام: ظهراهما مثلُ ظهورِ التُّرسَين وقالوا: وضعا رِحالَهما، يريد: رحلَيْ راحلتين. وحدُّ الكلام أن يقول: وضعتُ رحلي الراحلتين؛ فأجرَوه مجرى شيئين من شيئين.
باب إجراء الصفة فيه على الاسم
في بعض المواضع أحسن وقد يستوي فيه إجراء الصفة على الاسم، وأن تجعله خبراً فتنصبه فأما ما استويا فيه فقوله: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدٍ به، إن جعلته وصفاً. وإن لم تحمله على الرجل وحملتَه على الاسم المضمَر المعروف نصبتَه فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به، كأنه قال: معه بازٌ صائداً به، حين لم يرد أن يحمله على الأول.
وكما تقول: أتيتُ على رجلٍ ومررتُ به قائم، إن حملتَه على الرجل؛ وإن حملته على مررت به نصبته، كأنك قلت: مررتُ به قائماً.
ومثله: نحن قومٌ ننطلق عامدون الى بلد كذا، إن جعلتَه وصفاً. وإن لم تجعله وصفاً نصبتَ، كأنه قال: نحن ننطلق عامدين.
ومنه: مررتُ برجلٍ معه بازٌ قابضٍ على آخَر، ومررت برجلٍ معه جُبّةٌ لابسٍ غيرَها. وإن حملتَه على الإضمار الذي معه نصبتَ. وكذلك مررت برجلٍ عنده صقرٌ صائدٍ ببازٍ. إن حملتَه على الوصف فهو هكذا. وإن حملتَه على ما في عنده من الإضمار نصبت، كأنك قلت: عنده صقر صائداً ببازٍ.
وكذلك: مررت برجلٍ معه الفرسُ راكب بِرذَوْناً، إن لم ترد الصفة نصبتَ، كأنك قلت: معه الفرسُ راكباً برذوناً. فهذا لا يكون فيه وصفٌ ولا يكون إلا خبراً. ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون لفَسَدَ كلامٌ كثير، ولكان الوجه: مررتُ برجل جميلِه حسنِ الوجه. ولقال مررتُ بعبد الله معه بازك الصائدَ به، فتنصب. فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا يجوز أن تجعل المعرفة حالاً يقع فيه شيء. ولم تقل جميلَه لأنك لم ترد أن تقول إنه حسنُ الوجه في هذه الحال، ولا أنه حسنٌ وجهه جميلاً، أي في هذه الحال حسنَ وجهه. فلم يرد هذا المعنى ولكنه أراد أن يقول: هذا رجلٌ جميلُ الوجه، كما يقال. هذا رجلٌ حسنُ الوجه. فهذا الغالب في كلام الناس.
وإن أردتَ الوجه الآخرَ فنصبت فهو جائزٌ لا بأس به، وإن كان ليس له قوّة الوصف في هذا. فهذا الذي الوصفُ فيه أحسنُ وأقوى.
ومثله في أن الوصف أحسن: هذا رجلٌ عاقلٌ لبيب، لم يجعل الآخرَ حالاً وقع فيه الأول، ولكنه أثنى عليه وجعلهما شرعاً سواء، وسوّى بينهما في الإجراء على الاسم. والنصبُ فيه جائز على ما ذكرت لك. وإنما ضَعُفَ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال، ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان، لم يكن واحدٌ منهما قبل صاحبه، كما تقول: هذا رجلٌ سائرٌ راكباً دابةً. وقد يجوز في سعة الكلام على هذا، ولا ينقُض المعنى في أنهما شَرْعٌ سواء فيه. وسترى هذا النحو في كلامهم.


فأما القلب فباطلٌ. لو كان ذلك لكان الحدُّ والوجه في قوله: مررتُ بامرأة آخذةٍ عبدَها فضاربته النصبَ، لأن القلب لا يصلح، ولقلت: مررت برجلٍ عاقلةٍ أمُّه لبيبةً؛ لأنه لا يصلح أن تقدّم لبيبةً فتضمر فيها الأمَّ ثم تقول عاقلةٍ أمُّه.
وسمعناهم يقولون: هذه شاةٌ ذات حَملٍ مُثقلةٌ. وقال الشاعر، وهو حسان بن ثابت:
ظننتم بأن يَخفى الذي قد صنعتُمُ ... وفينا نبيٌّ عنده الوحي واضِعُهْ
ومما يُبطِل القلبَ قوله: زيدٌ أخو عبد الله مجنون به، إذا جعلتَ الأخ صفةً والجنون من زيدٍ بأخيه، لأنه لا يستقيم زيدٌ مجنون به أخو عبد الله.
وتقول: مررت برجل معه كيسٌ مختوم عليه، الرفع الوجهُ لأنه صفة الكيس. والنصب جائز على قوله: فيها رجلٌ قائماً، وهذا رجلٌ ذاهباً.
واعلم أنك إذا نصبتَ في هذا الباب فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، فالنصبُ على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يُشبه: فيها عبدُ الله قائمٌ غداً؛ لأن الظروف تُلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع، فإذا صار الاسم مجروراً أو عاملاً فيه فعلٌ أو مبتدأ، لم تُلغِه لأنه ليس يرفعه الابتداء، وفي الظروف إذا قلت: فيها أخواك قائمان يرفعه الابتداء.
وتقول: مررتُ برجلٍ معه امرأةٌ ضاربتُه، فهذا بمنزلة قوله: معه كيسٌ مختومٌ عليه. فإن قلت: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربِها، جررتَ ونصبت على ما فسّرتُ لك. وإن شئت قلت ضاربَها هو فنصبت، وإن شئت جررتَ ويكون هو وصفَ المضمَر في ضاربها حتى يكون كأنك لم تذكرها. وإن شئت جعلتَ هو منفصلاً، فيصير بمنزلة اسمٍ ليس من علامات المضمَر.
وتقول: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربُها هو، فكأنك قلت: معه امرأةٌ ضاربُها زيدٌ. ومثل قولك ضاربُها هو قوله: مررتُ برجل معه امرأة ضاربُها أبوه، إذا جعلتَ الأب مثل زيد، فإن لم تُنزل هو والأبَ منزلة زيد وما ليس من سببه ولم يلتبس به قلت: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربِها أبوه أو هو. وإن شئت نصبت، تُجرى الصفة على الرجل ولا تُجريها على المرأة، كأنك قلت: ضاربِها وضاربَها، وخصَصتَه بالفعل، فيجري مجرى مررتُ برجلٍ ضاربِها أبوه، ومررت بزيد ضاربَها أخوه. ولا يجوز هذا في زيد، كما أنه لا يجوز مررتُ برجلٍ ضاربِها زيدٌ، ولا مررتُ بعبد الله ضاربَها خالدٌ، وكما كان لم يجز يا ذا الجاريةِ الواطئَها زيدٌ، فتحملَه على النّداء. ولكن الجرّ جيد؛ ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بالذي وطئها أبوه جاز، ولو قلت بالذي وطئها زيد لم يكن. فإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها أبوه، جررتَ كما تجرّ في زيد حين قلت: يا ذا الجارية الواطئِها زيد. وتقول: يا ذا الجارية الواطئَها أبوه، تجعل الواطئَها من صفة المنادى، ولا يجوز أن تقول: يا ذا الجارية الواطئَها زيد، من قبل أن الواطئَها من صفة المنادى، فلا يجوز كما لا يجوز أن تقول: مررتُ بالرجل الحَسن زيدٌ، وقد يجوز أن تقول بالحَسن أبوه.
وكذلك إن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها هو، وجعلت هو منفصلاً. وإن شئت نصبتَه كما تقول: يا ذا الجارية الواطئَها، فتُجريه على المنادى ولا تُجريه على الجارية.
وإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها، وأن تريد الواطئِها هو لم يجز، كما لا يجوز مررتُ بالجارية الواطئِها تريد هو أو أنت، كما لا يجوز هذا وأنت تريد الأبَ أو زيداً. وليس هذا كقولك: مررتُ بالجارية التي وطئَها زيد أو التي وطئَها، لأن الفعل يضمَر فيه وتقع فيه علامة الإضمار، والاسم لا تقع فيه علامةُ الإضمار، فلو جاز ذلك لجاز أن يوصَف ذلك المضمَر بهو، فإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعاً إذا لم يوصف به شيء غيرُ الأول، وذلك قولك يا ذا الجارية الواطئَها، ففي هذا إضمار هو، وهو اسمُ المنادى، والصفة إنما هي للأول المنادى. ولو جاز هذا لجاز مررتُ بالرجل الآخِذِ به، تريد أنت، ولجاز مررتُ بجاريتك راضياً عنها، تريد أنت. ولو قلت مررت بجاريةٍ رضيت عنها، ومررت بجاريتك راضياً عنها، أو مررتُ بجاريتك قد رضيتَ عنها، كان جيداً، لأنك تضمِر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار ولا يكون ذلك في الاسم إلا أن تضمِر اسمَ الذي هو وصفه، ولا يوصف به شيء غيره مما يكون من سببه ويلتبس به.


وأما رُبَّ رجلٍ وأخيه منطلقَين، ففيها قبحٌ حتى تقول: وأخٍ له. والمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله وأخيه في موضع نكرة، لأن المعنى إنما هو وأخٍ له.
فإن قيل: أمضافة الى معرفة أو نكرة؟ فإنك قائلا الى معرفة، ولكنها أجريت مُجرى النكرة، كما أن مثلك مضافة الى معرفة وهي توصف بها النكرة، وتقع مواقعَها. ألا ترى أنك تقول ربّ مثلِك. ويدلّك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول: ربّ رجلٍ وزيدٍ، ولا يجوز لك أن تقول: ربّ أخيه حتى تكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة.
ومثل ذلك قول بعض العرب: " كل شاةٍ وسَخلتِها " ، أي وسخلةٍ لها، ولا يجوز حتى تذكر قبله نكرة فيُعلَم أنك لا تريد شيئاً بعينه، وأنك تريد شيئاً من أمة كلُّ واحد منهم رجل، وضممتَ إليه شيئاً من أمة كلهم يقال له أخٌ. ولو قلت: وأخيه وأنت تريد به شيئاً بعينه كان مُحالاً. وقال:
أي فتى هيجاء أنت وجارِها ... إذا ما رجالٌ بالرجال استقلّتِ
فالجارّ لا يكون فيه أبداً ههنا إلا الجرّ، لأنه لا يريد أن يجعله جار شيء آخر فتى هيجاء، ولكنه جعله فتى هيجاء جار هيجاء، ولم يردْ أن يعني إنساناً بعينه، لأنه لو قال: أيُّ فتى هيجاءَ أنت وزيدٌ لجعل زيداً شريكه في المدح. ولو رفعه على أنت، لو قال: أيُّ فتى هيجاء أنت وجارُها، لم يكن فيه معنى أي جارها، الذي هو فيه معنى التعجب.
وقال الأعشى:
وكم دون بيتكَ من صفصَفٍ ... ودَكداكِ رَملٍ وأعقادِها
ووضْعِ سِقاءٍ وإحقابِه ... وحَلِّ حُلوسٍ وإغمادِها
هذا حجةٌ لقوله: رُبّ رجلٍ وأخيه. فهذا الاسم الذي لم يكن ليكون نكرةً وحدَه، ولا يوصف به نكرة، ولم يحتمل عندهم أن يكون نكرة، ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يَشغلُ به العاملَ نكرة، ثم يُعطف عليه ما أضيف الى النكرة، ويصيّر بمنزلة مثلك ونحوه. ولم يُبتدأ به كما يُبتدأ بمثلك لأنه لا يجري مجراه وحدَه. ولم يَصر هذا نكرة إلا على هذا الوجه، كما أن أجمعين لا يجوز في الكلام إلا وصفاً، وكما أن أيُّ تكون في النداء كقولك: يا هذا، ولا يجوز إلا موصوفاً. وليس هذا حالَ الوصف والموصوف في الكلام، كما أنه ليس حالُ النكرة كحال هذا الذي ذكرتُ لك. وفيه على جوازه وكلامِ العرب به ضَعفٌ.
هذا باب ما يُنصب فيه الاسمُ لأنه
لا سبيل له الى أن يكون صفةً
وذلك قولك: هذا رجلٌ معه رجلٌ قائمين. فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معه معرفة فأشركَ بينهما وكأنه قال: معه امرأةٌ قائمين.
ومثله: مررت برجلٍ مع امرأة ملتزمين، فله إضمارٌ في مع كما كان له إضمار في معه، إلا أن للمضمَر في معه علَما وليس له في مع امرأة علَم إلا بالنية. ويدلّك على أنه مضمَرٌ في النية قولُك: مررت بقومٍ مع فلان أجمعون.
ومما لا يجوز فيه الصفة: فوق الدار رجلٌ وقد جئتك برجل آخَر عاقلَين مسلمين.
وتقول: اصنعْ ما سَرّ أخاك وأحبَّ أبوك الرجلان الصالحان، على الابتداء؛ وتنصبه على المدح والتعظيم، كقول الخِرْنق من قيس بن ثعلبة:
لا يَبعَدنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل معترَكٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ
ولا يكون نصبُ هذا كنصب الحال، وإن كان ليس فيه الألف واللام، لأنك لم تجعل في الدار رجل وقد جئتك بآخر، في حال تنبيهٍ يكونان فيه لإشارة، ولا في حال عمَلٍ يكونان فيه، لأنه إذا قال: هذا رجلٌ مع امرأة، أو مررت برجلٍ مع امرأة فقد دخل الآخرُ مع الأول في التنبيه والإشارة وجعلتَ الآخِرَ في مرورك، فكأنك قلت: هذا رجلٌ وامرأة، ومررت برجلٍ وامرأةٍ. وأما الألف واللام فلا يكونان حالاً البتة، لو قلت: مررت بزيدٍ القائمَ، كان قبيحاً إذا أردت قائماً.


وإن شئت نصبتَ على الشّتم، وذلك قولك: اصنعْ ما ساء أباك وكرِه أخوك الفاسقين الخبيثين. وإن شاء ابتدأ. ولا سبيل الى الصفة في هذا ولا في قولك: عندي غُلام وقد أتيتُ بجارية فارهين، لأنك لا تستطيع أن تجعل فارهين صفةً للأول والآخِر، ولا سبيل الى أن يكون بعض الاسم جرّاً وبعضه رفعاً، فلما كان كذلك صار بمنزلة ما كان معه معرفة من النكرات، لأنه لا سبيل الى وصف هذا كما أنه لا سبيل الى وصف ذلك، فجُعل نصباً كأنه قال: عندي عبد الله وقد أتيت بأخيه فارهين، جعل الفارهين ينتصبان على: النازلينَ بكلِّ معترَكٍ وفرّوا من الإحالة في عندي غلامٌ وأُتيتُ بجارية، الى الصب، كما فرّوا إليه في قولهم: فيها قائماً رجلٌ.
واعلم أنه لا يجوز أن تصف النكرة والمعرفة، كما لا يجوز وصفُ المختلفين، وذلك قولك: هذه ناقة وفصيلها الراتعان. فهذا محال، لأن الراتعان لا يكونان صفةً للفصيل ولا للناقة، ولا تستطيع أن تجعل بعضَها نكرةً وبعضَها معرفةً. وهذا قول الخليل رحمه الله.
وزعم الخليل أن الجرّين أو الرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجرّ والرفع، وذلك قولك: هذا رجلٌ وفي الدار آخَرُ كريمين. وقد أتاني رجلٌ وهذا آخَرُ كريمين، لأنهما لم يرتفعا من وجهٍ واحد. وقبّحه بقوله: هذا لابن إنسانَين عندنا كِراماً، فقال: الجرّ ههنا مختلفٌ ولم يُشرَك الآخِرُ فيما جرّ الأول.
ومثل ذلك: هذه جارية أخَوَي ابنين لفلان كِراماً؛ لأن أخَوَي ابنين اسمٌ واحدٌ والمضاف إليه الآخِرُ منتهاه، ولم يُشركِ الآخِرَ بشيء من حروف الإشراك فيما جرّ الاسم الأول.
ومثل ذلك: هذا فرسُ أخَوَي ابنَيْك العُقلاء الحُلَماء، لأن هذا في المعرفة مثل ذاك في النكرة، فلا يكون الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين، ولا يجوز أن يُجرى وصفاً لما انجرّ من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابُه.
ومما لا تجري الصفةُ عليه نحوُ هذان أخواك وقد تولّى أبواك الرجالُ الصالحون، إلا أن ترفعه على الابتداء، أو تنصبه على المَدْح والتعظيم.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: مررت بزيدٍ وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على هما صاحباي أنفسهما، والنصب على أعنيهما، ولا مدح فيه لأنه ليس مما يُمدح به.
وتقول: هذا رجلٌ وامرأتُه منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجهٍ واحد، وهما اسمان بُنيا على مبتدأين، وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقَدِم عمرو الرجلان الحليمان.
واعلم أنه لا يجوز: مَن عبد الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبتَ؛ لأنك لا تُثني إلا على من أثبتّه وعلمتَه، ولا يجوز أن تَخلِط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة علَمٌ فيمن قد علمتَه.
؟هذا باب ما ينتصب لأنه حالٌ
صار فيها المسئول والمسئول عنه وذلك قولك: ما شأنُك قائماً، وما شأن زيدٍ قائماً، وما لأخيك قائماً. فهذا حالٌ قد صار فيه، وانتصب بقولك: ما شأنُك كما ينتصب قائماً في قولك: هذا عبد الله قائماً، بما قبله. وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيه معنى لِمَ قمتَ في ما شأنُك وما لكَ. قال الله تعالى: " فما لَهُم عن التّذكِرَة مُعرضين " .
ومثل ذلك مَن ذا قائماً بالباب، على الحال، أي مَن ذا الذي هو قائمٌ بالباب. هذا المعنى تريد. وأما العامل فيه فبمنزلة هذا عبدُ الله، لأن مَن مبتدأ قد بُني عليه اسم. وكذلك: لمن الدارُ مفتوحاً بابُها.
أما قولهم: مَن ذا خيرٌ منك، فهو على قوله: من الذي هو خيرٌ منك، لأنك لم ترد أن تشير أو تومِئ الى إنسان قد استبان لك فضلُه على المسئول فيُعلِمَكه، ولكنك أردت مَن ذا الذي هو أفضل منك. فإن أومأتَ الى إنسان قد استبان لك فضلُه عليه، فأردتَ أن يُعلِمَكَه نصبتَ خيراً منك، كما قلت: مَن ذا قائماً، كأنك قلت: إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حالٍ قد فَضَلَك بها. ونصبُه كنصب ما شأنُك قائماً.
؟باب ما ينتصب على التعظيم والمدح
وإن شئت جعلته صفةً فجرى على الأول، وإن شئت قطعتَه فابتدأتَه. وذلك قولك: الحمد لله الحميد هو، والحمد لله أهلَ الحمد، والمُلك لله أهلَ المُلك. ولو ابتدأته فرفعتَه كان حسناً، كما قال الأخطل:


نفسي فداء أمير المؤمنين إذا ... أبدى النواجذَ يومٌ باسلٌ ذكَرُ
الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائره ... خليفةُ الله يُستسقى به المطرُ
وأما الصفة فإن كثيراً من العرب يجعلونه صفةً، فيُتبعونه الأولَ فيقولون: أهلِ الحمد والحميد هو، وكذلك الحمد لله أهلِه: إن شئت جررت، وإن شئت نصبت. وإن شئت ابتدأت كما قال مُهلهِل:
ولقد خبطن بيوتَ يشكُرَ خبطةً ... أخوالنا وهمُ بنو الأعمامِ
وسمعنا بعض العرب يقول: " الحمد لله ربَّ العالمين " ، فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية.
ومثل ذلك قول الله عز وجلّ: " لكِنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلكَ والمقيمينَ الصلاةَ والمؤتون الزكاة " . فلو كان كله رفعاً كان جيداً. فأما المؤمنون فمحمولٌ على الابتداء.
وقال جلّ ثناؤه: " ولكنّ البرَّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المالَ على حُبه ذوي القُربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاةَ والموفونَ بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساءِ والضراء وحين البأسِ " . ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً. ولو ابتدأتَه فرفعته على الابتداء كان جيداً كما ابتدأتَ في قوله: " والمؤتون الزكاةَ " .
ونظير هذا النصب من الشعر قول الخِرنِق:
لا يبعَدَنْ قومي الذي همُ ... سمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل مُعترَكٍ ... والطيبون معاقدَ الأزر
فرفعُ الطيبين كرفع المؤتين.
ومثل هذا في هذا الابتداء قول ابن خياط العُكلي:
وكل قوم أطاعوا أمرَ مُرشدهم ... إلا نُمَيراً أمرَ غاويها
الظاعنين ولما يُظعنوا أحداً ... والقائلون لمنْ دارٌ نُخلّيها
وزعم يونس أن من العرب من يقول: " النازلون بكل معترك والطيبين " فهذا مثل " والصابرين " . ومن العرب من يقول: الظاعنون والقائلين، فنصبُه كنصب الطيبين إلا أن هذا شتمٌ لهم وذمٌّ كما أن الطيبين مدحٌ لهم وتعظيم. وإن شئت أجريتَ هذا كلّه على الاسم الأول، وإن شئت ابتدأتَه جميعاً فكان مرفوعاً على الابتداء. كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما، كلُّ ذلك واسع.
وزعم عيسى أنه سمع ذا الرمة يُنشد هذا البيت نصباً:
لقد حملتْ قيسُ بن عَيلانَ حربَها ... على مستقلّ للنوائب والحربِ
أخاها إذا كانت عِضاضاً سما لها ... على كل حالٍ من ذَلول ومن صعبِ
زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا مَن تخاطب بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فجعله ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكرُ أهلَ ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعلٌ لا يستعمل إظهارُه.
وهذا شبيهٌ بقوله: إنا بني فلانٍ نفعل كذا، لأنه لا يريد أن يخبر مَن لا يدري أنه من بني فلان، ولكنه ذكر ذلك افتخاراً وابتهاءً. إلا أن هذا يجري على حرف النداء، وستراه إن شاء الله عزّ وجلّ في بابه في باب النداء مبيّناً. وتُرك إظهار الفعل فيه حيث ضارع هذا وأشباهه، لأن إنّا بني فلان ونحوه بمنزلة النداء. وقد ضارعه هذا الباب.
ومن هذا الباب في النكرة قول أميةَ بن أبي عائذ:
ويأوي الى نِسوة عُطّلٍ ... وشُعثاً مراضيعَ مثل السّعالي
كأنه حيث قال: الى نسوة عُطّل صِرنَ عنده ممن عُلم أنهن شُعثٌ، ولكنه، ذكر ذلك تشنيعاً لهن وتشويهاً. قال الخليل: كأنه قال: وأذكرهنّ شُعثاً، إلا أن هذا فعلٌ لا يُستعمل إظهارُه. وإن شئت جررت على الصفة.
وزعم يونس أنك تقول: مررت بزيد أخيك وصاحبك، كقول الراجز:
بأعيُن منها مليحات النُّقَبْ ... شكلِ التِّجارِ وحلالِ المكتسَبْ
كذلك سمعناه من العرب. وكذلك قال مالك بن خويلد الخُناعي:
يا ميَّ لا يُعجز الأيامَ ذو حِيَدٍ ... في حَومةِ الموت رزّامٌ وفرّاسُ
يحمي الصريمةَ أُحدانُ الرجال، له ... صيدٌ، ومجترئٌ بالليل همّاسُ
وإن شئت حملته على الابتداء كما قال:
فَتي الناس لا يخفى عليهم مكانُه ... وضِرغامةٌ إن همّ بالحرب أوقعا
وقال آخر:


إذا لقى الأعداء كان خلاتَهم ... وكلبٌ على الأدنين والجارِ نابحُ
كذلك سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما.
واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم، ولا كل صفة يحسن أن يعظَّم بها. لو قلت: مررت بعبد الله أخيك صاحبَ الثياب أو البزّاز، لم يكن هذا مما يعظَّم به الرجل عند الناس ولا يفخَّم به. وأما الموضع الذي لا يجوز فيه التعظيم فأن تذكر رجلاً بنبيهٍ عند الناس، ولا معروفٍ بالتعظيم ثم تعظّمه كما تعظّم النبيه. وذلك قولك: مررت بعبد الله الصالح. فإن قلت مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت المُطعِمين في المَحل، جاز لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عُرف منهم ذلك، وجاز له أن يجعلهم كأنه قد عُلموا. فاستحسن من هذا ما استحسن العربُ، وأجِزْه كما أجازته.
وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيماً لله عزّ وجلّ يكون تعظيماً لغيره من المخلوقين: لو قلت: الحمدُ لزيد تريد العظمةَ لم يجز، وكان عظيماً. وقد يجوز أن تقول: مررت بقومك الكرام، إذا جعلت المخاطَب كأنه قد عرفهم، كما قال مررت برجلٍ زيدٌ، فتُنزله منزلةَ من قال لك من هو وإن لم يتكلم به. فكذلك هذا تُنزله هذه المنزلة وإن كان لم يعرفهم.
؟باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم
وما أشبهه
تقول: أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيث: لم يرد أن يكرره ولا يعرّفك شيئاً تُنكره، ولكنه شتمه بذلك.
وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصباً: " وامرأتُه حمّالةَ الحطب " لم يجعل الحمالة خبراً للمرأة، ولكنه كأنه قال: أذكرُ حمّالةَ الحطب، شتماً لها، وإن كان فعلاً لا يُستعمل إظهاره.
وقال عروة الصعاليك العبسي:
سقَوْني الخمرَ ثم تكنّفوني ... عُداةَ الله من كذب وزورِ
إنما شتمهم بشيء قد استقر عند المخاطَبين. وقال النابغة:
لَعمري وما عَمري عليّ بهيّنٍ ... لقد نطقتْ بُطلاً عليّ الأقارعُ
أقارعُ عَوفٍ لا أحاول غيرَها ... وجوهَ قرودٍ تبتغي من تُجاذع
وزعم يونس أنك إن شئت رفعتَ البيتين جميعاً على الابتداء، تُضمر في نفسك شيئاً لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعاً. ومثل ذلك:
متى ترَ عينيْ مالكٍ وجِرانَه ... وجَنبَيْه تعلمْ أنه غيرُ ثائرِ
حِضْجَرٌ كأمّ التوأمَين توكّأَتْ ... على مِرفقيها مستهلةَ عاشرِ
وزعموا أن أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصباً، وهذا الشعرُ لرجل معروف من أزْدِ السّراة:
قُبّح من يزني بعو ... فٍ من ذوات الخُمُرْ
الآكلَ الأشداء لا ... يحفِلُ ضوء القمر
وإن شاء جعله صفةً فجرّه على الاسم.
وزعم يونس أنه سمع الفرزدق يُنشد:
كم عمةٍ لك يا جريرُ وخالةٍ ... فَدْعاءَ قد حلبتْ عليّ عِشاري
شغّارةً تَقِذُ الفصيلَ برِجْلها فطّارةً لقوادمِ الأبكار جعله شتماً، وكأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطَب عنده عالماً بذلك. ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان ذلك جائزاً عربياً. وقال:
طليقُ الله لم يمنُنْ عليه ... أبو داودَ وابنُ أبي كثيرِ
ولا الحجاجُ عينيْ بنتِ ماءٍ ... تقلّبُ طَرفها حَذَرَ الصّقور
فهذا بمنزلة وجوه قرودٍ.
وأما قول حسان بن ثابت:
حارِ بنَ كعب ألا أحلامَ تزجُركم ... عني وأنتم من الجُوف الجماخيرِ
لا بأس بالقوم من طُولٍ ومن عِظمٍ ... جسمُ البِغال وأحلامُ العصافير
فلم يردْ أن يجعله شتماً، ولكنه أراد أن يعدّد صفاتهم ويفسّرها، فكأنه قال: أما أجسامهم فكذا وأما أحلامهم فكذا.
وقال الخليل رحمه الله: لو جعله شتماً فنصبه على الفعل كان جائزاً.
وقد يجوز أن ينصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا يريد مدحاً ولا ذمّاً ولا شيئاً مما ذكرت لك. وقال:
وما غرّني حوزُ الرِّزاميّ مِحصَناً ... عواشيها بالجوّ وهو خصيبُ
ومِحصن: اسم الرزامي، فنصبه على أعني، وهو فعل يظهر، لأنه لم يرد أكثر من أن يعرّفه بعينه، ولم يرد افتخاراً ولا مدحاً ولا ذماً. وكذلك سُمع هذا البيت من أفواه العرب، وزعموا أن اسمه مِحصَنٌ.
ومن هذا الترحم، والترحم يكون بالمسكين والبائس ونحوه، ولا يكون بكل صفة ولا كل اسم، ولكن ترحّم بما ترحّم به العرب.


وزعم الخليل أنه يقول: مررت به المسكين، على البدل، وفيه معنى الترحّم، وبدله كبدل مررت به أخيك. وقال:
فأصبحتْ بقَرْقَرى كَوانِساً ... فلا تلُمه أن ينام البائسا
وكان الخليل يقول: إن شئت رفعته من وجهين فقلت: مررت به البائس، كأنه لما قال مررت به قال المسكين هو، كما يقول مبتدئاً: المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين، كما قال: بنا تماماً يُكشَف الضّبابْ وفيه معنى الترحّم، كما كان في قوله رحمةُ الله عليه معنى رحمه الله. فما يُترحّم به يجوز فيه هذان الوجهان، وهو قول الخليل رحمه الله. وقال أيضاً: يكون مررت به المسكين على: المسكين مررت به، وهذا بمنزلة لقيته عبد الله، إذا أراد عبد الله لقيتُه. وهذا في الشعر كثير.
وأما يونس فيقول: مررت به المسكينَ على قوله: مررت به مسكيناً.
وهذا لا يجوز لأنه لا ينبغي أن يجعله حالاً ويدخل فيه الألف واللام، ولو جاز هذا لجاز مررت بعبد الله الظريف، تريد ظريفاً. ولكنك إن شئت حملته على أحسنَ من هذا، كأنه قال: لقيت المسكينَ، لأنه إذا قال مررت بعبد الله فهو عملٌ، كأنه أضمر عملاً. وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه عليه فِراراً من أن يصفوا المضمَر، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يقول إنه المسكين أحمق، على الإضمار الذي جاز في مررت، كأنه قال: إنه هو المسكين أحمق. وهو ضعيف. وجاز هذا أن يكون فصلاً بين الاسم والخبر لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى: إنا تميماً ذاهبون. فإذا قلت: بي المسكينَ كان الأمر، أو بك المسكينَ مررت، فلا يحسن فيه البدل، لأنك إذا عنيت المخاطَب أو نفسَك فلا يجوز أن يكون لا يدري من تعني، لأنك لست تحدّث عن غائب، ولكنك تنصبه على قولك: بنا تميماً، وإن شئت رفعته على ما رفعت عليه ما قبله. فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين والمعنى واحد، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد.
وأما يونس فزعم أنه ليس يرفع شيئاً من الترحم على إضمار شيء يرفع، ولكنه إن قال ضربته لم يقل أبداً إلا المسكين، يحمله على الفعل. وإن قال ضرباني قال المسكينان، حمله أيضاً على الفعل. وكذلك مررت به المسكين، يحمل الرفعَ على الرفع، والجرَّ على الجرّ، والنصب على النصب. ويزعم أن الرفع الذي فسّرنا خطأ. وهو قول الخليل رحمه الله وابن أبي إسحاق.
؟باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني
على ما هو قبله من الأسماء المبهمة
والأسماء المبهَمة: هذا، وهذان، وهذه، وهاتان، وهؤلاء، وذلك وذانك، وتلك وتانك، وتيك، وأولئك، وهو وهي، وهما، وهم وهنّ، وما أشبه هذه الأسماء، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على الأسماء غير المبهمة.
فأما المبني على الأسماء المبهمة فقولك: هذا عبد الله منطلقاً، وهؤلاء قومك منطلقين، وذاك عبد الله ذاهباً، وهذا عبد الله معروفاً. فهذا اسمٌ مبتدأ يبنى عليه ما بعده وهو عبد الله. ولم يكن ليكون هذا كلاماً حتى يُبنى عليه أو يبنى على ما قبله. فالمبتدأ مُسند والمبني عليه مسند إليه، فقد عمل هذا فيما بعده كما يعمل الجارّ والفعل فيما بعده. والمعنى أنك تريد أن تنبهه له منطلقاً، لا تريد أن تعرّفه عبد الله؛ لأنك ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: انظر إليه منطلقاً، فمنطلقٌ حالٌ قد صار فيها عبد الله وحالَ بين منطلق وهذا، كما حال بين راكب والفعل حين قلت: جاء عبد الله راكباً، صار لعبد الله وصار الراكب حالاً. فكذلك هذا.
وذاك بمنزلة هذا. إلا أنك إذا قلت ذاك فأنت تنبهه لشيء مُتراخ.
وهؤلاء بمنزلة هذا، وأولئك بمنزلة ذاك، وتلك بمنزلة ذاك. فكذلك هذه الأسماء المبهمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام.


وأما هو فعلامة مضمَر، وهو مبتدأ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا. وذلك قولك: هو زيد معروفاً، فصار المعروف حالاً. وذلك أنك ذكرت للمخاطَب إنساناً كان يجهله أو ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: أثبتْه أو الزَمْه معروفاً، فصار المعروف حالاً، كما كان المنطلق حالاً حين قلت: هذا زيد منطلقاً. والمعنى أنك أردت أن توضّح أن المذكور زيد حين قلت معروفاً، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما أشبه المعروف، لأنه يعرّف ويؤكّد، فلو ذكر هنا الانطلاق كان غير جائز، لأن الانطلاق لا يوضّح أنه زيد ولا يؤكده. ومعنى قوله معروفاً: لا شك؛ وليس ذا في منطلق. وكذلك هو الحق بيّناً، ومعلوماً، لأن ذا مما يوضَّح ويؤكَّد به الحقّ.
وكذلك هي وهما وهم وهنّ، وأنا وأنت وإنه. قال ابن دارة:
أنا ابن دارةَ معروفاً بها نسبي ... وهل بدارةَ يا للناس من عارِ
وقد يكون هذا وصواحبه بمنزلة هو، يعرَّف به، تقول: هذا عبد الله فاعرفْه؛ إلا أن هذا علامةً للمضمَر، ولكنك أردت أن تعرّف شيئاً بحضرتك.
وقد تقول: هو عبد الله، وأنا عبد الله، فاخراً أو مُوعداً. أي اعرِفْني بما كنتَ تعرف وبما كان بلغك عني، يم يفسّر الحال التي كان يعلمه عليها أو تبلغه فيقول: أنا عبد الله كريماً جواداً، وهو عبد الله شجاعاً بطلاً.
وتقول: إني عبد الله؛ مصغِّراً نفسه لربّه، ثم تفسّر حال العبيد فتقول: آكِلاً كما تأكل العبيد.
وإذا ذكرت شيئاً من هذه الأسماء التي هي علامة للمضمَر فإنه مُحال أن يظهر بعدها الاسم إذا كنت تُخبر عن عمل، أو صفة غير عمل، ولا تريد أن تعرّفه بأنه زيدٌ أو عمرو. وكذلك إذا لم توعد ولم تفخر أو تصغّر نفسك؛ لأنك في هذه الأحوال تعرّف ما تُرى أنه قد جُهل، أو تُنزل المخاطَب منزلة من يجهل فخراً أو تهدُّداً أو وعيداً، فصار هذا كتعريفك إياه باسمه.
وإنما ذكر الخليل رحمه الله هذا لنعرف ما يُحال منه وما يَحسن، فإن النحويين مما يتهاونون بالخلفْ إذا عرفوا الإعراب. وذلك أن رجلاً من إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يخبرك عن نفسه أو عن غيره بأمر فقال: أنا عبد الله منطلقاً، وهو زيد منطلقاً كان مُحالاً؛ لأنه إنما أراد أن يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأن هو وأنا علامتان للمضمَر، وإنما يضمِر إذا علم أنك عرفت من يعني. إلا أن رجلاً لو كان خلفَ حائط، أو في موضع تجهله فيه فقلت من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقاً في حاجتك، كان حسناً.
وأما ما ينتصب لأنه خبر مبنيّ على اسم غير مبهم، فقولك: أخوك عبد الله معروفاً. هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها.
؟هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة
وذلك قولك: هذان رجلان وعبد الله منطلقين. وإنما نصبت للمنطلقين لأنه لا سبيل الى أن يكون صفةً لعبد الله، ولا أن يكون صفة للإثنين، فلما كان ذلك مُحالاً جعلته حالاً صاروا فيها، كأنك قلت: هذا عبد الله منطلقاً.
وهذا شبيه بقولك: هذا رجل مع امرأةٍ قائمَيْن.
وإن شئت قلت: هذان رجلان وعبد الله منطلقان، لأن المنطلقين في هذا الموضع من اسم الرجلين، فجريا عليه.
وتقول: هؤلاء ناسٌ وعبد الله منطلقين، إذا خلطتَهم. ومن قال: هذان رجلان وعبد الله منطلقان قال: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقون؛ لأنه لم يُشرك بين عبد الله وبين ناسٍ في الانطلاق.
وتقول: هذه ناقة وفصيلها راتعين. وقد يقول بعضهم: هذه ناقة وفصيلها راتعان. وهذا شبيه بقول من قال: كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، إنما يريد كل شاةٍ وسخلة لها بدرهم. ومن قال كل شاةٍ وسخلتها، فجعله يمنزلة كل رجل وعبد الله منطلقاً لم يقل في الراتعين إلا النصب، لأنه إنما يريد حينئذ المعرفة، ولا يريد أن يُدخل السخلة في الكل لأن كل لا يدخل في هذا الموضع إلا على النكرة. والوجه كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعين، لأن هذا أكثر في كلامهم، وهو القياس. والوجه الآخر قد قاله بعض العرب.
؟هذا باب
ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفة
وذلك قولك: هذا عبد الله منطلقٌ، حدّثنا بذلك يونس وأبو الخطاب عمن يوثق به من العرب.
وزعم الخليل رحمه الله أن رفعه يكون على وجهين:


فوجهٌ أنك حين قلت: هذا عبد الله أضمرت هذا أو هو، كأنك قلت هذا منطلق أو هو منطلق. والوجه الآخر: أن تجعلهما جميعاً خبراً لهذا، كقولك: هذا حلوٌ حامضٌ، لا تريد أن تنقض الحلاوة، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين. وقال الله عز واجلّ: " كلا إنها لظى. نزّاعة للشّوى " . وزعموا أنها في قراءة أبي عبد الله. " هذا بعلي شيخٌ " .
قال: سمعنا ممن يروي هذا الشعر من العرب يرفعه:
من يكُ ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظٌ مصيّفٌ مشتي
وأما قول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزل ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا ليس على إضمار أنا. ولو جاز هذا على إضمار أنا لجاز: كان عبد الله لا مسلمٌ ولا صالح على إضمار هو. ولكنه فيما زعم الخليل رحمه الله: فأبيت بمنزلة الذي يقال لا حرجٌ ولا محروم. ويقوّيه في ذلك قوله، وهو الربيع الأسدي:
على حين أن كانت عُقَيلٌ وشائظا ... وكانت كلابٌ خامري أمَّ عامرِ
فإنما أراد: كانت كلاب التي يقال لها خامري أم عامر.
وقد زعم بعضهم أن رفعه على النفي، كأنه قال: فأبيتُ لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به. وقال الخليل رحمه الله: كأنه حكاية لما كان يُتكلّم به قبل ذلك، فكأنه حكى ذلك اللفظ، كما قال:
كذَبْتُم وبيتِ الله لا تنكحونَها ... بني شابَ قرناها تصُرُّ وتحلُبُ
أي بني من يقال له ذلك.
والتفسير الآخر الذي على النفي كأنه أسهل.
وقد يكون رفعه على أن تجعل عبد الله معطوفاً على هذا كالوصف، فيصير كأنه قال: عبد الله منطلقٌ. وتقول: هذا زيدٌ رجلٌ منطلقٌ على البدل، كما قال تعالى جدُّه: " بالناصية. ناصيةٍ كاذبةٍ " . فهذه أربعة أوجه في الرفع.
؟هذا باب
ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبني على مبتدأ
أو ينتصب فيه الخبر لأنه حال لمعروفٍ مبني على مبتدأ فأما الرفع فقولك: هذا الرجل منطلقٌ، فالرجل صفة لهذا، وهما بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: هذا منطلقٌ. قال النابغة:
توهّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لستة أعوام وذا العام سابعُ
كأنه قال: وهذا سابعٌ.
وأما النصب فقولك: هذا الرجل منطلقاً، جعلتَ الرجل مبنياً على هذا، وجعلت الخبر حالاً له قد صار فيها، فصار كقولك: هذا عبد الله منطلقاً. وإنما يريد في هذا الموضع أن يُذكَر المخاطَب برجلٍ قد عرفه قبل ذلك، وهو في الرفع لا يريد أن يُذكره بأحد، وإنما أشار فقال هذا منطلقٌ، فكأن ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على أنه حالٌ مفعول فيها، لأن المبتدأ يعمل فيما بعده كعمل الفعل فيما يكون بعده، ويكن فيه معنى التنبيه والتعريف، ويحولُ بين الخبر والاسم المبتدأ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر، فيصير الخبر حالاً قد ثبت فيها وصار فيها كما كان الظرف موضعاً قد صِيرَ فيه بالنية وإن لم يذكر فعلاً. وذلك أنك إذا قلت فيها زيدٌ فكأنك قلت استقرّ فيها زيد وإن لم تذكر فعلاً؛ والنصب بالذي هو فيه كانتصاب الدرهم بالعشرين لأنه ليس من صفته ولا محمولاً على ما حُمل عليه، فأشبه عندهم ضاربٌ زيداً.
وكذلك هذا عمل فيما بعده عمل الفعل، وصار منطلقٌ حالاً، فانتصب بهذا الكلام انتصابَ راكب بقول: مرّ زيد راكباً.
وأما قوله عز وجلّ " هو الحقُّ مصدّقاً " فإن الحق لا يكون صفةً لهو، من قبل أن هو اسم مضمَر والمضمر لا يوصَف بالمظهر أبداً؛ لأنه قد استغنى عن الصفة. وإنما تُضمِر الاسم حين يستغنى بالمعرفة، فمن ثمّ لم يكن في هذا الرفع كما كان في هذا الرجلُ. ألا ترى أنك لو قلت: مررت بهو الرجل، لم يجز ولم يَحسن، ولو قلت: مررت بهذا الرجل، كان حسناً جميلاً.
؟باب ما ينتصب فيه الخبر
لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء، قدّمته أو أخرته وذلك قولك: فيها عبد الله قائماً، وعبد الله فيها قائماً. فعبد الله ارتفع بالابتداء لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به، وإنما هو موضعٌ له، ولكنه يجري مجرى الاسم المبني على ما قبله. ألا ترى أنك لو قلت: فيها عبد الله حسُن السكوت وكان كلاماً مستقيماً، كما حسن واستُغنى في قولك: هذا عبد الله. وتقول: عبد الله فيها، فيصير كقولك عبد الله أخوك. إلا أن عبد الله يرتفع مقدَّماً كان أو مؤخراً بالابتداء.


ويدلّك على ذلك أنك تقول: إن فيها زيداً، فيصير بمنزلة قولك: إن زيداً فيها؛ لأن فيها لما صارت مستقَراً لزيد يستغني به السكوت وقعَ موقع الأسماء، كما أن قولك: عبد الله لقيتُه يصير لقيتُه فيه بمنزلة الاسم، كأنك قلت: عبد الله منطلق، فصار قولك فيها كقولك: استقرّ عبد الله، ثم أردت أن تُخبِر على أية حالٍ استقرّ فقلت قائماً، فقائم حال مستقَرٌّ فيها. وإن شئت ألغيت فيها فقلت: فيها عبد الله قائمٌ. قال النابغة:
فبتُّ كأني ساورتْني ضئيلةٌ ... من الرُقشِ في أنيابها السمُ ناقعُ
وقال الهذلي:
لا درَّ درّيَ إن أطعمتُ نازلَكم ... قِرفَ الحتيّ وعندي البُرُّ مكنوزُ
كأنك قلت: البرُّ مكنوزٌ عندي، وعبد الله قائمٌ فيها.
فإذا نصبت القائم ففيها قد حالت بين المبتدأ والقائم واستُغني بها، فعمل المبتدأ حين لم يكن القائم مبنياً عليه، عمل هذا زيدٌ قائماً، وإنما تجعل فيها، إذا رفعت القائم، مستقرَّاً للقيام وموضعاً له، وكأنك لو قلت: فيها عبد الله، لم يجز عليه السكوت. وهذا يدلّك على أن فيها لا يُحدث الرفع أيضاً في عبد الله؛ لأنها لو كانت بمنزلة هذا لم تكن لتُلغى، ولو كان عبد الله يرتفع بفيها لارتفع بقولك عبد الله مأخوذٌ؛ لأن الذي يرفع وينصب ما يستغني عليه السكوت وما لا يستغني، بمنزلة واحدة. ألا ترى أن كان تعمل عمل ضرب، ولو قلت كان عبد الله لم يكن كلاماً، ولو قلت ضرب عبد الله كان كلاماً.
ومما جاء في الشعر أيضاً مرفوعاً قوله، لابن مقبل:
لا سافِرُ النّيّ مدخولٌ ولا هَبِجٌ ... عاري العظام عليه الودْع منظومُ
فجميع ما يكون ظرفاً تلغيه إن شئت، لأنه لا يكون آخِراً إلا على ما كان عليه أولاً قبل الظرف، ويكون موضع الخبر دون الاسم، فجرى في أحد الوجهين مجرى ما لا يستغني عليه السكوت، كقولك: فيك زيدٌ راغبٌ فرغبتُه فيه.
ومثل قولك فيها عبد الله قائماً: هو لك خالصاً، وهو لك خالصٌ؛ كأن قولك هو لك بمنزلة أهبُه لك ثم قلت خالصاً. ومن قال فيها عبد الله قائم، قال هو لك خالص، فيصير خالص مبنياً على هو كما كان قائم مبنياً على عبد الله، وفيها لَغوٌ، إلا أنك ذكرت فيها لتبيّن أين القيام، وكذلك لك إنما أردت أن تبيّن لمن الخالصُ.
وقد قُرئ هذا الحرف على وجهين: " قُل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يوم القيامة " ، بالرفع والنصب.
وبعض العرب يقول: هو لك الجمّاء الغفيرُ، يرفع كما يرفع الخالص. والنصبُ أكثر، لأن لجمّاء الغفير بمنزلة المصدر، فكأنه قال هو لك خُلوصاً. فهذا تمثيلٌ ولا يُتكلم به.
ومما جاء في الشعر قد انتصب خبرُه وهو مقدَّم قبل الظرف، قوله:
إن لكمْ أصلَ البلاد وفرعَها ... فالخير فيكم ثابتاً مبذولا
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: أتكلم بهذا وأنت ههنا قاعداً.
ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر قول العرب: هو رجلُ صدقٍ معلوماً ذاك، وهو رجل صدق معروفاً ذاك، وهو رجل صدق بينّا ذاك، كأنه قال: هذا رجل صدق معروفاً صلاحُه، فصار حالاً وقع فيه أمر، لأنك إذا قلت: هو رجل صدقٍ فقد أخبرتَ بأمر واقع، ثم جعلتَ ذلك الوقوع على هذه الحال. ولو رفعتَ كان جائزاً على أن تجعله صفةً، كأنك قلت: هو رجل معروفُ صلاحُه.
ومثل ذلك: مررت برجل حسنةٍ أمه كريماً أبوها، زعم الخليل أنه أخبر عن الحُسن أنه وجبَ لها في هذه الحال. وهو كقولك: مررت برجلٍ ذاهبةٍ فرسُه مكسوراً سرجُها، والأول كقولك: هو رجل صدق معروفاً صدقه، وإن شئت قلت معروفٌ ذلك ومعلوم ذلك، على قولك: ذاك معروفٌ وذاك معلوم. سمعتُه من الخليل.
؟هذا بابٌ من المعرفة
يكون فيه الاسم الخاص شائعاً في الأمة
ليس واحدٌ منها أولى به من الآخر، ولا يُتوهّم به واحدٌ دون آخر له اسمٌ غيره، نحو قولك للأسد: أبو الحارث وأسامة، وللثعلب: ثُعالة وأبو الحُصَين وسَمسَم، وللذئب: دأَلان وأبو جَعدة، وللضّبُع: أمّ عامر وحَضاجر وجَعار وجيْأل وأمّ عنثل وقَثام، ويقال للضِّبعان قُثَم.
ومن ذلك قولهم للغراب: ابن بَريح.


فكل هذا يجري خبره مجرى خبر عبد الله. ومعناه إذا قلت هذا أبو الحارث أو هذا ثُعالة أنك تريد هذا الأسد وهذا الثعلب؛ وليس معناه كمعنى زيد وإن كانا معرفةً. وكان خبرهما نصباً من قبل أنك إذا قلت هذا زيدٌ فزيد اسم لمعنى قولك هذا الرجل إذا أردتَ شيئاً بعينه قد عرفه المخاطَب بحلْيته أو بأمر قد بلغه عنه قد اختُص به دون من يعرف. فكأنك إذا قلت هذا زيد قلت: هذا الرجل الذي من حِليته ومن أمره كذا وكذا بعينه، فاختُصّ هذا المعنى باسم عَلَم يلزم هذا المعنى، ليُحذف الكلام وليُخرَج من الاسم الذي قد يكون نكرة ويكون لغير شيء بعينه. لأنك إذا قلت هذا الرجل فقد يكون أن تعني كماله، ويكون أن تقول هذا الرجل وأن تريد كل ذكَر تكلم ومشى على رجلين فهو رجل. فإذا أراد أن يُخلِص ذلك المعنى ويختصه ليُعرَف من يُعنى بعينه وأمره قال زيد ونحوه.
وإذا قلت: هذا أبو الحارث فأنت تريد هنا الأسد، أي هذا الذي سمعتَ باسمه، أو هذا الذي قد عرفتَ أشباهه، ولا تريد أن تشير الى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك، كمعرفته زيداً، ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم، فاختُصّ هذا المعنى باسم كما اختُص الذي ذكرنا بزيد لأن الأسد يتصرف تصرّف الرجل ويكون نكرة، فأرادوا أسماءً لا تكون إلا معرفة وتلزم ذلك المعنى.
وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسمٌ معناه معنى زيد، أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس فيحتاجوا الى أسماء يعرفون بها بعضاً من بعض، ولا تحفَظ حُلاها كحفظ ما يَثبت مع الناس ويقتنونه ويتخذونه. ألا تراهم قد اختصوا الخيل والإبل والغنم والكلاب وما تثبت معهم واتخذوه، بأسماء كزيد وعمرو.
ومنه أبو جُخادب، وهو شيء يشبه الجندُب غير أنه أعظم منه، وهو ضربٌ من الجنادب كما أن بنات أوبَر ضربٌ من الكمأة، وهي معرفة.
ومن ذلك ابنُ قِتْرة، وهو ضربٌ من الحيات، فكأنهم إذا قالوا هذا ابن قتْرة فقد قالوا هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا.
وإذا قالوا بنات أوبَر فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة، وإذا قالوا أبو جُخادب فكأنهم قالوا هذا الضرب الذي سمعتَ به من الجنادب أو رأيته. ومثل ذلك ابنُ آوى كأنه قال هذا الضرب الذي سمعته أو رأيته من السباع؛ فهو ضرب من السباع كما أن بنات أوبر ضربٌ من الكمأة. ويدلك على أنه معرفة أن آوى غير مصروف وليس بصفة. ومثل ذلك ابنُ عِرس وأم حُبَين وسامّ أبرص. وبعض العرب يقول أبو بُريص وحمار قبّان، كأنه قال في كل واحد من هذا الضرب الذي يعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا. وكأنه قال في المؤنث نحو أم حُبين هذه التي تعرَف من أحناش الأرض بصورة كذا.
واختصت العرب لكل ضرب من هذه الضروب اسماً على معنى الذي تعرفها به لا تدخله النكرة كما أن الذي تعرف لا تدخله النكرة، كما فعلوا ذلك بزيد والأسد. إلا أن هذه الضروب ليس لكل واحد منها اسم يقع على كل واحد من أمته يدخله المعرفة والنكرة، بمنزلة الأسد يكون معرفة ونكرة، ثم اختُص باسم معروف كما اختُص الرجل بزيد وعمرو، وهو أبو الحارث، ولكنها لزمت اسماً معروفاً، وتركوا الاسم الذي تدخله المعاني المعرفة والنكرة، ويدخله التعجب، وتوصَف به الأسماء المبهمة كمعرفته بالألف واللام نحو الرجل.
والتعجب كقولك: هذا الرجل وأنت تريد أن ترفع شأنه.
ووصفُ الأسماء المبهمة نحو قولك: هذا الرجل قائم. فكأن هذا اسمٌ جامع لمعان.
وابن عِرس يراد به معنى واحد، كما أريد بأبي الحارث وبزيد معنى واحد واستُغني به.
ومثَل هذا في بابه مثَل رجل كانت كُنيته هي الاسم وهي الكنية.
ومثَل الأسد وأبي الحارث كرجل كانت له كنية واسمٌ.
ويدلّك على أن ابن عرس وأم حُبين وسامَّ أبرص وابن مَطَر معرفة، أنك لا تدخل في الذي أُضِفن إليه الألف واللام، فصار بمنزلة زيد وعمرو. ألا ترى أنك لا تقول أبو الجُخادب.
وهو قول أبي عمرو، حدّثنا به يونس عن أبي عمرو.
وأما ابن قترة وحمار قبّان وما أشبههما، فيدلك على معرفتهن ترك صرف ما أُضفن إليه.
وقد زعموا أن بعض العرب يقول: هذا ابنُ عرس مُقبلٌ، فرفعه على وجهين: فوجهٌ مثل: هذا زيد مقبل، ووجه على أنه جعل ما بعده نكرة فصار مضافاً الى نكرة، بمنزلة قولك هذا رجلٌ منطلق.


ونظير ذلك هذا قيسُ قُفّةٍ آخر منطلق. وقيسُ قُفة لقب، والألقاب والكُنى بمنزلة الأسماء نحو زيد وعمرو، ولكنه أراد في قيس قُفة ما أراد في قوله هذا عُثمان آخر، فلم يكن له بدّ من أن يُجعل ما بعده نكرة حتى يصير نكرة، لأنه لا يكون الاسم نكرة وهو مضاف الى معرفة.
وعلى هذا الحد تقول: هذا زيد منطلق، كأنك قلت هذا رجل منطلق، فإنما دخلت النكرة على هذا العلَم الذي إنما وُضع للمعرفة ولهذا جيء به، فالمعرفة هنا الأوْلى.
وأما ابن لَبون وابن مَخاض فنكرة، لأنها تدخلها الألف واللام. وكذلك ابن ماء. قال جرير، فيما دخل فيه الألف واللام:
وابن اللَبون إذا ما لُزّ في قَرَن ... لم يستطع صولةَ البُزْلِ القناعيسِ
وقال أبو عطاء السِّندي:
مفدَّمةً قزّاً كأن رِقابها ... رِقاب بنات الماء أفزَعها الرّعدُ
وقال الفرزدق:
وجدنا نهشَلاً فضلَتْ فقيْماً ... كفضل ابن المَخاض على الفصيلِ
فإذا أخرجتَ الألف واللام صار الاسم نكرةً. قال ذو الرّمة:
ورَدتُ اعتِسافاً والثريّا كأنها ... على قمة الرأس ابنُ ماءٍ مُحلّقُ
وكذلك ابن أفعلَ إذا كان أفعل ليس باسمٍ لشيء.
وقال ناسٌ: كلُ ابن أفعلَ معرفة لأنه لا ينصرف. وهذا خطأ؛ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول هذا أحمرُ قُمُذٌ فترفعه إذا جعلته صفة للأحمر، ولو كان معرفةً كان نصباً، فالمضاف إليه بمنزلته. قال ذو الرمة:
كأنّا على أولاد أحقَبَ لاحَها ... ورمْيُ السّفا أنفاسَها بِسَهامِ
جَنوبٌ ذَوَتْ عنها التناهي وأنزلتْ ... بها يومَ ذبّابِ السّبيب صيامِ
كأنه قال: على أولاد أحقبَ صيامٍ.
؟باب ما يكون فيه الشيء غالباً عليه اسم
يكون لكل من كان من أمته، أو كان في صفته، من الأسماء التي يدخلها الألف واللام، وتكون نكرتُه الجامعة لما ذكرتُ لك من المعاني.
وذلك قولك فلان بنُ الصَّعِق. والصعقُ في الأصل صفة تقع على كل من أصابه الصّعق، ولكنه غلب عليه حتى صار عَلَماً بمنزلة زيد وعمرو.
وقولهم النجمُ، صار علَماً للثّريا.
وكابن الصّعِق قولُهم: ابن رألان، وابنُ كُراع، صار علماً لإنسان واحد، وليس كل من كان ابناً لرألان وابناً لكُراع غلب عليه هذا الاسم. فإن أخرجت الألف واللام من النجم والصّعق لم يكن معرفة، من قبل أنك صيّرته معرفةً بالألف واللام، كما صار ابنُ رألان معرفةً برألان، فلو ألقيتَ رألان لم يكن معرفةً.
وليس هذا بمنزلة زيد وعمرو وسَلْم، لأنها أعلامٌ جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما منعهم أن يُدخلوا في هذه الأسماء الألف واللام أنهم لم يجعلوا الرجل الذي سُمّي بزيد من أمةٍ كلُّ واحد منها يلزمه هذا الاسم، ولكنهم جعلوه سُمّي به خاصاً.
وزعم الخليل رحمه الله أن الذين قالوا الحارث والحَسَن والعبّاس، إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، ولم يجعلوه سُمّي به، ولكنهم جعلوه كأنه وصفٌ له غلَب عليه. ومن قال حارثٌ وعبّاس فهو يُجريه مُجرى زيد.
وأما ما لزمته الألف واللام فلم يسقُطا منه، فإنما جُعل الشيء الذي يلزمه ما يلزم كلّ واحد من أمته.
وأما الدّبَران والسِّماك والعيّوق وهذا النحو، فإنما يُلزَم الألفَ واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه.
فإن قال قائل: أيقال لكل شيء صار خلف شيء دَبَران، ولكل شيء عاق عن شيء عيّوق، ولكل شيء سمك وارتفع سِماك، فإنك قائل له: لا، ولكن هذا بمنزلة العِدل والعَديل. والعديل: ما عادَلك من الناس، والعِدل لا يكون إلا للمتاع، ولكنهم فرقوا بين البناءين ليفصلوا بين المتاع وغيره.
ومثل ذلك بناء حصين وامرأة حصان، فرقوا بين البناء والمرأة، فإنما أرادوا أن يُخبروا أن البناء مُحرز لمن لجأ إليه، وأن المرأة محرزة لفرجها.
ومثل ذلك الرزين من الحجارة والحديد، والمرأة رزان، فرقوا بين ما يُحمَل وبين ما ثقُل في مجلسه فلم يخفّ.
وهذا أكثر من أن أصفه لك في كلام العرب؛ فقد يكون الاسمان مشتقّين من شيء والمعنى فيهما واحد، وبناؤهما مختلف، فيكون أحد البناءين مختصاً به شيء دون شيء ليفرق بينهما. فكذلك هذه النجوم اختُصّت بهذه الأبنية.


وكل شيء جاء قد لزم الألف واللام فهو بهذه المنزلة. فإن كان عربياً نعرفه ولا نعرف الذي اشتُق منه فإنما ذاك لأنّا جهلنا ما علم غيرُنا، أو يكون الآخِر لم يصل إليه علم وصل الى الأول المسمّي.
وبمنزلة هذه النجوم الأربعاء والثلاثاء، إنما يرايد الرابع والثالث. وكلها أخبارها كأخبار زيد وعمرو.
فإن قلت: هذان زيدان منطلقان، وهذان عَمران منطلقان، لم يكن هذا الكلام إلا نكرة، من قبل أنك جعلته من أمة كل رجل منها زيد وعمرو، وليس واحد منها أولى به من الآخَر. وعلى هذا الحدّ تقول: هذا زيد منطلق. ألا ترى أنك تقول: هذا زيد من الزيدين، أي هذا واحد من الزيدين، فصار كقولك: هذا رجل من الرجال.
وتقول: هؤلاء عَرَفات حسنةً، وهذان أبانان بيّنين. وإنما فرقوا بين أبانين وعرفات، وبين زيدَين وزيدِين، من قبل أنهم لم يجعلوا التثنية والجمع علماً لرجلين ولا لرجال بأعيانهم، وجعلوا الاسم الواحد علماً لشيء بعينه، كأنهم قالوا، إذا قلت ائتِ بزيد إنما تريد: هاتِ هذا الشخص الذي نشير لك إليه. ولم يقولوا إذا قلنا جاء زيدانِ فإنما نعني شخصين بأعيانهما قد عُرفا قبل ذلك وأُثبتا، ولكنهم قالوا إذا قلنا قد جاء زيد فلان وزيدُ بن فلان فإنما نعني شيئين بأعيانهما فهكذا تقول إذا أردت أن تُخبر عن معروفين.
وإذا قالوا هذان أبانان وهؤلاء عرفات فإنما أرادوا شيئاً أو شيئين بأعيانهما اللذين نشير إليهما. وكأنهم قالوا إذا قلت ائت أبانين، فإنما نعني هذين الجيلين بأعيانهما اللذين نشير لك إليهما. ألا ترى أنهم لم يقولوا: امرر بأبان كذا وأبن كذا، لم يفرقوا بينهما لأنهما جعلوا أبانين اسماً لهما يُعرفان به بأعيانهما.
وليس هذا في الأناسيّ ولا في الدواب، إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك، من قبل أن الأماكن والجبال أشياء لا تزول، فيصير كل واحد من الجبلين داخلاً عندهم في مثل ما دخل فيه صاحبُه من الحال في الثّبات والخِصب والقحط، ولا يشار الى واحد منهما بتعريف دون الآخر، فصارا كالواحد الذي لا يزايله منه شيء حيث كان في الأناسي وفي الدواب. والإنسانان والدابتان لا يثبتان أبداً بأنهما يزولان ويتصرفان، ويشار الى أحدهما والآخر عنه غائب.
وأما قولهم: أعطِكم سُنّة العُمَرين فإنما أُدخلت الألف واللام على عُمَرين وهما نكرة فصارا معرفة بالألف واللام كما صار الصّعِق معرفة بهما، واختُصا به كما اختُص النجم بهذا الاسم، فكأنهما جُعلا من آمة كل واحد منهم عُمر، ثم عُرّفا بالألف واللام فصارا بمنزلة الغرِيَّيْن المشهورين بالكوفة، وبمنزلة النَّسرين، إذا كنتَ تعني النجمين.
؟باب
ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة
إذا بُني على ما قبله، وبمنزلته في الاحتياج الى الحشو، ويكون نكرة بمنزلة رجل. وذلك قولك: هذا مَن أعرف منطلقاً، وهذا مَن لا أعرف منطلقاً، أي هذا الذي علمتُ أني لا أعرفه منطلقاً. وهذا ما عندي مَهيناً، وأعرف ولا أعرف وعندي حشوٌ لهما يتمّان به، فيصيران اسماً كما كان الذي لا يتم إلا بحشوه.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلتَ مَن بمنزلة إنسان وجعلت ما بمنزلة شيء نكرتين، ويصير منطلقٌ صفةً لمن ومَهينٌ صفة لمَا. وزعم أن هذا البيت عنده مثل ذلك، وهو قول الأنصاري:
فكفى بنا فضلاً على مَن غيرِنا ... حبُّ النبي محمد إيّانا.
ومثل ذلك قول الفرزدق:
إني وإياك إذ حلّت بأرحُلنا ... كمن بواديه بعد المحل ممطورِ
وأما هذا ما لديّ عنيد فرفعُه على وجهين: على شيء لديّ عنيد، وعلى هذا بعلي شيخٌ.
وقد أدخلوا في قول من قال إنها نكرة فقالوا: هل رأيتم شيئاً يكون موصوفاً لا يُسكَت عليه؟ فقيل لهم: نعم، يا أيها الرجل. الرجل وصفٌ لقوله يا أيها، ولا يجوز أن يُسكَت على يا أيها. فرُب اسم لا يحسن عليه عندهم السكوت حتى يصفوه وحتى يصير وصفُه عندهم كأنه به يتم الاسم، لأنهم إنما جاءوا بيا أيها ليصلوا الى نداء الذي فيه الألف واللام، فلذلك جيء به. وكذلك مَن وما إنما يُذكران لحشوهما ولوصفهما، ولم يُرَد بهما خِلوَين شيء، فلزمه الوصف كما لزمه الحشو، وليس لهما بغير حشو ولا وصف معنى، فمن ثم كان الوصف والحشو واحداً.


فالوصف كقولك: مررت بمَن صالحٍ، فصالحٍ وصف. وإن أردتَ الحشو قلت مررت ممن صالحٌ. والحشو لا يكون أبداً لمن وما إلا وهما معرفة. وذلك من قبل أن الحشو إذا صار فيهما أشبهتا الذي، فكما أن الذي لا يكون إلا معرفةً لا يكون ما ومَن إذا كان الذي بعدهما حشواً، وهو الصلة، إلا معرفة.
وتقول: هذا مَن أعرف منطلقٌ، فتجعل أعرف صفةً. وتقول: هذا مَن أعرف منطلقاً، تجعل أعرف صلة. وقد يجوز منطلقٌ على قولك: هذا عبد الله منطلق.
ومثل ذلك الجمّاء الغفير، فالغفير وصفٌ لازم، وهو توكيد لأن الجمّاء الغفير مَثَل، فلزم الغفيرُ كما لزم ما في قولك إنك ما وخَيراً.
واعلم أن كفى بنا فضلاً على مَن غيرُنا أجود وفيه ضعفٌ إلا أن يكون فيه هو، لأن هو من بعض الصلة، وهو نحو مررت بأيُّهم أفضلُ، وكما قرأ بعض الناس هذه الآية: " تماماً على الذي أحسَنُ " .
واعلم أنه يقبح أن تقول هذا مَن منطلق إذا جعلتَ المنطلق حشواً أو وصفاً، فإن أطلتَ الكلام فقلت مَن خيرٌ منك، حسُن في الوصف والحشو.
زعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب رجلاً يقول: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً، وما أنا بالذي قائل لك قبيحاً. فالوصف بمنزلة الحشو المَحشو لأنه يَحسن بما بعده كما أن الحشو المحشوَّ إنما يتم بما بعده.
ويقوّي أيضاً أن مَن نكرة، قول عمرو بن قَميئة:
يا رُبَّ مَن يُبغض أذوادَنا ... رُحنَ على بغْضائه واغتدَيْنْ
ورُبّ لا يكون ما بعدها إلا نكرة. وقال أمية بن أبي الصلت:
رُبّ ما تكره النفوس من الأمر ... له فَرْجةٌ كحَلّ العِقالِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن تغتَشَّهُ لك ناصحٍ ... ومؤتَمن بالغَيب غيرِ أمينِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن قلبي له اللهَ ناصحٌ ... ومَن هو عندي في الظباء السوانحِ
؟باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة
وذلك قولك هذا أول فارسٍ مُقبلٌ، وهذا كلُّ متاعٍ عندك موضوعٌ، وهذا خيرٌ منك مقبلٌ.
ومما يدلّك على أنهن نكرة أنهن مضافات الى نكرة، وتوصَف بهن النكرة. وذلك أنك تقول فيما كان وصفاً: هذا رجل خيرٌ منك، وهذا فارسٌ أول فارسٍ، وهذا مالٌ كلُّ مالٍ عندك.
ويُستدلُّ على أنهن مضافات الى نكرة أنك تصف ما بعدهن بما توصَف به النكرة ولا تصفه بما توصَف به المعرفة، وذلك قولك: هذا أول فارس شُجاع مقبلٌ.
وحدّثنا الخليل أنه سمع من العرب من يوثق بعربيته يُنشد هذا البيت، وهو قول الشمّاخ:
وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو معازِرُ
فجعله صفةً لكل.
وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قبَلنا منهمُ كلَّ ... فتىً أبيضَ حُسّانا
فجعله وصفاً لكل.
ومثل ذلك: هذا أيّما رجل منطلقٌ، وهذا حسبُك من رجل منطلقٌ.
ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة فتقول: هذا رجل حسبُك من رجل، فهو بمنزلة مثلك وضاربك إذا أردت النكرة.
ومما يوصَف به كلٌّ قول ابن أحمر:
وَلِهَت عليه كلُّ معصِفة ... هوجاء ليس للُبّها زَبرُ
سمعناه ممن يرويه من العرب.
ومن قال هذا أول فارسٍ مقبلاً، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول هذا أولُ الفارس، فيُدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة، فلا ينبغي له أن يصفه بالنكرة، وينبغي له أن يزعم أن درهماً في قولك عشرون درهماً معرفة، فليس هذا بشيء، وإنما أرادوا من الفرسان، فحذفوا الكلام استخفافاً، وجعلوا هذا يُجزِئُهم من ذلك. وقد يجوز نصبُه على نصب: هذا رجلٌ منطلقاً، وهو قول عيسى.
وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبُه كنصبه في المعرفة، جعله حالاً ولم يجعله وصفاً.
ومثل ذلك: مررتُ برجل قائماً، إذا جعلتَ الممرورَ به في حال قيامٍ. وقد يجوز على هذا: فيها رجلٌ قائماً، وهو قول الخليل رحمه الله.
ومثل ذلك: عليه مائةٌ بيضاً؛ والرفعُ الوجهُ. وعليه مائةٌ عيناً؛ والرفعُ الوجه.


وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررتُ بماءٍ قِعدةَ رجلٍ؛ والجرّ الوجهُ. وإنما كان النصب هنا بعيداً من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالاً كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالاً حين قالوا: هذا زيد الطويل، وهذا عمرو أخوك، وألزموا صفة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفةَ؛ وأرادوا أن يجعلوا حالَ النكرة فيما يكون من اسمها كحال المعرفة فيما يكون من اسمها.
وزعم مَن نثق به أنه سمع رؤبةَ يقول: هذا غلامٌ لك مُقبلاً، جعله حالاً ولم يجعله من اسم الأول.
واعلم أن ما كان صفةً للمعرفة لا يكون حالاً ينتصب انتصابَ النكرة، وذلك أنه لا يَحسُن لك أن تقول: هذا زيدٌ الطويلَ، ولا هذا زيدٌ أخاك، من قبل أنه من قال هذا فينبغي له أن يجعله صفةً للنكرة، فيقول: هذا رجلٌ أخوك.
ومثل ذلك في القبح: هذا زيدٌ أسودَ الناس، وهذا زيدٌ سيدَ الناس، حدّثنا بذلك يونس عن أبي عمرو.
ولو حسُن أن يكون هذا خبراً للمعرفة لجاز أن يكون خبراً للنكرة، فتقول هذا رجلٌ سيدَ الناس، من قبل أن نصب هذا رجلٌ منطلقاً كنصب هذا زيد منطلقاً، فينبغي لما كان حالاً للمعرفة أن يكون حالاً للنكرة. فليس هكذا، ولكن ما كان صفةً للنكرة جاز أن يكون حالاً للنكرة كما جاز حالاً للمعرفة. ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالاً كما تكون النكرة، فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت: هذا أخوك عبد الله، إذا كان عبد الله اسمه الذي يُعرف به. وهذا كلامٌ خبيث يوضع في غير موضعه. إنما تكون المعرفة مبنياً عليها أو مبنية على اسم أو غير اسم، وتكون صفةً لمعروف لتبيّنه وتؤكده أن تقطعه من غيره. فإذا أردت الخبر الذي يكون حالاً وقع فيه الأمر فلا تضع في موضعه الاسم الذي جُعل ليوضّح المعرفة أو تبيّن به. فالنكرة تكون حالاً وليست تكون شيئاً بعينه قد عرفه المخاطَب قبل ذلك.
فهذا أمر النكرة، وهذا أمر المعرفة، فأجرِه كما أجروه، وضعْ كل شيء موضعه.
؟باب ما ينتصب خبره لأنه معرفة
وهي معرفة لا توصَف ولا تكون وصفاً وذلك قولك: مررت بكلٍّ قائماً، ومررتُ ببعضٍ قائماً وببعضٍ جالساً. وإنما خروجهما من أن يكونا وصفين أو موصوفين، لأنه لا يحسن لك أن تقول: مررت بكلٍّ الصالحين ولا ببعضٍ الصالحين. قبُح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه، لأنه مخالف لما يضاف، شاذّ منه، فلم يجرِ في الوصف مجراه. كما أنهم حين قالوا يا أللهُ، فخالفوا ما فيه الألف واللام، لم يصلوا ألفَه وأثبتوها.
وصار معرفة لأنه مضاف الى معرفة، كأنك قلت: مررت بكلهم وببعضهم، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه، فجاز ذلك كما جاز: لاهِ أبوك، تريد: لله أبوك، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقةَ الكلام، ولا سبيله؛ لأنه ليس من كلامهم أن يُضمروا الجار.
ومثله في الحذف: لا عليك، فحذفوا الاسم. وقال: ما فيهم يفضلك في شيء، يريد ما فيهم أحد يفضلك كما أراد لا بأس عليك أو نحوه. والشواذّ في كلامهم كثيرةٌ.
ولا يكونان وصفاً كما لم يكونا موصوفين، وإنما ينضعان في الابتداء أو يُبنَيان على اسم أو غير اسم.
فالابتداء نحو قوله عز وجلّ: " وكلٌّ آتوه داخرين " . فأما جميعٌ فيجري مجرى رجلٍ ونحوه في هذا الموضع. قال الله عز وجل: " وإنْ كلٌّ لما جميعٌ لدينا مُحضَرون " ، وقال: أتيته والقومُ جميعٌ؛ وسمعته من العرب، أي مجتمعون.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستضعف أن يكون كلهم مبنياً على اسم أو على غير اسم، ولكنه يكون مبتدأ أو يكون كلهم صفة. فقلت: ولمَ استضعفت أن يكون مبنياً؟ فقال: لأن موضعه في الكلام أن يُعمّ به غيره من الأسماء بعدما يُذكر فيكون كلهم صفةً أو مبادأ. فالمبتدأ قولك إن قومك كلهم ذاهبٌ، أو ذكر قوم فقلت: كلهم ذاهبٌ. فالمبتدأ بمنزلة الوصف؛ لأنك إنما ابتدأت بعدما ذكرت ولم تبنه على شيء فعممت به.


وقال: أكلتُ شاةً كلَّ شاةٍ حسن، وأكلت كلَّ شاةٍ ضعيف؛ لأنهم لا يعمّون هكذا فيما زعم الخليل رحمه الله. وذلك أن كلهم إذا وقع موقعاً يكون الاسم فيه مبنياً على غيره، شُبّه بأجمعين وأنفسهم ونفسه، فألحق بهذه الحروف، لأنها إنما توصَف بها الأسماء ولا تُبنى على شيء. وذاك أن موضعها من الكلام أن يُعمّ ببعضها، ويؤكد ببعضها بعد ما يُذكر الاسم؛ إلا أن كلهم قد يجوز فيها أن تُبنى على ما قبلها، وإن كان فيها بعض الضعف؛ لأنه قد يُبتدأ به، فهو يشبه الأسماء التي تُبنى على غيرها. وكلاهما وكلتاهما وكلهنّ يجرين مجرى كلهم، وأما جميعهم فقد يكون على وجهين: يوصَف به المضمَر والمظهر كما يوصَف بكلهم، ويُجرى في الوصف مجراه، ويكون في سائر ذلك بمنزلة عامتهم وجماعتهم، يُبتدأ ويُبنى على غيره؛ لأنه يكون نكرة تدخله الألف واللام، وأما كل شيء وكل رجل فإنما يبنيان على غيرهما؛ لأنه لا يوصَف بهما.
والذي ذكرتُ لك قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعد ما يمعناه.
؟باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة
وذلك قولك: هذا راقودٌ خَلاّ، وعليه نِحيٌ سَمناً. وإن شئت قلت راقودُ خلّ وراقودٌ من خلّ.
وإنما فررتَ الى النصب في هذا الباب، كما فررت الى الرفع في قولك: بصحيفةٍ طينٌ خاتَمها؛ لأن الطين اسم وليس مما يوصَف به، ولكنه جوهرٌ يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا وما أشبهه.
ومن قال: مررتُ بصحيفة طينٍ خاتَمها قال: هذا راقودٌ خلٌّ، وهذه صفّةٌ خزّ.
وهذا قبيح أجري على غير وجهه، ولكنه حسن أن يُبنى على المبتدأ ويكون حالاً. فالحال قولك: هذه جُبّتك خَزاً. والمبني على المبتدأ قولك: جُبتك خزّ. ولا يكون صفةًفيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل، ولكنهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجرّ. فأجره كما أجروه، فإنما فعلوا به ما يُفعل بالأسماء، والحال مفعولٌ فيها. والمبنيّ على المبتدأ بمنزلة ما ارتفع بالفعل، والجارّ بتلك المنزلة، يجري في الاسم مجرى الرافع والناصب.
؟باب ما ينتصب لأنه ليس من اسم ما قبله
ولا هو هو
وذلك قولك هو ابنُ عمي دِنْياً، وهو جاري بيتَ بيتَ. فهذه أحوال قد وقع في كل واحد منها شيء. وانتصب لأن هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت: أنت الرجل عِلْماً. فالعلمُ منتصبٌ على ما فسّرت لك، وعمل فيه ما قبله كما عمل عشرون في الدرهم، حين قلت عشرون درهماً؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هي.
ومثل ذلك: هذا درهم وزناً. ومثل ذلك: هذا حسيب جداً. ومثل ذلك هذا عربيّ حسبَه. حدثنا بذلك أبو الخطاب عمن نثق به من العرب. جعله بمنزلة الدِّنْي والوزن، كأنه قال هو عربي اكتفاءً. فهذا تمثيل ولا يتكلّ به، ولزمته الإضافة كما لزمت جَهده وطاقته.
وما لم يُضَف من هذا ولم تدخله الألف واللام، فهو بمنزلة ما لم يُضَف فيما ذكرنا من المصادر، نحو لقيتُه كفاحاً، وأتيته جهاراً.
ومثل ذلك هذه عشرون مِراراً، وهذه عشرون أضعافاً.
وزعم يونس أن قوماً يقولون: هذه عشرون أضعافُها وهذه عشرون أضعافٌ، أي مضاعفةٌ. والنصب أكثر.
ومثل ذلك: هذا درهمٌ سواء. كأنه قال هذا درهم استواء. فهذا تمثيل وإن لم يتكلّم به. قال عز وجلّ: " في أربعة أيامٍ سَواءً للسائلين " . وقد قرأ ناسٌ: " في أربعةِ أيامٍ سواءٍ " . قال الخليل: جعله بمنزلة مستويات.
وتقول: هذا درهمٌ سواءٌ، كأنك قلت: هذا درهمٌ تامّ.
؟وهذا شيء ينتصب على أنه
ليس من اسم الأول ولا هو هو
وذلك قولك: هذا عربي محضاً، وهذا عربي قلباً، فصار بمنزلة دِنياً وما أشبهه من المصادر وغيرها.
والرفع فيه وجه الكلام، وزعم يونس ذلك. وذلك قولك: هذا عربيّ محضٌ، وهذا عربيّ قلبٌ، كما قلت هذا عربيٌّ قُحٌّ، ولا يكون القحُّ إلا صفةً.
ومما ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو، قولك: هذه مائلةٌ وزنَ سبعةٍ ونقدَ الناس، وهذه مائة ضربَ الأمير، وهذا ثوبٌ نسجَ اليمن، كأنه قال: نسجاً وضرباً ووزناً. وإن شئت قلت وزنُ سبعة.


قال الخليل رحمه الله: إذا جعلتَ وزنَ مصدراً نصبت، وإن جعلته اسماً وصفتَ به، وشبّه ذلك بالخَلق، قال: قد يكون الخلق المصدر ويكون الخلقُ المخلوق، وقد يكون الحلَب الفعل والحلَب المحلوب، فكأن الوزن ههنا اسمٌ، وكأن الضرب اسم، كما تقول رجلٌ رِضاً وامرأة عدلٌ ويومٌ غمٌّ، فيصيرُ هذا الكلام صفةً. وقال: أستقبح أن أقول هذه مائة ضربُ الأمير، فأجعلَ الضرب صفةً فيكون نكرةً وُصفت بمعرفة، ولكن أرفعه على الابتداء، كأنه قيل له ما هي؟ فقال: ضربُ الأمير. فإن قال: ضربُ أمير حَسنت الصفة؛ لأن النكرة توصف بالنكرة.
واعلم أن جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسماً لم تستطع أن تبني عليه شيئاً مما انتصب في هذا الباب؛ لأنه جرى في كلام العرب أنه ليس منه ولا هو هو. لو قلتَ ابنُ عمي دنْيٌ وعربيٌ جِدٌ، لم يجز ذلك، فإذا لم يجز أن يُبنى على المبتدأ فهو من الصفة أبعد؛ لأن هذه الأجناس التي يضاف إليها ما هو منها ومن جوهرها ولا تكون صفة، وقد تُبنى على المبتدأ كقولك: خاتمك فضّة، ولا تكون صفةً.
فما انتصب في هذا الباب فهو مصدر أو غير مصدر قد جُعل بمنزلة المصدر، وانتصب من وجهٍ واحد.
واعلم أن الشيء يوصَف بالشيء الذي هو هو وهو من اسمه، وذلك قولك: هذا زيدٌ الطويل. ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك: هذا زيدٌ ذاهباً. ويوصَف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه، كقولك: هذا درهم وزناً، لا يكون إلا نصباً.
؟هذا باب
ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده
ويبنى على ما قبله
وذلك قولك هذا قائماً رجل، وفيها قائماً رجلٌ. لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقُبح أن تقول: فيها قائمٌ، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح مررت بقائم وأتاني قائم، جعلت القائم حالاً وكان المبني على الكلام الأول ما بعده.
ولو حسُن أن تقول: فيها قائم لجاز فيها قائم رجلٌ، لا على الصفة، ولكنه كأنه لما قال فيها قائم، قيل له مَن هو؟ وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه.
وحُمل هذا النصب على جواز فيها رجلٌ قائماً، وصار حين أخّر وجه الكلام، فراراً من القبح. قال ذون الرمة:
وتحت العوالي في القنا مستظلةً ... ظِباءٌ أعارتُها العيونَ الجآذرُ
وقال الآخر:
وبالجسم مني بيّناً لو علمْتِه ... شُحوبٌ وإن تستشهدي العينَ تشهدِ
وقال كُثيّر: لميّة موحشاً طللُ وهذا كلامٌ أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام.
واعلم أنه لا يقال قائماً فيها رجلٌ. فإن قال قائل: أجعله بمنزلة راكباً مرّ زيدٌ، وراكباً مرّ الرجلُ، قيل له: فإنه مثله في القياس، لأن فيها بمنزلة مرّ، ولكنهم كرهوا ذلك فيما لم يكن من الفعل، لأن فيها وأخواتها لا يتصرّفن تصرّف الفعل، وليس بفعل، ولكنهن أنزلن منزلة ما يستغني به الاسم من الفعل. فأجرِه كما أجرته العرب واستحسنتْ.
ومن ثمّ صار مررت قائماً برجل لا يجوز، لأنه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل، والعامل الباء. ولو حسن هذا لحسن قائماً هذا رجل.
فإن قال: أقول مررت بقائماً رجل، فهذا أخبث، من قبل أنه لا يُفصل بين الجار والمجرور، ومن ثم أُسقط رُبّ قائماً رجلٍ. فهذا كلام قبيح ضعيف؛ فاعرفْ قبحه، فإن إعرابه يسير. ولو استحسنّاه لقلنا هو بمنزلة فيها قائماً رجل، ولكن معرفة قبحه أمثل من إعرابه.
وأما بك مأخوذٌ زيد فإنه لا يكون إلا رفعاً، من قبل أن بك لا تكون مستقراً لرجل. ويدلك على ذلك أنه لا يستغني عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم منطلقٌ زيدٌ، واليومَ قائمٌ زيد.
وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة مأخوذ زيد. وتأخير الخبر على الابتداء أقوى، لأنه عاملٌ فيه.
ومثل ذلك: عليك نازلٌ زيد؛ لأنك لو قلت: عليك زيد، وأنت تريد النزول، لم يكن كلاماً.
وتقول: عليك أميراً زيد، لأنه لو قال عليك زيد وهو يريد الإمرةَ كان حسناً. وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر، لأنه ليس بفعل. وكلما تقدّم كان أضعف له وأبعد، فمن ثمّ لم يقولوا قائماً فيها رجل، ولم يحسن حُسن: فيها قائماً رجلٌ.
؟باب ما يثنّى فيه المستقر توكيداً
وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية، ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنّى.


وذلك قولك: فيها زيد قائماً فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد بفيها. وإن زعمتَ أنه انتصب بالآخِر فكأنك قلت: زيد قائماً فيها. فإنما هذا كقولك قد ثبت زيد أميراً قد ثبت، فأعدتَ قد ثبت توكيداً، وقد عمل الأول في زيد وفي الأمير.
ومثله في التوكيد والتثنية: لقيتُ عمراً عمرا.
فإن أردتَ أن تُلغي فيها قلت فيها زيدٌ قائم فيها، كأنه قال زيد قائم فيها فيها، فيصير بمنزلة قولك فيك زيدٌ راغبٌ فيك.
وتقول في النكرة: في دارك رجلٌ قائم فيها، فتجري قائم على الصفة.
وإن شئت قلت: فيها رجل قائماً فيها على الجواز، كما يجوز فيها رجلٌ قائماً. وإن شئت قلت أخوك في الدار ساكنٌ فيها، فتجعل فيها صفةً للساكن.
ولو كانت التثنية تنصب لنصبتْ في قولك: عليك زيدٌ حريص عليك، ونحو هذا مما لا يُستغنى به.
فإن قلت: قد جاء: " وأما الذين سَعِدوا ففي الجثّة خالدين فيها " فهو مثل " إن المتّقين في جنات وعُيون. آخذين " وفي آية أخر: " فاكهين " .
؟هذا باب الابتداء
فالمبتدأ كل اسم ابتُدى ليُبنى عليه كلامٌ. والمبتدأ والمبنيّ عليه رفعٌ. فالابتداء لا يكون إلا بمبني عليه. فالمبتدأ الأول والمبني ما بعده عليه فهو مسنَد ومسنَد إليه.
واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبنيّ عليه شيئاً هو هو، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يُذكر كل واحدٍ منها بعد ما يُبتدأ.
فأما الذي يُبنى عليه شيء هو هو فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق؛ ارتفع عبد الله لأنه ذُكر ليُبنى عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأن المبنيّ على المبتدأ بمنزلته.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستقبح أن يقول قائم زيد، وذاك إذا لم تجعل قائماً مقدَّماً مبنياً على المبتدأ، كما تؤخّر وتقدّم فتقول: ضرب زيداً عمرٌو، وعمرٌو على ضرب مرتفع. وكان الحدّ أن يكون مقدَّماً ويكون زيد مؤخّراً. وكذلك هذا، الحدّ فيه أن يكون الابتداء فيه مقدَّماً. وهذا عربي جيد. وذلك قولك تميميٌّ أنا، ومَشنوءٌ مَن يشنَؤك، ورجلٌ عبدُ الله، وخزٌّ صُفّتك.
فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلاً كقوله يقوم زيدٌ وقام زيد قبح، لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفةً جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه؛ كما أنه لا يكون مفعولاً في ضارب حتى يكون محمولاً على غيره فتقول: هذا ضاربٌ زيداً وأنا ضارب زيداً ولا يكون ضاربٌ زيداً على ضربتُ زيداً وضربت عمراً.
فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري مجرى الفعل المبتدإ، وليكون بين الفعل والاسم فصيل وإن كان موافقاً له في مواضع كثيرة؛ فقد يوافق الشيء الشيءَ ثم يخالفه، لأنه ليس مثله.
وقد كتبنا ذلك فيما مضى، وسنراه فيما يُستقبل إن شاء الله.
؟باب ما يقع موقع الاسم المبتدإ ويسد مسده
لأنه مستقَرٌّ لما بعد وموضع، والذي عمل فيما بعده حتى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله؛ ولكن كلُّ واحد منهما لا يُستغنى به عن صاحبه، فلما جُمعا استغنى عليهما السكوت، حتى صارا في الاستغناء كقولك: هذا عبد الله.
وذلك قولك: فيها عبد الله. ومثله: ثمَّ زيدٌ، وههنا عمرٌو، وأين زيدٌ، وكيف عبد الله، وما أشبه ذلك.
فمعنى أين في: أي مكان، وكيف: على أية حال. وهذا لا يكون إلا مبدوءاً به قبل الاسم؛ لأنها من حروف الاستفهام، فشُبّهت بهل وألف الاستفهام؛ لأنهن يستغنين عن الألف، ولا يكنَّ كذا إلا استفهاماً.
؟باب من الابتداء يُضمَر فيه
ما يُبنى على الابتداء وذلك قولك: لولا عبد الله لكان كذا وكذا.
أما لكان كذا وكذا فحديثٌ معلّقٌ بحديث لولا. وأما عبد الله فإنه منحديث لولا، وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام، كقولك: أزيدٌ أخوك، إنما رفعتَه على ما رفعتَ عليه زيدٌ أخوك. غير أن ذلك استخبارٌ وهذا خبرٌ. وكأن المبني عليه الذي في الإضمار كان في مكان كذا وكذا، فكأنه قال: لولا عبد الله كان بذلك المكان، ولوا القتال كان في زمان كذا وكذا، ولكن هذا حُذف حين كثُر استعمالُهم إياه في الكلام كما حُذف الكلام من إمّالا، زعم الخليل رحمه الله أنهم أرادوا إن كنت لا تفعل غيره فافعلْ كذا وكذا إمالا، ولكنهم حذفوه لكثرته في الكلام.


ومثل ذلك حينئذ، الآن، إنما تريد: واسمع الآن. وما أغفلَه عنك، شيئاً، أي دعِ الشكّ عنه؛ فحُذف هذا لكثرة استعمالهم.
وما حُذف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير. ومن ذلك: هل من طعام؟ أي هل من طعام في زمان أو مكان، وإنما يريد: هل طعامٌ، فمِن طعامٍ في موضع طعامٌ، كما كان ما أتاني من رجل في موضع ما أتاني رجلٌ. ومثله جوابه: ما من طعام.
؟بابٌ يكون المبتدأ فيه مُضمَراً
ويكون المبني عليه مظهَراً وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص فقلت: عبد الله وربي، كأنك قلت: ذاك عبد الله، أو هذا عبد الله. أو سمعتَ صوتاً فعرفتَ صاحبَ الصوت فصار آيةً لك على معرفته فقلت: زيد وربي. أو مسِسْتَ جسداً أو شممت ريحاً فقلت: زيد، أو المِسك. أو ذقتَ طعاما فقلت: العسل.
ولو حُدِّثتَ عن شمائل رجلٍ فصار آيةً لك على معرفته لقلت: عبد الله. كأن رجلاً قال: مررتُ برجل راحم للمساكين بارٍّ بوالديه، فقلت: فلان واللهِ.
؟هذا باب الحروف الخمسة
التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده
وهي من الفعل يمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل، لا تصَرَّف تصرُّف الأفعال كما أن عشرين لا تصرّف تصرّف الأسماء التي أخذت من الفعل وكانت بمنزلته، ولكن يقال بمنزلة الأسماء التي أُخذت من الأفعال وشُبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهماً لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه، ولم ترد أن تحمل الدرهم على ما حُمل العشرون عليه، ولكنه واحد بيّن به العدد فعملت فيه كعمل الضارب في زيد، إذا قلت: هذا ضاربٌ زيداً، لأن زيداً ليس من صفة الضارب، ولا محمولاً على ما حُمل عليه الضارب.
وكذلك هذه الحروف، منزلتها من الأفعال. وهي أنّ، ولكنّ، وليت، ولعلّ، وكأنّ.
وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ، وإن عمراً مسافرٌ، وإن زيداً أخوك. وكذلك أخواتها.
وزعم الخليل أنها عملت عملين: الرفعَ والنصب، كما عملت كان الرفع والنصب حين قلت: كان أخاك زيدٌ. إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبدَ الله، تريد كأن عبدَ الله أخوك، لأنها لا تصرّف تصرّف الأفعال، ولا يضمَر فيها المرفوع كما يضمَر في كان. فمن ثمّ فرقوا بينهما كما فرقوا بين ليس وما، فلم يجروها مجراها، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بأفعال.
وتقول: إن زيداً الظريف منطلق، فإن لم يُذكر المنطلق صار الظريف في موضع الخبر كما قلت: كان زيد الظريف ذاهباً، فلما لم تجئ بالذاهب قلت: كان زيدٌ الظريفَ، فنصب هذا في كان بمنزلة رفع الأول في إن وأخواتها.
وتقول: إن فيها زيداً قائماً، وإن شئت رفعت على إلغاء فيها، وإن شئت قلت: إن زيداً فيها قائماً وقائمٌ. وتفسير نصب القائم ههنا ورفعه كتفسيره في الابتداء، وعبد الله ينتصب بأن كما ارتفع ثمّ بالابتداء، إلا أن فيها ههنا بمنزلة هذا في أنه يستغني على ما بعدها السكوت، وتقع موقعه. وليست فيها بنفس عبد الله كما كان هذا نفسَ عبد الله، وإنما هي ظرفٌ لا تعمل فيها إن، بمنزلة خلفَك، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه.
وقد يقع الشيء موقع الشيء وليس إعرابه كإعرابه، وذلك قولك: مررت برجل يقول ذاك، فيقول في موضع قائل، وليس إعرابه كإعرابه.
وتقول: إن بك زيداً مأخوذ، وإن لك زيداً واقفٌ، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرّين لعبد الله، ولا موضعين. ألا ترى أن السكوت لا يستغني على عبد الله إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف.
ومثل ذلك: إن فيك زيداً لراغب. قال الشاعر:
فلا تلْحِني فيها فإن بحبّها ... أخاكَ مُصابُ الثلب جمٌّ بلابِلُهْ
كأنك أردت: إن زيداً راغبٌ، وإن زيداً مأخوذٌ، ولم تذكر فيك ولا بكَ، فألغيتا ههنا كما أُلغيتا في الابتداء. ولو نصبت هذا لقلت إن اليوم زيداً منطلقاً، ولكن تقول إن اليوم زيداً منطلق، وتُلغي اليومَ كما ألغيتَه في الابتداء.
وتقول: إن اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، من قبل أن إنّ عملت في اليوم، فصار كقولك: إن عمراً فيه زيدٌ متكلم. ويدلّك على أن اليوم قد عملت فيه إن، أنك تقول اليوم فيه زيدٌ ذاهبٌ، فترفع بالابتداء، فكذلك تنصب بأن.


وتقول: إن زيداً لفيها قائماً، وإن شئت ألغيتَ لفيها، كأنك قلت: إن زيداً لقائم فيها. ويدلك على أن لفيها يُلغى أنك تقول إن زيداً لَبك مأخوذ. قال الشاعر، وهو أبو زُبيد الطائي:
إن امرأً خصّني عمداً مودّتَه ... على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
فلما دخلت اللام فيما لا يكون إلا لغواً عرفنا أنه يجوز في فيها، ويكون لغواً لأن فيها قد تكون لغواً.
وإذا قلت: إن زيداً فيها لقائمٌ، فليس إلا الرفع، لأن الكلام محمول على إنّ، واللام تدل على ذلك، ولو جاز النصبُ ههنا لجاز فيها زيدٌ لقائماً في الابتداء. ومثله: إن فيها زيداً لقائمٌ.
وروى الخليل رحمه الله أن ناساً يقولون: إن بك زيدٌ مأخوذ، فقال: هذا على قوله إنه بك زيدٌ مأخوذ، وشبّه بما يجوز في الشعر، نحو قوله، وهو ابن صريم اليشكري:
ويوماً تُوافينا بوجهٍ مقسَّمٍ ... كأنْ ظبيةٌ تعطو الى وارق السَّلَمْ
وقال الآخر:
ووجهٌ مشرقُ النحرِ ... كأنْ ثدياهُ حُقّانِ
لأنه لا يحسن ههنا إلا الإضمار.
وزعم الخليل أن هذا يشبه قول من قال: وهو الفرزدق:
فلو كنت ضبِّياً عرفتَ قرابتي ... ولكنّ زَنجيّ عظيم المشافرِ
والنصب أكثر في كلام العرب، كأنه قال: ولكن زنجياً عظيمَ المشافر لا يعرف قرابتي. ولكنه أضمر هذا كما يُضمر ما بني على الابتداء نحو قوله عزّ وجلّ: " طاعةٌ وقولٌ معروفٌ " ، أي طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثل. وقال الشاعر:
فما كنتُ ضفّاطاً ولكن طالباً ... أناخ قليلاً فوق ظهر سبيلِ
أي ولكن طالباً منيخاً أنا.
فالنصب أجود؛ لأنه لو أراد إضماراً لخفّف، ولجعل المضمَر مبتدأ كقولك: ما أنت صالحاً ولكنْ طالحٌ.
ورفعه على قوله ولكنّ زنجيّ.
وأما قول الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَن يحفى وينتعلُ
فإن هذا على إضمار الهاء، لم يحذفوا لأنْ يكون الحذف يُدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكن، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف علَماً لحذف الإضمار في إن، كما فعلوا ذلك في كأن.
وأما ليتما زيداً منطلقٌ فإن الإلغاء فيه حسن، وقد كان رؤبة ابن العجّاج ينشد هذا البيت رفعاً، وهو قول النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا ... الى حمامتنا ونصفُ فقدِ
فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: مثلاً ما بَعوضةٌ، أو يكون بمنزلة قوله: إنما زيدٌ منطلقٌ.
وأما لعلّما فهو بمنزلة كأنما. وقال الشاعر، وهو ابن كُراع:
تحلّلْ وعالجْ ذاتَ نفسك وانظُرَنْ ... أيا جُعَلٍ لعلّما أنت حالِمُ
وقال الخليل: إنما لا تعمل فيما بعدها، كما أن أرى إذا كانت لغواً لم تعمل، فجعلوا هذا نظيرها من الفعل. كما كان نظيرَ إن من الفعل ما يعمل.
ونظيرُ إنما قول الشاعر، وهو المرّار الفَقْعَسي:
أعَلاقةً أمَّ الوليد بعدما ... أفنانُ رأسكَ كالثّغام المُخْلِسِ
جعل بعد مع ما بمنزلة حرفٍ واحد، وابتدأ ما بعده.
واعلم أنهم يقولون: إن زيدٌ لذاهبٌ، وإنْ عمرٌو لخيرٌ منك، لما خفّفها جعلها بمنزلة لكنْ حين خفّفها، وألزمها اللام لئلا تلتبس بإن التي هي بمنزلة ما التي تنفي بها.
ومثل ذلك: " إن كلُّ نفسٍ لما عليها حافظٌ " ، إنما هي لعليها حافظٌ.
وقال تعالى: " وإنْ كلُّ لَما جميعٌ لدينا مُحضَرون " إنما هي: لجميعٌ، وما لغوٌ.
وقال تعالى: " وإنْ وجدنا أكثرَهم لَفاسقين " ، " وإنْ نظنّك لمِن الكاذبين " .
وحدّثنا من نثق به، أنه سمع من العرب من يقول: إن عمراً لَمنطلقٌ. وأهل المدينة يقرءون: " وإنْ كُلاً لَما لَيوفينّهم ربُّك أعمالَهم " يخففون وينصبون، كما قالوا: كأن ثدييه حُقّانِ وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حُذف من نفسه شيء لم يغيَّر عملُه كما لم يغيَّر عملُ لم يكُ ولم أُبَل حين حُذف. وأما أكثرهم فأدخلوها في حروف الابتداء حين حذفوا كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضمّوا إليها ما.
؟هذا باب
ما يَحسن عليه السكوتُ في هذه الأحرف
الخمسة


لإضمارك ما يكون مستقَرّاً لها وموضعاً لو أظهرته، وليس هذا المضمَر بنفس المظهر. وذلك: إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً، أي إن لهم مالاً. فالذي أضمرت لهم.
ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ إن الناس ألْبٌ عليكم، فيقول: إن زيداً، وإن عمراً، أي إن لنا. وقال الأعشى:
إن محلاً وإنّ مُرتحَلاً ... وإن في السّفْر ما مضى مَهَلا
وتقول: إن غيرها إبلاً وشاءً كأنه قال: إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً، أو عندنا غيرَها إبلاً وشاء. فالذي تضمِر هذا النحو وما أشبهه. وانتصب الإبلُ والشاء كانتصاب فارسٍ إذا قلت: ما في الناس مثلُه فارساً.
ومثل ذلك قول الشاعر: يا ليتَ أيامَ الصّبا رواجعا فهذا كقوله: ألا ماء بارداً، كأنه قال: ألا ماء لنا مارداً، وكأنه قال: يا ليت لنا أيام الصبا، وكأنه قال: يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجعَ.
وتقول: إن قريباً منك زيداً، إذا جعلت قريباً منك موضعه. وإذا قلت جعلت الأول هو الآخِر قلت: إن قريباً منك زيدٌ.
وتقول: إن قريباً منك زيدٌ، والوجهُ إذا أردتَ هذا أن تقول: إن زيداً قريبٌ منك أو بعيد منك، لأنه اجتمع معرفةٌ ونكرة. وقال امرؤ القيس:
وإن شفاءً عَبرَةٌ مُهراقةٌ ... فهل عند رَسمٍ دارس من مُعَوَّلِ
فهذا أحسن لأنهما نكرة.
وإن شئت قلت: إن بعيداً منك زيداً. وقلما يكون بعيداً منك ظرفاً وإنما قلّ هذا لأنك لا تقول إن بُعدَك زيداً وتقول إن قربَك زيد. فالدّنوّ أشدُّ تمكيناً في الظرف من البُعد.
وزعم يونُس أن العرب تقول: إن بدلَك زيداً، أي إن مكانك زيداً. والدليل على هذا قول العرب: هذا لك بدلَ هذا، أي هذا لك مكان هذا. وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إن بدلَك زيدٌ، أي إن بديلَك زيدٌ.
وتقول: إن ألفاً في دراهمك بيضٌ، وإن في دراهمك ألفاً بيضٌ. فهذا يجري مجرى النكرة في كان وليس؛ لأن المخاطَب يحتاج الى أن تُعلمه ههنا كما يحتاج الى أن تعلمه في قولك ما كان أحدٌ فيها خيراً منك. وإن شئت جعلت فيها مستقرّاً وجعلت البيض صفةً.
واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هنا، مثلُه في باب كان، ومثل ذلك قولك: إن أسداً في الطريق رابضاً، وإن بالطريق أسداً رابضٌ. وإن شئت جعلت بالطريق مستقراً ثم وصفتَه بالرابض، فهذا يجري هنا مجرى ما ذكرتُ من النكرة في باب كان.
؟باب ما يكون محمولاً على إن
فيشاركه فيه الاسم الذي ولِيها ويكون محمولاً على الابتداء
فأما ما حُمل على الابتداء فقولك: إن زيداً ظريفٌ وعمرٌو، وإن زيداً منطلقٌ وسعيدٌ، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين، فأحدُ الوجهين حسنٌ، والآخر ضعيف.
فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولاً على الابتداء، لأن معنى إن زيداً منطلقٌ، زيدٌ منطلق، وإن دخلتْ توكيداً، كأنه قال: زيدٌ منطلق وعمرو. وفي القرآن مثله: " إن الله بَرَئٌ من المشركين ورسولُه " .
وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولاً على الاسم المضمَر في المنطلق والظريف، فإن أردتَ ذلك فأحسنه أن تقول: منطلقٌ هو وعمرٌو، وإن زيداً ظريفٌ هو وعمرو.
وإن شئت جعلت الكلام على الأول فقلت: إن زيداً منطلقٌ وعمراً ظريفٌ، فحملته على قوله عزّ وجلّ: " ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرَ يمدُّه من بعده سبعةُ أبحُرٍ " . وقد رفعه قومٌ على قولك: لو ضربتَ عبدَ الله وزيدٌ قائم ما ضرّك، أي لو ضربت عبد الله وزيدٌ في هذه الحال، كأنه قال: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلامٌ والبحر هذا أمره، ما نفدت كلمات الله.
وقال الراجز، وهو رؤبة بن العجّاج:
إن الربيع الجوْدَ والخريفا ... يَدا أبي العباس والصّيوفا
ولكن المثقّلة في جميع الكلام بمنزلة إن.
وإذا قلت إن زيداً فيها وعمرٌو، جرى عمرٌو بعد فيها مجراه بعد الظريف؛ لأن فيها في موضع الظريف، وفي فيها إضمار. ألا ترى أنك تقول: إن قومك فيها أجمعون، وإن قومك فيها كلّهم، كما تقول: إن قومك عرب أجمعون وفي فيها اسمٌ مضمَر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت: إن قومك ينطلقون أجمعون. وقال جرير:
إن الخلافة والنبوّة فيهمُ ... والمَكرُمات وسادةٌ أطهارُ
وإذا قلت: إن زيداً فيها، وإن زيداً يقول ذاك، ثم قلت نفسه، فالنصب أحسن. وإن أردت أن تحمله على المضمَر فعلى: هو نفسه.


وإذا قلت إن زيداً منطلقٌ لا عمرٌو، فتفسيره كتفسيره مع الواو. وإذا نصبتَ فتفسيره كنصبه مع الواو، وذلك قولك: إن زيداً منطلقٌ لا عمراً.
واعلم أن لعلّ وكأنّ وليت ثلاثتهن يجوز فيهن جميع ما جاز في إنّ، إلا أنه لا يُرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثمّ اختار الناس ليتَ زيداً منطلقٌ وعمراً وقَبُح عندهم أن يحملوا عمراً على المضمر حتى يقولوا هو، ولم تكن ليت واجبةً ولا لعلّ ولا كأن، فقبح عندهم أن يُدخلوا الواجب في موضع التّمني فيصيروا قد ضموا الى الأول ما ليس على معناه بمنزلة إن.
ولكن بمنزلة إن.
وتقول: إن زيداً فيها لا بل عمرٌو. وإن شئت نصبت. ولا بلْ تجري مجرى الواو ولا.
؟باب ما تستوي فيه الحروفُ الخمسة
وذلك قولك: إن زيداً منطلق العاقلُ اللبيبُ. فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين: على الاسم المضمَر في منطلق، كأنه بدلٌ منه، فيصير كقولك: مررت به زيدٌ إذا أردت جوابَ بمن مررتَ. فكأنه قيل له: من ينطلق؟ فقال: زيدٌ العاقلُ اللبيب. وإن شاء رفعه على: مررتُ به زيدٌ، إذا كان جوابَ مَن هو؟ فنقول: زيد، كأنه قيل له: مَن هو؟ فقال: العاقل اللبيب.
وإن شاء نصَبَه على الاسم الأول المنصوب.
وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين: " قُل إن ربي يقذف بالحقّ علاّمُ الغُيوب " ، و " علامَ الغُيوب " .
؟بابٌ ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة
انتصابَه إذا صار ما قبله مبنياً على الابتداء
لأن المعنى واحدٌ في أنه حالٌ، وأن ما قبله قد عمِل فيه، ومنعه الاسمُ الذي قبله أن يكون محمولاً على إن. وذلك قولك: إن هذا عبدُ الله منطلقاً، وقال تعالى: " إن هذه أمتُكم أمةً واحدة " . وقد قرأ بعضهم: " أمتَكم أمةٌ واحدة " حمل أمتكم على هذه، كأنه قال، إن أمتكم كلها أمةٌ واحدة.
وتقول: إن هذا الرجل منطلقٌ، فيجوز في المنطلق هنا ما جاز فيه حين قلت: هذا الرجل منطلقٌ، إلا أن الرجل هنا يكون خبراً للمنصوب وصفةً له، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدأ أو خبراً له.
وكذلك إذا قلت: ليتَ هذا زيدٌ قائماً، ولعل هذا زيدٌ ذاهباً، وكأن هذا بِشرٌ منطلقاً. إلا أن معنى إن ولكن لأنهما واجبتان كمعنى هذا عبدُ الله منطلقاً، وأنت في ليت تمنّاه في الحال، وفي كأن تشبّه إنساناً في حال ذهابه كما تمنيته إنساناً في حال قيام. وإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب. فلعل وأخواتها قد عملنَ فيما بعدهنّ عملين: الرفع والنصب، كما أنك حين قلت: ليس هذا عمراً وكان هذا بشراً، عملنا عملين، رفعتا ونصبتا، كما قلت ضربَ هذا زيداً، فزيداً ينتصب بضرب، وهذا ارتفع بضرب ثم قلت: أليس هذا زيداً منطلقاً، فانتصب المنطلق لأنه حال وقع فيه الأمر، فانتصب كما انتصب في إن، وصار بمنزلة المفعول الذي تعدّى إليه فعل الفاعل بعدما تعدّى الى مفعول قبله، وصار كقولك: ضرب عبد الله زيداً قائماً، فهو مثله في التقدير، وليس مثله في المعنى.
وتقول: إن الذي في الدار أخوك قائماً، كأنه قال: من الذي في الدار؟ فقال: إن الذي في الدار أخوك قائماً، فهو يجري في أن ولكنّ في الحُسن والقُبح، مجراه في الابتداء: إنْ قبُح في الابتداء أن تذكر المنطلق قبُح ههنا، وإن حسُن أن تذكر المنطلق حسُن ههنا، وإن قبُح أن تذكر الأخ في الابتداء قبُح ههنا، لأن المعنى واحد، وهو من كلامٍ واجب.
وأما في ليت وكأن ولعلّ، فيجري مجرى الأول.
ومن قال: إن هذا أخاك منطلقٌ قال: إن الذي رأيتُ أخاك ذاهبٌ. ولا يكون الأخ صفةً للذي، لأن أخاك أخصُّ من الذي، ولا يكون له صفة من قبل أن زيداً لا يكون صفةً لشيء.
وسألت الخليل عن قوله، وهو لرجل من بني أسد:
إن بها أكتلَ أو رِزاما ... خُوَيْرِبَين ينقُفان الهاما
فزعم أن خويربين انتصبا على الشتم، ولو كان على إن لقال خُويرباً، ولكنه انتصب على الشتم، كما انتصب " حمالةَ الحطب " - " والنازلينَ بكلّ معترك " على المدح والتعظيم. وقال:
أمن عمل الجرّاف أمسِ وظلمه ... وعدوانه أعتَبْتُمونا براسمِ
أميرَيْ عداءٍ إن حبسنا عليهما ... بهائمَ مالٍ أوديا بالبهائم


نصبهما على الشتم؛ لأنك إن حملت الأميرين على الإعتاب كان محالاً، وذلك لأنه لا تحمل صفة الاثنين على الواحد ولا تحمل الذي جرّ الأعتابُ على الذي جرّ الظلم، فلما اختلف الجرّان واختلطت الصفتان صار بمنزلة قولك: فيها رجلٌ وقد أتاني آخرُ كريمين، ولو ابتدأ فرفع كان جيداً.
ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق:
ولكنني استبقيت أعراضَ مازنٍ ... وأيامَها من مستنيرٍ ومظلمِ
أناساً بثغرٍ لاتزالُ رماحهم ... شوارعَ من غير العشيرة في الدمِ
ومما ينتصب على أنه عظّم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدي:
ولم أرَ ليلى بعد يومٍ تعرّضتْ ... لنا بين أثواب الطِّراف من الأدَمْ
كِلابيّةً وبرِيّةً حَبْتريّةً ... نأتْكَ وخانتْ بالمواعيد والذممْ
أناساً عِدّي عُلّقتُ فيهم وليتني ... طلبتُ الهوى في رأس ذي زَلَقٍ أشتمّ
وقال الآخر:
ضننْتُ بنفسي حقبةً ثم أصبحتْ ... لبنتِ عطاء بينُها وجميعها
ضِبابيةً مُرّيّةً حابيّةً ... مُنيفاً بنعفِ الصّيدلَين وضيعُها
فكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصباً.
ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح، أنك لو حملت الكلام على أن تجعل حالاً لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفاً. وليس هنا تعريفٌ ولا تنبيهٌ، ولا أراد أن يوقع شيئاً في حال، لقبحه ولضعف المعنى.
وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: أنا ابنُ سعدٍ أكرمَ السّعدينا.
نصبه على الفخر.
وقال الخليل: إن من أفضلهم كان زيداً، على إلغاء كان، وشبّهه بقول الشاعر، وهو الفرزدق:
فكيف إذا رأيت ديارَ قوم ... وجيران لنا كانوا كرامِ
وقال: إن من أفضلهم كان رجلاً يقبح؛ لأنك لو قلت إن من خيارهم رجلاً، ثم سكتّ كان قبيحاً حتى تعرّفه بشيء، أو تقول: رجلاً من أمره كذا وكذا.
وقال: إن فيها كان زيد، على قولك: إنه فيها كان زيدٌ، وإلا فإنه لا يجوز أن تحمل الكلام على إنّ.
وقال: إن أفضلهم كان زيدٌ وإن زيداً ضربتُ، على قوله: إنه زيداً ضربت، وإنه كان أفضلهم زيدٌ. وهذا فيه قبحٌ، وهو ضعيف، وهو في الشعر جائز. ويجوز أيضاً على: إن زيداً ضربتُه، وإن أفضلَهم كانه زيد فتنصبه على إن، وفيه قبحٌ كما كان في إن.
وسألت الخليل رحمه الله تعالى عن قوله: " ويْكأنّه لا يُفلح " وعن قوله تعالى جدّه: " ويْكأن الله " فزعم أنه ويْ مفصولةٌ من كأن، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نُبّهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم.
وأما المفسرون فقالوا: ألم تر أن الله.
وقال القرشي، وهو زيد بن عمرو بن نُفَيل:
سالتاني الطلاقَ أن رأتاني ... قلّ مالي، وقد جئتماني بنُكرِ
وَيْ كأنْ مَن يكن له نشبٌ يُح - بَبْ ومَن يفتقر يعِشْ عيش ضُرِّ واعلم أن ناساً من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان؛ وذاك أن معناه معنى الابتداء، فيُرى أنه قال: هم، كما قال: ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا على ما ذكرتُ لك.
وأما قوله عزّ وجلّ: " والصابئون " ، فعلى التقديم والتأخير، كأنه ابتدأ على قوله " والصابئون " بعدما مضى الخبر.
وقال الشاعر، بشر بن أبي خازم:
وإلا فاعلَموا أنّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شِقاقِ
كأنه قال: بُغاةٌ ما بقينا وأنتم.
؟هذا باب كَمْ
اعلم أن لكَم موضعين: فأحدهما الاستفهام، وهو الحرف المستفهَم به، بمنزلة كيف وأين. والموضع الآخر: الخبر، ومعناها معنى رُبّ.
وهي تكون في الموضعين اسماً فاعلاً ومفعولاً وظرفاً، ويُبنى عليها، إلا أنها لا تصرّف تصرّف يوم وليل، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرّف تحتك وخلفك، وهما موضعان بمنزلتهما، غير أنهما حروفٌ لم تتمكن في الكلام، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام. ومثل ذلك في الكلام كثير وقد ذكر فيما مضى، وستراه فيما يُستقبَل إن شاء الله.
أما كم في الاستفهام إذا أُعملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام منوّن، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته، ولا محمولاً على ما حُمل عليه. وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين.


وإذا قال لك رجل: كم لك، فقد سألك عن عدد؛ لأن كمْ إنما هي مسألة عن عدد ههنا، فعلى المجيب أن يقول: عشرون أو ما شاء، مما هو أسماء لعدة. فإذا قال لك: كم لك درهماً؟ أو كم درهماً لك؟ ففسّر ما يسأل عنه قلت عشرون درهماً، فعملت كم في الدرهم عمل العشرين في الدرهم، ولك مبنية على كم.
واعلم أن كمْ تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في كم؛ لأن العشرين عددٌ منوّن وكذلك كمْ هو منوّن عندهم، كما أن خمسةَ عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا خمسةَ عشر درهماً، ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا ينصرف، وموضعه موضع اسم منوّن. وكذلك كمْ موضعها موضع اسم منوّن، وذهبتْ منها الحركة كما ذهبت من إذ؛ لأنهما غيرُ متمكّنين في الكلام.
وذلك أنك لو قلت: كم لك الدرهمَ، لم يجز كما لم يجز في قولك عشرون الدرهم، لأنهم إنما أرادوا عشرين من الدراهم. وهذا معنى الكلام، ولكنهم حذفوا الألفَ واللام، وصيّروه الى الواحد، وحذفوا من استخفافاً كما قالوا: هذا أول فارس في الناس، وإنما يريدون هذا أول من الفرسان. فحُذف الكلام.
وكذلك كمْ، إنما أرادوا كم لك من الدراهم، أو كم من الدراهم لك.
وزعم أن كم درهماً لك أقوى من كم لك درهماً وإن كانت عربية جيدة. وذلك أن قولك العشرون لك درهماً فيها قبح، ولكنها جازت في كم جوازاً حسناً، لأنه كأنه صار عوضاً من التمكن في الكلام، لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخَّر فاعلةً ولا مفعولة. لا تقول: رأيتَ كم رجلاً، وإنما تقول: كم رأيت رجلاً. وتقول: كم رجلٍ أتاني، ولا تقول أتاني كم رجل. ولو قال: أتاكَ ثلاثون اليوم درهماً كان قبيحاً في الكلام، لأنه لا يقوى قوةَ الفاعل وليس مثل كم لما ذكرت لك. وقد قال الشاعر:
على أنني بعدَ ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حَولاً كميلا
يذكّرنيك حنينُ العَجول ... ونوحُ الحمامة تدعو هَديلا
وكم رجلاً أتاك، أقوى من كم أتاك رجلاً، وكم ههنا فاعلة. وكم رجلاً ضربت، أقوى من كم ضربت رجلاً، وكم ههنا مفعولة.
وتقول: كم مثله لك، وكم خيراً منه لك، وكم غيره لك، كل هذا جائز حسن؛ لأنه يجوز بعد عشرين فيما زعم يونس. تقول: كم غيره مثله لك، انتصب غير بكم وانتصب المثل لأنه صفة له.
ولم يُجز يونس والخليل رحمهما الله كم غِلماناً لك، لأنك لا تقول عشرونَ ثياباً لك، إلا على وجه لك مائةٌ بيضاً، وعليك راقودٌ خَلا. فإن أردت هذا المعنى قلت: كم لك غِلماناً، ويقبح أن تقول كم غلماناً لك؛ لأنه قبيح أن تقول: عبد الله قائماً فيها، كما قبح أن تقول قائماً فيها زيدٌ. وقد فسرنا ذلك في بابه.
وإذا قلت: كم عبد الله ماكثٌ، فكم أيامٌ وعبد الله فاعلٌ. وإذا قلت: كم عبد الله عندك، فكم ظرفٌ من الأيام، وليس يكون عبد الله تفسيراً للأيام لأنه ليس منها. والتفسير: كم يوماً عبد الله ماكثٌ، أو كم شهراً عبد الله عندك، فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت: كم رجلاً ضرب عبد الله.
فإذا قلت: كم جريباً أرضُك، فأرضك مرتفعةٌ بكَم لأنها مبتدأةٌ، والأرض مبنية عليها، وانتصب الجريب لأنه ليس بمبني على مبتدإ، ولا مبتدإ، ولا وصف، فكأنك قلت: عشرون درهماً خيرٌ من عشرة.
وإن شئت قلت: كم غلمانٌ لك؟ فتجعل غلمان في موضع خبر كمْ، وتجعل لك صفةً لهم.
وسألته عن قوله: على كم جذعٍ بيتُك مبني؟ فقال: القياس النصب وهو قول عامة الناس. فأما الذين جرّوا فإنهم أرادوا معنى مِن، ولكنهم حذفوها ههنا تخفيفاً على اللسان، وصارت على عوضاً منها.
ومثل ذلك: اللهِ لا أفعل، وإذا قلت لاها الله لا أفعلِ لم يكن إلا الجرّ، وذلك أنه يريد لا والله، ولكنه صار ها عوضاً من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه.
ومثل ذلك: اللهِ لتفعلنّ؟ إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجرّ وحذفوا، تخفيفاً على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلاً منه في اللفظ معاقباً.
واعلم أن كم في الخبر بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام غير منوّن، يجرّ ما بعده إذا أُسقط التنوين، وذلك الاسم نحو مائتي درهم، فانجرّ الدرهم لأن التنوين ذهب ودخل فيما قبله. والمعنى معنى رُبّ، وذلك قولك: كم غلامٍ لك قد ذهب.


فإن قال قائل: ما شأنُها في الخبر صارت بمنزلة اسمٍ غير منوّن؟ فالجواب فيه أن تقول: جعلوها في المسألة مثل عشرين وما أشبهها، وجُعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة الى العشرة، تجرّ ما بعدها، كما جرّت هذه الحروف ما بعدها. فجاز ذا في كم حين اختلف الموضعان، كما جاز في الأسماء المتصرّفة التي هي للعدد.
واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رُبّ، لأن المعنى واحدٌ، إلا أن كم اسمٌ ورُبّ غير اسم، بمنزلة مِنْ. والدليل عليه أن العرب تقول: كم رجلٍ أفضلُ منك، تجعله خبرَ كم. أخبرناه يونس عن أبي عمرو.
واعلم أن ناساً من العرب يُعملونها فيما بعدها في الخبر كما يُعملونها في الاستفهام، فينصبون بها كأنها اسمٌ منوّن. ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه رُبّ إلا أنها تنصب، لأنها منونة، ومعناها منوّنة وغير منونة سواءٌ، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطُرّ شاعرٌ فقال ثلاثةٌ أثواباً كان معناه ثلاثة أثواب. وقال يزيد بن ضَبّة:
إذا عاش الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب المسرّةُ والفتاءُ
وقال الآخر:
أنعتُ عَيراً من حميرِ خَنزرَهْ ... في كلِّ عَيرٍ مائتان كَمَرَهْ
وبعض العرب ينشد قول الفرزدق:
كم عمّةً لك يا جريرُ وخالةً ... فَدْعاءَ قد حلبتْ عليّ عِشاري
وهم كثيرٌ، فمنهم الفرزدق والبيت له.
وقد قال بعضهم: كم على كل حال منونة، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا مِن كما جاز لهم أن يضمروا رُبّ.
وزعم الخليل أن قولهم: لاهِ أبوك ولقيتُه أمس، إنما هو على: لله أبوك، ولقيته أمس، ولكنهم حذفوا الجارّ والألف واللام تخفيفاً على اللسان، وليس كل جارّ يضمَر؛ لأن المجرور داخلٌ في الجارّ، فصارا عندهم بمنزلة حرفٍ واحد، فمن ثمّ قبُح، ولكنهم قد يُضمِرونه ويحذفونه فيما كثر من كلامهم، لأنهم الى تخفيف ما أكثروا استعمالَه أحوج. وقال الشاعر العَنبري:
وجدّاءَ ما يُرجى بها ذو قرابةٍ ... لعطفٍ وما يَخشى السُّماةَ رَبيبُها
وقال امرؤ القيس:
ومثلِك بِكراً قد طرقتُ وثَيّباً ... فألهيتُها عن ذي تمائم مُغيَلِ
أي ربّ مثلك. ومن العرب من ينصبه على الفعل.
وقال الشاعر:
ومثلَك رهبي قد تركتُ رذيّةً ... تقلّب عينيها إذا مرّ طائرُ
سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب.
والتفسير الأول في كمْ أقوى؛ لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذّ إذا كان له وجهٌ جيد.
ولا يقوى قول الخليل في أمس، لأنك تقول ذهب أمس بما فيه.
وقال: إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء، استغنى عليه السكوت أو لم يستغن، فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منوّن، لأنه قبيحٌ أن تفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجارّ، فصارا كأنهما كلمة واحدة. والاسم المنوّن يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول: هذا ضاربٌ بك زيداً، ولا تقول: هذا ضاربُ بك زيدٍ. وقال زهير:
تؤمُّ سناناً وكم دونَه ... من الأرض مُدودباً غارُها
وقال القطاميّ:
كم نالني منهمُ فضلاً على عدمٍ ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتملُ
وإن شاء رفع فجعل كمِ المرار التي ناله فيها الفضل، فارتفع الفضل بنالَني، فصار كقولك: كم قد أتاني زيدٌ، فزيد فاعلٌ وكم مفعول فيها، وهي المرار التي أتاه فيها، وليس زيدٌ من المرار. وقد قال بعض العرب:
كم عمّةٌ لك يا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلَبتْ عليّ عشاري
فجعل كم مراراً، كأنه قال: كم مرة قد حلبت عشاري عليّ عمّاتك. وقال ذو الرمة، ففصل بين الجارّ والمجرور:
كأن أصوات، مِن إيغالهن بنا، ... أواخر الميسِ أصواتُ الفراريجِ
وقال الآخر:
فكم قد فاتني بطلٌ كميٌّ ... وياسرُ فتيةٍ سمحٌ هَضومُ
وقد يجوز في الشعر أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجزٌ، فتقول: كم فيها رجلٍ، كما قال الأعشى:
إلا عُلالةَ أو بُدا ... هةَ قارحٍ نهدِ الجُزارَهْ
فإن قال قائلٌ: أضمر مِن بعد فيها. قيل له: ليس في كل موضع يضمر الجارّ، ومع ذلك إن وقوعها بعد كم أكثر. وقد يجوز في الشعر أن تجرّ وبينها وبين الاسم حاجز، على قول الشاعر:


كم بجودٍ مقرفٌ نال العُلى ... وكريمٌ بخلُه قد وضَعهْ
الجرّ والرفع والنصب على ما فسّرناه، كما قال:
كم فهيم ملكٍ أغرَّ وسوقةٍ ... حكمٍ بأرديةِ المكارم مُحتبى
وقال:
كم في سعدِ بن بكر سيدٍ ... ضخمِ الدّسيعة ماجدٍ نفّاعِ
وتقول: كم قد أتاني لا رجلٌ ولا رجلان، وكم عبد لك لا عبدٌ ولا عبدان. فهذا محمول على ما حُمل عليه كم لا على ما تعمل فيه كم، كأنك قلت: لا رجلٌ أتاني ولا رجلان، ولا عبدٌ لك ولا عبدان. وذاك لأن كم تفسّر ما وقعتْ عليه من العدد بالواحد المنكور، كما قلت عشرون درهماً، أو بجميع منكور، نحو ثلاثة أثواب. وهذا جائزٌ في التي تقع في الخبر. فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين.
ولو قلت: كم لا رجلاً ولا رجلين، في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز، لأنه ليس هكذا تفسيرُ العدد، ولو جاز ذا لقلت: له عشرون لا عبداً ولا عبدين، فلا رجلٌ ولا رجلان توكيدٌ لكم لا للذي عمل فيه، لأنه لو كان عليه كان محالاً، وكان نقضاً.
ومثل ذلك قولك للرجل: كم لك عبداً؟ فيقول: عبدان أو ثلاثة أعبُدٍ، حمل الكلام على ما حمل عليه كم، ولم يُرد السائل من المسئول أن يفسّر له العدد الذي يسأل عنه، إنما على السائل أن يفسر العدد حتى يجيبه المسئول عن العدد، ثم يفسره بعد إن شاء، فيعمل في الذي يفسر به العدد كما أعمل السائل كم في العبد، ولو أراد المسئول عن ذلك أن ينصب عبداً أو عبدين على كم، كان قد أحال، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله: كم عبداً فيصير سائلاً.
ومع ذلك أنه لا يجوز لك أن تُعمل كم وهي مضمرة في واحدٍ من الموضعين، لأنه ليس بفعل ولا اسم أُخذ من الفعل، ألا ترى أنه إذا قال المسئول عبدين أو ثلاثة أعبدٍ فنصب على كم، أنه قد أضمر كم.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يجوز أن تقول: كم غلاماً لك ذاهبٌ؟ تجعل لك صفةً للغلام، وذاهباً خبراً لكم.
ومن ذلك أن تقول: كم منكم شاهدٌ على فلان، إذا جعلت شاهداً خبراً لكم، وكذلك هو في الخبر أيضاً، تقول: كم مأخوذٌ بك، إذا أردت أن تجعل مأخوذاً بك في موضع لك إذا قلت: كم لك؛ لأن لك لا تعمل فيه كم، ولكنه مبنيٌّ عليها، كأنك قلت كم رجلٍ لك وإن كان المعنيان مختلفين، لأن معنى كم مأخوذٌ بك؛ غير معنى كم رجلٍ لك، ولا يجوز في رُبّ ذلك، لأن كم اسمٌ وربّ غير اسم، فلا يجوز أن تقول رُبّ رجلٌ لك.
؟هذا باب
ما جرى مجرى كم في الاستفهام
وذلك قولك: له كذا وكذا درهماً، وهو مبهمُ في الأشياء بمنزلة كم، وهو كنايةٌ للعدد، بمنزلة فلان إذا كنيتَ به في الأسماء، وكقولك: كان من الأمر ذَيّةَ وذيةَ، وذيتَ وذيتَ، وكيتَ وكيتَ. صار ذا بمنزلة التنوين؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين.
وكذلك كأيّنْ رجلاً قد رأيتُ، زعم ذلك يونس، وكأيّن قد أتاني رجلاً. إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع مع مِن؟ قال عزّ وجل: " وكأيّنْ مِن قريةٍ " . وقال عمرو بن شأس:
وكائنْ رددنا عنكمُ مِن مُدجِجٍ ... يجيء أمام الألفِ يَردي مُقنّعا
فإنما ألزموها مِن لأنها توكيد، فجُعلت كأنها شيء يتم به الكلام، وصار كالمثل. ومثل ذلك: ولاسيما زيدٍ، فربّ توكيدٍ لازمٌ حتى يصير كأنه من الكلمة.
وكأيّنْ معناها معنى رُبّ. وإن حذفتَ مِن وما فعربي.
وقال: إن جرّها أحدٌ من العرب فعسى أن يجرّها بإضمار مِن كما جاز ذلك فيما ذكرنا في كم.
وقال: كذا وكأيّن عملتا فيما بعدهما كعمل أفضلهم في رجل حين قلت: أفضلُهم رجلاً، فصار أيٌّ وذا بمنزلة التنوين، كما كان هُم بمنزلة التنوين.
وقال الخليل رحمه الله كأنهم قالوا: له كالعدد درهماً، وكالعدد من قرية. فهذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلّم به.
وإنما تجيء الكاف للتشبيه، فتصير وما بعدها بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولُك: كأن، أدخلتَ الكاف على أنّ للتشبيه.
؟هذا باب ما ينصب نصب كم
إذا كانت منوّنة في الخبر والاستفهام
وذلك ما كان من المقادير، وذلك قولك: ما في السماء موضع كفّ سحاباً، ولي مثلُه عبداً، وما في الناس مثلُه فارساً، وعليها مثلُها زُبداً.


وذلك أنك أردت أن تقول: لي مثلُه من العبيد، ولي ملؤه من العسل، وما في السماء موضع كفّ من السحاب، فحذف ذلك تخفيفاً كما حذفه من عشرين حين قال: عشرون درهماً، وصارت الأسماء المضافُ إليها المجرورةُ بمنزلة التنوين، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولاً على ما حُملت عليه، فانتصب بملءِ كفّ ومثلِه، كما انتصب الدرهم بالعشرين؛ لأن مثل بمنزلة عشرين، والمجرور بمنزلة التنوين، لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين.
وزعم الخليل رحمه الله أن المجرور بدلٌ من التنوين، ومع ذلك أنك إذا قلت لي مثلُه فقد أبهمتَ، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع، فإذا قلت درهماً فقد اختصصتَ نوعاً، وبه يُعرَفُ من أي نوع ذلك العدد. فكذلك مثلُه هو مبهَم يقع على أنواع: على الشجاعة، والفروسة، والعبيد. فإذا قال عبداً فقد بيّن من أي أنواع المِثلُ. والعبدُ ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل، فاستخرج على المقدار نوعاً، والنوع هو المِثل ولكنه ليس من اسمه، والدرهم ليس من العشرين ولا من اسمه، ولكنه ينصب كما تنصب العشرون، ويُحذف من النوع كما يُحذف من نوع العشرين، والمعنى مختلف.
ومثل ذلك: عليه شعر كلبين دَيناً، الشَّعر مقدارٌ. وكذلك: لي ملء الدار خيراً منك، ولي خيرٌ منك عبداً، ولي ملء الدار أمثالَك، لأن خيراً منك نكرةٌ، وأمثالك نكرةٌ.
وإن شئت قلت: لي ملء الدار رجلاً، وأنت تريد جميعاً، فيجوز ذلك، ويكون كمزلته في كم وعشرين.
وإن شئت قلت: رجالاً، فجاز عنده كما جاز عنده في كم حين دخل فيها معنى رُبّ؛ لأن المقدار معناه مخالفٌ لمعنى كم في الاستفهام، فجاز في تفسيره الواحد والجميع كما جاز في كم إذ دخلها معنى رُبّ، كما تقول ثلاثةٌ أثواباً، أي من ذا الجنس، تجعله بمنزلة التنوين.
ومثل ذلك: لا كزيدٍ فارساً، إذا كان الفارسُ هو الذي سميته، كأنك قلت: لا فارسَ كزيد فارساً. وقال كعب بن جعيل:
لنا مِرفَدٌ سبعون ألف مُدجّج ... فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفدا
كأنه قال: فهل في معدّ مرفدٌ فوق ذلك مرفداً.
ومثل ذلك: تالله رجلاً، كأنه أضمر تالله ما رأيتُ كاليوم رجلاً، وما رأيت مثلَه رجلاً.
؟باب ما ينتصب انتصابَ الاسم بعد المقادير
وذلك قولك: ويحَه رجلاً، ولله درُّه رجلاً، وحسبُك به رجلاً، وما أشبه ذلك. وإن شئت قلت: ويحَه من رجلٍ، وحسبُك به من رجل، ولله درُّه من رجل، فتدخل من ههنا كدخولها في كم توكيداً. وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول، وعمل فيه الكلام الأول، فصارت الهاء بمنزلة التنوين.
ومع هذا أيضاً أنك إذا قلت وحيه فقد تعجّبت وأبهمتَ، من أي أمور الرجل تعجّبت، وأي الأنواع تعجبّت منه. فإذا قلت فارساً وحافظاً فقد اختصصت ولم تُبهم، وبيّنت في أي نوع هو.
ومثل ذلك قول عباس بن مرداس:
ومُرةُ يحميهمْ إذا ما تبدّدوا ... ويطعنُهم شَزراً فأبرحْتَ فارسا
فكأنه قال: فكفى بك فارساً، وإنما يريد كفيتَ فارساً. ودخلتْه هذه الباء توكيداً.
ومن ذلك قول الأعشى:
تقول ابنتي حين جدّ الرحيلُ ... فأبْرحتَ رباً وأبرحتَ جارا
ومثله: أكرمْ به رجلاً.
؟باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمَرا
وذلك لأنهم بدءوا بالإضمار لأنهم شرطوا التفسير وذلك نووا، فجرى ذلك في كلامهم هكذا كما جرتْ إن بمنزلة الفعل الذي تقدّم مفعولُه قبل الفاعل، فلزم هذا هذه الطريقة في كلامهم، كما لزمتْ إن هذه الطريقة في كلامهم.
وما انتصب في هذا الباب فإنه ينتصب كانتصاب ما انتصب في باب حسبُك به وويحه، وذلك قولهم: نِعمَ رجلاً عبدُ الله، كأنك قلت: حسبُك به رجلاً عبدُ الله؛ لأن المعنى واحد.
ومثل ذلك: رُبّه رجلاً، كأنك قلت: ويحه رجلاً، في أنه عمل فيما بعده، كما عمل ويحه فيما بعده لا في المعنى. وحسبُك به رجلاً مثل نِعم رجلاً في العمل وفي المعنى؛ وذلك لأنهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة.
ولا يجوز لك أن تقول نعمَ ولا رُبّه وتسكت، لأنهم إنما بدؤوا بالإضمار على شريطة التفسير، وإنما هو إضمار مقدّم قبل الاسم، والإضمار الذي يجوز عليه السكوت نحو زيدٌ ضربتُه إنما أضمر بعد ما ذكر الاسم مظهراً، فالذي تقدم من الإضمار لازمٌ له التفسير حتى يبيّنه، ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر.


ومما يضمر لأنه يفسّره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرٌ قول العرب: إنه كِرامٌ قومُك، وإنه ذاهبةٌ أمتُك. فالهاء إضمارُ الحديث الذي ذكرتَ بعد الهاء، كأنه في التقدير - وإن كان لا يُتكلم به - قال: إن الأمر ذاهبةٌ أمتُك وفاعلةٌ فلانة، فصار هذا الكلام كله خبراً للأمر، فكذلك ما بعد هذا في موضع خبره.
وأما قولهم: نعم الرجل عبد الله، فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبد الله، عمل نِعم في الرجل ولم يعمل في عبدُ الله.
وإذا قال: عبد الله نعمَ الرجلُ، فهو بمنزلة: عبد الله ذهب أخوه؛ كأنه قال نِعمَ الرجلُ فقيل له مَن هو؟ فقال: عبد الله. وإذا قال عبدُ الله فكأنه فقيل له: ما شأنه؟ فقال: نِعم الرجل.
فنعمَ تكون مرة عاملةً في مضمر يفسّره ما بعده، فتكون هي وهو بمنزلة ويحه ومثلَه، ثم يعملان في الذي فسّر المضمر عمل مثله وويحه إذا قلت لي مثله عبداً. وتكون مرةً أخرى تعمل في مظهر لا تجاوزه. فهي مرة بمنزلة رُبّه رجلاً، ومرة بمنزلة ذهب أخوه، فتجري مجرى المضمر الذي قُدّم لما بعده من التفسير وسدّ مكانه، لأنه قد بيّنه، وهو نحو قولك: أزيداً ضربتَه.
واعلم أنه محال أن تقول: عبد الله نعمَ الرجل، والرجلُ غيرُ عبد الله، كما أنه محال أن تقول عبد الله هو فيها، وهو غيره.
واعلم أنه لا يجوز أن تقول: قومُك نِعمَ صغارُهم وكبارهم، إلا أن تقول: قومك نعمَ الصغار ونعم الكبار، وقومُك نعمَ القومُ؛ وذلك لأنك أردت أن تجعلهم من جماعات ومن أمم كلهم صالحٌ، كما أنك إذا قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، فإنما تريد أن تجعله من أمةٍ كلهم صالح، ولم ترد أن تعرّف شيئاً بعينه بالصلاح بعد نعمَ.
ومثل ذلك قولك: عبدُ الله فارِهُ العبدِ فاره الدابة؛ فالدابة لعبد الله ومن سببه، كما أن الرجل هو عبد الله حين قلت عبدُ الله نعمَ الرجل، ولست تريد أن تُخبر عن عبد بعينه ولا عن دابة بعينها، وإنما تريد أن تقول إن في مِلكِ زيد العبدَ الفارِه والدابة الفارهة؛ إذ لم ترد عبداً بعينه ولا دابةً بعينها. فالاسمُ الذي يظهر بعد نعمَ إذا كانت نِعمَ عاملةَ فيه الاسمُ الذي فيه الألف واللام، نحو الرجل، وما أضيف إليه وما أشبهه نحو غلام الرجل، إذا لم ترد شيئاً بعينه. كما أن الاسم الذي يظهر في رُبّ قد يُبدأ بإضمار الرجل قبله حين قلت: رُبّه رجلاً لما ذكرتُ لك، وتبدأ بإضمار الرجل في نعمَ لما ذكرتُ لك. فإنما منعك أن تقول نعمَ الرجلَ إذا أضمرتَ أنه لا يجوز أن تقول حسبُك به الرجل، إذا أردت معنى حسبُك به رجلاً.
ومن زعم أن الإضمار الذي في نعمَ هو عبد الله، فقد ينبغي له أن يقول نعمَ عبد الله رجلاً، وقد ينبغي له أن يقول: نعمَ أنت رجلاً، فتجعل أنت صفةً للمضمَر.
وإنما قبُح هذا المضمر أن يوصَف لأنه مبدوء به قبل الذي يفسّره، والمضمَر المقدَّم قبل ما يفسّره لا يوصَف، لأنه إنما ينبغي لهم أن يبيّنوا ما هو.
فإن قال قائل: هو مضمر مقدّم، وتفسيره عبد الله بدلاً منه محمولاً على نعمَ، فأنت قد تقول عبد الله نعمَ رجلاً، فتبدأ به، ولو كان نعمَ يصير لعبد الله لما قلت عبدُ الله نعمَ الرجلُ فترفعه، فعبد الله ليس من نعمَ في شيء، والرجل هو عبدُ الله ولكنه منفصلٌ منه كانفصال الأخ منه إذا قلت: عبد الله ذهب أخوه. فهذا تقديره وليس معناه كمعناه.
ويدلّك على أن عبد الله ليس تفسيراً للمضمَر أنه لا يعمل فيه نعمَ بنصبٍ ولا رفع ولا يكون عليها أبداً في شيء.
واعلم أن نعمَ تؤنّث وتذكّر، وذلك قولك: نعمتِ المرأةُ، وإن شئت قلت: نعمَ المرأةُ، كما قالوا ذهبَ المرأة. والحذفُ في نعمت أكثر.
واعلم أنك لا تُظهر علامةَ المضمرين في نعمَ، لا تقول: نِعْموا رجالاً، يكتفون بالذي يفسّره كما قالوا مررتُ بكلٍّ. وقال الله عزّ وجلّ: " وكلٌّ آترهُ داخرين " ، فحذفوا علامة الإضمار وألزموا الحذف، كما ألزموا نِعمَ وبئسَ الإسكان، وكما ألزموا خُذ الحذف، ففعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم.
وأصلُ نعمَ وبئسَ: نعم وبئسَ، وهما الأصلان اللذان وُضعا في الرّداءة والصلاح، ولا يكونُ منهما فعلٌ لغير هذا المعنى.
وأما قولهم: هذه الدار نعمتِ البلدُ فإنه لما كان البلد الدارَ أقحموا التاء، فصار كقولك: مَن كانت أمَّك، وما جاءت حاجتَك.


ومن قال نعمَ المرأةُ قال نعمَ البلدُ، وكذلك هذا البلد نعمَ الدارُ، لما كانت البلد ذُكّرتْ. فلزم هذا في كلامهم لكثرته، ولأنه صار كالمثَل، كما لزمت التاء في ما جاءت حاجتَ.
ومثل ذلك قول الشاعر، وهو لبعض السّعديين:
هل تعرفُ الدار يعفّيها المُورْ ... والدّجْنُ يوماً والعجاجُ المهمورْ
لكلّ ريحٍ فيه ذيلٌ مسفورْ فقال فيه لأن الدارَ مكانٌ، فحمله على ذلك.
وزعم الخليل رحمه الله أن حبّذا بمنزلة حبّ الشيء، ولكن ذا وحبّ بمنزلة كلمة واحدة نحو لولا، وهو اسم مرفوع كما تقول: يا ابنَ عمَّ، فالعمُّ مجرورٌ، ألا ترى أنك تقول للمؤنّث حبّذا ولا تقول حبّذهِ، لأنه صار مع حبّ على ما ذكرتُ لك، وصار المذكّر هو اللازم، لأنه كالمثَل.
وسألتُه عن قوله: وهو الراعي:
فأومأْتُ إيما خفيّاً لحبترٍ ... ولله عينا حبترٍ أيُّما فتى
فقال: أيّما تكون صفةً للنكرة، وحالاً للمعرفة، وتكون استفهاماً مبنياً عليها ومبنية على غيرها، ولا تكون لتبيين العدد ولا في الاستثناء نحو قولك أتَوْني إلا زيداً. ألا ترى أنك لا تقول: له عشرون أيّما رجلٍ، ولا أتَوْني إلا أيّما رجلٍ، فالنصبُ في: لي مثلُه رجلاً، كالنصب في عشرين رجلاً.
فأيّما لا تكون في الاستثناء، ولا يختصّ بها نوع من الأنواع، ولا يُفسَّر بها عدد.
وأيّما فتى استفهامٌ. ألا ترى أنك تقول سُبحان الله مَن هو وما هو فهذا استفهام فيه معنى التعجب. ولو كان خبراً لم يجز ذلك، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول مَن هو وتسكت.
وأما أحدٌ وكَرّابٌ وأرمٌ وكَتيعٌ وعريبٌ، وما أشبه ذلك، فلا يقعن واجباتٍ ولا حالاً ولا استثناء، ولا يُستخرج به نوعٌ من الأنواع فيعمل ما قبله فيه عمل عشرين في الدرهم إذا قلت عشرون درهماً، ولكنهن يقعن في النفي مبنياً عليهن ومبنية على غيرهن. فمن ثم تقول: ما في الناس مثلُه أحدٌ، حملتَ أحداً على مثل ما حملت عليه مثلاً. وكذلك ما مررت بمثلِك أحدٍ، وقد فسّرنا لمَ ذلك. فهذه حالُها كما كانت تلك حال أيّما.
فإذا قلت: له عسلٌ ملءُ جرّة، وعليه دَينٌ شَعَرُ كلبين، فالوجهُ الرفع، لأنه وصفٌ. والنصب يجوز كنصب عليه مائةٌ بيضاً بعد التمام.
وإن شئت قلت: لي مثلُه عبدٌ، فرفعتَ. وهي كثيرة في كلام العرب. وإن شئت رفعتَه على أنه صفةٌ وإن شئت كان على البدل.
فإذا قلت: عليها مثلُها زُبدٌ، فإن شئت رفعت على البدل، وإن شئت رفعت على قوله ما هو؟ فتقول: زبدٌ، أي هو زُبدٌ. ولا يكون الزبد صفةً لأنه اسم. والعبد يكون صفةً، وتقول: هذا رجلٌ عبدٌ. وهو قبيح لأنه اسم.
؟هذا باب النداء
اعلم أن النداء، كل اسم مضاف فيه فهو نصبٌ على إضمار الفعل المتروك إظهارُه. والمفرد رفعٌ وهو في موضع اسمٍ منصوب.
وزعم الخليل رحمه الله أنهم نصبوا المضافَ نحو يا عبدَ الله ويا أخانا، والنكرة حين قالوا: يا رجلاً صالحاً، حين طال الكلام، كما نصبوا: هو قبلَك وهو بعدَك. ورفعوا المفردَ كما رفعوا قبلُ وبعدُ وموضعهما واحد، وذلك قولك: يا زيدُ ويا عمرو. وتركوا التنوين في المفرد كما تركوه في قبلُ.
قلت: أرأيتَ قولهم يا زيدُ الطويلَ علامَ نصبوا الطويل؟ قال: نُصب لأنه صفةٌ لمنصوب. وقال: وإن شئت كان نصباً على أعني.
فقلت: أرأيتَ الرفعَ على أي شيء هو إذا قال يا زيدُ الطويلُ؟ قال: هو صفةٌ لمرفوع.
قلت: ألستَ قد زعمت أن هذا المرفوع في موضع نصبٍ، فلمَ لا يكون كقوله لقيتُه أمس الأحدثَ؟ قال: من قبل أن كل اسم مفرد في النداء مرفوع أبداً، وليس كل اسم في موضع أمس يكون مجروراً، فلما اطّرد الرفعُ في كل مفرد في النداء صار عندهم بمنزلة ما يرتفع بالابتداء أو بالفعل، فجعلوا وصفَه إذا كان مفرداً بمنزلته.
قلت: أفرأيت قول العرب كلهم:
أزيدُ أخا ورقاءَ إن كنتَ ثائراً ... فقد عرضَتْ أحناءُ حقٍ فخاصمِ
لأي شيء لم يجز فيه الرفعُ كما جاز في الطويل؟ قال: لأن المنادى إذا وُصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه، ولو جاز هذا لقلت يا أخونا، تريد أن تجعله في موضع المفرد؛ وهذا لحنٌ. فالمضاف إذا وُصف به المنادى فهو بمنزلته إذا ناديته، لأنه هنا وصفٌ لمنادى في موضع نصبٍ، كما انتصب حيث كان منادى لأنه في موضع نصب، ولم يكن فيه ما كان في الطويل لطوله.


وقال الخليل رحمه الله: كأنهم لما أضافوا ردّوه الى الأصل. كقولك: إن أمسَك قد مضى.
وقال الخليل رحمه الله وسألته عن يا زيد نفسَه، ويا تميمُ كلَّكم، ويا قيسُ كلَّهم، فقال: هذا كلّه نصبٌ، كقولك: يا زيدُ ذا الجُمّة. وأما يا تميمُ أجمعون فأنته فيه بالخيار، إن شئت قلت أجمعون، وإن شئت قلت أجميعن، ولا ينتصب على أعني، من قبل أنه مُحال أن تقول أعني أجمعين. ويدلّك على أن أجمعين ينتصب لأنه وصفٌ لمنصوب قول يونس: المعنى في الرفع والنصب واحدٌ. وأما المضاف في الصفة فهو ينبغي له أن لا يكون إلا نصباً إذا كان المفردُ ينتصب في الصفة.
قلت: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيداً أقبل؟ قال: عطفوه على هذا المنصوب فصار نصباً مثله، وهو الأصل، لأنه منصوب في موضع نصبٍ. وقال قوم: يا أخانا زيدُ.
وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله: وهو قول أهل المدينة، قال: هذا بمنزلة قولنا يا زيد، كما كان قولُه يا زيدُ أخانا بمنزلة يا أخانا، فيُحملُ وصفُ المضاف إذا كان مفرَداً بمنزلته إذا كان منادى. ويا أخانا زيداً أكثرُ في كلام العرب؛ لأنهم يردّونه الى الأصل حيث أزالوه عن الموضع الذي يكون فيه منادى، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى أصله، وكما ردوا أتقولُ حين جعلوه خبراً الى أصله. فأما المفرد إذا كان منادى فكلُ العرب ترفعه بغير تنوين، وذلك لأنه كثُر في كلامهم، فحذفوه وجعلوه بمنزلة الأصوات نحو حَوب وما أشبهه.
وتقول: يا زيدُ زيدُ الطويل، وهو قول أبي عمرو. وزعم يونس أن رؤبة كان يقول يا زيدُ زيداً الطويلَ. فأما قول أبي عمرو فعلى قولك: يا زيدُ الطويلٌ، وتفسيره كتفسيره. وقال رؤبة:
إني وأسطارٍ سُطِرنَ سطرا ... لَقائلٌ يا نصرُ نصراً نصرا
وأما قول رؤبة فعلى أنه جعل نصراً عطفَ البيان ونصبَه، كأنه على قوله يا زيدُ زيداً. وأما قول أبي عمرو فكأنه استأنف النداء. وتفسير يا زيدُ زيدُ الطويلُ كتفسير يا زيدُ الطويلُ، فصار وصفُ المفرد إذا كان مفرداً بمنزلته لو كان منادى. وخالف وصف أمسِ لأن الرفع قد اطّرد في كل مفردٍ في النداء. وبعضُهم ينشد: ين نصرُ نصرُ نصرا وتقول: يا زيدُ وعمرو، ليس إلا لأنهما قد اشتركا في النداء في قوله يا. وكذلك يا زيدُ وعبد الله، ويا زيدُ لا عمرو، ويا زيدُ أو عمرو؛ لأن هذه الحروف تُدخل الرفعَ في الآخِر كما تدخل في الأول، وليس ما بعدها بصفة، ولكنه على يا.
وقال الخليل رحمه الله من قال يا زيدُ والنّضْرَ فنصب، فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يُردّ فيها الشيء الى أصله. فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون: يا زيدُ والنضرُ. وقرأ الأعرج: " يا جِبالُ أوّبي معه والطيرُ " . فرفع.
ويقولون: يا عمرو والحارثُ، وقال الخليل رحمه الله: هو القياس، كأنه قال: ويا حارثُ. ولو حمل الحارثُ على يا كان غيرَ جائز البتة نصب أو رفع، من قبل أنك لا تنادي اسماً فيه الألفُ واللام بيا، ولكنك أشركت بين النضر والأول في يا، ولم تجعلها خاصة للنضر، كقولك ما مررت بزيد وعمرو، ولو أردت عملين لقلت ما مررتُ بزيد ولا مررتُ بعمرو.
وقال الخليل رحمه الله: ينبغي لمن قال النّضرَ فنصب، لأنه لا يجوز يا النضرُ، أن يقول: كلُّ نعجةٍ وسخلتها بدرهمٍ فينصب، إذا أراد لغة من يجرّ، لأنه محال أن يقول كل سخلتها، وإنما جرّ لأنه أراد وكلُّ سخلةٍ لها. ورفع ذلك لأن قوله والنضرُ بمنزلة قوله ونضرُ، وينبغي أن يقول: أيُّ فتى هيجاء أنتَ وجارَها لأنه محالٌ أن يقول وأيُّ جارِها.
وينبغي أن يقول: رُبّ رجلٍ وأخاه. فليس ذا من قبل ذا، ولكنها حروفٌ تُشرك الآخِر فيما دخل فيه الأول. ولو جاءت تلي ما وليه الاسم الأول كان غير جائز؛ لو قلت: هذا فصيلها لم يكن نكرة كما كان هذه ناقة وفصيلها. وإذا كان مؤخَّراً دخل فيما دخل فيه الأول.
وتقول: يا أيها الرجل وزيدُ، ويا أيّها الرجلُ وعبدَ الله؛ لأن هذا محمول على يا، كما قال رؤبة: يا دارَ عفراءَ ودارَ البَخدَنِ وتقول يا هذا ذا الجمة، كقولك: يا زيدُ ذا الجمّة، ليس بين أحدٍ فيه اختلاف.
؟باب لا يكون الوصف المفرد فيه إلا رفعاً
ولا يقع في موقعه غيرُ المفرد
وذلك قولك، يا أيها الرجلُ، ويا أيها الرجلان، ويا أيها المرأتان.


فأي ههنا فيما زعم الخليل رحمه الله كقولك يا هذا، والرجل وصفٌ له كما يكون وصفاً لهذا. وإنما صار وصفه لا يكون فيه إلا الرفع لأنك لا تستطيع أن تقول يا أيُّ ولا يا أيها وتسكت، لأنه مبهَم يلزمه التفسيرُ، فصار هو والرجل بمنزلة اسمٍ واحد، كأنك قلت يا رجل.
واعلم أن الأسماء المبهَمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام تُنزَل بمنزلة أي، وهي هذا وهؤلاء وأولئك وما أشبهها، وتوصَف بالأسماء. وذلك قولك، يا هذا الرجلُ، ويا هذان الرجلان. صار المبهَم وما بعده بمنزلة اسمٍ واحد.
وليس ذا بمنزلة قولك يا زيدُ الطويل، من قبل أنك قلت يا زيدُ وأنت تريد أن تقف عليه، ثم خِفْتَ أن لا يُعرف فنعتّه بالطويل. وإذا قلت يا هذا الرجل، فأنت لم ترد أن تقف على هذا ثم تصفه بعد ما تظن أنه لم يُعرف، فمن ثم وُصفت بالأسماء التي فيها الألف واللام، لأنها والوصف بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: يا رجل.
فهذه الأسماء المبهمة إذا فسرتها تصير بمنزلة أي، كأنك إذا أردت أن تفسّرها لم يجزْ لك أن تقف عليها. وإنما قلت: يا هذا ذا الجمة، لأن ذا الجمة لا توصف به الأسماء المبهمة، إنما يكون بدلاً أو عطفاً على الاسم إذا أردت أن تؤكد، كقولك: يا هؤلاء أجمعون، وإنما أكدت حين وقفتَ على الاسم. والألف واللام والمبهَم يصيران بمنزلة اسم واحد، يدلك على ذلك أن أي لا يجوز لك فيها أن تقول يا أيها ذا الجُمّة. فالأسماء المبهمة توصَف بالألف واللام ليس إلا، ويفسَّر بها، ولا توصَف بما يوصف به غير المبهمة، ولا تفسَّر بما يفسّر به غيرها إلا عطفاً. ومثل ذلك قول الشاعر، وهو ابن لَوذان السدوسي:
يا صاح يا ذا الضامر العنْس ... والرّحْلِ ذي الأنساع والحِلسِ
ومثله قول ابن الأبرص:
يا ذا المخوّفُنا بمقتل شيخِه ... حُجرٍ تمني صاحبِ الأحلامِ
ومثله يا ذا الحسن الوجه. وليس ذا بمنزلة يا ذا ذا الجمة، من قبل أن الضامر العنسِ والحسن الوجه كقولك: يا ذا الضامر ويا ذا الحسن، وهذا المجرور ها هنا بمنزلة المنصوب إذا قلت يا ذا الحسن الوجه، ويا ذا الحسنُ وجهاً. ويدلك على أنه ليس بمنزلة ذي الجمة، أن ذا معرفة بالجمة، والضامرُ والحسن ليس واحدٌ منهما معرفةً بما بعده، ولكن ما بعده تفسيرٌ لموضع الضمور والحُسن، إذا أردت أن لا تُبهمهما. فكلّ واحد من المواضع من سبب الأول، لا يكونان إلا كذلك. فإذا قلت الحسن فقد عمّمتَ. فإذا قلت الوجهِ فقد اختصصت شيئاً منه. وإذا قلت الضامرُ فقد عمّمت، وإذا قلت العنس فقد اختصصتَ شيئاً من سببه كما اختصصت ما كان منه، وكأن العنسَ شيءٌ منه، فصار هذا تبييناً لموضع ما ذكرتَ كما صار الدرهمُ يبيَّن به ممّ العشرون، حين قلت: عشرون درهماً.
ولو قلت: يا هذا الحسن الوجه، لقلت يا هؤلاء العشرين رجلاً، وهذا بعيد، فإنما هو بمنزلة الفعل إذا قلت يا هذا الضارب زيداً، ويا هذا الضارب الرجلَ، كأنك قلت يا هذا الضارب، وذكرت ما بعده لتبيّن موضع الضرب ولا تبهمه، ولم يُجعَل معرفةً بما بعده. ومن ثم كان الخليل يقول: يا زيد الحسنُ الوجه، قال: هو بمنزلة قولك يا زيدُ الحسن. ولو لم يجز فيما بعد زيد الرفع لما جاز في هذا، كما أنه إذا لم يجز يا زيد ذو الجمة لم يجز يا هذا ذو الجمة.
وقال الخليل رحمه الله: إذا قلت يا هذا وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكونُ عطفاً عليه، فأنت فيه بالخيار: إن شئت رفعت وإن شئت نصبت، وذلك قولك يا هذا زيد، وإن شئت قلت زيداً، يصير كقولك: يا تميم أجمعون وأجمعين. وكذلك يا هذان زيدٌ وعمرو، وإن شئت قلت زيداً وعمراً، فتُجري ما يكون عطفاً على الاسم مُجرى ما يكون وصفاً، نحو قولك: يا زيدُ الطويلُ ويا زيدُ الطويلَ.
وزعم لي بعض العرب أن يا هذا زيدٌ كثير في كلام طيّء.
ويقوّي يا زيد الحسنُ الوجه - ولا تلتفتْ فيه الى الطول - أنك لا تستطيع أن تناديه فتجعله وصفاً مثلَه منادى.


واعلم أن هذه الصفات التي تكون والمبهمة بمنزلة اسم واحد، إذا وُصفت بمضاف أو عُطف على شيء منها، كان رفعاً، من قبل أنه مرفوع غيرُ منادى. واطّرد الرفع في صفات هذه المبهمة كاطراد الرفع في صفاتها إذا ارتفعت بفعلٍ أو ابتداء، أو تبنى على مبتدأ، فصارت بمنزلة صفاتها إذا كانت في هذه الحال. كما أن الذين قالوا يا زيدُ الطويل جعلوا زيداً مبنزلة ما يرتفع بهذه الأشياء الثلاثة. فمن ذلك قول الشاعر: يا أيها الجاهلُ ذو التنزّي وتقول: يا أيها الرجل زيدٌ أقبلْ، وإنما تنوّن لأنه موضعٌ يرتفع فيه المضاف، وإنما يُحذف منه التنوين إذا كان في موضع ينتصب فيه المضاف.
وتقول: يا زيدُ الطويلُ ذو الجمة، إذا جعلته صفةً للطويل، وإن حملته على زيد نصبت. فإذا قلت يا هذا الرجلُ فأردتَ أن تعطف ذا الجمة على هذا جاز فيه النصب، ولا يجوز ذلك في أي لأنه لا تعطف عليه الأسماء. ألا ترى أنك لا تقول: يا أيها ذا الجمة، فمن ثم لم يكن مثله.
وأما قولك يا أيها ذا الرجل، فإن ذا وصفٌ لأي كما كان الألف واللام وصفاً لأنه مبهَم مثله، فصار صفةً له كما صار الألف واللام وما أضيف إليهما صفةً للألف واللام؛ وذلك نحو قولك: مررتُ بالحسن الجميل، وبالحسن ذي المال. وقال ذو الرمة:
ألا أيها ذا المنزلُ الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحيَّ عاهدُ
ومن قال يا زيدُ الطويلَ قال ذا الجمّة، لا يكون فيه غيرُ ذلك إذا جاء بها من بعد الطويل. وإن رفع الطويلَ وبعده ذو الجمة كان فيه الوجهان.
وتقول: يا زيدُ النّاكي العدوَّ وذا الفضل، إن حملتَ ذا الفضل على زيد نصبتَ، لأنه وصفٌ لمنادى وهو مضاف. وإن حملته على غير زيد انتصب على يا كأنك قلت: ويا ذا الفضل.
؟هذا باب
ما ينتصب على المدح والتعظيم أو الشتم
لأنه لا يكون وصفاً للأول ولا عطفاً عليه وذلك قولك: يا أيها الرجل وعبدَ الله المسلمَين الصالحَين. وهذا بمنزلة قولك: اصنعْ ما سرّ أباك وأحبّ أخوك الرجلين الصالحين. فإذا قلت يا زيد وعمرو ثم قلت الطويلين، فأنت بالخيار إن شئت نصبت وإن شئت رفعت؛ لأنه بمنزلة قولك يا زيدُ الطويلُ.
وتقول: يا هؤلاء وزيدُ الطّوالُ والطوالَ؛ لأنه كله رفعٌ، والطوالُ ها هنا رفع عطف عليهم.
وتقول: يا هذا ويا هذان الطوالَ، وإن شئت قلت الطوالُ، لأن هذا كله مرفوع والطوالُ ههنا عطفٌ، وليس الطوالُ بمنزلة يا هؤلاء الطوالُ، لأن هذا إنما هو من وصف غير المبهَمة.
وإنما فرقوا بين العطف والصفة لأن الصفة تجيء بمنزلة الألف واللام، كأنك إذا قلت مررتُ بزيدٍ أخيك فقد قلت مررتُ بزيد الذي تعلم. وإذا قلت مررت بزيد هذا فقد قلت بزيدٍ الذي ترى أو الذي عندك.
وإذا قلت مررتُ بقومك كلهم، فأنت لا تريد أن تقول مررتُ بقومك الذين من صفتهم كذا وكذا، ولا مررتُ بقومك الهَنينَ.
وعلى هذا المثال جاء مررتُ بأخيك زيدٍ، فليس زيدٌ بمنزلة الألف واللام. ومما يدلك على أنه ليس بمنزلة الألف واللام أنه معرفةٌ بنفسه لا بشيء دخل فيه ولا بما بعده. فكل شيء جاز أن يكون هو والمبهَم بمنزلة اسم واحد هو عطفٌ عليه. وإنما جرت المبهَمة هذا المجرى لأن حالها ليس كحال غيرها من الأسماء.
وتقول يا أيها الرجلُ وزيدُ الرجلين الصالحين، من قبل أن رفعهما مختلف؛ وذلك أن زيداً على النداء والرجل نعت، ولو كان بمنزلته لقلت يا زيدُ ذو الجُمة، كما تقول يا أيها الرجل ذو الجمة. وهو قول الخليل رحمه الله.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تنادي اسماً فيه الألف واللام البتة؛ إلا أنهم قد قالوا: يا الله اغفِر لنا، وذلك من قبل أنه اسمٌ يلزمه الألف واللام لا يفارقانه، وكثر في كلامهم فصار كأن الألف واللام فيه بمنزلة الألف واللام التي من نفس الحروف، وليس بمنزلة الذي قال ذلك، من قبل أن الذي قال ذلك وإن كان لا يفارقه الألف واللام ليس اسماً بمنزلة زيد وعمرو غالباً. ألا ترى أنك تقول يا أيها الذي قال ذاك، ولو كان اسماً غالباً بمنزلة زيد وعمرو لم يجز ذا فيه، وكأن الاسم والله أعلمُ إلهٌ، فلما أُدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلَفاً منها. فهذا أيضاً مما يقوّيه أن يكون بمنزلة ما هو من نفس الحرف.


ومثل ذلك أناسٌ، فإذا أدخلت الألف واللام قلت الناس؛ إلا أن الناس قد تفارقهم الألف واللام ويكون نكرة، واسمُ الله تبارك وتعالى لا يكون فيه ذلك.
وليس النّجم والدبرانُ بهذه المنزلة؛ لأن هذه الأشياء الألف واللام فيها بمنزلتها في الصّعق، وهي في اسم الله تعالى بمنزلة شيء غير منفصل في الكلمة، كما كانت الهاء في الجحاجحة بدلاً من الياء، وكما كانت الألف في يَمانٍ بدلاً من الياء.
وغيّروا هذا لأن الشيء إذا كثُر في كلامهم كان له نحوٌ ليس لغيره مما هو مثلُه. ألا ترى أنك تقول: لم أكُ ولا تقول لم أقُ، إذا أردت أقُلْ. وتقول: لا أدرِ كما تقول: هذا قاضٍ، وتقول لم أُبَل ولا تقول لم أرَمْ تريد لم أُرامِ. فالعرب مما يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره.
وقال الخليل رحمه الله: اللهم نداءٌ والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه الله آخرَ الكلمة بمنزلة يا في أولها، إلا أن الميم ها هنا في الكلمة كما أن نون المسلمين في الكلمة بُنيت عليها. فالميم في هذا الاسم حرفان أولُهما مجزومٌ، والهاء مرتفعةٌ لأنه وقع عليها الإعراب.
وإذا ألحقتَ الميم تصف الاسم، من قبل أنه صار مع الميم عندهم بمنزلة صوتٍ كقولك: يا هناهْ.
وأما قوله عز وجلّ: " اللهمّ فاطرَ السموات والأرض " فعلى يا، فقد صرّفوا هذا الاسم على وجوه لكثرته في كلامهم، ولأن له حالاً ليست لغيره.
وأما الألف والهاء اللتان لحقتا أي توكيداً، فكأنك كررت يا مرتين إذا قلت: يا أيها، وصار الاسم بينهما كما صار هو بين ها وذا إذا قلت ها هو ذا. وقال الشاعر:
من أجلك يا التي تيّمتِ قلبي ... وأنت بخيلةٌ بالودّ عني
شبّهه بيا الله.
وزعم الخليل رحمه الله أن الألف واللام إنما منعهما أن يدخلا في النداء من قبل أن كل اسم في النداء مرفوع معرفة. وذلك أنه إذا قال يا رجل ويا فاسقُ، فمعناه كمعنى يا أيها الفاسقُ ويا أيها الرجل، وصار معرفةً لأنك أشرت إليه وقصدت قصدَه، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء التي هي للإشارة نحو لهذا وما أشبه ذلك، وصار معرفةً بغير ألف ولام لأنك إنما قصدت قصدَ شيء بعينه. وصار هذا بدلاً في النداء من الألف واللام، واستُغني به عنهما كما استغنيت بقولك اضربْ عن لتضربْ، وكما صار المجرور بدلاً من التنوين، وكما صارت الكاف في رأيتك بدلاً من رأيتُ إياكَ.
وإنما يُدخلون الألف واللام ليعرّفوك شيئاً بعينه قد رأيتَه أو سمعت به، فإذا قصدوا قصد الشيء بعينه دون غيره وعنوه، ولم يجعلوه واحداً من أمة، فقد استغنوا عن الألف واللام. فمن ثم لم يُدخلوهما في هذا ولا في النداء.
ومما يدلك على أن يا فاسقُ معرفة قولك: يا خباثِ ويا لَكاعِ ويا فساقِ، تريد يا فاسقةُ ويا خبيثةُ ويا لَكعاءُ، فصار هذا اسماً لهذا كما صارت جَعار اسماً للضّبُع، وكما صارت حَذام ورقاش اسماً للمرأة، وأبو الحارث اسماً للأسد.
ويدلك على أنه اسم للمنادى أنهم لا يقولون في غير النداء جاءتني خَباثِ ولَكاعِ، ولا لُكَع ولا فُسَقُ. فإنما اختُصّ النداء بهذا الاسم أن الاسم معرفة، كما اختُص الأسد بأبي الحارث إذ كان معرفة. ولو كان شيء من هذا نكرةً لم يكن مجروراً؛ لأنها لا تُجرّ في النكرة.
ومن هذا النحو أسماء اختُص بها الاسم المنادى لا يجوز منها شيء في غير النداء، نحو: يا نومانُ، ويا هناء، ويا فل.
ويقوّي ذلك كله أن يونس زعم أنه سمع من العرب من يقول: يا فاسقُ الخبيثُ.
ومما يقوّي أنه معرفة تركُ التنوين فيه، لأنه ليس اسمٌ يشبه الأصوات فيكون معرفةً إلا لم ينوّن، وينوّن إذا كان نكرة. ألا ترى أنهم قالوا هذا عمرَوَيْهِ وعمرَوَيهٍ آخرُ.
وقال الخليل رحمه الله: إذا أردت النكرة فوصفتَ أو لم تصف فهذه منصوبة؛ لأن التنوين لحقها فطالت، فجُعلت بمنزلة المضاف لما طال نُصب ورُدّ الى الأصل، كما فُعل ذلك بقبلُ وبعدُ.
وزعموا أن بعض العرب يصرف قبلاً وبَعْداً فيقول: ابدأ بهذا قَبلاً، فكأنه جعلها نكرة.


فإنما جعل الخليل رحمه الله المنادى بمنزلة قبل وبعد، وشبّهه بهما مفردين إذا كان مفرداً، فإذا طال وأضيف شبّهه بهما مضافين إذا كان مضافاً، لأن المفرد في النداء في موضع نصبٍ، كما أن قبلُ وبعدُ قد يكونان في موضع نصب وجرّ ولفظُهما مرفوع، فإذا أضفتهما رددتَهما الى الأصل. وكذلك نداء النكرة لما لحقها التنوين وطالت، صارت بمنزلة المضاف. وقال ذو الرمّة:
أداراً بحُزوى هِجْتِ للعين عَبرةً ... فماءُ الهوى يرفَضُّ أو يترقْرَق
وقال الآخر، توبةُ بن الحُميّر:
لعلك يا تيساً نزا في مريرةٍ ... مُعذّبُ ليلى أن تراني أزورها
وقال عبدُ يغوث:
فيا راكباً إما عرَضْتَ فبلّغنَ ... ندامايَ من نجرانَ أن لا تلاقيا
وأما قول الطّرِمّاح:
يا دارُ أقوت بعدَ أصرامِها ... عاماً وما يعنيك من عامها
فإنما ترك التنوين فيه لأنه لم يجعل أقوَتْ من صفة الدار، ولكنه قال: يا دارُ، ثم أقبل بعدُ يحدّث عن شأنها، فكأنه لما قال: يا دارُ، أقبل على إنسان فقال: أقوتْ وتغيّرتْ، وكأنه لما ناداها قال: إنها أقوتْ يا فلان. وإنما أردت بهذا أن تعلم أن أقوتْ ليس بصفة.
ومثل ذلك قول الأحوص:
يا دارُ حسرَها البِلى تحسيراً ... وسَفتْ عليها الريحُ بعدكَ مُورا
وأما قول الشاعر، لعمرو بن قنعاس:
ألا يا بيتُ بالعلياء بيتُ ... ولولا حبُّ أهلك ما أتيتُ
فإنه لم يجعل بالعلياء وصفاً، ولكنه قال: بالعلياء لي بيتٌ، وإنما تركتُه لك أيها البيت لحبّ أهله.
وأما قول الأحوص:
سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلامُ
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف، لأنه بمنزلة اسم لا ينصرف، وليس مثل النكرة؛ لأن التنوين لازمٌ للنكرة على كل حال والنصبَ. وهذا بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين اضطراراً؛ لأنك أردت في حال التنوين في مطرٍ ما أردت حين كان غير منوّن، ولو نصبتَه في حال التنوين لنصبته في غير حال التنوين، ولكنه اسم اطّرد الرفعُ فيه وفي أمثاله في النداء، فصار كأنه يُرفع بما يرفع من الأفعال والابتداء، فلما لحقه التنوين اضطراراً لم يغيَّر رفعه كما لا يغيّر رفع ما لا ينصرف إذا كان في موضع رفع، لأن مطراً وأشباهه في النداء بمنزلة ما هو في موضع رفع، فكما لا ينتصب ما هو في موضع رفع كذلك لا ينتصب هذا.
وكان عيسى بن عمر يقول يا مطراً، يشبّه بقوله يا رجلاً، يجعله إذا نُوّن وطال كالنكرة. ولم نسمع عربياً يقوله، وله وجه من القياس إذا نُوّن وطال كالنكرة.
ويا عشرين رجلاً كقولك: يا ضارباً رجلاً.
؟هذا باب
ما يكون الاسمُ والصفة فيه بمنزلة اسم واحد
ينضمّ فيه قبل الحرف المرفوع حرفٌ، وينكسر فيه قبل الحرف المجرور الذي ينضمّ قبل المرفوع، وينفتح فيه قبل المنصوب ذلك الحرف. وهو ابْنُمٌ وامرؤٌ. فإن جررت قلت: في ابنِمٍ وامرئٍ، وإن نصبت قلت: ابنَماً وامرأً، وإن رفعت قلت: هذا ابنُمٌ وامرُؤٌ.
ومثل ذلك قولك: يا زيدَ بنَ عمرو. وقال الراجز، وهو من بني الحِرماز: يا حكمَ بن المنذرِ بنِ الجارودْ وقال العجّاج: يا عمرَ بنَ معمرٍ لا منتَظَرْ وإنما حملهم على هذا أنهم أنزلوا الرّفعة التي في قولك زيد بمنزلة الرفعة في راء امرئ، والجرّة بمنزلة الكسرة في الراء والنصبة كفتحة الراء وجعلوه تابعاً لابن. ألا تراهم يقولون: هذا زيدُ بنُ عبد الله، ويقولون: هذه هندُ بنتُ عبد الله فيمن صرف، فتركوا التنوين ها هنا لأنهم جعلوه بمنزلة اسم واحد لمّا كثُر في كالمهم، فكذلك جعلوه في النداء تابعاً لابن.
وأما مَن قال: يا زيدُ بنَ عبد الله، فإنه إنما قال هذا زيدُ بنُ عبد الله وهو لا يجعله اسماً واحداً، وحذف التنوين لأنه لا ينجزم حرفان.
فإن قلت: هلا قالوا: هذا زيدُ الطويلُ؟ فإن القول فيه أن تقول جُعل هذا لكثرته في كلامهم بمنزلة قولهم: لَدُ الصلاة، حذفها لأنه لا ينجزم حرفان ولم يحرّكها. واختُصّ هذا الكلام بحذف التنوين لكثرته كما اختُصّ لا أدرِ ولم أُبَلْ لكثرتهما. ومن جعله بمنزلة لَدُنْ فحذفه لالتقاء الساكنين ولم يجعله بمنزلة اسم واحد قال: هذه هندٌ بنتُ فلان.
وزعم يونس أنها لغةٌ كثيرة في العرب جيدة.


وأما زيدُ ابنَ أخينا فلا يكون إلا هكذا، من قبل أنك تقول: هذا زيدٌ ابنُ أخينا، فلا تجعله اسماً واحداً كما تقول هذا زيدٌ أخونا. وزيدٌ في قولك يا زيدُ بنَ عمرو في موضع نصب، كما أن الأم في موضع جرّ في قولك: يا ابنَ أمَّ، ولكنه لفظه كما ذكرت لك، وهو على الأصل.
؟باب يكرر فيه الاسم في حال الإضافة
ويكون الأول بمنزلة الآخر وذلك قولك: يا زيدَ زيدَ عمرٍو، ويا زيدَ زيدَ أخينا ويا زيدَ زيدَنا.
زعم الخليل رحمه الله ويونس أن هذا كله سواء، وهي لغة للعرب جيدة. وقال جرير:
يا تَيْمَ تيمَ عَديّ لا أبا لكمُ ... لا يُلقيَنّكمُ في سَودةٍ عمرُ
وقال بعض ولدِ جرير: يا زيدَ زيدَ اليَعْمَلاتِ الذُّبَّلِ وذلك لأنهم قد علموا أنهم لو لم يكرروا الاسم كان الأول نصباً، فلما كرروا الاسمَ توكيداً تركوا الأول على الذي كان يكون عليه لو لم يكرروا.
وقال الخليل رحمه الله: هو مثلُ لا أبالك، قد علم أنه لو لم يجئ بحرف الإضافة قال أباكَ، فتركه على حاله الأولى؛ واللام وها هنا بمنزلة الاسم الثاني في قوله: يا تيمَ تيمَ عديّ، وكذلك قول الشاعر إذا اضطُرّك يا بؤسَ للحَرب إنما يريد: يا بؤسَ الحرب. وكأن الذي يقول: يا تيمَ تيم عَديّ لو قاله مضطَرّاً على هذا الحد في الخبر لقال: هذا تيمُ تيمُ عديّ.
قال: وإن شئت قلت يا تيمُ تيمُ عديّ، كقولك: يا تيمُ أخانا، لأنك تقول هذا تيمٌ تيمُ عدي، كما تقول: هذا تيمٌ أخونا.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: يا طلحةَ أقبلْ، يشبه: يا تسمَ تيمَ عديّ، من قبل أنهم قد علموا أنهم لو لم يجيئوا بالهاء لكان آخرُ الاسم مفتوحاً، فلما ألحقوا الهاء تركوا الاسم على حاله التي كان عليها قبل أن يُلحقوا الهاء. وقال النابغة الذبياني:
كليني لهمّ يا أميمةَ ناصبِ ... وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
فصار يا تيمَ تيمَ عدي اسما واحداً، وكان الثاني بمنزلة الهاء في طلحة، تحذف مرة ويجاء بها أخرى. والرفع في طلحة، ويا تيمُ تيمَ عدي القياس.
واعلم أه لا يجوز في غير النداء أن تُذهب التنوين من الاسم الأول، لأنهم جعلوا الأول والآخِر بمنزلة اسم واحد، نحو طلحةَ في النداء، واستخفوا بذلك لكثرة استعمالهم إياه في النداء ولا يُجعل بمنزلة ما جُعل من الغايات كالصوت في غير النداء، لكثرته في كلامهم. ولا يُحذف هاء طلحة في الخبر فيجوز هذا في الاسم مكرّراً، يعني طرح التنوين من تيمٍ تيمِ عدي في الخبر. يقول: لو فُعل هذا بطلحة جاز هذا.
وإنما فعلوا هذا بالنداء لكثرته في كلامهم، ولأن أول الكلام أبداً النداء، إلا أن تدعه استغناء بإقبال المخاطَب عليك، فهو أول كلّ كلام لك به تعطف المكلَّم عليك، فلما كثر وكان الأول في كل موضع، حذفوا منه تخفيفاً؛ لأنهم مما يغيّرون الأكثر في كلامهم، حتى جعلوه بمنزلة الأصوات وما أشبه الأصوات من غير الأسماء المتمكنة، ويحذفون منه، كما فعلوا في لم أُبَلْ. وربما ألحقوا فيه كقولهم: أمّهات.
ومن قال يا زيدُ الحسنُ قال يا طلحةَ الحسنُ، لأنها كفتحة الحاء إذا حذفت الهاء. ألا ترى أن من قال يا زيدُ الكريمُ قال يا سلَمَ الكريمُ.
؟باب إضافة المنادى الى نفسك
اعلم أن ياء الإضافة لا تثبت مع النداء كما لم يثبت التنوين في المفرد لأن ياء الإضافة في الاسم بمنزلة التنوين، لأنها بدل من التنوين، ولأنه لا يكون كلاماً حتى يكون في الاسم، كما أن التنوين إذا لم يكن فيه لا يكون كلاماً، فحُذف وتُرك آخرُ الاسم جراً ليُفصَل بين الإضافة وغيرها، وصار حذفها هنا لكثرة النداء في كلامهم، حيث استغنوا بالكسرة عن الياء. ولم يكونوا ليثبتوا حذفها إلا في النداء ولم يكن لُبسٌ في كلامهم لحذفها وكانت الياء حقيقةً بذلك لما ذكرتُ لك، إذ حذفوا ما هو أقل اعتلالاً في النداء، وذلك قولك: يا مومِ لا بأسَ عليكم، وقال الله جلّ ثناؤه: " يا عبادِ فاتّقونِ " .
وبعض العرب يقول: يا رَبُّ اغفِرْ لي، ويا قومُ لا تفعلوا. وثباتُ الياء فيما زعم يونس في الأسماء.
واعلم أن بقيان الياء لغة في النداء في الوقف والوصل، تقول: يا غلامي أقبل. وكذلك إذا وقفوا.
وكان أبو عمرو يقول: " يا عبادي فاتّقونِ " . وقال الراجز، وهو عبد الله بن عبد الأعلى القرشي:


وكنت إذ كنتَ إلهي وَحْدَكا ... لم يكُ شيء يا إلهي قبلكا
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخفّ، وسنبين ذلك إن شاء الله، وذلك قولك: يا ربّا تجاوز عنّا، ويا غلاما لا تفعل. فإذا وقفت قلت: يا غُلاماه. وإنما ألحقتَ الهاء ليكون أوضح للألف؛ لأنها خفية. وعلى هذا النحو يجوز: يا أباه، ويا أُمّاه.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: يا أبَهْ، ويا أبَتِ لا تفعلْ، ويا أبتاه ويا أمّتاه، فزعم الخليل رحمه الله أن هذه الهاء مثل الهاء في عمةٍ وخالة.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب من يقول: يا أمةُ لا تفعلي. ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة وخالة أنك تقول في الوقف: يا أمّه ويا أبَهْ، كما تقول يا خالَهْ. وتقول: يا أمّتاهْ كما تقول يا خالتاهْ. وإنما يُلزمون هذه الهاء في النداء إذا أضفتَ الى نفسك خاصة، كأنهم جعلوها عوضاً من حذف الياء، وأرادوا أن لا يخلّوا بالاسم حين اجتمع فيه حذف الياء، وأنهم لا يكادون يقولون يا أباهْ ويا أمّاه، وهي قليلة في كلامهم وصار هذا محتملاً عندهم لما دخل النداء من التغيير والحذف، فأرادوا أن يعوّضوا هذين الحرفين كما قالوا أيْنُقٌ لما حذفوا العين رأساً جعلوا الياء عوضاً، فلما ألحقوا الهاء في أبَهْ وأمّهْ، صيّروها بمنزلة الهاء التي تلزم الاسم في كل موضع، نحو خالة وعمة. واختُصّ النداء بذلك لكثرته في كلامهم كما اختُصّ النداء بيا أيها الرجلُ.
ولا يكون هذا في غير النداء، لأنهم جعلوها تنبيهاً فيها بمنزلة يا. وأكدوا التنبيه ب ها حين جعلوا يا مع ها، فمن ثم لم يجز لهم أن يسكتوا على أي، ولزمه التفسير.
قلت: فلمَ دخلت الهاء في الأب وهو مذكّر.
قال: قد يكون الشيء المذكّر يوصَف بالمؤنث ويكون الشيء المذكّر له الاسم المؤنّث نحو نَفْس، وأنت تعني الرجل به. ويكون الشيء المؤنث يوصَف بالمذكر، وقد يكون الشيء المؤنث له الاسم المذكر. فمن ذلك: هذا رجلٌ ربْعةٌ وغلامٌ يَفَعةٌ. فهذه الصفات.
والأسماء قولهم: نَفْسٌ، وثلاثة أنفس، وقولهم ما رأيت عيناً، يعني عين القوم. فكأن أبَهْ اسم مؤنث يقع للمذكر، لأنهما والدان كما تقع العين للمذكر والمؤنث لأنهما شخصان. فكأنهم إنما قالوا أبوان لأنهم جمعوا بين أبٍ وأبةٍ، إلا أنه لا يكون مستعمَلاً إلا في النداء إذا عنيت المذكّر. واستغنوا بالأم في المؤنث عن أبة، وكان ذلك عندهم في الأصل على هذا، فمن ثم جاءوا عليه بالأبوين؛ وجعلوه في غير النداء أباً بمنزلة الوالد، وكأن مؤنثه أبةٌ كما أن مؤنث الوالد والدة.
ومن ذلك أيضاً قولك للمؤنث: هذه امرأةٌ عَدْلٌ. ومن الأسماء فرَسٌ، هو للمذكّر، فجعلوه لهما، وكذلك عدْل وما أشبه ذلك.
وحدّثنا يونس أن بعض العرب يقول: يا أمَّ لا تفعلي، جعلوا هذه الهاء بمنزلة هاء طلحة إذ قالوا: يا طلحَ أقبلْ؛ لأنهم رأوها متحركةً بمنزلة هاء طلحة فحذفوها، ولا يجوز ذلك في غير الأم من المضاف.
وإنما جازت هذه الأشياء في الأب والأم لكثرتهما في النداء، كما قالوا: يا صاح في هذا الاسم. وليس كل شيء يكثر في كلامهم يغيَّر عن الأصل، لأنه ليس بالقياس عندهم، فكرهوا ترك الأصل.
؟باب ما تضيف إليه ويكون مضافاً إليك
قبل المضاف إليه
وتثبت فيه الياء، لأنه غير منادى، وإنما هو بمنزلة المجرور في غير النداء.
فذلك قولك: يا ابنَ أخي، ويا ابنَ أبي، يصير بمنزلته في الخبر. وكذلك يا غلامَ غلامي. وقال الشاعر أبو زُبيد الطائي:
يا ابنَ أمي ويا شُقَيّقَ نفسي ... أنت خلّيتني لدهرٍ شديدِ
وقالوا: يا ابنَ أمَّ ويا ابن عمَّ، فجعلوا ذلك بمنزلة اسم واحد، لأن هذا أكثرُ في كلامهم من يا ابنَ أبي ويا غلامَ غلامي. وقد قالوا أيضاً: يا ابنَ أمِّ ويا ابنَ عمّ، كأنهم جعلوا الأول والآخر اسماً، ثم أضافوا الى الياء، كقولك: يا أحدَ عشرَ أقبلوا. وإن شئت قلت: حذفوا الياء لكثرة هذا في كلامهم.
وعلى هذا قال أبو النجم: يا ابنةَ عمّا لا تلومي واعجَعي واعلم أن كل شيء ابتدأتُه في هذين البابين أولاً فهو في القياس. وجميع ما وصفناه من هذه اللغات سمعناه من الخليل رحمه الله ويونس عن العرب.
؟باب ما يكون النداء فيه مضافاً
الى المنادى بحرف الإضافة


وذلك في الاستغاثة والتعجب، وذلك الحرفُ اللامُ المفتوحة، وذلك قول الشاعر، وهو مهلهل:
يا لَبكرٍ أنشِروا لي كُليباً ... ويا لَبكرٍ أينَ أينَ الفرارُ
فاستغاث بهم ليُنشروا له كُليباً. وهذا منه وعيد وتهدّد. وأما قوله يا لَبكرٍ أين أين الفرار فإنما استغاث بهم لهم، أي لمَ تفرّون؟ استطالةً عليهم ووعيداً.
وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي:
ألا يا لَقوم لطيف الخيال ... أرّق، من نازح ذي دلال
وقال قيس بن ذريح:
تكنّفني الوُشاةُ فأزعجوني ... فيا لَلناس للواشي المطاعِ
وقالوا يا لله، يا لَلناس، إذا كانت الاستغاثة. فالواحد والجميع فيه سواء. وقال الآخر:
يا لَقوم مَن للعُلى والمساعي ... ويا لَقوم مَن للنّدى والسماحِ
ويا لَعطّافنا ويا لَرياح ... وأبي الحشرجِ الفتى النّفّاحِ
ألا تراهم كيف سوّوا بين الواحد والجميع.
وأما في التعجّب فقوله، وهو فرّار الأسدي: لَخُطّابُ لَيلى يا لَبُرثنَ منكمُ أدلُّ وأمضى من سُليك المقانبِ وقالوا: يا لَلعجب، ويا لَلفليقة؛ كأنهم رأوا أمراً عجباً فقالوا: يا لَبُرثن، أي مثلكم دُعي للعظائم.
وقالوا: يا لَلعجب ويا لَلماء، لما رأوا عجباً أو رأوا ماء كثيراً، كأنه يقول: تعالَ يا عجبُ أو تعال يا ماء فإنه من أيامك وزمانك.
ومثل ذلك قولهم: يا لَدواهي، أي تعالينَ فإنه لا يُستنكر لكنّ، لأنه من إبّانكنّ وأحيانكن.
وكل هذا في معنى التعجب والاستغاثة، وإلا لم يجز. ألا ترى أنك لو قلت يا لَزيد وأنت تحدثه لم يجز.
ولم يلزم في هذا الباب إلا يا للتنبيه؛ لئلا تلتبس هذه اللام بلام التوكيد كقولك: لَعمرو خيرٌ منك. ولا يكون مكان يا سواها من حروف التنبيه نحو أي وهَيا وأيا؛ لأنهم أرادوا أن يميزوا هذا من ذلك الباب الذي ليس فيه معنى استغاثة ولا تعجب.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذه اللام بدلٌ من الزيادة التي تكون في آخر الاسم إذا أضفتَ، نحو قولك: يا عجَباه ويا بَكراه، إذا استغثتَ أو تعجّبت. فصار كلُ واحد منهما يعاقب صاحبَه، كما كانت هاء الجحاجحة معاقبةً ياء الجحاجيح، وكما عاقبت الألف في يمانٍ الياء في يَمَني.
ونحو هذا في كلامهم كثير، وستراه إن شاء الله عز وجلّ.
؟باب ما تكون اللام فيه مكسورة
لأنه مدعوّ له ها هنا وهو غير مدعوّ
وذلك قول بعض العرب: يا لِلعجب ويا لِلماء، وكأنه نبّه بقوله يا غيرَ الماء للماء. وعلى ذلك قال أبو عمرو: يا ويلٌ لك ويا ويحٌ لك كأنه نبّه إنساناً ثم جعل الويل له. وعلى ذلك قول قيس بن ذريح: فيا لَلناس للواشي المُطاع يا لقومي لفرقة الأحبابِ كسروها لأن الاسم الذي بعدها غير منادى، فصار بمنزلته إذا قلت هذا لزيدٍ. فاللام المفتوحة أضافت النداء الى المنادى المخاطَب، واللام المكسورة أضافت المدعوّ الى ما بعده لأنه سببُ المدعو. وذلك أن المدعو إنما دُعي من أجل ما بعده، لأنه مدعوّ له.
ومما يدلّك على أن اللام المكسورة ما بعدها غيرُ مدعوّ قوله:
يا لعنةُ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ... والصالحينَ على سِمعانَ من جارِ
فيا لغير اللعنة.
وتقول: يا لَزيدٍ ولعمرو وإذا لم تجئ بيا الى جنب اللام كسرتَ ورددتَ الى الأصل.
؟هذا باب الندبة
اعلم أن المندوب مدعوّ ولكنه متفجّع عليه، فإن شئت ألحقتَ في آخر الاسم الألف، لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها؛ وإن شئت لم تُلحق كما لم تلحق في النداء.
واعلم أن المندوب لابد له من أن يكون قبل اسمه يا أو وا، كما لزم يا المستغاثَ به والمتعجَّبَ منه.
واعلم أن الألف التي تلحق المندوب تُبتح كلُّ حركة قبلها مكسورة كانت أو مضمومة لأنها تابعة للألف، ولا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحاً.
فأما ما تلحقه الألف فقولك: وازيداه، إذا لم تُضف الى نفسك، وإن أضفتَ الى نفسك، فهو سواء، لأنك إذا أضفتَ زيداً الى نفسك فالدالُ مكسورة وإذا لم تُضف فالدال مضمومة، ففتحت المكسور كما فتحت المضموم. ومن قال يا غلامي وقرأ يا عبادي قال: وازيدِيا إذا أضاف؛ من قبل أنه إنما جاء بالألف فألحقها الياء وحرّكها في لغة من جزم الياء؛ لأنه لا ينجزم حرفان، وحرّكها بالفتح لأنه لا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحاً.


وزعم الخليل أنه يجوز في النّدبة واغلامِيَهْ؛ من قبل أنه قد يجوز أن أقول واغُلاميَ فأبيّن الياء كما أبينها في غير النداء، وهي في غير النداء مبيّنة فيها للغتان: الفتح والوقف. ومن لغة مَن يفتح أن يُلحق الهاء في الوقف حين يبيّن الحركة، كما أُلحقت الهاء بعد الألف في الوقف لأن يكون أوضحَ لها في قولك يا رَبّاه. فإذا بيّنت الياء في النداء كما بينتها في غير النداء جاز فيها ما جاز إذا كانت غيرَ نداء. قال الشاعر، وهو ابن قيس الرُقيّات:
تبكيهم دَهماءُ مُعولةً ... وتقول سلمى وارَزِيّتِيَهْ
وإذا لم تُلحق الألفَ قلت: وازيدُ إذا لم تُضف، ووازيدِ إذا أضفت، وإن شئت قلت: وازيدي. والإلحاق وغير الإلحاق عربي فيما زعم الخليل رحمه الله ويونس.
وإذا أضفت المندوب وأضفتَ الى نفسك المضاف إليه المندوبُ فالياء فيه أبداً بيّنة، وإن شئت ألحقت الألف، وإن شئت لم تُلحق. وذلك قولك: وانقطاع ظهرياهْ، ووا انقطاعَ ظهري. وإنما لزمتْه الياء لأنه غير منادى.
واعلم أنك إذا وصلتَ كلامَك ذهبتْ هذه الهاء في جميع الندبة، كما تذهب في الصلة إذا كانت تبيَّن به الحركة.
وتقول: واغلامَ زيداه، إذا لم تُضف زيداً الى نفسك. وإنما حذفت التنوين لأنه لا ينجزم حرفان. ولم يحرّكوها في هذا الموضع في النداء إذ كانت زيادة غير منفصلة من الاسم، فصارت تعاقب، وكانت أخفَّ عليهم، فهذا في النداء أحرى، لأنه موضع حذف. وإن شئت قلت: واغلامَ زيد، كما قلت وازيدُ.
وزعموا أن هذا البيت يُنشَد على وجهين، وهو قول رؤبة: فهْي تُنادي بأبي وابْنِيما ويروى: بأبا وابناما، فما فضلٌ، وإنما حكى نُدبتَها.
واعلم أنه إذا وافقت الياء الساكنة ياءَ الإضافة في النداء لم تحذف أبداً ياء الإضافة ولم يُكسر ما قبلها، كراهيةً للكسرة في الياء، ولكنهم يلحقون ياءَ الإضافة وينصبونها لئلا ينجزم حرفان. وإذا ندبت فأنت بالخيار: إن شئت ألحقت الألفَ وإن لم تُلحق جاز كما جاز ذلك في غيره. وذلك قولك: واغلامَيّاهْ وواقاضياهْ، وواغلاميّ وواقاضيّ، يصير مجراه ها هنا كمجراه في غير الندبة، إلا أن لك في الندبة أن تلحق الألف. وكذلك الألف إذا أضفتها إليك مجراها في الندبة كمجراها في الخبر إذا أضفت إليك.
وإذا وافقت ياء الإضافة ألفاً لم تحرَّك الألف، لأنها إن حرِّكت صارت ياء، والياء لا تدخلها كسرةٌ في هذا الموضع. فلما كان تغييرهم إياها يدعوهم الى ياء أخرى وكسرة تركوها على حالها كما تُركت ياء قاضي، إذ لم يخافوا التباساً وكانت أخفّ، وأثبتوا ياء الإضافة ونصبوها لأنه لا ينجزم حرفان. فإذا ندبت فأنت بالخيار إن شئت ألحقت الألف كما ألحقتها في الأول وإن شئت لم تُلحقها، وذلك قولك: وامُثنّاياه وامُثنّاي. فإن لم تُضف الى نفسك قلت: وا مُثنّاه، وتحذف الأول لأنه لا ينجزم حرفان ولم يخافوا التباساً: فذهبتْ كما تذهب في الألف واللام، ولم يكن كالياء لأنه لا يدخلها نصبٌ.
؟باب تكون ألفُ الندبة فيه تابعة لما قبلها
إن كان مكسوراً فهي ياء، وإن كان مضموماً فهي واو.
وإنما جعلوها تابعة ليفرقوا بين المذكر والمؤنث، وبين الاثنين والجميع، وذلك قولك: واظهْرَهُوهْ، إذا أضفت الظهر الى مذكر، وإنما جعلتها واواً لتفرق بين المذكر والمؤنث إذا قلت: واظهرَهاهْ.
وتقول: واظهرهُموه، وإنما جعلت الألف واواً لتفرق بين الاثنين والجميع إذا قلت: واظهرهُماه.
وإنما حذفت الحرف الأول لأنه لا ينجزم حرفان، كما حذفت الألف الأول من قولك وامُثنّاه.
وتقول: واغلامَكِيهْ، إذا أضفت الغلام الى مؤنث. وإنما فعلوا ذلك ليفرقوا بينها وبين المذكر إذا قلت: واغُلامَكاه.
وتقول: واانقطاعَ ظهرهُوه، في قول من قال: مررت بظهرهو قبل. وتقول: وانقطاع ظهرِهيهْ. في قول من قال: مررتُ بظهرهي قبلُ.


وتقول: واأبا عمرياه وإن كنت إنما تندب الأب، وإياه تضيف الى نفسك لا عَمراً، من قبل أن عمراً مجراه هنا كمجراه لو كان لك، لأنه لا يستقيم لك إضافة الأب إليك حتى تجعل عمراً كأنه لك، لأن ياء الإضافة عليه تقع، ولا تحذفها لأن عمراً غير منادى. ألا ترى أنك تقول يا أبا عَمري. ومما يدلّك على أن عمراً ها هنا بمنزلته لو كان لك، أنه لا يجوز أن تقول هذا أبو النّضرِك، ولا هذه ثلاثةُ الأثوابِك، إذا أردت أن تضيف الأب والثلاثة، من قبل أنه لا يسوغ لك ولا تصل الى أن تضيف الأول حتى تجعل الآخِر مضافاً إليك كأنه لك.
؟هذا باب
ما لا تلحقه الألف التي تلحق المندوب
وذلك قولك: وازيدُ الظريفُ والظريفَ. وزعم الخليل رحمه الله أنه منعه من أن يقول الظريفاه أن الظريف ليس بمنادى، ولو جاز ذا لقلت: وازيدُ أنت الفارسُ البَطَلاهْ؛ لأن هذا غير منادى كما أن ذلك غير نداء.
وليس هذا كقولك: واأميرَ المؤمنيناه، ولا مثل: واعبدَ قيساه؛ من قبل أن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد منفرد، والمضاف إليه هو تمام الاسم ومقتضاه، ومن الاسم. ألا ترى أنك لو قلت عبداً أو أميراً، وأنت تريد الإضافة لم يجز لك. ولو قلت هذا زيد كنتَ في الصفة بالخيار، إن شئت وصفتَ وإن شئت لم تصف. ولستَ في المضاف إليه بالخيار، لأنه من تمام الاسم، وإنما هو بدل من التنوين. ويدلك على ذلك أن ألف الندبة إنما تقع على المضاف إليه كما تقع على آخر الاسم المفرد، ولا تقع على المضاف، والموصوف إنما تقع ألفُ الندبة عليه لا على الوصف.
وأما يونس فيلحق الصفة الألف، فيقول: وازيدُ الظريفاه، واجُمجمتيّ الشّاميّتيْناه.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا خطأ.
وتقول: واقهسرُوناه، لأن هذا اسم مفرد. وكذلك رجل سُمّي باثنَيْ عشر تقول: واثنا عشرَاه، لأنه اسم مفرد بمنزله قِنّسرين.
وإذا ندبت رجلاً يسمى ضربوا قلت: واضَربوه. وإن سُمي ضرباً قلت: واضرباه. فهذا بمنزلة واغلامَهاه، جعلت ألف الندبة تابعة لتفرق بين الاثنين والجميع.
ولو سميتَ رجلاً بغلامهم أو غلامهما لم تحرّف واحداً منهما عن حاله قبل أن يكون اسماً، ولتركته على حاله الأول في كل شيء. فكذلك ضربا وضربوا، إنما تحكي الحال الأولى قبل أن يكونا اسمين، وصارت الألف تابعة لهما كما تبعت التثنية والجمع قبل أن يكونا اسمين، نحو غلامهما وغلامهم، لأنهما كما لم يتغيرا في سائر المواضع لم يتغيّرا في الندبة.
؟هذا باب ما لا يجوز أن يُندب
وذلك قولك: وارَجُلاه ويا رُجلاه. وزعم الخليل رحمه الله ويونس أنه قبيح، وأنه لا يقال. وقال الخليل رحمه الله: إنما قبح لأنك أبهمت. ألا ترى أنك لو قلت واهذاه، كان قبيحاً، لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن تفجّع بأعرف الأسماء، وأن تخصّ ولا تُبهم؛ لأن الندبة على البيان، ولو جاز هذا لجاز يا رجلاً ظريفاً، فكنت نادباً نكرة. وإنما كرهوا ذلك أنه تفاحَش عندهم أن يختلطوا وأن يتفجّعوا على غير معروف. فكذلك تفاحش عندهم في المبهَم لإبهامه؛ لأنك إذا ندبت تُخبر أنك قد وقعت في عظيم، وأصابك جسيمٌ من الأمر، فلا ينبغي لك أن تُبهم.
وكذلك: وامَن في الداراه، في القبح.
وزعم أنه لا يستقبح وامَن حفر بئر زَمزماه؛ لأن هذا معروف بعينه، وكأن التبيين في الندبة عذر للتفجع. فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب. ولو قلت هذا لقلت وامن لا يعنين أمرُهوه. فإذا كان ذا تُرك لأنه لا يُعذر على أن يُتفجّع عليه، فهو لا يُعذر بأن يتفجّع ويُبهم، كما لا يُعذر على أن يتفجّع على من لا يعنيه أمره.
؟باب يكون الاسمان فيه بمنزلة اسم واحد
ممطول وآخر الاسمين مضموم الى الأول بالواو
وذلك قولك: واثلاثةً وثلاثيناه. وإن لم تندب قلت: يا ثلاثةً وثلاثين، كأنك قلت يا ضارباً رجلاً.


وليس هذا بمنزلة قولك يا زيدُ وعمرو، لأنك حين قلت يا زيدُ وعمرو جمعت بين اسمين كلُ واحد منهما مفرد يُتوهّم على حياله، وإذا قلت يا ثلاثةً وثلاثين فلم تُفرد الثلاثة من الثلاثين لتُتوهّم على حيالها، ولا الثلاثين من الثلاثة. ألا ترى أنك تقول يا زيدُ ويا عمرو، ولا تقول يا ثلاثة ويا ثلاثون، لأنك لم ترد أن تجعل كل واحد منهما على حياله، فصار بمنزلة قولك ثلاثة عشر، لأنك لم ترد أن تفصل ثلاثةً من العشرة ليتوهّموها على حيالها. ولزمها النصب كما لزم يا ضارباً رجلاً، حين طال الكلام.
وقال: يا ضارباً رجلاً معرفة كقولك يا ضاربُ، ولكن التنوين إنما يثبت لأنه وسط الاسم، ورجلاً من تمام الاسم، فصار التنوين بمنزلة حرف قبل آخر الاسم. ألا ترى أنك لو سمّيت رجلاً خيراً منك، لقلت يا خيراً منك فألزمته التنوين وهو معرفة، لأن الراء ليست آخر الاسم ولا منتهاه، فصار بمنزلة الذي، إذا قلت هذا الذي فعل. فكما أن خيراً منك لزمه التنوين وهو معرفة، كذلك لزم ضارباً رجلاً، لأن الباء ليست منتهى الاسم، وإنما يُحذب التنوين في النداء من آخر الاسم. فلما لزمت التنوينة وطال الكلام رجع الى أصله. وكذلك ضارب رجل إذا ألقيت التنوين تخفيفاً، لأن الرجل لا يجعل ضارباً نكرة إذا أردت معنى التنوين، كما لا يجعله معرفة في غير النداء إذا أردت معنى التنوين وحذفته، نحو قولك: هذا ضاربُك قاعداً. ألا ترى أن حذف التنوين كثباته لا يغيّر الفاعل إذا كنت تحذفه وأنت تريد معناه.
وأما قولك يا أخا رجل، فلا يكون الأخ ها هنا إلا نكرة، لأنه مضاف الى نكرة، كما أن الموصوف بالنكرة لا يكون إلا نكرة، ولا يكون الرجل ههنا بمنزلته إذا كان منادى، لأنه ثم يدخله التنوين، وجاز لك أن تريد معنى الألف واللام ولا تلفظ بهما وهو هنا غير منادى وهو نكرة، فجُعل ما أضيف إليه بمنزلته.
؟باب الحروف التي ينبه بها المدعو
فأما الاسم غيرُ المندوب فينبَّه بخمسة أشياء: بيا، وأيا، وهَيا، وأي، وبالألف. نحو قولك: أحارِ بنَ عمرٍو. إلا أن الأربعة غير الألف قد يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنهم، والإنسان المعرض عنهم، الذي يُرَون أنه لا يُقبل عليهم إلا بالاجتهاد، أو النائم المستثقل. وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها. وقد يجوز لك أن تستعمل هذه الخمسة غيروا إذا كان صاحبك قريباً منك، مقبِلاً عليك، توكيداً.
وإن شئت حذفتهن كلهن استغناءً كقولك: حار بنَ كعبٍ، وذلك أنه جعلهم بمنزلة مَن هو مقبِلٌ عليه بحضرته يخاطبه.
ولا يحسن أن تقول: هذا، ولا رجلُ، وأنت تريد: يا هذا، ويا رجلُ ولا يجوز ذلك في المبهم؛ لأن الحرف الذي ينبَّه به لزم المبهم كأنه صار بدلاً من أيُّ حين حذفته، فلم تقل يا أيها الرجل ولا يا أيهذا، ولكنك تقول إن شئت: مَن لايزال مُحسناً أفعل كذا وكذا؛ لأنه لا يكون وصفاً لأي.
وقد يجوز حذفُ يا من النكرة في الشعر، وقال العجّاج: جاريَ لا تستنكِري عَذيري يريد يا جاريةُ. وقال في مَثَل: افتَدِ مخنوقُ، وأصبِحْ ليلُ، وأطرِقْ كَرا. وليس هذا بكثير ولا بقويّ.
وأما المستغاث به فيا لازمة له؛ لأنه يجتهد. فكذلك المتعجَّب منه، وذلك: يا لَلناس ويا لَلماء. وإنما اجتهد لأن المستغاث عندهم متراخ أو غافل والتعجب كذلك. والندبة يلزمها يا ووا؛ لأنهم يحتلطون ويدعون ما قد فات وبعد عنهم. ومع ذلك أن الندبة كأنهم يترنمون فيها، فمن ثم ألزموها المدّ، وألحقوا آخر الاسم المدَّ مبالغةً في الترنّم.
؟هذا باب
ما جرى على حرف النداء وصفاً له
وليس بمنادى ينبّهه غيره، ولكنه اختُصّ كما أن المنادى مختصّ من بين أمته، لأمرك ونهيك أو خبرك. فالاختصاص أجرى هذا على حرف النداء، كما أن التسوية أجرت ما ليس باستخبار ولا استفهام على حرف الاستفهام؛ لأنك تسوّي فيه كما تسوي في الاستفهام. فالتسوية أجرتْه على حرف الاستفهام، والاختصاصُ أجرى هذا على حرف النداء.
وذلك قولك: ما أدري أفَعلَ أم لم يفعل. فجرى هذا كقولك أزيدٌ عندك أم عمرو، وأزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ، إذا استفهمتَ؛ لأن علمك قد استوى فيهما كما استوى عليك الأمران في الأول. فهذا نظير الذي جرى على حرف النداء.


وذلك قولك: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، ونفعل نحن كذا وكذا أيها القوم، وعلى المضارب الوضيعةُ أيها البائع، واللهم اغفِر لنا أيتها العصابة، وأردت أن تختصّ ولا تُبهم حين قلت: أيتها العصابةُ وأيها الرجل، أراد أن يؤكد لأنه قد اختصّ حين قال أنا، ولكنه أكد كما تقول للذي هو مقبلٌ عليه بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمر يا أبا فلان، توكيداً. ولا تُدخل يا ها هنا لأنك لست تنبّه غيرك. يعني: اللهمّ غفر لنا أيتها العصابة.
؟هذا باب من الاختصاص يجري على ما جرى عليه النداء فيجيء لفظه على موضع النداء نصباً لأن موضع النداء نصب، ولا تجري الأسماء فيه مجراها في النداء، لأنهم لم يجروها على حروف النداء، ولكنهم أجروها على ما حمل عليه النداء.
وذلك قولك: إنا معشرَ العرب نفعل كذا وكذا، كأنه قال: أعني، ولكنه فعلٌ لا يظهر ولا يُستعمل كما لم يكن ذلك في النداء؛ لأنهم اكتفوا بعلم المخاطَب، وأنهم لا يريدون أن يحملوا الكلام على أوله، ولكن ما بعده محمول على أوله. وذلك نحو قوله، وهو عمرو بن الأهتَم:
إنّا بني مِنقرٍ قومٌ ذوو حسَبٍ ... فينا سَراةُ بني سعدٍ وناديَها
وقال الفرزدق:
ألم ترَ أنّا بني دارِمٍ ... زُرارةُ منا أبو معبدِ
فإنما اختُصّ الاسم هنا ليعرَف بما حُمل على الكلام الأول، وفيه معنى الافتخار. وقال رؤبة: بنا تميماً يُكشف الضّبابْ وقال: نحن العُربَ أقرى الناس لضيف، فإنما أدخلتَ الألف واللام لأنك أجريت الكلام على ما النداء عليه، ولم تُجره مجرى الأسماء في النداء. ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: يا العربَ، وإنما دخل في هذا الباب من حروف النداء أيُّ وحدَها، فجرى مجراه في النداء.
وأما قول لبيد:
نحن بنو أمِّ البنينَ الأربعه ... ونحن خيرُ عامر بنِ صَعصعَهْ
فلا يُنشدونه إلا رفعاً، لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يُعرَفوا بأن عدّتهم أربعة، ولكنهم جعل الأربعة وصفاً ثم قال: المُطعمِون الفاعلون، بعدما حلاّهم ليُعرَفوا.
وإذا صغّرتَ الأمر فهو بمنزلة تعظيم الأمر في هذا الباب، وذلك قولك: إنا معشرَ الصعاليك لا قوةَ بنا على المُروّة.
وزعم الخليل رحمه الله أن قولهم: بك اللهَ نرجو الفضلَ، وسُبحانك اللهَ العظيمَ، نصبُه كنصب ما قبله، وفيه معنى التعظيم. وزعم أن دخول أيّ في هذا الباب يدل على أنه محمول على ما حُمل عليه النداء، يعني أيتها العصابة فكان هذا عندهم في الأصل أن يقولوا فيه يا، ولكنهم خزلوها وأسقطوها حين أجروه على الأصل.
واعلم أنه لا يجوز لك أن تُبهم في هذا الباب فتقول: إني هذا أفعلُ كذا وكذا، ولكن تقول: إني زيداً أفعلُ. ولا يجوز أن تذكر إلا اسماً معروفاً؛ لأن الأسماء إنما تُذكرها توكيداً وتوضيحاً هنا للمضمَر وتذكيراً وإذا أبهمتَ فقد جئت بما هو أشكلُ من المضمَر. ولو جاز هذا لجازت النكرةُ فقلتَ إنا قوماً، فليس هذا من مواضع النكرة والمبهَم، ولكن هذا موضعُ بيان كما كانت الندبةُ موضعَ بيان، فقبُح إذ ذكروا الأمر توكيداً لما يعظّمون أمرَه أن يذكروا مبهماً.
وأكثر الأسماء دخولاً في هذا الباب بنو فلان، ومعشَر مُضافةً، وأهل البيت، وآل فلان. ولا يجوز أن تقول إنهم فعلوا أيتها العصابةُ، إنما يجوز هذا للمتكلم والمكلَّم المنادى، كما أن هذا لا يجوز إلا لحاضر.
وسألت الخليل رحمه الله ويونس عن نصب قول الصّلَتان العبدي:
يا شاعراً لا شاعرَ اليومَ مثلَه ... جَريرٌ ولكنْ في كليبٍ تواضعُ
فزعما أنه غير منادى وإنما انتصب على إضمار كأنه قال يا قائل الشعر شاعراً، وفيه معنى حسبُك به شاعراً.
كأنه حيث نادى قال حسبُك به، ولكنه أضمر كما أضمروا في قوله: تالله رجلاً وما أشبهه، مما ستجده في الكتاب إن شاء الله عز وجل.
ومما جاء وفيه معنى التعجّب كقولك: يا لك فارساً، قولُ الأخوص ابن شُريح الكلابي:
تمنّاني ليلقاني لَقيطٌ ... أعامِ لك بنَ صعصعةَ بنِ سعدِ
وإنما دعاهم لهم تعجباً، لأنه قد تبيّن لك أن المنادى يكون فيه معنى أفعِل به، يعني يا لك فارساً.
وزعم الخليل رحمه الله أن هذا البيت مثلُ ذلك؛ للأخطل:


أيامَ جُملِ خليلا لو يخاف لها ... صُرماً لَخولِط منه العقلُ والجسدُ
وقال في قول الشاعر: يا هندُ هندٌ بين خِلبٍ وكَبدْ أنه أراد: أنتِ بين خِلب وكبد، فجعلها نكرة.
وقد يجوز أن تقول بعد النداء مقبِلاً على مَن تحدّثه: هندٌ هذه بين خِلبٍ وكبدٍ، فيكون معرفة.
؟هذا باب الترخيم
والترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفاً، كما حذفوا غير ذلك من كلامهم تخفيفاً، وقد كتبناه فيما مضى، وستراه فيما بقي إن شاء الله تعالى.
واعلم أن الترخيم لا يكون إلا في النداء إلا أن يُضطرّ شاعرٌ، وإنما كان ذلك في النداء لكثرته في كلامهم، فحذفوا ذلك كما حذفوا التنوين، وكما حذفوا الياء من قومي ونحوه في النداء.
واعلم أن الترخيم لا يكون في مضاف إليه ولا في وصف؛ لأنهما غيرُ منادَيين، ولا يرخّم مضاف ولا اسمٌ منوّن في النداء؛ من قبل أنه جرى على الأصل وسلِم من الحذف، حيث أُجري مجراه في غير النداء إذا حملتَه على ما ينصب. يقول: إن المحذوف في الترخيم إنما يقع على النداء لا على الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، وحين قلت يا زيد أقبل فحذفت ياء الإضافة كنت إنما حذفت هذا الإعراب، ومع ذلك إنه إنما ينبغي أن تحذف آخر شيء في الاسم، ولا يُحذف قبل أن تنتهي الي آخره، لأن المضاف إليه من الاسم الأول بمنزلة الوصل من الذي إذا قلت الذي قال، وبمنزلة التنوين في الاسم.
ولا ترخّم مستغاثاً به إذا كان مجروراً، لأنه بمنزلة المضاف إليه. ولا ترخّم المندوب لأن علامته مستعملة، فإذا حذفوا لم يحملوا عليه مع الحذف الترخيم.
وإذا ثنّيت لم ترخّم؛ لأنها كالتنوين.
واعلم أن الحرف الذي يلي ما حذفت ثابتٌ على حركته التي كانت فيه قبل أن تحذف، إن كان فتحاً أو كسراً أو ضماً أو وقفاً؛ لأنك لم ترد أن تجعل ما بقي من الاسم اسماً ثابتاً في النداء وغير النداء، ولكنك حذفت حرف الإعراب تخفيفاً في هذا الموضع وبقي الحرف الذي يلي ما حُذف على حاله، لأنه ليس عندهم حرفَ الإعراب. وذلك قولك يا حارث: يا حار، وفي سلَمة: يا سَلَم، وفي بُرثُن: يا بُرثُ، وفي هرقل: يا هِرَقْ.
؟باب ما أواخر الأسماء فيه الهاء
اعلم أن كل اسم كان مع الهاء ثلاثة أحرف أو أكثر من ذلك، كان اسماً خاصاً غالباً، أو اسماً عاماً لكل واحد من أمة، فإن حذف الهاء منه في النداء أكثر في كلام العرب. فأما ما كان اسماً غالباً فنحو قولك: يا سلَمَ أقبل. وأما الاسم العام العامّ فنحو قول العجّاج: جاريَ لا تستنكري عذيري إذا أردت يا سَلَمةُ، ويا جاريةُ.
وأما ما كان على ثلاثة أحرف مع الهاء فنحو قولك: يا شا ارْجُني ويا ثُبَ أقبِلي، إذا أردت: شاةً وثُبةً.
واعلم أن ناساً من العرب يثبتون الهاء فيقولون: يا سلمةُ أقبلْ، وبعض من يُثبت يقول: يا سلمةَ أقبل.
واعلم أن العرب الذين يحذفون في الوصل إذا وقفوا قالوا: يا سلمهْ ويا طلحَهْ. وإنما ألحقوا هذه الهاء ليبينوا حركة الميم والحاء، وصارت هذه الهاء لازمة لهما في الوقف كما لزمت الهاء وقف ارمه، ولم يجعلوا المتكلم بالخيار وحذف الهاء عند الوقف وإثباتها، من قبل أنهم جعلوا الحذف لازماً لهاء التأنيث في الوصل، كما لزم حذفُ الهاء من ارمِهْ في الوصل وكأنهم ألزموا هذه الهاء في ارْمِهْ في الوقف ولم يجعلوها بمنزلتها إذا بيّنتَ حركة ما لم يحذف بعده شيء نحو علَيَّهْ وإليّهْ، ولكنها لازمة كراهية أن يجتمع في ارمِه حذف الهاء وترك الحركة، فأرادوا أن تثبت الحركة على كل حال، ليكون ثباتُها عوضاً من الحذف للياء والهاء، فبُيّنت الحركة بالهاء في السكوت ليكون ثباتُها في الاسم على كل حال؛ لئلا يُخلّوا به.
واعلم أن الشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف، وذلك لأنهم يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلاً منها.
وقال الشاعر، ابن الخرع:
كادت فزارةُ تشقي بنا ... فأولى فزارةُ أولى فَزارا
وقال القُطامي: قفي قبل التفرّق يا ضُباعا وقال هُدبةُ: عُوجي علينا واربَعي يا فاطِما


وإنما كان الحذف ألزمَ للهاءات في الوصل، وفيها أكثر منه في سائر الحروف في النداء، من قبل أن الهاء في الوصل في غير النداء تبدّل مكانَها التاء، فلما صارت الهاء في موضع يحذف منه لا يُبدّل منه شيء تخفيفاً، كان ما يُبدّل ويُغيّر أولى بالحذف، وهو له ألزم، وجعلوا تغييره الحذف في موضع الحذف إذ كان متغيراً لا محالة.
وسمعنا الثقة من العرب يقول: يا حَرملْ، يريد يا حَرمَلَهْ، كما قال بعضهم: إرْمْ، يقفون بغير هاء.
واعلم أن هاء التأنيث إذا كانت بعد حرف زائد لو لم تكن بعده حُذف، أو بعد حرفين لو لم تكن بعدهما حُذفا زائدين، لم يحذف، من قبل أن الحروف الزوائد قبل الهاء في الترخيم بمنزلة غير الزوائد من الحروف وذلك قولك في طائفية: يا طائفي أقبلي، وفي مَرجانة: يا مرجانَ أقبلي. وفي رعشنةٍ: يا رَعْشَنَ أقبلي، وفي سِعلاةٍ: يا سِعلا أقبلي. ولو حذفتَ ما قبل الهاء كحذفك إياه وليس بعده هاء لقلت في رجل يسمّى عُثمانةَ يا عُثمَ أقبل، لأن الهاء لو لم تكن ههنا لقلت يا عُثْمَ أقبل؛ فإنما الكلام أن تقول يا عُثمان أقبل. فأجْرِ ترخيمَ هذا بعد الزوائد مجراه إذا كان بعدما هو من نفس الحرف.
ومَن حذف الزوائد مع الهاء فإنه ينبغي له أن يقول في فاظمة: يا فاطِ لا تفعلي، من قبل أن الهاء لو لم تكن بعد الميم لقلت يا فاطِ كما تقول يا حارِ، فأنت تحذف ما هو من نفس الحرف كما تحذف الزوائد، فإذا ألحقته الزوائد لم تحذفه مع الزوائد. فكذلك الزوائد إذا ألحقتَها مع الزوائد لم تحذفها معها.
؟باب يكون فيه الاسم بعدما يُحذف منه الهاء
بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام لم يكن فيه هاء قط
وذلك قول بعض العرب، وهو عنترة العبسي:
يَدعون عنترُ، والرماحُ كأنها ... أشطانُ بيرٍ في لَبان الأدهمِ
جعلوا الاسم عنترا وجعلوا الراء حرف الإعراب.
وقال الأسود بن يعفُر تصديقاً لهذه اللغة:
ألا هل لهذا الدهر من مُتعلّلِ ... عن الناس، مهما شاء بالناس أن يفعل
ثم قال:
وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلُبَني حقي أمالِ بنَ حنظلِ
وذلك لأن الترخيم يجوز في الشعر في غير النداء، فلما رخّم جعل الاسم بمنزلة اسمٍ ليست فيه هاء. وقال رؤبة:
إما تَرَيني اليومَ أمَّ حمزِ ... قاربتُ بين عَنَقي وجَمزي
وإنما أراد: أمّ حمزة. وأما قول ذي الرمة:
ديارَ ميّةَ إذ مَيٌّ تُساعفُنا ... ولا يرى مثلَها عُجمٌ ولا عربُ
فزعم يونس أنه كان يسميها مرة ميّة ومرة ميّا، ويجعل كل واحد من الاسمين اسماً لها في النداء وفي غيره.
وعلى هذا المثال قال بعض العرب إذا رخّموا: يا طَلحُ ويا عنترُ. وقد يكون قولهم يدعون عنترُ بمنزلة ميَّ؛ لأن ناساً من العرب يسمونه عنتراً في كل موضع. ويكون أن تجعله بمنزلة ميّ بعد ما حذفت منه، وقد يكون ميٌّ أيضاً كذلك، يجعلها بمنزلة ما ليس فيه هاء بعد ما تحذف الهاء.
وأما قول العرب: يا فُلُ أقبلْ، فإنهم لم يجعلوه اسماً حذفوا منه شيئاً يثبت فيه في غير النداء، ولكنهم بنوا الاسمَ على حرفين، وجعلوه بمنزلة دم. والدليل على ذلك أنه ليس أحدٌ يقول يا فُلَ فإن عنوا امرأة قالوا: يا فُلةُ: وهذا الاسم اختُصّ به النداء، وإنما بُني على حرفين لأن النداء موضعُ تخفيف، ولم يجز في غير النداء لأنه جُعل اسماً لا يكون إلا كنايةً لمنادى، نحو يا هَناهْ، ومعناه يا رجلُ. وأما فلان فإنما هو كناية عن اسم سُمي به المحدّث عنه، خاصّ غالب. وقد اضطُرّ الشاعرُ فبناه على حرفين في هذا المعنى. قال أبو النجم: في لجّة أمسِكْ فُلاناً عن فُلِ
؟هذا باب إذا حذفتَ منه الهاء
وجعلت الاسم بمنزلة ما لم تكن فيه الهاء أبدلتَ حرفاً مكان الحرف الذي يلي الهاء وإن لم تجعله بمنزلة اسم ليس فيه الهاء لم يتغير عن حاله التي كان عليها قبل أن تحذف.
وذلك قولك في عَرقوةٍ وقَمَحدوَةٍ وإن جعلت الاسم بمنزلة اسم لم تكن فيه الهاء على حالٍ: يا عَرقي ويا قَمَحْدي؛ من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ آخر كذا. وكذلك إن رخّمتَ رَعومٌ وجعلته بهذه المنزلة، قلت يا رَعي.


وإن رخّمت رجلاً يسمى قَطَوان فجعلته بهذه المنزلة قلت: يا قَطا أقبلْ. فإن رخّمت رجلاً اسمُه طُفاوةُ قلت: يا طُفاءُ أقبلْ، من قبل أنه ليس في الكلام اسمٌ هكذا آخِره يكون حرفَ الإعراب، يعني الواو والياء إذا كانت قبلهما ألف زائدة ساكنة لم يثبتا على حالهما، ولكن تُبدّل الهمزة مكانَهما. فإن لم تجعلهما حروف الإعراب فهي على حالها قبل أن تحذف الهاء، وذلك قولك: يا طُفاوَ أقبلْ، إذا لم ترد أن تجعله بمنزلة اسم ليست فيه الهاء.
واعلم أن ما يُجعل بمنزلة اسم ليست فيه هاء أقلُّ في كلام العرب، وترك الحرف على ما كان عليه قبل أن تُحذف الهاء أكثر؛ من قبل أن حرف الإعراب في سائر الكلام غيره. وهو على ذلك عربي.
وقد حملهم ذلك على أن رخّموه حيثُ جعلوه بمنزلة ما لا هاء فيه. قال العجّاج:
فقد رأى الراءون غيرَ البُطَّلِ ... أنك يا مُعاوِ يا ابنَ الأفضلِ
يريد: يا مُعاوية.
وتقول في حَيْوَةَ: يا حَيوَ أقبل، فإن رفعت الواو تركتها على حالها لأنه حرف أُجري على الأصل وجُعل بمنزلة غزوٍ، ولم يكن التغيير لازماً وفيه الهاء.
واعلم أنه لا يجوز أن تحذف الهاء وتجعل البقية بمنزلة اسم ليست فيه الهاء إذا لم يكن اسماً خاصاً غالباً، من قبل أنهم لو فعلوا ذلك التبس المؤنّث بالمذكّر. وذلك أنه لا يجوز أن تقول للمرأة: يا خبيثُ أقبلي. وإنما جاز في الغالب لأنك لا تذكّر مؤنثاً ولا تؤنث مذكراً.
واعلم أن الأسماء التي ليس في أواخرها هاء أن لا يُحذف منها أكثر، لأنهم كرهوا أن يُخِلّوا بها فيحملوا عليها حذف التنوين وحذف حرف لازم للاسم لا يتغير في الوصل ولا يزول.
وإن حذفتَ فحسن. وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر، وذلك لأنهم استعملوها كثيراً في الشعر، وأكثروا التسمية بها للرجال. قال مهلهل بن ربيعة:
يا حارِ لا تجهلْ على أشياخِنا ... إنّا ذَوو السّوراتِ والأحلام
وقال امرؤ القيس:
أحارِ ترى برقاً أُريكَ وميضَهُ ... كلمعِ اليدين في حَبيّ مكلّلِ
وقال الأنصاري: يا مالِ والحقّ عنده فقفوا وقال النابغة الذبياني:
فصالحونا جميعاً إن بدا لكلم ... ولا تقولوا لنا أمثالَها عام
وهو في الشعر أكثر من أن أحصيه.
وكل اسم خاص رخّمته في النداء فالترخيم فيه جائز وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر. فمن ذلك قول الشاعر:
فقلتم تعال يا يَزي بنَ مُخرِّم ... فقلت لكم إني حليف صُداءِ
وهو يزيد بن مخرّم.
وقال مجنون بني عامر:
ألا يا ليلَ إن خُيّرتِ فينا ... بنفسي فانسري أين الخيارُ
يريد في الأول: يزيد، وفي الثاني ليلى.
وقال أوس بن حجر: تسكّرتِ منّا بعد معرفةٍ لَمي يريدُ: لميسَ.
واعلم أن كل شيء جاز في الاسم الذي في آخره هاء بعد أن حذفت الهاء منه في شعر أو كلام، يجوز فيما لا هاء فيه بعدُ أن تحذف منه. فمن ذلك قول امرئ القيس:
لَنِعمَ الفتى تَعشو الى ضوء ناره ... طريفُ بن مالٍ ليلة الجوع والخصَرْ
جعل ما بقي بعد ما حذف، بمنزلة اسم لم يُحذف منه شيء، كما جعل ما بقي بعد حذف الهاء بمنزلة اسمٍ لم تكن فيه الهاء.
وقال رجل من بني مازن:
عليّ دماء البُدنِ إن لم تفارقي ... أبا حردَبٍ ليلاً وأصحابَ حردَبِ
وقال، وهو مصنوع على طرفة، وهو لبعض العِباديين:
أسعدَ بنَ مالٍ ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقُل يصدُقِ
واعلم أن كل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم تكن آخره الهاء. فزعم الخليل رحمه الله أنهم خففوا هذه الأسماء التي ليست أواخرها الهاء ليجعلوا ما كان على خمسة على أربعة، وما كان على أربعة على ثلاثة. فإنما أرادوا أن يقرّبوا الاسم من الثلاثة أو يصيّروه إليها، وكان غاية التخفيف عندهم؛ لأنه أخف شيء عندهم في كلامهم ما لم يُنتقص، فكرهوا أن يحذفوه إذ صار قصاراهم أن ينتهوا إليه.


واعلم أنه ليس من اسم لا تكون في آخره هاء يُحذف منه شيء إذا لم يكن اسماً غالباً نحو زيد وعمرو، من قبل أن المعارف الغالبة أكثر في الكلام وهم لها أكثر استعمالاً، وهم لكثرة استعمالهم إياها قد حذفوا منها في غير النداء، نحو قولك: هذا زيد بن عمرو، ولم يقولوا هذا زيد ابنُ أخيك.
ولو حذفت من الأسماء غير الغالبة لقلت في مسلمين: يا مُسلم أقبِلوا، وفي راكب: يا راكِ أقبلْ. إلا أنهم قد قالوا: يا صاح، وهم يريدون يا صاحبُ؛ وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف، فحذفوا كما قالوا: لم أُبَلْ، ولم يكُ، ولا أدرِ.
؟هذا باب ما يُحذف من آخره حرفان
لأنهما زيادة واحدة بمنزلة حرف واحد زائد
وذلك قولك في عثمان: يا عُثْمَ أقبلْ، وفي مروان: يا مرْوَ أقبل، وفي أسماء: يا أسمَ أقبلي.
وقال الفرزدق: يا مَروَ إن مطيّتي محبوسةً ترجو الحِباء وربّها لم ييأسِ وقال الراجز: يا نعمَ هل تحلف لا تَدينُها وقال لبيد:
يا أسمَ صبراً على ما كان من حدثٍ ... إن الحوادث مَلقيٌّ ومنتظَرُ
وإنما كان هذان الحرفان بمنزلة زيادة واحدة من قبل أنك لم تُلحق الحرفَ الآخِر أربعة أحرف رابعهن الألف، من قبل أن تزيد النون التي في مروان، والألف التي في فعلاء، ولكن الحرف الآخر الذي قبله زيدا معاً، كما أن ياءَي الإضافة وقعتا معاً. ولم تلحق الآخرةَ بعد ما كانت الأولى لازمة، كما كانت ألف سلمى إنما لحقتْ ثلاثة أحرف ثالثها الميم لازمها، ولكنهما زيادتان لحقتا معاً فحذفتا جميعاً كما لحقنا جميعاً.
وكذلك ترخيم رجل يقال له مسلمون، بحذف الواو والنون جميعاً من قبل أن النون لم تلحق واواً ولا ياء قد كانت لزمت قبل ذلك. ولو كانت قد لزمت حتى تكون بمنزلة شيء من نفس الحرف ثم لحقتها زائدة لم تكن حرف الإعراب.
وكذلك رجل اسمه مُسلمان: تحذف الألف والنون.
وأما رجل اسمه بَنون فلا يُطرح منه إلا النون، لأنك لا تصيّر اسماً على أقل من ثلاثة أحرف. ومن جعل ما بقي من الاسم بعد الحذف بمنزلة اسم يتصرف في الكلام لم تكن فيه زيادة قطّ قال يا بَني، لأنه ليس في الكلام اسم يتصرّف آخره كآخِر بَنو.
هذا باب يكون فيه الحرف
الذي من نفس الاسم وما قبله بمنزلة زائد وقع وما قبله جميعاً
وذلك قولك في منصور: يا مَنصُ أقبلْ، وفي عمارٍ: يا عمّ أقبل، وفي رجل اسمه عنتريسٌ: يا عنتَرِ أقبلْ. وذلك لأنك حذفت الآخر كما حذفت الزائد، وما قبله ساكن بمنزلة الحرف الذي كان قبل النون زائداً فهو زائد كما كان ما قبل النون زائداً، ولم يكن لازماً لما قبله من الحروف ثم لحقه ما بعده، لأن ما بعده ليس من الحروف التي تُزاد. فلما كانت حال هذه الزيادة حالَ تلك الزيادة وحُذفت الزيادة وما قبلها، حُذف هذا الذي من نفس الحرف.
؟باب تكون الزوائد فيه بمنزلة
ما هو من نفس الحرف
وذلك قولك في قَنَوَّرٍ: يا قنوَّ أقبلْ، وفي رجل اسمه هَبَيّخ: يا هَبَيّ أقبل؛ لأن هذه الواو التي في قنوّر والياء التي في هبيّخ، بمنزلة الواو التي في جدول، والياء التي في عِثيَر.
وإنما لحقنا لتُلحقا ما كان على ثلاثة أحرف ببنات الأربعة، وليصير بمنزلة حرف من نفس الحرف؛ كفاء جعفر في هذا الاسم.
ويدلك على أنها بمنزلتها أن الألف التي تجيء لتُلحق الثلاثة بالأربعة منوّنة كما ينوّن ما هو من نفس الحرف، وذلك نحو مِعزى. ومع ذلك أن الزوائد تلحقها كما تلحق ما ليس فيه زيادة، نحو جِلواخٍ وجِريال وقِرواح، كما تقول سِرداح. وتقدّم قبل هذه الزيادة الياء والواو زائدتين كما تقدّم الحرف الذي من نفس الحرف في فَدَوْكس وخَفَيدَد، وهي الواو التي في قنوّر الأولى، والياء التي في هبيّخ الأولى بمنزلة ياء سَميدَع، فصار قنوّر بمنزلة فدوْكَس، وهبيّخ بمنزلة سَميدَع، وجدول بمنزلة جعفر، فأجروا هذه الزوائد بمنزلة ما هو من نفس الحرف، فكرهوا أن يحذفوها إذ لم يحذفوا ما شبّهوها به وما جعلوها بمنزلته. ولو حذفوا من سميدع حرفين لحذفوا من مهاجر حرفين فقالوا: يا مُها، وهذا لا يكون، لأنه إخلال مُفرط بما هو من نفس الحرف.
؟باب تكون الزوائد فيه أيضاً بمنزلة
ما هو من نفس الحرف


وذلك قولك في رجل اسمه حَولايا أو بَردَرايا: يا بَردراي أقبلْ، ويا حَولاي أقبل؛ من قبل أن هذه الألف لو جيء بها للتأنيث والزيادة التي قبلها لازمة لها يقعان معاً لكانت الياء ساكنة وما كانت حية، لأن الحرف الذي يجعل وما بعده زيادة واحدة ساكن لا يتحرك، ولو تحرك لصار بمنزلة حرف من نفس الحرف، ولجاء بناء آخرُ. ولكن هذه الألف بمنزلة الهاء التي في درحاية وفي عفارية، لأن الهاء إنما تلحق للتأنيث، والحرف الذي قبلها بائن منها قد لزم ما قبله قبل أن تلحق.
وكذلك الألف التي تجيء للتأنيث إذا جاءت وحدها، لأن حال الحرف الذي قبلها كحال الحرف الذي قبل الهاء، والهاء لا تكون أبداً مع شيء قبلها زائد بمنزلة زيادة واحدة وإن كان ساكناً نحو ألف سِعلاة. ولو كانت بمنزلة زيادة واحدة لم يقولوا سُعَيلِية، ولكانت في التحقير ياء مجزومة كالياء التي تكون بدل ألف سِرحان إذا قلت سُرَيحين، أو بمنزلة عُثمان إذا قلت عُثيمان، ولكنها لحقت حرفاً جيء به ليلحق الثلاثة ببنات الأربعة. وكذلك ألف التأنيث إذا جاءت وحدها، يدلّك على ذلك تحرّك ما قبلها وحياته.
وإنما كانت هذه الأحرف الثلاثة الزوائد: الياء والواو والألف، وما بعدها، بمنزلة زيادة واحدة لسكونها وضعفها، فجعلتْ وما بعدها بمنزلة حرف واحد، إذ كانت ميتة خفية.
ويدلك على أن الألف التي في حَولايا بمنزلة الهاء أنك تقول: حَولائي كما تقول: دِرحائي. ولو كانت وما قبلها بمنزلة زيادة واحدة لم تحذف الألف، كما لا تحذفها إذا قلت: خُنفساوي.
؟باب ما إذا طُرحت منه الزائدتان
اللتان بمنزلة زيادة واحدة رجعت حرفاً
وذلك قولك في رجل اسمه قاضون: يا قاضي أقبل، وفي رجل اسمه ناجيّ: يا ناجي أقبل، أظهرت الياء لحذف الواو والنون، وفي رجل اسمه مُصطَفون: يا مصطفى أقبل.
وإنما رددت هذه الحروف لأنك لم تَبن الواحد على حذفها كما بُنيت دمٌ على حذف الياء، ولكنك حذفتهن لأنه لا يسكن حرفان معاً، فلما ذهب في الترخيم ما حذفتهن لمكانه رجعتهن. فحذف الواو والنون ههنا كحذفها في مسلمين؛ لأن حذفها لم يكن إلا لأنه لا يسكن حرفان معاً والياء، والألف يعني في قاضي ومصطفى تثبتان كما ثبتت الميم في مسلمين.
ومثل ذلك: " غيرَ مُحِلّي الصيدِ وأنتم حُرُم " . وهذا قول الخليل رحمه الله. فإذا لم تذكر الصيد قلت مُحلّي.
؟باب يحرَّك فيه الحرف الذي يليه المحذوف
لأنه لا يلتقي ساكنان
وهو قولك في رجل اسمه رادٌّ: يا رادِ أقبل. وإنما كانت الكسرة أولى الحركات به لأنه لو لم يُدغم كان مكسوراً، فلما احتجتَ الى تحريكه كان أولى الأشياء به ما كان لازماً له لو لم يُدغم. وأما مفرٌّ فإذا حذفت منه وهو اسم رجل، لم تحرَّك الراء لأن ما قبلها متحرك. وإن حذفت من اسم مُحمارّ أو مُضارّ، قلت: يا مُحمارِ ويا مُضارِ، تجيء بالحركة التي هي له في الأصل، كأنك حذفت من مُحمارر، حيث لم يجز لك أن تُسكِن الراء الأولى. ألا ترى أنك إذا احتجت الى تحريكها والراء الآخرة ثابتة لم تحرّك إلا على الأصل، وذلك قولك لم يَحمارِرْ، فقد احتجت الى تحريكها في الترخيم كما احتجت إليه هنا حين جزمت الراء الآخرة.
وإن سمّيته بمضارّ وأنت تريد المفعول قلت: يا مُضارَ أقبل، كأنك حذفت من مُضارَر.
وأما مُحمرٌّ إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخّمته تركت الراء الأولى مجزومة، لأن ما قبلها متحرك فلا تحتاج الى حركتها. ومن زعم أن الراء الأولى زائدة كزيادة الواو والياء والألف، فهو لا ينبغي له أن يحذفها مع الراء الآخرة، من قبل أن هذا الحرف ليس من حروف الزيادة، وإنما يُزاد في التضعيف، فأشبه عندهم المضاعَف الذي لا زيادة فيه نحو مرتدّ وممتدّ، حين جرى مجراه ولم يجئ زائداً غير مضاعَف، لأنه ليس عندهم من حروف الزيادة، وإنما جاء زائداً في التضعيف، لأنه إذا ضوعِف جرى مجرى المضاعَف الذي ليس فيه زيادة.
ولو جعلت هذا الحرف بمنزلة الياء والألف والواو لثبت في التحقير والجمع الذي يكون ثالثه ألفاً. ألا ترى أنه صار بمنزلة اسم على خمسة أحرف ليس فيه زيادة نحو جردَحْل وما أشبه ذلك.


وأما رجل اسمه إسحارٌّ فإنك إذا حذفت الراء الآخرة لم يكن لك بدٌّ من أن تحرك الراء الساكنة لأنه لا يلتقي حرفان ساكنان. وحركته الفتحة، لأنه يلي الحرف الذي منه الفتحة، وهو الألف. ألا ترى أن المضاعف إذا أُدغم في موضع الجزم حُرّك آخر الحرفين لأنه لا يلتقي ساكنان، وجُعل حركته كحركة أقرب المتحركات منه. وذلك قولك: لم يردُّ ولم يرتدّ ولم يفرّ ولم يعضّ. فإذا كان أقرب من المتحرك إليه الحرف الذي منه الحركة المفتوحة ولا يكون ما قبله إلا مفتوحاً، كان أجدرَ أن تكون حركته مفتوحة، لأنه حيث قرب من الحرف الذي منه الفتحة وإن كان بينهما حرف كان مفتوحاً، فإذا قرب منه هو كان أجدرَ أن تفتحه، وذلك لم يُضارّ.
وكذلك تقول: يا إسحارّ أقبل، فعلت بهذه الراء ما كنت فاعلاً بالراء الآخرة لو ثبت الراءان ولم تكن الآخرة حرف الإعراب، فجرى عليها ما كان جارياً على تلك كما جرى على ميم مُدّ ما كان بعد الدال الساكنة، وامُدُد هو الأصل. إن شئت فتحت اللام إذا أسكنتَ على فتحة انطلق، ولم يلْدَ إذا جزموا اللام. وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع العرب يقولون، وهو قول رجل من أزْد السَّراة:
ألا رُبّ مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلْدَهُ أبوانِ
جعلوا حركته كحركة أقرب المتحركات منه. فهذا كأينَ وكيف.
وإنما منع إسحارّا أن يكون بمنزلة مُحمارّ أن أصل محمارّ مُحمارِر، يدلك على ذلك فعله إذا قلت لم يَحمارِر. وأما إسحارٌّ فإنما هو اسم وقع مُدّغماً آخره، وليس لرائه الأولى في كلامهم نصيب في الحركة، ولا تقع إلا ساكنة، كما أن الميم الأولى من الحُمّر، والراء الأولى من شرّاب لا يقعان إلا ساكنين، ليستا عندهم إلا على الإسكان في الكلام وفي الأصل.
وسنبيّن ذلك في باب التصريف إن شاء الله.
؟باب الترخيم في الأسماء
التي كل اسم منها من شيئين كانا بائنين فضُمّ أحدهما الى صاحبه فجُعلا اسماً واحداً بمنزلة عَنتريس وحَلكوك وذلك مثل حَضرَموت، ومَعدي كَرب، وبُخْتَ نصّر، ومارَسَرجِس، ومثل رجل اسمه خمسة عشر، ومثل عمرَوَيه. فزعم الخليل رحمه الله أنه تحذف الكلمة التي ضُمّت الى الصدر رأساً وقال: أراه بمنزلة الهاء. ألا ترى أني إذا حقّرته لم أغيّر الحرف الذي يليه كما لم أغيّر الذي يلي الهاء في التحقير عن حاله التي كان عليها قبل أن يُحقَّر، وذلك قولك في تَمرة تُميرَة، فحال الراء واحدة. وكذلك التحقير في حضرمَوت تقول حُضَيرَموت، وقال: أُراني إذا أضفت الى الصدر وحذفت الآخر فأقول في مَعدي كَرب: معديّ، وأقول في الإضافة الى أربعة عشر أربعيّ، فحذف الاسم الآخر بمنزلة الهاء، فهو في الموضع الذي يُحذف فيه ما يثبت في الإضافة أجدر أن يحذف إذا أردت أن ترخّم.
وهذا يدل على أن الهاء تُضمّ الى الأسماء كما يُضمّ الاسم الآخر الى الأول. ألا ترى أنها لا تُلحق بنات الثلاثة بالأربعة، ولا الأربعة بالخمسة، كما أن هذه الأسماء الآخرة لم تُضمّ الى الصدر لتُلحق الصدر ببنات الأربعة، ولا لتُلحقه ببنات الخمسة، وذلك لأنها ليست زائدات في الصدور، ولا هي منها، ولكنها موصولة بها وأُجريت مجرى عنتَريس ونحوه، ولا يغيَّر لها بناء كما لا يغيّر لياء الإضافة أو ألف التأنيث أو لغيرهما من الزيادات. وسترى ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل ذكره.
كما أن الأسماء الآخرة لم تغيّر بناء الأولى عن حالها قبل أن تُضمّ إليها، لم تغيّر خمسة في خمسة عشر عن حالها. فالهاء وهذه الأسماء الآخرة مضمومة الى الصدور كما يُضمّ المضاف إليه الى المضاف لأنهما كانا بائنين وُصل أحدهما بالآخر، فالآخر بمنزلة المضاف إليه في أنه ليس من الأول ولا فيه، وهما من الإعراب كاسم واحد لم يكن آخره بائناً من أوله.
وإذا رخّمت رجلاً اسمه خمسة عشر قلت: يا خمسةَ أقبل، وفي الوقف تبيّن الهاء - يقول لا تجعلها تاء - لأنها تلك الهاء التي كانت في خمسة قبل أن تُضمّ إليها عشرَ. كما أنك لو سمّيت رجلاً مُسلمين قلت في الوقف: يا مُسلِمَهْ؛ لأن الهاء لو أبدلت منها تاء لتُلحق الثلاثة بالأربعة لم تحرّك الميم.
وأما اثنا عشر فإذا رخّمته حذفت عشر مع الألف، لأن عشر بمنزلة نون مُسلمين، والألف بمنزلة الواو، وأمره في الإضافة والتحقير كأمر مُسلمين. يقول: تُلقي عشر مع الألف كما تُلقي النون مع الواو.


واعلم أن الحكاية لا ترخَّم، لأنك لا تريد أن ترخّم غير منادى، وليس مما يغيّره النداء، وذلك نحو تأبط شراً وبرق نحرُه وما أشبه ذلك. ولو رخّمت هذا لرخمت رجلاً يسمى بقول عنترة:
يا دار عبلةَ بالجِواء تكلّمي
؟باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطراراً قال الراجز: وقد وسطْتُ مالِكا وحنظلا وقال ابن أحمر:
أبو حَنَش يؤرقنا وطلْقٌ ... وعمّارٌ وآوِنةً أُثالا
يريد: أثالة.
وقال جرير:
ألا أضحتْ حِبالكمُ رِماما ... وأضحت منك شاسعةً أُماما
يشقّ بها العساقِل مُؤْجَداتٌ ... وكلُّ عرَنْدَس ينفي اللُّغاما
وقال زهير:
خذوا حظّكم يا آل عِكرم واذكروا ... أواصِرَنا والرِّحمُ بالغيب تُذكرُ
وقال آخر، وهو ابن حَبْناء التميمي:
إن ابن حارثَ إن أشتَقْ لرؤيته ... أو أمتدِحه فإن الناس قد علموا
وأما قول الأسود بن يعفر:
أودى ابنُ جُلهُمَ عبّادٌ بصرْمته ... إن ابن جُلهُم أمسى حيّة الوادي
فإنما أراد أمه جُلهم. والعرب يسمون المرأة جُلهم والرجل جُلهُمة.
وأما قوله، وهو رجل من بني يشكر:
لها أشارير من لحم تُتَمّرُه ... من الثّعالي ووزخزٌ من أرانيَها
فزعم أن الشاعر لما اضطرّ الى الياء أبدلها مكان الباء، كما يبدلها مكان الهمزة. وقال أيضاً:
ومنهلٍ ليس له حَوازق ... ولِضفادي جَمّه نقانقُ
وإنما أراد ضفادع، فلما اضطرّ الى أن يقف آخر الاسم كره أن يقف حرفاً لا يدخله الوقف في هذا الموضع، فأبدل مكانه حرفاً يوقَف في الجر والرفع. وليس هذا لأنه حذف شيئاً فجعل الياء عوضاً منه؛ لو كان ذلك لعوضت حارثاً الياء حيث حذفت الثاء وجعلت البقية بمنزلة اسم يتصرّف في الكلام على ثلاثة أحرف، وذلك حين قلت يا حارُ. ولو قلت هذا لقلت يا مَروي إذا أردت أن تجعل ما بقي من مروان بمنزلة ما بقي من حارث حين قلت: يا حارُ.
؟هذا باب النفي بلا
ولا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب إن لما بعدها.
وترك التنوين لما تعمل فيه لازم، لأنها جُعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر؛ وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم، وهو الفعل وما أجري مجراه، لأنها لا تعمل إلا في نكرة، ولا وما تعمل فيه في موضع ابتداء، فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر. فلا لا تعمل إلا في نكرة كما أن ربّ لا تعمل إلا في نكرة، وكما أن كم لا تعمل في الخبر والاستفهام إلا في النكرة، لأنك لا تذكر بعد لا إذا كانت عاملة شيئاً بعينه كما لا تذكر ذلك بعد ربّ، وذلك لأن ربّ إنما هي للعدة بمنزلة كم، فخولف بلفظها حين خالفت أخواتها كما خولف بأيُّهم حين خالفت الذي، وكما قالوا يا الله حين خالفت ما فيه الألف واللام، وسترى أيضاً نحو ذلك إن شاء الله عزّ وجلّ.
فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها، كما قالوا يا ابن أم، فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الآخر. وخولف بخمسة عشر لأنها إنما هي خمسة وعشرة.
فلا لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب، فيما زعم الخليل رحمه الله في قولك: هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة.
واعلم أن لا وما عملت فيه في موضع ابتداء، كما أنك إذا قلت: هل من رجل فالكلام بمنزلة اسم مرفوع مبتدأ. وكذلك: ما من رجل، وما من شيء، والذي يُبنى عليه في زمان أو في مكان، ولكنك تضمره، وإن شئت أظهرته. وكذلك لا رجل ولا شيء، إنما تريد لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان.
والدليل على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ، وما من رجل في موضع اسم مبتدأ في لغة بني تميم قول العرب من أهل الحجاز: لا رجلَ أفضل منك.
وأخبرنا يونس أن من العرب من يقول: ما من رجل أفضلُ منك، وهل من رجل خيرٌ منك، كأنه قال: ما رجلٌ أفضلُ منك، وهل رجلٌ خيرٌ منك.


واعلم أنك لا تفصل بين لا وبين للنفي، كما لا تفصل بين من وبين ما تعمل فيه، وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول: لا فيها رجلَ، كما أنه لا يجوز لك أن تقول في الذي هو جوابه هل من فيها رجل. ومع ذلك أنهم جعلوا لا وما بعدها بمنزلة خمسة عشر، فقُبح أن يفعلوا بينهما عندهم كما لا يجوز أن يفصلوا بين خمسة وعشر بشيء من الكلام؛ لأنها مشبهة بها.
؟باب المنفي المضاف بلام الإضافة
اعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت: لا غلامَ لك كما يقع من المضاف الى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثلَ زيد. والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك، ولا غلامَيْ لك، ولا مُسلمَيْ لك.
وزعم الخليل رحمه الله أن النون إنما ذهبت للإضافة، ولذلك ألحقت الألف التي لا تكون إلا في الإضافة.
وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول: لا أباك، في معنى لا أبالك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام لكان التنوين ساقطاً كسقوطه في لا مثل زيد فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام إذ كان المعنى واحداً، وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثُنّي به في النداء، ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به، وذلك قولك: يا تَيْم تَيْم عَديّ، وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحةَ في النداء، لم يغيّروا آخر طلحةَ عما كان عليه قبل أن تلحق، وذلك قولهم: كليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصبِ ومثل هذا الكلام قول الشاعر إذا اضطُر، للنابغة: يا بؤسَ للجهل ضرّارا لأقوامِ حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت يا بؤسَ الجهل.
وإنما فُعل هذا في المنفي تخفيفاً، كأنهم لم يذكروا اللام كما أنهم إذ قالوا يا طلحةَ أقبلْ فكأنهم لم يذكروا الهاء، وصارت اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة لا تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، كما لا تغيّر الهاء الاسمَ عن حاله قبل أن تلحق، فالنفيُ في موضع تخفيف كما أن النداء في موضع تخفيف، فمن ثم جاء فيه مثل ما جاء في النداء.
وإنما ذهبت النون في لا مُسلمَيْ لك على هذا المثال، جعلوه بمنزلة ما لو حُذفت بعده اللام كان مضافاً الى اسم وكان في معناه إذا ثبتت بعده اللام، وذلك قولك: لا أباك؛ فكأنهم لو لم يجيئوا باللام قالوا لا مُسلمَيْك فعلى هذا الوجه حذفوا النون في لا مُسلمَي لك، وذا تمثيلٌ وإن لم يُتكلم بلا مسلمَيْكَ. قال مسكين الدارميّ:
وقد مات شماخٌ ومات مزَرِّدٌ ... وأيُّ كريمٍ لا أباكَ يمتَّعُ
ويُروى: مخلّدُ.
وتقول: لا يَدَينِ بها لك، ولا يدينِ اليوم لك، إثبات النون أحسن، وهو الوجه. وذلك أنك إذا قلت: لا يَدَيْ لك ولا أبالك، فالاسمُ بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه شيء؛ نحو لا مِثل زيد؛ فكما قبح أن تقول لا مثل بها زيد فتفصل، قبح أن تقول لا يَدَي بها لك، ولكن تقول: لا يَدَين بها لك، ولا أبَ يوم الجمعة لك، كأنك قلت: لا يدين بها ولا أبَ يوم الجمعة، ثم جعلت لك خبراً، فراراً من القبح.
وكذلك إن لم تجعل لك خبراً ولم تفصل بينهما، وجئت بلك بعد أن تضمر مكاناً وزماناً كإضمارك إذا قلت: لا رجلَ. ولا بأس، وإن أظهرت فحسن. ثم تقول لك لتبيّن المنفيّ عنه، وربما تركتَها استغناءً بعلم المخاطب، وقد تذكرها توكيداً وإن عُلم من تعني. فكما قبح أن تفصل بين المضاف والاسم المضاف إليه قُبح أن تفصل بين لك وبين المنفي الذي قبله؛ لأن المنفي الذي قبله إذا جعلته كأنه اسمٌ لم تفصل بينه وبين المضاف إليه بشيء، قبح فيه ما قُبح في الاسم المضاف الى اسم لم تجعل بينه وبينه شيئاً؛ لأن اللام كأنها ههنا لم تُذكر.
ولو قلت هذا لقلت لا أخا هذينِ اليومين لك. وهذا يجوز في الشعر؛ لأن الشاعر إذا اضطرّ فصل بين المضاف والمضاف إليه. قال الشاعر، وهو ذو الرمة:
كأن أصواتَ من إيغالهنّ بنا ... أواخرِ المَيس أصواتُ الفراريجِ
وإنما اختير الوجهُ الذي تثبَت فيه النون في هذا الباب كما اختير في كم إذا قلت كم بها رجلاً مصاباً، وأنت تُخبر، لغة من ينصب بها، لئلا يفصَل بين الجار والمجرور: ومن قال: كم بها رجل مصاب فلم يُبالِ القبح قال: لا يَدَيْ بها لك، ولا أخا يوم الجمعة لك، ولا أخا فاعلم لك.


والجرّ في كم بها رجلٍ مصابٍ، وترك النون في لا يَديْ بها لك، قول يونس، واحتج بأن الكلام لا يستغني إذا قلت كم بها رجلٍ. والذي يستغني به الكلام وما لا يستغني به قبحهما واحدٌ إذا فصلت بكل واحد منهما بين الجارّ والمجرور. ألا ترى أن قبح كم بها رجلٍ مصاب، كقبح رُبّ فيها رجل، فلو حسن بالذي لا يستغني به الكلام لحسُن بالذي يستغني به، كما أن كل مكان حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت. وذلك قولك: إن بها زيداً مصابٌ، وإن فيها زيداً قائمٌ، وكان بها زيد مصاباً، وكان فيها زيدٌ مصاباً. وإنما يفرَق بين الذي يحسُن عليه السكوت وبين الذي لا يحسن عليه في موضع غير هذا.
وإثبات النون قول الخليل رحمه الله.
وتقول: لا غلامَينِ ولا جريتَيْ لك، إذا جعلت الآخِر مضافاً ولم تجعله خبراً له، وصار الأول مضمَراً له خبرٌ، كأنك قلت: لا غلامين في مِلكك ولا جاريتيْ لك، كأنك قلت: ولا جاريتَيك في التمثيل، ولكنهم لا يتكلمون.
فإنما اختُصّت لا في الأب بهذا كما اختُصّ لدُن مع غُدوةَ بما ذكرت لك. ومن كلامهم أن يجري الشيء على ما لا يستعمل في كلامهم، نحو قولهم: ملامحُ ومذاكيرُ، لا يستعملون لا مَلمَحةً ولا مِذكاراً؛ وكما جاء عذيرك على مثال ما يكون نكرة ومعرفة نحو ضَرباً وضرْبَك، ولا يُتكلم به إلا معرفةً مضافة. وسترى نحو هذا إن شاء الله. ومنه ما قد مضى.
وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جريتين لك، إذا جعلت لك خبراً لهما، وهو قول أبي عمرو. وكذلك إذا قلت: لا غلامين لك وجعلت لك خبراً، لأنه لا يكون إضافة وهو خبرٌ لأن المضاف يحتاج الى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تيمُ تَيمُ عديّ في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمارُ مكان، ولكنه تُرك استخفافاً واستغناء. قال الشاعر، وهو نهارُ بن تَوسِعة اليشكُريّ فيما جعله خبراً:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وإذا ترك التنوين فليس الاسم مع لا بمنزلة خمسة عشر، لأنه لو أراد ذلك لجعل لك خبراً وأظهر النون، أو أضمر خبراً ثم جاء بعدها بلك توكيداً، ولكنه أجراه مجرى ما ذكرت لك في النداء، لأنه موضع حذف وتخفيف، كما أن النداء كذلك.
وتقول أيضاً إن شئت: لا غلامين ولا جاريتين لك، ولا غلامين وجاريتين، كأنك قلت: لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا لك، فجاء بلك بعد ما بنى على الكلام الأول في مكان كذا وكذا، كما قال: لا يَدَين بها لك، حين صيّره كأنه جاء بلك فيه بعد ما قال لا يَدين بها في الدنيا.
واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يك لك فإنما يُذهب منه التنوين كما أُذهب من آخر خمسة عشر، كما أُذهب من المضاف. والدليل على ذلك أن العرب تقول: لا غلامين عندك، ولا غلامين فيها، ولا أبَ فيها؛ وأثبتوا النون لأن النون لا تُحذف من الاسم الذي يُجعل وما قبله أو وما بعده بمنزلة اسم واحد. ألا تراهم قالوا: الذين في الدار، فجعلوا الذين وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جُعلا اسماً واحداً، ولم يحذفوا النون لأنها لا تجيء على حدّ التنوين. ألا تراها تدخل في الألف واللام وما لا ينصرف.
وإنما صارت الأسماء حين وَلِيَت لك بمنزلة المضاف لأنهم كأنهم ألحقوا اللام بعد اسمٍ كان مضافاً، كما أنك حين قلت: يا تيمَ تيمَ عَديّ فإنما ألحقتَ الاسم اسماً كان مضافاً، ولم يغيّر الثاني المعنى كما أن اللام لم تغيّر معنى لا أباكَ. وإذا قلت: لا أبَ فيها، فليست في من الحروف التي إذا لحقتْ بعد مضاف لم تغيّر المعنى الذي كان قبل أن تلحق. ألا ترى أن اللام لا تغيّر معنى المضاف الى الاسم إذا صارت بينهما، كما أن الاسم الذي يثنّى به لا يغيّر المعنى إذا صار بين الأول والمضاف إليه، فمن ثمّ صارت اللام بمنزلة الاسم يثنّى به.
وتقول: لا غلامَ وجارية فيها، لأن لا إنما تُجعل وما تعمل فيه اسماً واحداً إذا كانت الى جنب الاسم، فكما لا يجوز أن تفصل خمسةً من عشر، كذلك لم يستقم هذا لأنه مشبّه به، فإذا فارقه جرى على الأصل. قال الشاعر:
لا أبَ وابناً مثلُ مَروانَ وابنِه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا


وتقول: لا رجلَ ولا امرأةً يا فتى إذا كنت لا بمنزلتها في ليس حين تقول: ليس لك لا رجلٌ ولا امرأة فيها. وقال رجل من بني سُليم، وهو أنس بن العبّاس:
لا نسبَ اليومَ ولا خُلةً ... اتّسع الخَرقُ على الراقع
وتقول: لا رجلَ ولا امرأةَ فيها، فتُعيد لا الأولى كما تقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها، فتكون حالُ الآخرة في تثنيتها كحال الأولى. فإن قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك، إذا كانت الثانية هي الأولى، أثبتّ النون، لأن لكَ خبرٌ عنهما، والنون لا تذهب إذا جعلتهما كاسم واحد، لأن النون أقوى من التنوين، فلم يُجروا عليها ما أجرَوا على التنوين في هذا الباب؛ لأنه مفارِق للنون، ولأنها تثبت فيما لا يَثبت فيه.
واعلم أن كل شيء حسن لك أن تُعمل فيه تُبّ حسُن لك أن تعمِل فيه لا.
وسألت الخليلَ رحمه الله عن قول العرب: ولاسيما زيدٍ، فزعم أنه مثل قولك: ولا مثلَ زيدٍ، وما لَغوٌ. وقال: ولاسيما زيدٌ كقولهم دعْ ما زيدٌ، وكقوله: " مثلاً ما بَعوضةٌ " ؛ فسيٌّ في هذا الموضع بمنزلة مثل، فمن ثمّ عملتْ فيه لا كما تعمل رُبّ في مثل، وذلك قولك: ربّ مثلِ زيدٍ. وقال أبو محجن الثقفي:
يا رُبّ مثلِكِ في النساء غريرةٍ ... بيضاءَ قد متّعْتُها بطَلاقِ
هذا باب
ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية
وذلك من قبل أن التنوين لم يصر منتهى الاسم، فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم، وإنما يُحذف في النفي والنداء منتهى الاسم. وهو قولك: لا خيراً منه لك، ولا حسَناً وجهُه لك، ولا ضارباً زيداً لك؛ لأن ما بعد حسنٍ وضاربٍ وخيرٍ صار من تمام الاسم فقبح عندهم أن يحذفوا قبل أن ينتهوا الى منتهى الاسم؛ لأن الحذف في النفي في أواخر الأسماء. ومثل ذلك قولك: لا عشرين درهماً لك.
وقال الخليل رحمه الله: كذلك لا آمِراً بالمعروف لك، إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلتَه متصلاً به، كأنك قلت: لا آمِراً معروفاً لك. وإن قلت لا آمِرَ بمعروف، فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيتَ على الأول كلاماً، كقولك: لا آمِرَ في الدار يوم الجمعة. وإن شئت جعلته كأنك قلت: لا آمِر يوم الجمعة فيها؛ فيصير المبني على الأول مؤخَّراً، ويكون المُلغى مقدّماً. وكذلك لا راغباً الى الله لك، ولا مُغيراً على الأعداء لك، إذا جعلت الآخِر متصلاً بالأول كاتصال منك بأفعل. وإن جعلته منفصلاً من الأول كانفصال لك من سَقياً لك لم تنوّن، لأن يصير حينئذ بمنزلة يوم الجمعة. وإن شئت قلت: لا آمراً يومَ الجمعة إذا نفيتَ الآمرينَ يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين، فإذا قلت: لا آمرَ يومَ الجمعة فأنت تنفي الآمرين كلهم ثم أعلمت في أي حين. وإذا قلت لا ضارباً يوم الجمعة فإنما تنفي ضاربي يوم الجمعة في يومه أو في يوم غيره، وتجعل يوم الجمعة فيه منتهى الاسم. وإنما نوّنت لأنه صار منتهى الاسم اليوم، كما صار ما ذكرتُ منتهى الاسم، وصار التنوين كأنه زيادة في الاسم قبل آخِره نحو واو مضروب وألف مُضارب، فنونت كما نونتَ في النداء كل شيء صار منتهى الاسم فيه ما بعده وليس منه.
فنوِّنْ في هذا ما نوّنتَه في النداء مما ذكرت لك إلا النكرة فإن النكرة، في هذا الباب بمنزلة المعرفة في النداء. ولا تعمل لا إلا في النكرة، تُجعل معها بمنزلة خمسة عشر، فالنكرة ههنا بمنزلة المعرفة هناك، إلا ما ذكرت لك.
؟هذا باب وصف المنفي
اعلم أنك إذا وصفت المنفي فإن شئت نونت صفةَ المنفي وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنوّن. وذلك قولك: لا غلام ظريفاً لك، ولا غلامَ ظريفَ لك.
فأما الذين نوّنوا فإنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد، وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير النفي.
وأما الذين قالوا: لا غلامَ ظريفَ لك، فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد.
فإذا قلت: لا غلامَ ظريفاً لك، فأنت في الوصف الأول بالخيار، ولا يكون الثاني إلا منوّناً؛ من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة بمنزلة اسم واحد.
ومثل ذلك: لا غلامَ فيها ظريفاً، إذا جعلتَ فيها صفةً أو غير صفة.
وإن كررتَ الاسمَ فصار وصفاً فأنت فيه بالخيار، إن شئت نوّنتَ وإن شئت لم تنوّن. وذلك قولك: لا ماءَ ماءَ بارداً، ولا ماءَ ماءَ بارداً. ولا يكون بارداً إلا منوّناً، لأنه وصفٌ ثانٍ.


؟باب لا يكون الوصف فيه إلا منوناً
وذلك قولك: لا رجلَ اليوم ظريفاً ولا رجلَ فيها عاقلاً، إذا جعلت فيها خبراً أو لغواً، ولا رجلَ فيك راغباً، من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسمٍ واحد وقد فصلتَ بينهما، كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين عشر وخمسة في خمسة عشر.
ومما لا يكون الوصفُ فيه إلا منوناً قوله: لا ماء سماءٍ لك بارداً، ولا مثلَه عاقلاً، من قبل أن المضاف لا يُجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر، وإنما يذبه التنوين منه كما يذهب منه في غير هذا الموضع، فمن ثمّ صار وصفُه بمنزلته في غير هذا الموضع. ألا ترى أن هذا لو لم يكن مضافاً لم يكن إلا منوناً كما يكون في غير باب النفي؛ وذلك قولك: لا ضارباً زيداً لك، ولا حسناً وجهَ الأخ فيها. فإذا كففتَ التنوين وأضفت كا بمنزلته في غير هذا الباب كما كان كذلك غيرَ مضاف، فلما صار التنوين إنما يُكَفّ للإضافة جرى على الأصل. فإذا قلت: لا ماءَ ولا لبنَ، ثم وصفت اللبن، فأنت بالخيار في التنوين وتركه. فإذا جعلت الصفة للماء لم يكن الوصفُ إلا منوّناً؛ لأنه لا يُفصَل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد مضمَراً أو مظهَراً، لأنهما قد صارا اسماً واحداً بمنزلة زيد، ويحتاجان الى الخبر مضمَراً أو مظهَراً. ألا ترى أنه لو جاز تَيمُ تيمُ عديّ لم يستقم إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت لا أبا لك فها هنا إضمار مكان.
؟باب لا تسقط فيه النون وإن وَلِيَتْ لك
وذلك قولك: لا غلامين ظريفين ولا مسلمين صالحين لك، من قبل أن الظريفين والصالحين نعتٌ للمنفي ومن اسمه، وليس واحدٌ من الاسمين ولِيَ لا ثم ولِيتَه لك، ولكنه وصف وموصوف، فليس للموصوف سبيل الى الإضافة. ولم يجئ ذلك في الوصف لأنه ليس بالمنفي، وإنما هو صفة، وإنما جاز التخفيف في النفي فلم يجز ذلك إلا في المنفي، كما أنه يجوز في المنادى أشياء لا تجوز في وصفه، من الحذف والاستخفاف. وقد بُيّن ذلك.
؟باب ما جرى على موضع المنفي
لا على الحرف الذي عمل في المنفي فمن ذلك قول ذي الرّمة:
بها العِينُ والآرامُ لا عِدَّ عندَها ... ولا كَرَعٌ إلا المَغاراتُ والرَّبْلُ
وقال رجل من بني مَذحِج:
هذا لعَمرُكم الصَّغارُ بعينه ... لا أمَّ لي إن كان ذاك ولا أبُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا يجري على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم، كما أن الشاعر حين قال: فلسنا بالجبال ولا الحديدا أجراه على الموضع.
ومن ذلك أيضاً قول العرب: لا مالَ له قليلٌ ولا كثير، رفعوه على الموضع.
ومثل ذلك أيضاً قول العرب: لا مثلَه أحدٌ، ولا كزيد أحدٌ. وإن شئت حملتَ الكلام على لا فنصبت.
وتقول: لا مثلَه رجلٌ إذا حملته على الموضع، كما قال بعضُ العرب: لا حولَ ولا قوة إلا بالله. وإن شئت حملته على لا فنوّنته ونصبته. وإن شئت قلت: لا مثلَه رجلاً، على قوله: لي مثلُه غلاماً. وقال ذو الرمة:
هي الدار إذ مَيٌّ لاهْلِكِ جيرةٌ ... لياليَ لا أمثالَهنّ لياليا
وقال الخليل رحمه الله: يدلك على أن لا رجلَ في موضع اسم مبتدأ مرفوع، قولك: لا رجلَ أفضلُ منك، كأنك قلت: زيدٌ أفضل منك. ومثل ذلك: بحَسبك قول السّوْء، كأنك قلت: حسبك قولُ السّوْء.
وقال الخليل رحمه الله: كأنك قلت: رجلٌ أفضل منك، حين مثّله.
وأما قول جرير:
يا صاحبَيّ دنا الرّواحُ فسِيرا ... لا كالعشيةِ زائراً ومَزورا
فلا يكون إلا نصباً؛ من قبل أن العشية ليست بالزائر، وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائراً، كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلاً، فكاليوم كقولك في اليوم، لأن الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجب، كما قال: تالله رجلاً، وسبحان الله رجلاً، وإنما أراد: تالله ما رأيت رجلاً، ولكنه يترك الإظهار استغناءً، لأن المخاطَب يعلم أن هذا الموضع إنما يضمَر فيه هذا الفعل، لكثرة استعمالهم إياه.
وتقول: لا كالعشية عشيةٌ، ولا كزيد رجلٌ؛ لأن الآخِر هو الأول، ولأن زيداً رجل، وصار لا كزيد كأنك قلت: لا أحدَ كزيد، ثم قلت رجلٌ، كما تقول: لا مال له قليلٌ ولا كثير، على الموضع. قال الشاعر، امرؤ القيس:
ويْلِمِّها في هواء الجوّ طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبُ


كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على ما ذكرتُ لك. وإن شئت نصبته على نصبه: فهل في مَعدّ فوق ذلك مِرفَدا كأنه قال: لا أحدَ كزيد رجلاً، وحمل الرجل على زيد، كما حمل المرفد على ذلك. وإن شئت نصبتَه على ما نصبتَ عليه لا مال له قليلاً ولا كثيراً.
ونظير لا كزيد في حذفهم الاسم قولُهم: لا عليك، وإنما يريد: لا بأس عليك، ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.
؟باب ما لا تُغيّر فيه لا الأسماء عن حالها
التي كانت عليها قبل أن تدخل لا
ولا يجوز ذلك إلا أن تُعيد لا الثانية؛ من قبل أنه جواب لقوله: أغلامٌ عندك أم جارية، إذا ادّعيتَ أن أحدهما عنده. ولا يحسن إلا أن تُعيد لا، كما أنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه أم إلا أن تذكرها مع اسم بعدها.
وإذا قال لا غلامَ، فإنما هي جوابٌ لقوله: هل من غلام، وعملتْ لا فيما بعدها وإن كان في موضع ابتداء، كما عملتْ مِن في الغلام وإن كان في موضع ابتداء.
فمما لا يتغير عن حاله قبل أن تدخل عليه لا قولُ الله عز وجلّ ذكره: " لا خوفَ عليهم ولا هُم يحزنون " . وقال الشاعر، الراعي:
وما صرَمْتُكِ حتى قلتِ مُعلنةً ... لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جملُ
وقد جُعلت، وليس ذلك بالأكثر، بمنزلة ليس.
وإن جعلتها بمنزلة ليس كانت حالُها كحال لا، في أنها في موضع ابتداء وأنها لا تعمل في معرفة. فمن ذلك قول سعد بن مالك:
مَن صدّ عن نيرانها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ
واعلم أن المعارف لا تجري مجرى النكرة في هذا الباب، لأن لا لا تعمل في معرفة أبداً. فأما قول الشاعر: لا هيثَمَ الليلةَ للمَطيّ فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثمَ من الهيثمَين. ومثل ذلك: لا بضرةَ لكم. وقال ابن الزبير الأسدي:
أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيبٍ ... نكِدْنَ ولا أميّةَ بالبلادِ
وتقول: قضية ولا أبا حسن، تجعله نكرة. قلت: فكيف يكون هذا وإنما أراد عليّا رضي الله عنه فقال: لأنه لا يجوز لك أن تعمِل لا في معرفة، وإنما تعملها في النكرة فإذا جعلت أبا حسنٍ نكرة حسن لك أن تعمِل لا، وعلم المخاطَب أنه قد دخل في هؤلاء المنكورين عليٌّ، وأنه قد غُيِّب عنها.
فإن قلت: إنه لم يُردْ أن ينفي كل من اسمُه علي؟ فإنما أراد أن ينفي منكورين كلهم في قضيته مثلُ عليّ كأنه قال: لا أمثالَ عليّ لهذه القضية، ودلّ هذا الكلام على أنه ليس لها عليّ، وأنه قد غيّب عنها.
وإن جعلته نكرةً ورفعته كما رفعت لا بَراحُ، فجائز. ومثله قول الشاعر، مُزاحم العُقَيلي:
فرَطْنَ فلا ردّ لما بُتّ وانقضى ... ولكن بغوضٌ أن يقالَ عديمُ
وقد يجوز في الشعر رفع المعرفة، ولا تثنى لا. قال الشاعر:
بكتْ جزعاً واسترجعت ثم آذنتْ ... ركائبها أن لا إلينا رجوعُها
واعلم أنك إذا فصلت بين لا وبين الاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد لا الثانية، لأنه جُعل جواب: أذا عندك أم ذا؟ ولم تُجعل لا في هذا الموضع بمنزلة ليس، وذلك لأنهم جعلوها، إذا رفعتْ، مثلها إذا نصبتْ؛ لا تفصل لأنها ليست بفعل.
فمما فُصل بينه وبين لا بحشوٍ قوله جل ثناؤه: " لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفون " . ولا يجوز لا فيها أحد إلا ضعيفاً، ولا يحسن لا فيك خيرٌ؛ فإن تكلّمت به لم يكن إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل إذا فُصل بينها وبين الاسم، رافعةً ولا ناصبة، لما ذكرت لك.
وتقول: لا أحد أفضل منك، إذا جعلته خبراً، وكذلك: لا أحدَ خيرٌ منك: قال الشاعر:
وردّ جازرُهم حَرفاً مُصَرّمةً ... ولا كريمَ من الوِلدان مصبوحُ
لما صار خبراً جرى على الموضع؛ لأنه ليس بوصف ولا محمول على لا، فجرى مجرى: لا أحدَ فيها إلا زيد. وإن شئت قلت: لا أحدٌ أفضلَ منك، في قول من جعلها كليس ويُجريها مجراها ناصبة في المواضع، وفيما يجوز أن يُحمَل عليها. ولم تُجعل لا التي كليس مع ما بعدها كاسم واحد، لئلا يكون الرافع كالناصب. وليس أيضاً كل شيء يخالف بلفظه يجري مجرى ما كان في معناه.
؟باب لا تجوز فيه المعرفة إلا
أن تُحمَل على الموضع لأنه لا يجوز للا أن تعمل في معرفة، كما لا يجوز ذلك لربّ


فمن ذلك قولك: لا غلام لك ولا العبّاسُ. فإن قلت: أحملُه على لا؟ فإنه ينبغي لك أن تقول: ربّ غلامٍ لك والعباس، وكذلك لا غلام لك وأخوه.
فأما من قال: كلَّ شاة وسخلتِها بدرهم فإنه ينبغي له أن يقول: لا رجلَ لك وأخاه، لأنه كأنه قال: لا رجلَ لك وأخاً له.
؟باب ما إذا لحقته لا لم تغيره عن حاله
التي كان عليها قبل أن تلحق
وذلك لأنها لحقت ما قد عمل فيه غيرُها، كما أنها إذا لحقت الأفعال التي هي بدل منها لم تغيّرها عن حالها التي كانت عليها قبل أن تلحق. ولا يلزمك في هذا الباب تثنية لا، كما لا تثنّي لا في الأفعال التي هي بدل منها.
وذلك قولك: لا مرحَباً ولا أهلاً، ولا كرامةً، ولا مسرّةً، ولا شللاً، ولا سقياً ولا رَعياً، ولا هنيئاً ولا مريئاً، صارت لا مع هذه الأسماء بمنزلة اسم منصوب ليس معه لا، لأنها أجريت مجراها قبل أن تلحق لا.
ومثل ذلك: لا سلامٌ عليك، لم تغيّر الكلام عما كان عليه قبل أن تلحق.
وقال جرير:
ونُبّئتُ جوّاباً وسَكناً يسبّني ... وعمرو بن عفرا لا سلامٌ على عمرِو
فلم يلزمك في ذا تثنية لا، كما لم يلزمك ذلك في الفعل الذي فيه معناه، وذلك لا سلّم الله عليه. فدخلتْ في ذا الباب لتنفي ما كان دُعاء كما دخلت على الفعل الذي هو بدلٌ من لفظه.
ومثلُ لا سلامٌ على عمرو: لا بك السّوْء؛ لأن معناه لا ساءك الله.
ومما جرى مجرى الدعاء مما هو تطلُّقٌ عند طلب الحاجة وبشاشة، نحو كرامةً ومسرّةً ونُعمةَ عين. فدخلتْ على هذا كما دخلتْ على قوله: ولا أُكرمُك ولا أسُرّك، ولا أُنعمُك عيناً. ولو قبح دخولها هنا لقبح في الاسم، كما قبح في لا ضَرباً، لأنه لا يجوز: لا اضربْ، في الأمر.
وقد دخلت في موضع غير هذا فلم تغيّره عن حاله قبل أن تدخله، وذلك قولهم: لا سَواء، وإنما دخلت لا هنا لأنها عاقبت ما ارتفعتْ عليه سواء. ألا ترى أنك لا تقول هذان لا سواءٌ، فجاز هذا كما جاز: لا ها اللهِ ذا، حين عاقبتْ ولم يجز ذكر الواو.
وقالوا: لا نَوْلك أن تفعل؛ لأنهم جعلوه معاقِباً لقوله: لا ينبغي أن تفعل كذا وكذا، وصار بدلاً منه، فدخل فيه ما دخل في ينبغي، كما دخل في لا سلامٌ ما دخل في سلّم.
واعلم أن لا قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ليس معه شيء، وذلك نحو قولك: أخذتَه بلا ذَنب، وأخذته بلا شيء، وغضبتَ من لا شيء، وذهبتَ بلا عتاد؛ والمعنى معنى ذهبت بغير عتاد، وأخذتَه بغير ذنب، إذا لم ترد أن تجعل غيراً شيئاً أخذه به يعتدّ به عليه.
ومثل ذاك قولك للرجل: أجئتَنا بغير شيء، أي رائقاً.
وتقول إذا قلّلتَ الشيءَ أو صغّرتَ أمره: ما كان إلا كلا شيء، وإنك ولا شيئاً سواءٌ. ومن هذا النحو قول الشاعر، وهو أبو الطّفيل:
تركتَني حين لا مالٍ أعيشُ به ... وحين جُنّ زمانُ الناس أو كَلِبا
والرفع عربي على قوله: حين لا مُستَصْرَخُ و: لا بَراحُ والنصبُ أجودُ وأكثر من الرفع؛ لأنك إذا قلت لا غلامَ فهي أكثر من الرافعة التي بمنزلة ليس. قال الشاعر، وهو العجّاج: حنّت قَلوصي حين لا حينَ مَحَنّْ وأما قول جرير:
ما بالُ جهلِك بعد الحِلم والدين ... وقد علاكَ مَشيبٌ حين لا حينِ
فإنما هو حينَ حينٍ، ولا بمنزلة ما إذا أُلغيتْ.
واعلم أنه قبيح أن تقول: مررتُ برجل لا فارسٍ، حتى تقول: لا فارسٍ ولا شجاع. ومثلُ ذلك: هذا زيدٌ لا فارساً، لا يحسن حتى تقول: لا فارساً ولا شجاعاً. وذلك أنه جوابٌ لمن قال، أو لمن تجعله ممن قال: أبرجلٍ شجاع مررتَ أم بفارسٍ؟ وكقوله: أفارسٌ زيدٌ أم شجاع؟ وقد يجوز على ضعفه، في الشعر. قال رجلٌ من بني سَلول:
وأنتَ امرؤٌ منا خُلقتَ لغيرنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجِعُ
فكذلك هذه الصفات وما جعلته خبراً للأسماء، نحو: زيدٌ لا فارسٌ ولا شجاع.
واعلم أن لا في الاستفهام تعمل فيما بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر، فمن ذلك قوله، البيت لحسّان بن ثابت:
ألا طِعانَ ولا فُرسانَ عاديةً ... إلا تَجشّؤُكم عند التنانيرِ
وقال في مثل: أفلا قُماصَ بالعَير.
ومن قال: لا غلام ولا جارية، قال: ألا غلامٌ وألا جارية.


واعلم أن لا إذا كانت مع ألف الاستفهام ودخل فيها معنى التمني عملتْ فيما بعدها فنصبته، ولا يحسن لها أن تعمل في هذا الموضع إلا فيما تعمل فيه في الخبر، وتسقط النون والتنوين في التمني كما سقطا في الخبر. فمن ذلك: ألا غلامَ لي وألا ماءَ بارداً. ومن قال: لا ماءَ باردَ قال: ألا ماء باردَ.
ومن ذلك: ألا أبا لي، وألا غلامَيْ لي.
وتقول: ألا غلامين أو جاريتين لك كما تقول: لا غلامين وجاريتين لك.
وتقول: ألا ماءَ ولبناً كما قلت: لا غلامَ وجاريةً لك، تُجريها مجرى لا ناصبة في جميع ما ذكرتُ لك.
وسألت الخليل رحمه الله عن قوله:
ألا رجلاً جزاه الله خيراً ... يدلّ على محصلةٍ تبيتُ
فزعم أنه ليس على التمني، ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلاّ خيراً من ذلك، كأنه قال: ألا تُروني رجلاً جزاه الله خيراً.
وأما يونس فزعم أنه نوّن مضطراً، وزعم أن قوله: لا نسبَ اليومَ ولا خُلّةً على الاضطرار. وأما غيره فوجّهه على ما ذكرتُ لك. والذي قال مذهب.
ولا يكون الرفع في هذا الموضع، لأنه ليس بجواب لقوله: أذا عندك أم ذا؟ وليس في ذا الموضع معنى ليس.
وتقول: ألا ماء وعسلاً بارداً حلواً، لا يكون في الصفة إلا التنوين، لأنك فصلت بين الاسم والصفة حين جعلتَ البرد للماء، والحلاوةَ للعسل.
ومن قال: لا غلامَ أفضلُ منك، لم يقل في ألا غلامَ أفضلَ منك إلا بالنصيب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني، وصار مستغنياً عن الخبر كاستغناء اللهمّ غلاماً، ومعناه اللهم هب لي غلاماً.
؟هذا باب الاستثناء
فحرفُ الاستثناء إلا. وما جاء من الأسماء فيه معنى إلا فغيرٌ، وسوًى. وما جاء من الأفعال فيه معنى إلا فلا يكون، وليس، وعدا، وخلا. وما فيه ذلك المعنى من حروف الإضافة وليس باسم فحاشى وخلا في بعض اللغات.
وسأبين لك أحوال هذه الحروف إن شاء الله عز وجل الأولَ فالأول.
؟باب ما يكون استثناء بإلا
اعلم أن إلا يكون الاسم بعدها على وجهين: فأحدُ الوجهين أن لا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما أن لا حين قلت: لا مرحباً ولا سلامٌ، لم تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلا، ولكنها تجيء لمعنى كما تجيء لا لمعنى.
والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجاً مما دخل فيه ما قبله، عاملاً فيه ما قبله من الكلام، كما تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهماً.
فأما الوجه الذي يكون فيه الاسم بمنزلته قبل أن تلحق إلا فهو أن تُدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سواه، وذلك قوله: ما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيداً، وما مررتُ إلا بزيدٍ، تُجري الاسم مجراه إذا قلت ما أتاني زيدٌ، وما لقيتُ زيداً، وما مررتُ بزيد، ولكنك أدخلت إلا لتوجب الأفعال لهذه الأسماء ولتنفي ما سواها، فصارت هذه الأسماء مُستثناة. فليس في هذه الأسماء في هذا الموضع وجه سوى أن تكون على حالها قبل أن تلحق إلا؛ لأنها بعد إلا محمولة على ما يجرّ ويرفع وينصب، كما كانت محمولة عليه قبل أن تلحق إلا، ولم تشغل عنها قبل أن تلحق إلا الفعلَ بغيرها.
؟باب ما يكون المستثنى فيه بدلاً مما
نفى عنه ما أُدخل فيه وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٍ، وما رأيتُ أحداً إلا زيداً، جعلت المستثنى بدلاً من الأول، فكأنك قلت: ما مررتُ إلا بزيدٍ، وما أتاني إلا زيدٌ، وما لقيتُ إلا زيداً. كما أنك إذا قلت: مررت برجلٍ زيدٍ، فكأنك قلت: مررتُ بزيدٍ. فهذا وجه الكلام أن تجعل المستثنى بدلاً من الذي قبله، لأنك تُدخله فيما أخرجتَ منه الأول.
ومن ذلك قولك: ما أتاني القومُ إلا عمرو، وما فيها القومُ إلا زيدُ، وليس فيها القوم إلا أخوك، وما مررتُ بالقوم إلا أخيك. فالقوم ههنا بمنزلة أحد.
ومن قال: ما أتاني القومُ إلا أباك، لأنه بمنزلة أتاني القومُ إلا أباك، فإنه ينبغي له أن يقول: " ما فعلوه إلا قليلاً منهم " .


وحدّثني يونس أن أبا عمرو كان يقول: الوجهُ ما أتاني القومُ إلا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم لما جاز أن تقول: ما أتاني أحد، كما أنه لا يجوز أتاني أحدٌ، ولكن المستثنى في هذا الموضع مبدَلٌ من الاسم الأول، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: " ولم يكنْ لهم شُهداءُ إلا أنفسُهُم " ولكان ينبغي له أن يقول ما أتاني أحدٌ إلا قد قال ذاك إلا زيد، لأنه ذكر واحداً.
ومن ذلك أيضاً: ما فيهم أحدٌ اتخذتُ عنده يداً إلا زيدٌ، وما فيهم خيرٌ إلا زيدٌ، إذا كان زيد هو الخير.
وتقول: ما مررتُ بأحد يقول ذاك إلا عبدِ الله، وما رأيت أحداً يقول ذاك إلا عبد الله، وما رأيت أحداً يقول ذاك إلا زيداً. هذا وجه الكلام. وإن حملتَه على الإضمار الذي في الفعل فقلت: ما رأيت أحداً يقول ذاك إلا زيد ورفعت فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحداً يقول ذاك إلا زيداً. وإن شئت رفعت فعربيّ. قال الشاعر، وهو عديّ بن زيد:
في ليلةٍ لا نرى بها أحداً ... يحكي علينا إلا كواكبُها
وكذلك ما أظن أحداً يقول ذاك إلا زيداً. وإن رفعتَ فجائز حسن. وكذلك ما علمت أحداً يقول ذاك إلا زيداً، وإن شئت رفعت.
وإنما اختير النصبُ هنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدَل منه، وأن لا يكون بدلاً إلا من منفيّ، فالمبدَل منه منصوب منفي ومضمَره مرفوع، فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلاً منه لأنه هو المنفي، وهذا وصف أو خبر وقد تكلموا بالآخر، لأن معناه النفي إذا كان وصفاً لمنفي، كما قالوا: قد عرفت زيدٌ أبو مَن هو، لما ذكرتُ لك، لأن معناه معنى المستفهَم عنه.
وقد يجوز: ما أظن أحداً فيها إلا زيدٌ، ولا أحدَ منهم اتخذتُ عنده يداً إا زيدٍ، على قوله: إلا كواكبُها.
وتقول: ما ضربتُ أحداً يقول ذاك إلا زيداً، لا يكون في ذا إلا النصب، وذلك لأنك أردت في هذا الموضع أن تخبر بموقوع فعلِك، ولم ترد أن تخبر أنه ليس يقول ذاك إلا زيد، ولكنك أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيداً. والمعنى في الأول أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدٌ، ولكنك قلت رأيتُ أو ظننت أو نحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت. ولو جعلت رأيت رؤية العين كان بمنزلة ضربت. قال الخليل رحمه الله: ألا ترى أنك تقول: ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما ظننته يقوله إلا عمرو. فهذا يدلك على أنك إنما انتحيت على القول ولم ترد أن تجعل عبد الله موضعَ فعل كضربتُ وقتلت، ولكنه فعلٌ بمنزلة ليس يجيء لمعنى، وإنما يدل على ما في علمك.
وتقول: أقلّ رجلٍ يقول ذاك إلا زيدٌ، لأنه صار في معنى ما أحدٌ فيها إلا زيد.
وتقول: قلّ رجلٌ يقول ذاك إلا زيدٌ، فليس زيدٌ بدلاً من الرجل في قلّ، ولكن قلّ رجلٌ في موضع أقلُّ رجل، ومعناه كمعناه. وأقلّ رجلٍ مبتدأ مبنيّ عليه، والمستثنى بدل منه؛ لأنك تُدخله في شيء تُخرج منه مَن سواه.
وكذلك أقلّ من يقول ذلك، وقلّ من يقول ذاك، إذا جعلتَ مَن بمنزلة رجلٍ. حدّثنا بذلك يونس عن العرب، يجعلونه نكرة، كما قال:
ربّ ما تكره النفوسُ مِن الأ ... مر له فَرجةٌ كحلِّ العِقالِ
فجعل ما نكرة.
؟باب ما حُمل على موضع العامل
في الاسم والاسم
لا على ما عمل في الاسم، ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو منصوب.
وذلك قولك: ما أتاني من أحدٍ إلا زيدٌ، وما رأيت من أحدٍ إلا زيداً.
وإنما منعك أن تحمل الكلام على مِن أنه خلفٌ أن تقول: ما أتاني إلا من زيد، فلما كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلاً منه كأنه قال: ما أتاني أحد إلا فلان؛ لأن معنى ما أتاني أحد وما أتاني من أحدٍ واحدٌ، ولكن مِن دخلت هنا توكيداً، كما تدخل الباء في قولك: كفى بالشيب والإسلام، وفي: ما أنت بفاعل، ولستَ بفاعلٍ.
ومثل ذلك: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، من قبل أن بشيء في موضع رفع في لغة بني تميم، فلما قبُح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع، وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب، ولكنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به، استوت اللغتان، فصارت ما على أقيس الوجهين؛ لأنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يُعبَأ به فكأنك قلت: ما أنت إلا شيء لا يُعبَأ به.


وتقول: لستَ بشيء إلا شيئاً لا يُعبَأ به، كأنك قلت: لستَ إلا شيئاً لا يُعبَأ به، والباء ههنا بمنزلتها فيما قال الشاعر:
يا ابْنَيْ لُبَينَي لستُما بيدٍ ... إلا يداً ليست لها عضُدُ
ومما أجري على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحدَ فيها إلا عبد الله، فلا أحدَ في موضع اسم مبتدأ، وهي ههنا بمنزلة من أحدَ في ما أتاني. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ، من قبل أنه خلفٌ أن تحمل المعرفة على مِن في ذا الموضع، كما تقول لا أحدَ فيها لا زيدٌ ولا عمرو؛ لأن المعرفة لا تُحمل على لا؛ وذلك أن هذا الكلام جواب لقوله: هل مِن أحد، أو هل أتاك من أحد؟ وتقول: لا أحدَ رأيته إلا زيد، إذا بنيتَ رأيته على الأول، كأنك قلت: لا أحدَ مرئي. وإن جعلت رأيته صفةً فكذلك، كأنك قلت لا أحدَ مرئياً.
وتقول: ما فيها إلا زيدٌ، وما علمتُ أن فيها إلا زيداً. فإن قلبتَه فجعلتَه يلي أن وما في لغة أهل الحجاز قبح ولم يَجز؛ لأنهما ليسا بفعل فيُحتمل قلبُهما كما لم يجز فيهما التقديم والتأخير ولم يجز ما أنت إلا ذاهباً، ولكنه لما طال الكلام قويَ واحتُمل ذلك، كأشياء تجوز في الكلام إذا طال وتزداد حُسناً. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنها ما قد مضى.
وتقول: إن أحداً لا يقول ذاك، وهو ضعيف خبيث، لأن أحداً لا يستعمل في الواجب، وإنما نفيتَ بعد أن أوجبتَ، ولكنه قد احتُمل حيث كان معناه النفي، كما جاز في كلامهم: قد عرفتُ زيدٌ أبو مَن هو، حيث كان معناه أبو مَن زيدٌ. فمن أجاز هذا قال: إن أحداً لا يقول هذا إلا زيداً، كما أنه يقول على الجواز: رأيتُ أحداً لا يقول ذاك إلا زيداً، يصير هذا بمنزلة ما أعلمُ أن أحداً يقول ذاك، كما صار هذا بمنزلة ما رأيتُ حيث دخله معنى النفي. وإن شئت قلت إلا زيدٌ، فحملته على يقول، كما جاز: يحكي علينا إلا كواكبُها وليس هذا في القوة كقولك: لا أحدَ فيها إلا زيدٌ، وأقلُّ رجلٍ رأيتُه إلا عمرو؛ لأن هذا الموضع إنما ابتُدئ مع معنى النفي، وهذا موضعُ إيجاب، وإنما جيء بالنفي بعد ذلك في الخبر، فجاز الاستثناء أن يكون بدلاً من الابتداء، حين وقع منفياً. ولا يجوز أن يكون الاستثناء أولاً لو لم يقل أقلُّ رجلٍ ولا رجلَ، لأن الاستثناء لابد له ها هنا من النفي. وجاز أن يُحمل على إن هاهنا، حيث صارت أحد كأنها منفية.
؟باب النصب فيما يكون مستثنى مبدَلاً
حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعاً أن بعض العرب الموثوقَ بعربيته يقول: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيداً، وما أتاني أحدٌ إلا زيداً. وعلى هذا: ما رأيت أحداً إلا زيداً، فينصب زيداً على غير رأيت؛ وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلاً من الأول، ولكنك جعلته منقطعاً مما عمل في الأول. والدليل على ذلك أنه يجيء على معنى: ولكن زيداً، ولا أعني زيداً. وعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم إذا قلت عشرون درهماً.
ومثله في الانقطاع من أوله: إن لفُلان والله مالاً إلا أنه شقيّ؛ فأنه لا يكون أبداً على إن لفلان، وهو في موضع نصبٍ وجاء على معنى: ولكنه شقيّ.
؟هذا بابٌ يختار فيه النصب
لأن الآخِر ليس من النوع الأول وهو لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: ما فيها أحد إلا حماراً، جاءوا به على معنى ولكن حماراً، وكرهوا أن يُبدلوا الآخِر من الأول، فيصيرَ كأنه من نوعه، فحُمل على معنى ولكن، وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم.
وأما بنو تميم فيقولون: لا أحدَ فيها إلا حمارٌ، أرادوا ليس فيها إلا حمار، ولكنه ذكر أحداً توكيداً لأن يُعلم أن ليس فيها آدميّ، ثم أبدل فكأنه قال: ليس فيها إلا حمارٌ. وإن شئت جعلته إنسانها. قال الشاعر، وهو أبو ذؤيب الهذلي:
فإن تُمسِ في قبرٍ برَهوَةَ ثاوياً ... أنيسُك أصداءُ القبور تصيحُ
فجعلهم أنيسَه. ومثل ذلك قوله: ما لي عتابٌ إلا السيف، جعله عتابه. كما أنك تقول: ما أنت إلا سيراً، إذا جعلته هو السير. وعلى هذا أنشدت بنو تميم قولَ النابغة الذبياني:
يا دارَ ميّةَ بالعلياء فالسّندِ ... أقوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... عيّتْ جواباً وما بالرّبع من أحدِ


إلا أُواريُّ لأياً ما أبيّنها ... والنّؤيُ كالحوض بالمظلومة الجلَدِ
وأهل الحجاز ينصبون.
ومثل ذلك قوله:
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلا اليَعافيرُ وإلا العيسُ
جعلها أنيسها. وإن شئت كان على الوجه الذي فسّرته في الحمار أول مرة.
وهو في كلا المعنيين إذا لم تنصب بدلٌ.
ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطانٌ إلا التكلف، لأن التكلف ليس من السلطان. وكذلك: إلا أنه يتكلف، هو بمنزلة التكلف. وإنما يجيء هذا على معنى ولكنْ. ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ ذكره: " ما لهم به من عِلمٍ إلا اتّباعَ الظنّ " ، ومثله: " وإن نشأْ نُغرقْهُم فلا صريحَ لهم ولا هُم يُنقَذون. إلا رحمةً منا " . ومثل ذلك قول النابغة:
حلفتُ يميناً غيرَ ذي مَثنَوِيةٍ ... ولا عِلمَ إلا حُسنَ ظنٍّ بصاحبِ
وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله، يجعلون اتّباع الظن علمهم، وحُسنَ الظن علمه، والتكلّف سلطانه. وهم يُنشدون بيت ابن الأيهم التغلبي رفعاً:
ليس بيني وبين قيسٍ عِتابُ ... غيرُ طعنِ الكُلى وضربِ الرّقابِ
جعلوا ذلك العتاب.
وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرنا.
وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله:
وخيلٍ قد دلَفتُ لها بخيلٍ ... تحيةُ بينِهم ضربٌ وَجيعُ
جعل الضرب تحيّتَهم، كما جعلوا اتّباع الظن علمَهم. وإن شئت كانت على ما فسّرتُ لك في الحمار إذا لم تجعله أنيسَ ذلك المكان. وقال الحارث بن عُبار:
والحربُ لا يبقى لجا ... حمِها التّخيلُ والمِراحُ
إلا الفتى الصبّارُ في الن ... جَدَات والفرسُ الوَقاحُ
وقال:
لم يغذُها الرِّسلُ ولا أيسارُها ... إلا طريُّ اللحمِ واستجزارُها
وقال:
عشيةَ لا تُغني الرماحُ مكانها ... ولا النّبلُ إلا المشرَفيّ المصَمّمُ
وهذا يقوي: ما أتاني زيدٌ إلا عمرٌو، وما أعانه إخوانُكم إلا إخوانُه؛ لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها.
؟باب ما لا يكون إلا على معنى ولكن
فمن ذلك قوله تعالى: " لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا مَن رحم " أي ولكن من رحم. وقوله عز وجلّ: " فلولا كانت قرية آمنتْ فنفعها إيمانُها إلا قومَ يونسَ لمّا آمنوا " أي ولكن قوم يونس لما آمنوا. وقوله عز وجل: " فلولا كانَ من القرون من قبلِكم أولوا بقيةٍ ينهونَ عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم " ، أي ولكن قليلاً مما أنجينا منهم. وقوله عز وجلّ: " أُخرِجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربُّنا الله " ، أي ولكنهم يقولون: ربُنا الله.
وهذا الضربُ في القرآن كثير.
ومن ذلك من الكلام: لا تكوننّ من فلان في شيء إلا سلاماً بسلام.
ومثل ذلك أيضاً من الكلام فيما حدّثنا أبو الخطاب: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضرّ. فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضّرر. كما أنك إذا قلت: ما أحسنَ ما كلّم زيداً، فهو ما أحسنَ كلامَ زيداً. ولولا ما لم يجز الفعل بعدُ إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسنَ بغير ما، كأنه قال: ولكنه ضرّ، وقال: ولكنه نقص. هذا معناه.
ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهنّ فلولٌ من قِراعِ الكتائب
أي ولكن سيوفهم بهن فلول. وقال النابغة الجعدي:
فتى كمُلت خيراتُه غير أنه ... جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا
كأنه قال: ولكنه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق:
وما سجنوني غيرَ أني ابنُ غالبٍ ... وأني من الأثرَيْنَ غير الزّعانفِ
كأنه قال: ولكني ابنُ غالب. ومثل ذلك في الشعر كثيرٌ. ومثل ذلك قوله، وهو قول بعض بني مازن يقال له عنزُ بن دجاجة:
من كان أشركَ في تفرّق فالجٍ ... فلَبُونه جرِبَت معاً وأغدّتِ
إلا كناشرةَ الذي ضيّعتُم ... كالغُصن في غُلوائه المنبّتِ
كأنه قال: ولكن هذا كناشرة. وقال:
لولا ابنُ حارثة الأميرُ لقد ... أغضيْتَ من شتمي على رغمِ
إلا كمُعرضٍ المحسّرِ بَكرَه ... عَمداً يسبّبُني على الظُلْم
؟باب ما تكون فيه أنّ وأنْ مع صلتهما
بمنزلة غيرهما من الأسماء


وذلك قولهم ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا، فأنّ في موضع اسم مرفوع كأنه قال: ما أتاني إلا قولُهم كذا وكذا.
ومثل ذلك قولهم: ما منعني إلا أن يغضب عليّ فلانٌ.
والحجةُ على أنّ هذا في موضع رفع أنّ أبا الخطاب حدّثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم، مَن يُنشد هذا البيت رفعاً للكناني:
لم يمنع الشربَ منها غيرُ أنْ نطقَتْ ... حمامة في غصونٍ ذات أوقالِ
وزعموا أن ناساً من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع، فقال الخليل رحمه الله: هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع، فكذلك غير أن نطقت. وكما قال النابغة:
على حين عاتَبتُ المشيبَ على الصّبا ... وقلتُ ألمّا أصْحُ والشيبُ وازعُ
كأنه جعل حين وعاتبتُ اسماً واحداً.
؟باب لا يكون المستثنى فيه إلا نصباً
لأنه مخرَجٌ مما أدخلت فيه غيره، فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت: له عشرون درهماً. وهذا قول الخليل رحمه الله، وذلك قولك: أتاني القومُ إلا أباك، ومررتُ بالقوم إلا أباك، والقوم فيها إلا أباك وانتصب الأب إذ لم يكن داخلاً فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة، وكان العاملُ فيه ما قبله من الكلام؛ كما أن الدرهم ليس بصفة للعشرين ولا محمولٍ على ما حُملت عليه وعمل فيها.
وإنما منع الأبَ أن يكون بدلاً من القوم أنك لو قلت أتاني إلا أبوك كان مُحالاً. وإنما جاز ما أتاني القومُ إلا أبوك لأنه يحسن لك أن تقول: ما أتاني إلا أبوك فالمبدَل إنما يجيء أبداً كأنه لم يُذكَر قبله شيء لأنك تُخلي له الفعل وتجعله مكان الأول. فإذا قلت: ما أتاني القومُ إلا أبوك فكأنك قلت: ما أتاني إلا أبوك.
وتقول: ما فيهم أحدٌ إلا وقد قال ذلك إلا زيداً، كأنه قال: قد قالوا ذلك إلا زيداً.
؟باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً
بمنزلة مثلٍ وغيرٍ
وذلك قولك: لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبنا.
والدليل على أنه وصف أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيدٌ لهلكْنا وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلتَ. ونظر ذلك قوله عزّ وجلّ: " لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدَتا " .
ونظير ذلك من الشعر قوله، وهو ذو الرمة:
أنيخَت فألقتْ بلدةً فوق بلدةٍ ... قليلٍ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
كأنه قال: قليلٍ بها الأصوات غيرُ بغامها، إذا كانت غيرُ غيرَ استثناء.
ومثل ذلك قوله تعالى: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضّرَر " ، وقوله عزّ وجلّ ذكره: " صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوبِ عليهم " . ومثل ذلك في الشعر للبيد بن ربيعة:
وإذا أُقرضتَ قرضاً فاجرِه ... إنما يجزي الفتى غيرُ الجملْ
وقال أيضاً:
لو كان غيري سُليمى اليومَ غيّرَهُ ... وقعُ الحوادث إلا الصارمُ الذّكرُ
كأنه قال: لو كان غيري غيرُ الصارم الذكر، لغيّره وقع الحوادث، إذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى. والمعنى أنه أراد أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيّره شيء.
وإذا قال: ما أتاني أحد إلا زيد، فأنت بالخيار إن شئت جعلت إلا زيد بدلاً، وإن شئت جعلته صفةً. ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيدٌ وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة مثل، وإنما يجوز ذلك صفة.
ونظير ذلك من كلام العرب أجمعون، لا يجري في الكلام إلا على اسم، ولا يعمل فيه ناصبٌ ولا رافعٌ ولا جارّ.
وقال عمرو بن معدي كرب:
وكلُ أخٍ مُارقُه أخوه ... لعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ
كأنه قال: وكلُ أخ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه، إذا وصفتَ به كُلاً، كما قال الشمّاخ:
وكلُ خليلٍ غيرُ هاضم نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو مُعازرُ
ولا يجوز رفع زيد على إلا أن يكون، لأنك لا تضمِر الاسم الذي هذا من تمامه، لأن أنْ يكون اسماً.
؟هذا باب ما يقدَّم فيه المستثنى
وذلك قولك: ما فيها إلا أباك أحدٌ، وما لي إلا أباك صديقٌ.


وزعم الخليل رحمه الله أنهم إنما حملهم على نصب هذا أن المستثني إنما وجهه عندهم أن يكون بدلاً ولا يكون مبدَلاً منه؛ لأن الاستثناء إنما حدّه أن تَدارَكَه بعد ما تنفي فتُبدِله، فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجه قد يجوز إذا أخّرتَ المستثني، كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفةً في قولهم: فيها قائماً رجلٌ، حملوه على وجه قد يجوز لو أخّرتَ الصفة، وكان هذا الوجهُ أمثلَ عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه. قال كعب بن مالك:
الناسُ ألبٌ علينا فيك، ليس لنا ... إلا السيوفَ وأطرافَ القنا وزَرُ
سمعناه ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم، كراهية أن يجعلوا ما حدُّ المستثني أن يكون بدلاً منه بدلاً من المستثنى.
ومثل ذلك: ما لي إلا أباك صديقٌ.
فإن قلت: ما أتاني أحدٌ إلا أبوك خيرٌ من زيد، وما مررتُ بأحدٍ إلا عمرو خيرٍ من زيد وما مررتُ بأحد إلا عمرو خيرٍ من زيدٍ، كان الرفع والجرّ جائزين، وحسُن البدل لأنك قد شغلت الرافعَ والجارّ، ثم أبدلتَه من المرفوع والمجرور، ثم وصفتَ بعد ذلك.
وكذلك: مَن لي إلا أبوك صديقاً؛ لأنك أخليت مَن للأب ولم تُفرده لأن يعمل كما يعمل المبتدأ.
وقد قال بعضهم: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيداً خيرٍ منه، وكذلك مَن لي إلا زيداً صديقاً، وما لي أحدٌ إلا زيداً صديقٌ؛ كرهوا أن يقدّموا وفي أنفسهم شيء من صفته إلا نصباً، كما كرهوا أن يقدَّم قبل الاسم إلا نصباً.
وحدّثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد، فيجعلون أحداً بدلاً كما قالوا: ما مررتُ بمثله أحد، فجعلوه بدلاً. وإن شئت قلت: ما لي إلا أبوك صديقاً، كأنك قلت: لي أبوك صديقاً، كما قلت: مَن لي إلا أبوك صديقاً حين جعلتَه مثلَ: ما مررتُ بأحدٍ إلا أبيك خيراً منه. ومثله قول الشاعر، وهو الكَلحَبة الثعلبي:
أمرتُكمُ أمري بمنقطَع اللِّوى ... ولا أمرَ للمَعصيّ إلا مضيَّعا
كأنه قال: للمعضيّ أمرٌ مضيّعا، كما جاز فيها رجلٌ قائماً. وهذا قول الخليل رحمه الله. وقد يكون أيضاً على قوله: لا أحدَ فيها إلا زيداً.
؟هذا باب
ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخيار
وذلك قولك: ما لي إلا زيداً صديقٌ وعمراً وعمرٌو، ومَن لي إلا أباك صديقٌ وزيداً وزيدٌ.
أما النصب فعلى الكلام الأول، وأما الرفع فكأنه قال: وعمرو لي، لأن هذا المعنى لا ينقضُ ما تريد في النصب. وهذا قول يونسَ والخليل رحمهما الله.
هذا باب تثنية المستثنى
وذلك قولك: ما أتاني إلا زيدٌ إلا عمراً. ولا يجوز الرفعُ في عمرو، من قبل أن المستثنى لا يكون بدلاً من المستثنى. وذلك أنك لا تريد أن تُخرج الأول من شيء تُدخل فيه الآخِر.
وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيداً إلا عمرٌو، فتجعل الإتيان لعمرو، ويكون زيد منتصباً من حيث انتصب عمرو، فأنت في ذا بالخيار إن شئت نصبت الأول ورفعت الآخر، وإن شئت نصبتَ الآخِر ورفعت الأول.
وتقول: ما أتاني إلا عمراً إلا بِشراً أحدٌ، كأنك قلت: ما أتاني إلا عمراً أحدٌ إلا بِشرٌ، فجعلتَ بشراً بدلاً من أحد ثم قدّمت بشراً فصار كقولك: ما لي إلا بشراً أحدٌ؛ لأنك إذا قلت: ما لي إلا عمراً أحدٌ إلا بشرٌ، فكأنك قلت: ما لي أحدٌ إلا بشرٌ.
والدليل على ذلك قول الشاعر، وهو الكُميتُ:
فما لي إلا اللهُ لا رَبَّ غيرَه ... وما لي إلا اللهَ غيرَك ناصرُ
فغيرَك بمنزلة إلا زيداً.
وأما قوله، وهو حارثة بن بدر الغُدانيّ:
يا كعبُ صبراً على ما كان من حدثٍ ... يا كعبُ لم يبقَ منا غيرُ أجلادِ
إلا بقيّاتُ أنفاسٍ تُحشرِجُها ... كراحلٍ رائحٍ أو باكرٍ غادي
فإن غير ههنا بمنزلة مثل، كأنك قلت: لم يبقَ منها مثلُ أجلادٍ إلا بقياتُ أنفاس.
وعلى ذا أنشدَ بعض الناس هذا البيت رفعاً للفرزدق:
ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دار الخليفة إلا دارُ مروانِ
جعلوا غير صفة بمنزلة مثل، ومَن جعلها بمنزلة الاستثناء لم يكن له بدّ من أن ينصب أحدَهما، وهو قول ابن أبي إسحاق.
وأما إلا زيدٌ فإنه لا يكون بمنزلة مثل إلا صفة.


ولو قلت: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله كان جيداً، إذا كان أبو عبد الله زيداً ولم يكن غيره، لأن هذا يكرَّر توكيداً، كقولك: رأيت زيداً زيداً.
وقد يجوز أن يكون غيرَ زيد على الغلط والنسيان، كما يجوز أن تقول: رأيتُ زيداً عمراً، لأه إنما أراد عمراً فنسي فتدارك.
ومثلُ ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، إذا أردت أن تبيّن وتُوضحَ قوله:
ما لك من شيخِك إلا عملُه ... إلا رسيمُه وإلا رَمَلُهْ
؟هذا باب ما يكون مبتدأ بعد إلا
وذلك قولك: ما مررتُ بأحد إلا زيدٌ خيرٌ منه، كأنك قلت: مررت بقوم زيدٌ خيرٌ منهم، إلا أنك أدخلت إلا لتجعل زيداً خيراً من جميع من مررتَ به.
ولو قال: مررتُ بناس زيدٌ خيرٌ منهم، لجاز أن يكون قد مرّ بناس آخرين هم خيرٌ من زيد، فإنما قال: ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه ليخبر أنه لم يمرّ بأحدٍ يفضل زيداً.
ومثل ذلك قول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا. فأنْ أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا، وهو مبنيّ على حِلّ، وحِلّ مبتدأ، كأنه قال: ولكنْ حِلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا.
وأما قولهم: والله لا أفعلُ إلا أن تفعل، فأنْ تفعل في موضع نصب، والمعنى حتى تفعل، أو كأنه قال: أو تفعل. والأول مبتدأ ومبني عليه.
؟هذا باب غير
اعلم أن غيراً أبداً سوى المضاف إليه، ولكنه يكون فيه معنى إلا فيُجرى مُجرى الاسم الذي بعد إلا، وهو الاسم الذي يكون داخلاً فيما يخرج منه غيره وخارجاً مما يدخل فيه غيره.
فأما دخوله فيما يخرج منه غيرُه فأتاني القومُ غيرَ زيد، فغيرهم الذين جاءوا ولكن فيه معنى إلا، فصار بمنزلة الاسم الذي بعد إلا.
وأما خروجه مما يدخل فيه غيره فما أتاني غيرُ زيدٍ. وقد يكون بمنزلة مثل ليس فيه معنى إلا.
وكلُ موضع جاز فيه الاستثناء بإلا جاز بغيْر، وجرى مجرى الاسم الذي بعد إلا، لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى إلا. ولو جاز أن تقول: أتاني القومُ زيداً، تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصباً.
ولا يجوز أن يكون غير بمنزلة الاسم الذي يُبتدأ بعد إلا؛ وذلك أنهم لم يجعلوا فيه معنى إلا مبتدأ، وإنما أدخلوا فيه معنى الاستثناء في كل موضع يكون فيه بمنزلة مثل ويُجزئ من الاستثناء. ألا ترى أنه لو قال: أتاني غيرُ عمرٍو كان قد أخبر أنه لم يأته وإن كان قد يستقيم أن يكون قد أتاه، فقد يُستغنى به في مواضع من الاستثناء. ولو قال: ما أتاني غيرُ زيد، يريد بها منزلة مثل لكان مُجزِئاً من الاستثناء، كأنه قال: ما أتاني الذي هو غيرُ زيد، فهذا يُجزئ من قوله: ما أتاني إلا زيدٌ.
باب ما أُجري على موضع غير
لا على ما بعد غير .
زعم الخليل رحمه الله ويونس جميعاً أنه يجوز: ما أتاني غيرُ زيد وعمرو. فالوجه الجرّ. وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيدٌ وفي معناه، فحملوه على الموضع كما قال: فلسنا بالجبال ولا الحديدا فلما كان في موضع إلا زيدٌ وكان معناه كمعناه، حملوه على الموضع.
والدليل على ذلك أنك إذا قلت غيرُ زيد فكأنك قد قلت إلا زيد. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني غيرُ زيد وإلا عمرٌو، فلا يقبحُ الكلام، كأنك قلت: ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو.
؟باب يُحذف المستثنى فيه استخفافاً
وذلك قولك: ليس غيرُ، وليس إلا، كأنه قال: ليس إلا ذاك وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك تخفيفاً واكتفاءً بعلم المخاطَب وما يعني.
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهم مات حتى رأيتُه في حال كذا وكذا، وإنما يريد ما منهم واحدٌ مات. ومثل ذلك قوله تعالى جده: " وإن مِن أهلِ الكتاب إلا لَيُؤمننّ به قبلَ موته " . ومثل ذلك من الشعر قول النابغة:
كأنك من جِمال بني أُقَيشٍ ... يقعقَعُ خلفَ رجليْه بشّنِّ
أي كأنك جملٌ من جمال بني أقيش.
ومثل ذلك أيضاً قوله:
لو قلتَ ما في قومها لم تيثَمِ ... يَفضُلُها في حَسبٍ وميسَمِ
يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا هذا كما قالوا: لو أن زيداً هنا، وإنما يريدون: لكان كذا وكذا. وقولهم: ليس أحدٌ أي ليس هنا أحدٌ. فكل ذلك حُذف تخفيفاً، واستغناء بعلم المخاطَب بما يعني.
ومثل البيتين الأولين قول الشاعر، وهو ابن مُقبل:


وما الدهرُ إلا تارتانِ فمنهما ... أموتُ وأخرى أبتغي العيشَ أكدحُ
إنما يريد منهما تارة أموت وأخرى.
ومثل قولهم ليس غير: هذا الذي أمسِ، يريد الذي فعل أمس.
وقوله، وهو العجّاج: بعد اللَّتيّا واللّتيا والتي فليس حذف المضاف إليه في كلامهم بأشدّ من حذف تمام الاسم.
؟باب لا يكون وليس وما أشبههما
فإذا جاءتا وفيهما معنى الاستثناء فإن فيهما إضماراً، على هذا وقع فيهما معنى الاستثناء، كما أنه لا يقع معنى النهي في حسبك إلا أن يكون مبتدأ.
وذلك قولك: ما أتاني القومُ ليس زيداً، وأتوني لا يكون زيداً، وما أتاني أحدٌ لا يكون زيداً، كأنه حين قال: أتوني، صار المخاطَب عنده قد وقع في خلَده أن بعض الآتين زيدٌ، حتى كأنه قال: بعضُهم زيدٌ، فكأنه قال: ليس بعضهم زيداً. وترك إظهار بعضٍ استغناء، كما ترك الإظهار في لاتَ حينَ.
فهذه حالهما في حال الاستثناء، وعلى هذا وقع فيهما الاستثناء؛ فأجرهما كما أجروهما.
وقد يكون صفة، وهو قول الخليل رحمه الله. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ ليس زيداً، وما أتاني رجل لا يكون بشراً إذا جعلت ليس ولا يكون بمنزلة قولك: ما أتاني أحدٌ لا يقول ذاك، إذا كان لا يقول في موضع قائلٌ ذاك.
ويدلّك على أنه صفة أن بعضهم يقول: ما أتتني امرأةٌ لا تكون فلاة، وما أتتني امرأة ليست فلانة. فلو لم يجعلوه صفةً لم يؤنّثوه لأن الذي لا يجيء صفة فيه إضمار مذكَّر. ألا تراهم يقولون: أتينني لا يكون فلانة وليس فلانة، يريد: ليس بعضُهن فلانة، والبعض مذكّر.
وأما عدا وخلا فلا يكونان صفة، ولكن فيهما إضمار كما كان في ليس ولا يكون، وهو إضمارٌ قصته فيهما قصته في لا يكون وليس. وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ خلا زيداً، وأتاني القومُ عدا عمراً، كأنك قلت: جاوز بعضُهم زيداً. إلا أن خلا وعدا فيهما معنى الاستثناء، ولكني ذكرت جاوز لأمثّل لك به، وإن كان لا يُستعمل في هذا الموضع.
وتقول: أتاني القومُ ما عدا زيداً، وأتَوني ما خلا زيداً. فما هنا اسمٌ، وخلا وعدا صلة له كأنه قال: أتوني ما جاوز بعضُهم زيداً. وما هم فيها عدا زيداً، كأنه قال: ما هم فيها ما جوز بعضُهم زيداً، وكأنه قال: إذا مثّلتَ ما خلا وما عدا فجعلتَه اسماً غير موصول قلت: أتوني مجاوزتَهم زيداً، مثّلتَه بمصدر ما هو في معناه، كما فعلتَه فيما مضى. إلا أن جاوز لا يقع في الاستثناء.
وإذا قلت: أتوني إلا أن يكون زيدٌ فالرفع جيدٌ بالغ، وهو كثير في كلام العرب، لأن يكونُ صلةٌ لأنْ وليس فيها معنى الاستثناء، وأن يكون في موضع اسم مستثنى كأنك قلت: يأتونك إلا أن يأتيك زيد.
والدليل على أن يكون ليس فيها هنا معنى الاستثناء: أن ليس وعدا وخلا، لا يقعن ههنا.
ومثلُ الرفع قولُ الله عزّ وجلّ: " إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم " . وبعضهم ينصب، على وجه النصب في لا يكون، والرفع أكثر.
وأما حاشا فليس باسم، ولكنه حرفٌ يجر ما بعده كما تجرّ حتى ما بعدها، وفيه معنى الاستثناء. وبعضُ العرب يقول: ما أتاني القومُ خلا عبدِ الله، فيجعل خلا بمنزلة حاشا. فإذا قلت ما خلا فليس فيه إلا النصب، لأن ما اسمٌ ولا تكون صلتُها إلا الفعل ها هنا، وهي ما التي في قولك: أفعلف ما فعلتَ. ألا ترى أنك لو قلت: أتوني ما حاشا زيداً، لم يكن كلاماً.
وأما أتاني القوم سواك، فزعم الخليل رحمه الله أن هذا كقولك: أتاني القوم مكانك، وما أتاني أحدٌ مكانك، إلا أن في سواك معنى الاستثناء.
؟باب مجرى علاماتِ المضمرين
وما يجوز فيهن كلهن وسنبين ذلك إن شاء الله.
؟باب علامات المضمرين المرفوعين
اعلم أن المضمَر المرفوع، إذا حدّث عن نفسه فإن علامته أنا، وإن حدّث عن نفسه وعن آخر قال: نحنُ، وإن حدّث عن نفسه وعن آخرين قال: نحنُ.
ولا يقع أنا في موضع التاء التي في فعلْتُ، لا يجوز أن تقول فعل أنا، لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا. ولا يقع نحنُ في موضع نا التي في فعَلْنا، لا تقول فعلَ نحن.
وأما المضمَر المخاطَب فعلامته إن كان واحداً: أنت، وإن خاطبتَ اثنين فعلامتُهما: أنتُما، وإن خاطبتَ جميعاً فعلامتُهم: أنتم.


واعلم أنه لا يقع أنتَ في موضع التاء التي في فعَلْتَ، ولا أنتما في موضع تُما التي في فعلتُما. ألا ترى أنك لا تقول فعل أنتُما. ولا يقع أنتم في موضع تُمْ التي في فعلتُم، لو قلت فعل أنتم لم يجز. ولا يقع أنت في موضع التاء في فعلْتَ، ولا يقع أنتُنّ في موضع تنَّ التي في فعلتُنّ، لو قلت فعلَ أنتُنّ لم يجز.
وأما المضمَر المحدَّث عنه فعلامتُه: هو، وإن كان مؤنّثاً فعلامته: هي، وإن حدّثتَ عن اثنين فعلامتُهما: هُما. وإن حدّثتَ عن جميع فعلامتهم: هُم، وإن كان الجميع جميع المؤنّث فعلامته: هُنّ. ولا يقع هو في موضع المضمَر الذي في فعل، لو قلت فعل هو لم يجز إلا أن يكون صفةً. ولا يجوز أن يكون هُما في موضع الألف التي في ضربا، والألف التي في يضربان، لو قلت ضرب هُما أو يضربُ هُما لم يجز. ولا يقع هُم في موضع الواو التي في ضربوا، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت ضرب هُم أو يضربُ هُم لم يجز. وكذلك هي، لا تقع موضع الإضمار الذي في فعلتْ، لأن ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا يقع هُنّ في موضع النون التي في فعلْنَ ويفعلنَ، لو قلت فعل هُنّ لم يجز إلا أن يكون صفةً، كما لم يجز ذلك في المذكّر؛ فالمؤنّث يجري مجرى المذكّر.
فأنا وأن ونحن، وأنتما وأنتم وأنتنّ، وهو وهي وهُما وهُم وهنّ لا يقع شيء منها في موضع شيء من العلامات مما ذكرنا ولا في موضع المضمَر الذي لا علامةَ له، لأنهم استغنوا بهذا فأسقطوا ذلك.
؟باب استعمالهم علامة الإضمار
الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل إذا لم يقع موقعه
فمن ذلك قولهم: كيف أنت؟ وأين هو؟ من قبل أنك لا تقدر على التاء ههنا، ولا على الإضمار الذي في فعلَ. ومثل ذلك: نحن وأنتم ذاهبون؛ لأنك لا تقدر هنا على التاء والميم التي في فعلتُم كما لا تقدر في الأول على التاء في فعلتَ. وكذلك جاء عبد الله وأنت؛ لأنك لا تقدر على التاء التي تكون في الفعل. وتقول: فيها أنتم، لأنك لا تقدر على التاء والميم التي في فعلتُم ها هنا. وفيها هم قياماً، بتلك المنزلة؛ لأنك لا تقدر هنا على الإضمار الذي في الفعل.
ومثل ذلك: أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو؛ لأنك لا تقدر هنا على شيء مما ذكرنا. وكذلك: كنا وأنتم ذاهبين، ومثل ذلك أهو هو. وقال الله عزّ وجلّ: " كأنه هو وأوتينا العلم " ؛ فوقع هو ها هنا لأنك لا تقدر على الإضمار الذي في فعلَ. وقال الشاعر:
فكأنها هي بعد غِبّ كلالِها ... أو أسفعُ الخدّيْن شاةُ إرانِ
وتقول: ما جاء إلا أنا. قال عمرو بن معدي كرب:
قد علمَتْ سلمى وجاراتُها ... ما قطّر الفارس إلا أنا
وكذلك هاأناذا، وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها هما ذانك، وها هم أولئك، وها أنت ذا، وها أنتما ذان، وها أنتم أولاء، وها أنتنّ أولاء، وها هنّ أولئك.
وإنما استُعملت هذه الحروف هنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامةً في الفعل، ولا على الإضمار الذي في فعلَ.
وزعم الخليل رحمه الله أن ها هنا هي التي مع ذا إذا قلت هذا، وإنما أرادوا أن يقولوا هذا أنت، ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا؛ وأرادوا أن يقولوا أنا هذا وهذا أنا، فقدّموا ها وصارت أنا بينهما.
وزعم أبو الخطاب أن العرب الموثوقَ بهم يقولون: أنا هذا، وهذا أنا.
ومثل ما قال الخليل رحمه الله في هذا قول الشاعر:
ونحن اقتسمنا المالَ نصفين بيننا ... فقلتُ: لهم هذا لها ها وذاليا
كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصيّر الواو بين ها وذا.
وزعم أن مثل ذلك: إي ها الله ذا، إنما هو هذا.
وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدّمة، ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في هذا؛ يدلّك على هذا قوله عزّ وجل: " ها أنتم هؤلاء " فلو كانت ها ها هنا هي التي تكون أولاً إذا قلت هؤلاء، لم تُعَد ها ها هنا بعد أنتم.
وحدّثنا يونس أيضاً تصديقاً لقول أبي الخطاب، أن العرب تقول: هذا أنت تقول كذا وكذا، لم يرِد بقوله هذا أنت، أن يعرّفه نفسَه، كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره. هذا محال، ولكنه أراد أن ينبهه، كأنه قال: الحاضرُ عندنا أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت.
وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب، قال تعالى: " ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسَكم " .
؟باب علامة المضمرين المنصوبين


اعلم أن علامة المضمرين المنصوبين إيّا ما لم تقدَر على الكاف التي في رأيتك، وكُما التي في رأيتُكما، وكُم التي في رأيتكم، وكُنّ التي في رأيتكنّ، والهاء التي في رأيته، والهاء التي في رأيتها، وهُما التي في رأيتهما، وهُم التي في رأيتهم، وهنّ التي في رأيتهن، وني التي في رأيتني، ونا التي في رأيتنا.
فإن قدرت على شيء من هذه الحروف في موضع لم تُوقع إيّا ذلك الموضع لأنهم استغنوا بها عن إيّا، كما استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها.
؟باب استعمالهم إيّا
إذا لم تقع مواقع الحروف التي ذكرنا
فمن ذلك قولهم: إياك رأيتُ وإياك أعني، فإنما استعلمت إياك ها هنا من قبل أنك لا تقدر على الكاف. وقال الله عزّ وجلّ: " وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضَلال مُبين " من قبل أنك لا تقدر على كُم ههنا. وتقول: إني وإياك منطلقان، لأنك لا تقدر على الكاف. ونظير ذلك قوله تعالى جدّه: " ضلّ من تدعون إلا إياه " .
فلو قدرتَ على الهاء التي في رأيته لم تقل إياه. وقال الشاعر:
مُبَرّأٌ من عيوب الناس كلِّهمِ ... فالله يرعى أبا حربٍ وإيّانا
لأنه لا يقدر على نا التي في رأيتَنا. وقال الآخر:
لعمرك ما خشيت على عديّ ... سيوفَ بني مقيِّدة الحمارِ
ولكني خشيتُ على عديّ سيوفَ القوم أو إياك حارِ
ويُروى: رماح القوم؛ لأنه لم يقدر على الكاف.
وتقول: إن إياك رأيتُ، كما تقول إياك رأيت؛ من قبل أنك إذا قلت إن أفضلهم لقيتُ فأفضلَهم منتصب بلقيت.
فإن قلت: إن أفضلهم لقيت، فنصبت أفضلهم بإنّ فهو قبيح حتى تقول لقيتُه، وقد بُيّن وجه ذلك، وقد بيناه في باب إن وأخواتها، واستُعملت إياك لقبح الكاف والهاء ها هنا.
وتقول: عجبتُ من ضربي إياك. فإن قلت: لِمَ وقد تقع الكاف ها هنا وأخواتها، تقول عجبتُ من ضربيكَ ومن ضربيه ومن ضربيكم؟ فالعرب قد تكلّم بهذا، وليس بالكثير.
ولم تستحكم علامات الإضمار التي لا تقع إيّا مواقعها كما استحكمت في الفعل، لا يقال عجبت من ضربكَني إن بدأت به قبل المتكلم، ولا من ضربهيك إن بدأت بالبعيد قبل القريب. فلما قبُح هذا عندهم ولم تستحكم هذه الحروف عندهم في هذا الموضع صارت إيّا عندهم في هذا الموضع لذلك بمنزلتها في الموضع الذي لا يقع فيه شيء من هذه الحروف.
ومثل ذلك: كان إيّاه، لأن كانَه قليلة، ولم تستحكم هذه الحروف ها هنا، لا تقول كانني وليسني، ولا كانَك. فصارت إيّا ههنا بمنزلتا في ضربي إياك.
وتقول: أتوني ليس إياك ولا يكون إياه؛ لأنك لا تقدر على الكاف ولا الهاء ها هنا، فصارت إيّا بدلاً من الكاف والهاء في هذا الموضع.
قال الشاعر:
ليت هذا الليلَ شهرٌ ... لا نرى فيه عَريبا
ليس إيّاي وإيّا ... كَ ولا نخشى رقيبا
وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني وكذلك كانني.
وتقول: عجبتُ من ضَرب زيد أنت، ومن ضربك هو، إذا جعلت زيداً مفعولاً، وجعلت المضمَر الذي علامته الكاف فاعلاً فجاز أنت ههنا للفاعل كما جاز إيّا للمفعول، لأن إيا وأنت علامتا الإضمار، وامتناع التاء يقوّي دخولَ أنت ههنا.
وتقول: قد جرّبتُك فوجدتُك أنت أنت، فأنتَ الأولى مبتدأة والثانية مبنية عليها، كأنك قلت فوجدتُك وجهُك طليق. والمعنى أنك أردت أن تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف.
ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلتَ هذا فأنت أنت، أي فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد والجَلْد، كما تقول: الناس الناس، أي الناس بكل مكان وعلى كل حال كما تعرف.
وإن شئت قلت: قد وليتَ عملاً فكنتَ أنت إياك، وقد جرّبتُك فوجدتُك أنت إياك، جعلتَ أنت صفة وجعلت إياك بمنزلة الظريف إذا قلت: فوجدتُك أنت الظريف. والمعنى أنك أردت أن تقول وجدتُك كما كنتُ أعرف. وهذا كله قول الخليل رحمه الله، سمعناه منه.
وتقول: أنت أنت، تكرّرها، كما تقول للرجل أنت وتسكت، على حد قولك: قال الناس زيد. وعلى هذا الحد تقول: قد جُرّبْتَ فكنتَ كنت، إذا كرّرتها توكيداً، وإن شئت جعلت كنتَ صفةً، لأنك قد تقول: قد جُرّبت فكنت، ثم تسكت.
؟باب الإضمار فيما جرى مجرى الفعل


وذلك إن ولعلّ وليتَ وأخواتها، ورُويد ورُويدك وعليكَ وهلمّ وما أشبه ذلك. فعلامات الإضمار حالهن ها هنا كحالهن في الفعل، لا تقوى أن تقول: عليك إياه ولا رُويدَ إيّاه؛ لأنك قد تقدر على الهاء، تقول عليكَه ورُويدَه. ولا تقول: عليك إياي، لأنك قد تقدر على ني.
وحدثنا يونس أنه سمع من العرب من يقول عليكَني، من غير تلقين، ومنهم من لا يستعمل ني ولا نا في ذا الموضع استغناءً بعليك بي وعليك بنا عن ني ونا، وإياي وإيانا.
ولو قلت عليك: إياه كان ها هنا جائزاً في عليك وأخواتها، لأنه ليس بفعل وإن شبِّه به. ولم تقو العلامات ها هنا كما قويت في الفعل، فهي مضارعة في ذلك الأسماء.
واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيت فيها إياك، ورأيت اليوم إياه؛ من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي هو سوي إيّا، وهو الكاف التي في رأيتك فيها، والهاء التي في رأيته اليوم، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل ولم ينقض معنى ما أرادوا لم تكلموا بأياك، استغنوا بهذا عن إياك وإياه. ولو جاز هذا لجاز ضربَ زيدٌ إياك وإنّ فيها إياك، ولكنهم لما وجدوا إنك فيها وضربَه زيدٌ، ولم ينقض معنى ما أرادوا لو قالوا: إن فيها إياك، وضرب زيدٌ إياك استغنوا به عن إيّا.
وأما: ما أتاني إلا أنت، وما رأيت إلا إياك، فإنه لا يدخل على هذا؛ من قبل أنه لو أخّر إلا كان الكلام محالاً. ولو أسقط إلا كان الكلام منقلب المعنى وصار الكلام على معنى آخر.
؟باب ما يجوز في الشعر من إيّا
ولا يجوز في الكلام فمن ذلك قول حُميد الأرقط:
إليك حتّى بلغتْ إيّاكا وقال الآخر، لبعض اللصوص:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قتلنا منهمُ كلَّ ... فتى أبيضَ حُسّانا
؟باب علامة إضمار المجرور
اعلم أن أنت وأخواتها لا يكنّ علامات لمجرور، من قبل أن أنت اسم مرفوع، ولا يكون المرفوع مجروراً. ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ بزيد وأنت، لم يجز. ولو قلت: ما مررتُ بأحد إلا أنت لم يجز. ولا يجوز إيّا أن تكون علامةً لمضمر مجرور، من قبل أن إيّا علامةٌ للمنصوب، فلا يكون المنصوب في موضع المجرور، ولكن إضمار المجرور علاماته كعلامات المنصوب التي لا تقع مواقعَهن إيّا، إلا أن تضيف الى نفسك نحو قولك: بي ولي وعندي.
وتقول: مررتُ بزيد وبك، وما مررتُ بأحد إلا بك، أعدتَ مع المضمَر الباء من قبل أنهم لا يتكلمون بالكاف وأخواتها منفردة، فلذلك أعادوا الجارّ مع المضمَر. ولم توقِع إيّا ولا أنت ولا أخواتها ههنا من قبل أن المنصوب والمرفوع لا يقعان في موضع المجرور.
؟باب إضمار المفعولَين
اللذين تعدّى إليهما فعلُ الفاعل
اعلم أن المفعول الثاني قد تكون علامته إذا أُضمَر في هذا الباب العلامة التي لا تقع إيّا موقعها، وقد تكون علامتُه إذا أُضمَر إيّا.
فأما علامة الثاني التي لا تقع إيا موقعها فقولك: أعطانيه وأعطانيك، فهذا هكذا إذا بدأ المتكلم بنفسه. فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكَني، أو بدأ بالغائب قبل نفسه فقال: قد أعطاهوني، فهو قبيح لا تكلّمُ به العرب، ولكن النحويين قاسوه.
وإنما قبُح عند العرب كراهيةَ أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب، ولكن تقول أعطاك إيّاي، وأعطاه إياي، فهذا كلام العرب. وجعلوا إيّا تقع هذا الموقع إذ قبُح هذا عندهم كما قالوا: إياك رأيتُ، وإياي رأيت، إذ لم يجز لهم ني رأيتَ ولا كَ رأيتُ.
فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطَباً وغائباً، فبدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب، فإن علامة الغائب العلامةُ التي لا تقع موقعها إيّا، وذلك قوله: أعطيتُكَه وقد أعطاكَه، وقال عزّ وجلّ: " فعُمّيَتْ عليكم أنُلزمُكموها وأنتم لها كارهون " . فهذا هكذا إذا بدأتَ بالمخاطَب قبل الغائب.
وإنما كان المخاطَب أولى بأن يُبدأ به من قبل أن المخاطَب أقرب الى المتكلم من الغائب، فكما كان المتكلم أولى بأن يبدأ بنفسه قبل المخاطَب، كان المخاطَب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يُبدأ به من الغائب.
فإن بدأت بالغائب فقلت: أعطاهوكَ، فهو في القبح وأنه لا يجوز، بمنزلة الغائب والمخاطَب إذا بُدئ بهما قبل المتكلم، ولكنك إذا بدأت بالغائب قلت قد أعطاه إياك.


وأما قول النحويين: قد أعطاهوك وأعطاهوني، فإنما هو شيء قاسوه لم تكلّم به العرب، ووضعوا الكلام في غير موضعه، وكان قياس هذا لو تُكلّم به كان هيّناً.
ويدخل على مَن قال هذا أن يقول الرجل إذا منحته نفسه: قد منحتنيني. ألا ترى أن القياس قد قبُح إذا وضعت ني في غير موضعها، فإذا ذكرتَ مفعولين كلاهما غائب فقلت أعطاهوها وأعطاهاه، جاز، وهو عربي. ولا عليك بأيّهما بدأت، من قبل أنهما كلاهما غائب.
وهذا أيضاً ليس بالكثير في كلامهم؛ والأكثر في كلامهم: أعطاه إياه. على أنه قد قال الشاعر:
وقد جعلتْ نفسي تطيبُ لضَغمةٍ ... لضغمِهِماها يقرعُ العَظمَ نابُها
ولم تستحكم العلامات ها هنا كما لم تستحكم في: عجبت من ضَربي إيّاك، ولا في كان إياه، ولا في ليس إياه.
وتقول: حسبتُك إياه، وحسبتني إياه؛ لأن حسبتُنيه وحسبتُكَه قليل في كلامهم؛ وذلك لأن حسبتُ بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال.
ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ. والمنصوبان بعد حسبتُ بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبتُ وكان؛ لأنهما إنما يجعلان المبتدأ والمبني عليه فيما مضى يقيناً أو شكّاً أو عِلماً، وليس بفعل أحدثته منك الى غيرك كضربتُ وأعطيتُ، إنما يجعلان الأمر في علمك يقيناً أو شكّاً فيما مضى.
ولا يجوز أن تقول ضربتُني ولا ضربتُ إيّاي، لا يجوز واحدٌ منهما لأنهم قد استغنوا عن ذلك بضربتُ نفسي وإيّاي ضربتُ.
؟باب لا تجوز فيه علامة المضمَر
المخاطَب ولا علامة المضمَر المتكلم، ولا علامة المضمَر المحدَّث عنه الغائب
وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول للمخاطَب: اضرِبْكَ، ولا اقتُلْكَ ولا ضربْتَك، لما كان المخاطب فاعلاً وجعلت مفعوله نفسه قبُح ذلك، لأنهم استغنوا بقولهم اقتُل نفسك وأهلكتَ نفسك، عن الكاف ها هنا وعن إياك.
وكذلك المتكلم، لا يجوز له أن يقول أهلكتُني ولا أُهلكُني لأنه جعل نفسه مفعوله فقبُح؛ وذلك لأنهم استغنوا بقولهم أنفعُ نفسي عن ني، وعن إياي.
وكذلك الغائب لا يجوز لك أن تقول ضربه إذا كان فاعلاً وكان مفعوله نفسه؛ لأنهم استغنوا عن الهاء وعن إياه بقولهم ظلم نفسه وأهلك نفسه، ولكنه قد يجوز ما قبح ها هنا في حسبتُ وظننت وخلتُ، وأُرى وزعمتُ، ورأيت إذا لم تعنِ رؤية العين، ووجدتُ إذا لم ترد وجدان الضالة، وجميع حروف الشك، وذلك قولك: حسبتُني وأراني ووجدتُني فعلت كذا وكذا، ورأيتُني لا يستقيم لي هذا. وكذلك ما أشبه هذه الأفعال، تكون حال علامات المضمَرين المنصوبين فيها إذا جعلت فاعليهم أنفسهم كحالها إذا كان الفاعل غير المنصوب.
ومما يثبت علامة المضمَرين المنصوبين ها هنا أنه لا يحسن إدخال النفس ها هنا. لو قلت يظن نفسه فاعلةً وأظن نفسي فاعلةً على حد يظنه وأظنني ليُجزئَ هذا من ذا لم يُجزئ كما أجزأ أهلكتَ نفسك عن أهلكتَك، فاستُغنى به عنه.
وإنما اقترفتْ حسبتُ وأخواتها والأفعال الأُخَر لأن حسبت وأخواتها إنما أدخلوها على مبتدأ ومبني عليه لتجعل الحديث شكاً أو علماً. ألا ترى أنك لا تقتصر على المنصوب الأول كما لا تقتصر عليه مبتدأ، والأفعال الأخَر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ والأسماء مبنية عليها. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبني على المبتدأ، فلما صارت حسبتُ وأخواتُها بتلك المنزلة جُعلتْ بمنزلة إن وأخواتها إذا قلت إنني ولعلّني ولكنني وليتني، لأن إن وأخواتها لا يُقتصر فيها على الاسم الذي يقع بعدها لأنها إنما دخلت على مبتدأ ومبني على مبتدأ.
وإذا أردت برأيتُ رؤية العين لم يجز رأيتُني؛ لأنها حينئذ بمنزلة ضربْتُ. وإذا أردتَ التي بمنزلة علمتُ صارت بمنزلة إن وأخواتها، لأنهن لسن بأفعال، وإنما يجئن لمعنى. وكذلك هذه الأفعال إنما جئن لعلمٍ أو شك، ولم يُردْ فعلاً سلف منه الى إنسان يبتدئه.
؟باب علامة إضمار المنصوب
المتكلم والمجرور المتكلم
اعلم أن علامة إضمار المنصوب المتكلم ني، وعلامة إضمار المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول إذا أضمرتَ نفسك وأنت منصوب: ضربني وقتلني، وإنني ولعلني.
وتقول إذا أضمرت نفسك مجروراً: غلامي، وعندي ومعي.


فإن قلت: ما بال العرب قد قالت: إني وكأني ولعلي ولكني؟ فإنه زعم أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة في كلامهم، وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف، فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف، حذفوا التي تلي الياء.
فإن قلت: لعلي ليس فيها نون. فإنه زعم أن اللام قريب من النون، وهو أقرب الحروف من النون. ألا ترى أن النون قد تُدغَم مع اللام حتى تبدَل مكانها لام، وذلك لقربها منها، فحذفوا هذه النون كما يحذفون ما يكثر استعمالهم إياه.
وسألته رحمه الله عن الضاربي فقال: هذا اسم، ويدخله الجرّ، وإنما قالوا في الفعل: ضربني ويضربني، كراهية أن يدخلوا الكسرة في هذه الباء كما تدخل الأسماء، فمنعوا هذا أن يدخله كما مُنع الجر.
فإن قلت: قد تقول اضرِب الرجل فتكسرُ، فإنك لم تكسرها كسراً يكون للأسماء، إنما يكون هذا لالتقاء الساكنين. قد قال الشعراء: ليتي إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا الضاربي والمضمَر منصوب. قال الشاعر زيد الخليل:
كمُنية جابرٍ إذ قال ليتي ... أصادفه وأفقدُ جلَّ مالي
وسألته رحمه الله عن قولهم عني وقدْني، وقطْني ومني ولدُنّي، فقلت: ما بالهم جعلوا علامة إضمار المجرور ها هنا كعلامة إضمار المنصوب؟ فقال: إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحرّكاً مكسوراً، ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في قطْ ولا النون التي في مِن، فلم يكن لهم بدّ من أن يجيئوا بحرف لياء الإضافة متحرك إذ لم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا النونات؛ لأنها لا تئكَر أبداً إلا وقبلها حرف متحرك مكسور. وكانت النون أولى لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم؛ فجاءوا بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار وكرهوا أن يجيئوا بحرف غير النون فيخرجوا من علامات الإضمار.
وإنما حملهم على أن لا يحركوا الطاء والنونات كراهيةُ أن تشبه الأسماء نحو يدٍ وهَنٍ. وأما ما تحرّك آخره فنحو مع ولدُ كتحريك أواخر هذه الأسماء؛ لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر هذه الأسماء. فمن ثمّ لم يجعلوها بمنزلتها. فمن ذلك قولك معي، ولدي في لَدُ.
وقد جاء في الشعر: قطِي وقَدي. فأما الكلام فلابدّ فيه من النون، وقد اضطرّ الشاعر فقال قدِي، شبّهه بحسبي؛ لأن المعنى واحد. قال الشاعر:
قدْني من نصر الخُبيبَين قدِي ... ليس الإمامُ بالشحيح المُلحدِ
لما اضطرّ شبهه بحسبي وهَني؛ لأن ما بعد هنٍ وحسب مجرور كما أن ما بعد قد مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قال ليتي حيث اضطرّ فشبّهه بالاسم نحو الضاربي؛ لأن ما بعدهما في الإظهار سواء، فلما اضطرّ جُعل ما بعدهما في الإضمار سواءً.
وسألناه رحمه الله عن إلى ولدى وعلى فقلنا: هذه الحروف ساكنة، ولا ترى النون دخلتْ عليها. فقال: من قبل أن الألف في لدى والياء في على اللذين قبلهما حرف مفتوح لا تحرّكُ في كلامهم واحدة منهما لياء الإضافة، ويكون التحريك لازماً لياء الإضافة، فلما علموا أن هذه المواضع ليس لياء الإضافة عليها سبيلٌ بتحريك، كما كان لها السبيل على سائر حروف المُعجم لم يجيئوا بالنون، إذ علموا أن الياء في ذا الموضع والألف ليستا من الحروف التي تحرّك لياء الإضافة.
ولو أضفت الى الياء الكاف التي تجرّ بها لقلت: ما أنت كِي، والفتح خطأ وهي متحركة كما أن أواخر الأسماء متحركة، وهي تجرّ كما أن الأسماء تجرّ، ولكن العرب قلما تكلموا بذا.
وأما قطْ وعن ولدُن فإنهن تباعدنَ من الأسماء، ولزمهن ما لا يدخل الأسماء المتمكنة، وهو السكون، وإنما يدخل ذلك على الفعل نحو خُذْ وزِنْ، فضارعت الفعل وما لا يُجَرّ أبداً، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت مجراه ولم يحرّكوه.
؟هذا باب
ما يكون مضمَراً فيه الاسم متحولاً عن حاله
إذا أُظهر بعده الاسم
وذلك لولاك ولولاي، إذا أضمرت الاسم فيه جُرّ، وإذا أظهرت رُفع. ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت لولا أنت، كما قال سبحانه: " لولا أنتم لكنّا مؤمنين " ؛ ولكنهم جعلوه مضمَراً مجروراً.
والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامةَ مضمَر مرفوع. قال الشاعر، يزيد بن الحكَم:
وكم موطنٍ لولايَ طِحتَ كما هوى ... بأجرامه من قُلةِ النّيقِ مُنهَوي


وهذا قول الخليل رحمه الله ويونس.
وأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز، وهو رؤبة: يا أبتا علّك أو عساكا والدليل على أنها منصوبة أنك إذا عنيت نفسك كانت علامتُك ني. قال عمران بن حطآن:
ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تُنازعني لعلّي أو عساني
فلو كانت الكاف مجرورة لقال عساي، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعلّ في هذا الموضع.
فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان للدُنْ حالٌ مع غُدوة ليست مع غيرها، وكما أن لات إذا لم تُعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها، فهي معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها فليس لها عمل. ولا يستقيم أن تقول وافق الرفعُ الجرَّ في لولاي، كما وافق النصبُ الجرّ حين قلت: معك وضربَك؛ لأنك إذا أضفت الى نفسك اختلفا، وكان الجر مفارِقاً للنصب في غير الأسماء. ولا تقل: وافق الرفعُ النصبَ في عساني كما وافق النصبُ الجرّ في ضرْبَك ومعك، لأنهما مختلفان إذا أضفت الى نفسك كما ذكرتُ لك.
وزعم ناس أن الياء في لولاي وعساني في موضع رفع، جعلوا لولاي موافقةً للجرّ، وني موافقةً للنصب، كما اتفق الجرّ والنصب في الهاء والكاف. وهذا وجه رديء لما ذكرت لك، ولأنك لا ينبغي لك أن تكسر الباب وهو مطّرد وأنت تجد له نظائر. وقد يوجَّه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجَد غيره. وربما وقع ذلك في كلامهم، وقد بُيّن بعض ذلك وستراه فيما تستقبل إن شاء الله.
؟باب ما تردّه علامةُ الإضمار الى أصله
فمن ذلك قولك: لعبد الله مالٌ، ثم تقول لك مالٌ وله مال، فتفتح اللام، وذلك أن اللام لو فتحوها في الإضافة لالْتبستْ بلام الابتداء إذا قال إن هذا لعليّ ولهذا أفضل منك، فأرادوا أن يميزوا بينهما، فلما أضمروا لم يخافوا أن تلتبس بها، لأن هذا الإضمار لا يكون للرفع ويكون للجرّ. ألا تراهم قالوا: يا لَبكرٍ، حين نادوا؛ لأنهم قد علموا أن تلك اللام لا تدخل ها هنا.
وقد شبّهوا به قولهم: أعطيتُكموه، في قول من قال: أعطيتُكم ذلك فيجزم، ردّه بالإضمار الى أصله، كما ردّه بالألف واللام، حين قال: أعطيتُكم اليوم، فشبّهوا هذا بلكَ وله وإن كان ليس مثله، لأن من كلامهم أن يشبهوا الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله. وقد بيّنّا ذلك فيما مضى، وستراه فيما بقي.
وزعم يونس أنه يقول: أعطيتُكُمْهُ وأعطيتُكُمْها، كما يقول في المظهر. والأول أكثر وأعرف.
باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمَر
فيما عمل وما يقبح أن يشرك المظهر المضمَر فيما عمل فيه.
أما ما يحسن أن يشركه المظهر فهو المضمر المنصوب، وذلك قولك: رأيتك وزيداً، وإنك وزيداً منطلقان.
وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو المضمر في الفعل المرفوع وذلك قولك: فعلت وعبدُ الله، وأفعل وعبدُ الله.
وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أن هذا الإضمار يُبنى عليه الفعل، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمَراً يغيّر الفعل عن حاله إذا بعد منه.
وإنما حسنتْ شِركتُه المنصوب لأنه لا يغيَّر الفعل فيه عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر، فأشبه المظهر وصار منفصلاً عندهم بمنزلة المظهر، إذ كان الفعل لا يتغيّر عن حاله قبل أن يضمَر فيه.
وأما فعلتُ فإنهم قد غيّروه عن حاله في الإظهار، أُسكنتْ فيه اللام فكرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً يُبنى له الفعل غير بنائه في الإظهار حتى صار كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيتُ.
فإن نعتّه حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيدٌ، وقال الله عزّ وجلّ: " اذهبْ أنت وربُّك " و: " اسكُنْ أنت وزوجُك الجنة " . وذلك أنك لما وصفتَه حسن الكلام حيث طوّله وأكّده كما قال: قد علمتُ أن لا تقول ذاك، فإن أخرجتَ لا قبُح الرفع.
فأنت وأخواتها تقوّي المضمَر وتصير عوضاً من السكون والتغيير ومِن ترك العلامة في مثل ضربَ. وقال الله عزّ وجلّ: " لو شاء اللهُ ما أشركنا ولا آباؤُنا ولا حرّمنا " ، حسُن لمكان لا. وقد يجوز في الشعر، قال الشاعر:
قلتُ إذ أقبلتْ وزُهْرٌ تَهادى ... كنعاجِ الملا تعسّفْنَ رملا


واعلم أنه قبيح أن تصف المضمَر في الفعل بنفسك وما أشبهه؛ وذلك أنه قبيح أن تقول فعلتَ نفسُك، إلا أن تقول: فعلت أنت نفسُك. وإن قلت فعلتم أجمعون حسن؛ لأن هذا يعمّ به. وإذا قلت نفسُك فإنما تريد أن تؤكد الفاعل، ولما كانت تفسُك يتكلم بها مبتدأة وتحمل على ما يُجرّ ويُنصب ويُرفع، شبهوها بما يشرك المضمَر، وذلك قولك: نزلتُ بنفس الجبل، ونفس الجبل مُقابلي، ونحو ذلك.
وأما الأجمعون فلا يكون في الكلام إلا صفة.
وكلُّهم قد تكون بمنزلة أجمعين لأن معناها معنى أجمعين، فهي تجري مجراها.
وأما علامة الإضمار التي تكون منفصلة من الفعل ولا تغيّر ما عمل فيها عن حاله إذا أُظهر فيه الاسم فإنه يشركها المظهر؛ لأنه يشبه المظهر، وذلك قولك: أنت وعبدُ الله ذاهبان، والكريم أنت وعبدُ الله.
واعلم أنه قبيح أن تقول: ذهبت وعبدُ الله، وذهبتُ وعبدُ الله، وذهبت وأنا، لأن أنا بمنزلة المظهر. ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجيء في الشعر. قال الراعي:
فلما لحقنا والجيادُ عشيةً ... دعَوا يا لَكَلبٍ واعتزَيْنا لعامرِ
ومما يقبح أن يشركه المظهر علامةُ المضمَر المجرور، وذلك قولك: مررتُ بك وزيدٍ، وهذا أبوك وعمرٍو، كرهوا أن يشرك المظهر مضمَراً داخلاً فيما قبله؛ لأن هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعتْ أنها لا يُتكلّم بها إلا معتمدة على ما قبلها، وأنها بدلٌ من اللفظ بالتنوين، فصارت عندهم بمنزلة التنوين، فلما ضعفتْ عندهم كرهوا أن يُتبعوها الاسمَ، ولم يجز أيضاً أن يُتبعوها إياه وإن وصفوا؛ لا يحسن لك أن تقول مررت بك أنت وزيدٍ كما جاز فيما أضمرتَ في الفعل نحو قمتَ أنت وزيد، لأن ذلك وإن كان قد أُنزل منزلة آخر الفعل، فليس من الفعل ولا من تمامه، وهما حرفان يستغني كلُ واحدٍ منهما بصاحبه كالمبتدأ والمبني عليه، وهذا يكون من تمام الاسم، وهو بدل من الزيادة التي في الاسم، وحال الاسم إذا أضيف إليه مثلُ حاله منفرداً، لا يستغنى به، ولكنهم يقولون: مررتُ بكُم أجمعين، لأن أجمعين لا يكون إلا وصفاً.
ويقولون: مررتُ بهم كلهم؛ لأن أحد وجهَيها مثلُ أجمعين.
وتقول أيضاً: مررتُ بك نفسك، لما أجزْتَ فيها ما يجوز في فعلتُم مما يكون معطوفاً على الأسماء احتملت هذا؛ إذ كانت لا تغيّر علامة الإضمار ها هنا ما عمل فيها، فضارعتْ ها هنا ما ينتصب، فجاز هذا فيها.
وأما في الإشراك فلا يجوز، لأنه لا يحسن الإشراكُ في فعلتَ وفعلتُم إلا بأنت وأنتم. وهذا قول الخليل رحمه الله وتفصيله عن العرب.
وقد يجوز في الشعر أن تُشرك بين الظاهر والمضمر على المرفوع والمجرور، إذا اضطرّ الشاعر.
وجاز قمتَ أنت وزيدٌ، ولم يجز مررتُ بك أنت وزيدٍ؛ لأن الفعل يستغني بالفاعل، والمضاف لا يستغني بالمضاف إليه، لأنه بمنزلة التنوين. وقد يجوز في الشعر. قال:
آبَكَ أيّهْ بي أو مُصدَّرِ ... من حُمُر الجلّة جأبٍ حَشْوَرِ
وقال الآخر:
فاليومَ قرّبتَ تهجونا وتشتمِنا ... فاذهبْ فما بك والأيامِ من عجبِ
؟هذا باب
ما لا يجوز فيه الإضمارُ من حروف الجر
وذلك الكاف في أنت كزيد، وحتى، ومُذ.
وذلك لأنهم استغنوا بقولهم مثلي وشِبهي عنه فأسقطوه.
واستغنوا عن الإضمار في حتى بقولهم: رأيتُهم حتى ذاك، وبقولهم: دعْهُ حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم: دعهُ حتى ذاك، وبالإضمار في الى إذا قال دعهُ إليه؛ لأن المعنى واحد، كما استغنوا بمثلي ومثله عن كي وكَهُ.
واستغنوا عن الإضمار في مُذ بقولهم: مذ ذاك؛ لأن ذاك اسمٌ مبهَم، وإنما يذكر حين يُظن أنه قد عرفت ما يعني. إلا أن الشعراء إذا اضطُروا أضمروا في الكاف، فيجرُونها على القياس. قال العجّاج: وأمَّ أوعالٍ كَها أو أقرَبا وقال العجّاج:
فلا ترى بعلاً ولا حلائلاً ... كَهُ ولا كهُنّ إلا حاظِلا
شبّهوه بقوله له ولهنّ.
ولو اضطرّ شاعر فأضاف الكاف الى نفسه قال: ما أنت كِي. وكَي خطأ؛ من قبل أنه ليس في العربية حرفٌ يُفتح قبل ياء الإضافة.
؟باب ما تكون فيه أنت وأنا ونحن
وهو وهي وهم وهن وأنتنّ وهما وأنتما وأنتم وصفاً
اعلم أن هذه الحروف كلها تكون وصفاً للمجرور والمرفوع والمنصوب للمضمرين، وذلك قولك: مررتُ بك أنت، ورأيتُك أنت، وانطلقْتَ أنت.


وليس وصفاً بمنزلة الطويل إذا قلت مررتُ بزيدٍ الطويل، ولكنه بمنزلة نفسه إذا قلت مررتُ به نفسه وأتاني هو نفسه، ورأيتُه هو نفسَه. وإنما تريد بهنّ ما تريد بالنفس إذا قلت: مررتُ به هو هو، ومررت به نفسِه ولست تريد أن تحلّيه بصفة ولا قرابة كأخيك، ولكن النحويين صار ذا عندهم صفةً لأن حاله كحال الموصوف كما أن حال الطويل وأخيك في الصفة بمنزلة الموصوف في الإجراء، لأنه يلحقها ما يلحق الموصوفَ من الإعراب.
واعلم أن هذه الحروف لا تكون وصفاً للمظهر، كراهيةَ أن يصفوا المظهر بالمضمَر، كما كرهوا أن يكون أجمعون ونفسُه معطوفاً على النكرة في قولهم: مررتُ برجلٍ نفسِه ومررتُ بقوم أجمعين.
فإن أردت أن تجعل مضمَراً بدلاً من مضمَر قلت: رأيتُك إياك، ورأيتُه إيّاه. فإن أردت أن تبدل من المرفوع قلت: فعلتَ أنت، وفعل هو. فأنت وهو وأخواتهما نظائر إياه في النصب.
واعلم أن هذا المضمَر يجوز أن يكون بدلاً من المظهر، وليس بمنزلته في أن يكون وصفاً له؛ لأن الوصف تابع للاسم مثلُ قولك: رأيت عبدَ الله أبا زيد. فأما البدل فمنفرد كأنك قلت: زيداً رأيت أو رأيت زيداً ثم قلت إياه رأيت. وكذلك أنت وهو وأخواتُهما في الرفع.
واعلم أنه قبيح أن تقول مررتُ به وبزيدٍ هما، كما قبُح أن تصف المظهر والمضمَر بما لا يكون إلا وصفاً للمظهر. ألا ترى أنه قبيح أن تقول: مررتُ بزيدٍ وبه الظريفين. وإن أراد البدل قال: مررتُ به وبزيدٍ بهما؛ لابد من الباء الثانية في البدل.
؟هذا باب من البدل أيضاً
وذلك قولك: رأيتُه إيّاه نفسَه، وضربتُه إيّاه قائماً.
وليس هذا بمنزلة قولك: أظنه هو خيراً منك، من قبل أن هذا موضع فصل، والمضمَر والمظهر في الفصل سواء. ألا ترى أنك تقول رأيت زيداً هو خيراً منك، وقال الله عزّ وجلّ: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزلَ إليك من ربّك هو الحقّ " . وإنما يكون الفصل في الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء. فأما ضربتُ وقتلتُ ونحوهما فإن الأسماء بعدها بمنزلة المبني على المبتدأ، وإنما تذكر قائماً بعد ما يستغني الكلام ويكتفي، وينتصب على أنه حال، فصار هذا كقولك: رأيته إيّاه يوم الجمعة. فأما نفسه حين قلت: رأيته إياه نفسه، فوصفٌ بمنزلة هو، وإياه بدل، وإنما ذكرتهما توكيداً، كقوله جلّ ذكره: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " ؛ إلا أن إياه بدلٌ والنفس وصف، كأنك قلت: رأيت الرجلَ زيداً نفسه، وزيد بدل ونفسه على الاسم. وإنما ذكرت هذا للتمثيل. وإنما كان الفصل في أظن ونحوها لأنه موضع يلزم فيه الخبر، وهو ألزم له من التوكيد؛ لأنه لا يجد منه بدّاً. وإنما فصل لأنك إذا قلت كان زيدٌ الظريف، فقد يجوز أن تريد بالظريف نعتاً لزيد، فإذا جئت بهو أعلمت أنها متضمنة للخبر. وإنما فصل لما لابد له منه، ونفسه يجزئ من إيّا، كما تُجزئ منه الصفة؛ لأنك جئت بها توكيداً وتوضيحاً، فصارت كالصفة.
ويدلك على بُعده أنك لا تقول أنت إياك خيرٌ منه. فإن قلت أظنه خيراً منه، جاز أن تقول إياه؛ لأن هذا ليس موضع فصل، واستغنى الكلام، فصار كقولك: ضربتُه إياه.
وكان الخليل يقول: هي عربية: إنك إياك خيرٌ منه. فإذا قلت إنك فيها إياك، فهو مثل أظنه خيراً منه، يجوز أن تقول: إياك.
ونظير إيّا في الرفع أنت وأخواتُها.
واعلم أنها في الفعل أقوى منها في إن وأخواتها. ويدلك على أن الفصل كالصفة، أنه لا يستقيم أظنه هو إياه خيراً منك إذا كان أحدهما لم يكن الآخر، لأن أحدهما يُجزئ من الآخر؛ لأن الفصل هو كالصفة، والصفة كالفصل.
وكذلك أظنه إياه هو خيراً منه؛ لأن الفصل يجزئ من التوكيد، والتوكيد منه.
؟باب ما يكون فيه هو وأنت
وأنا ونحن وأخواتهن فصلاً


اعلم أنهن لا يكنّ فصلاً إلا في الفعل، ولا يكنّ كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجه الى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء. فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء، إعلاماً بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدَّث ويتوقعه منه، مما لابد له من أن يذكره للمحدَّث؛ لأنك إذا ابتدأت الاسم فإنما تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لابد منه، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأنه ذكر هو ليستدلّ المحدَّث أن ما بعد الاسم ما يُخرجه مما وجب عليه، وأن ما بعد الاسم ليس منه. هذا تفسير الخليل رحمه الله.
وإذا صارت هذه الحروف فصلاً وهذا موضع فصلها في كلام العرب، فأجرِه كما أجروه. فمن تلك الأفعال: حسبتُ وخلْتُ وظننت ورأيت إذا لم ترد رؤية العين؛ ووجدتُ إذا لم ترد وجدانَ الضالة، وأُرى، وجعلتُ إذا لم ترد أن تجعلها بمنزلة عملت ولكن تجعلها بمنزلة صيّرته خيراً منك، وكان وليس وأصبح وأمسى.
ويدلك على أن أصبح وأمسى كذلك، أنك تقول أصبح أباك، وأمسى أخاك، فلو كانتا بمنزلة جاء وركب، لقبُح أن تقول أصبح العاقلَ وأمسى الظريفَ، كما يقبح ذلك في جاء وركب ونحوهما. فمما يدلّك على أنهما بمنزلة ظننتُ أنه يُذكر بعد الاسم فيهما ما يُذكر في الابتداء.
واعلم أن ما كان فصلاً لا يغيّر ما بعده عن حاله التي كان عليها قبل أن يُذكر، وذلك قولك: حسبتُ زيداً هو خيراً منك، وكان عبد الله هو الظريف، وقال الله عزّ وجلّ: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق " .
وقد زعم ناسٌ أن هو ها هنا صفة، فكيف يكون صفة وليس من الدنيا عربي يجعلها ها هنا صفة للمظهر. ولو كان ذلك كذلك لجاز مررتُ بعبد الله هو نفسه، فهو ها هنا مستكرهة لا يتكلم بها العرب لأنه ليس من مواضعها عندهم. ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا لنحن الصالحين. فالعرب تنصب هذا والنحويون أجمعون. ولو كان صفة لم يجز أن يدخل عليه اللام؛ لأنك لا تُدخلها في ذا الموضع على الصفة فتقول: إن كان زيد للظريف عاقلاً. ولا يكون هو ولا نحن ها هنا صفةً وفيهما اللام.
ومن ذلك قوله عز وجلّ: " ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " ، كأنه قال: ولا يحسبنّ الذين يبخلون البُخل هو خيراً لهم. ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطَب بأنه البخل، لذكره يبخلون.
ومثل ذلك قول العرب: " من كذب كان شراً له " ، يريد كان الكذب شراً له، إلا أنه استغنى بأن المخاطَب قد علم أنه الكذب، لقوله كذب في أول حديثه؛ فصار هو وأخواتُها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغواً، في أنها لا تغيّر ما بعدها عن حاله قبل أن تُذكَر.
واعلم أنها تكون في إن وأخوتها فصلاً وفي الابتداء، ولكن ما بعدها مرفوع، لأنه مرفوع قبل أن تذكر الفصل.
واعلم أن هو لا يحسن أن تكون فصلاً حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه المعرفة، مما طال ولم تدخله الألف واللام، فضارع زيداً وعمراً نحو خير منك ومثلك، وأفضل منك وشرّ منك، كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفة أو ما ضارعها، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ما ضارعها. لو قلت: كان زيد هو منطلقاً، كان قبيحاً حتى تذكر الأسماء التي ذكرتُ لك من المعرفة أو ما ضارعها من النكرة مما لا يدخله الألف واللام.
وأما قوله عزّ وجلّ: " إن ترني أنا أقلَّ منك مالاً وولداً " فقد تكون أنا فصلاً وصفة، وكذلك " وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظمَ أجراً " .
وقد جعل ناسٌ كثير من العرب هو وأخواتها في هذا الباب بمنزلة اسمٍ مبتدأ وما بعده مبني عليه، فكأنك تقول: أظنّ زيداً أبوه خيرٌ منه، ووجدتُ عمراً أخوه خيرٌ منه. فمن ذلك أنه بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيداً هو خيرٌ منك. وحدثنا عيسى أن ناساً كثيراً يقرؤونها: " وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون " . وقال الشاعر، قيس بن ذريح:
تُبَكّي على لُبنى وأنت تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ
وكان أبو عمرو يقول: إن كان لهو العاقل.
وأما قولهم: " كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه " ، ففيه ثلاثة أوجه: فالرفع وجهان والنصب وجه واحد.


فأحد وجهي الرفع أن يكون المولود مضمَراً في يكون، والأبوان مبتدآن، وما بعدهما مبني عليهما، كأنه قال: حتى يكون المولود أبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه. ومن ذلك قول الشاعر، رجل من بني عبس:
إذا ما المرء كان أبوه عبس ... فحسبُك ما تريد الى الكلام
وقال آخر:
متى ما يُفِد كسباً يكنْ كلُ كسبه ... له مطعمٌ من صدرِ يوم ومأكلُ
والوجه الآخر: أن تعمل يكون في الأبوين، ويكون هُما مبتدأ وما بعده خبراً له.
والنصب على أن تجعل هُما فصلا.
وإذا قلت: كان زيد أنت خيرٌ منه، وكنت أنا يومئذ خيرٌ منك فليس إلا الرفع؛ لأنك إنما تفصل بالذي تعني به الأول إذا كان ما بعد الفصل هو الأول وكان خبره، ولا يكون الفصل ما تعني به غيره. ألا ترى أنك لو أخرجت أنت لاستحال الكلام وتغيّر المعنى، وإذا أخرجت هو من قولك كان زيد هو خيراً منك لم يفسد المعنى.
وأما إذا كان ما بعد الفصل هو الأول قلت: هذا عبد الله هو خيرٌ منك، وضربتُ عبدَ الله هو قائمٌ، وما شأن عبد الله هو خيرٌ منك، فلا تكون هو وأخواتها فصلاً فيها وفي أشباهها ها هنا؛ لأن ما بعد الاسم ها هنا ليس بمنزلة ما يُبنى على المبتدأ، وإنما ينتصب على أنه حالٌ كما انتصب قائم في قولك: انظُر إليه قائماً. ألا ترى أنك لا تقول هذا زيد هو القائم، ولا ما شأنُك أنت الظريفُ. أوَلا ترى أن هذا بمنزلة راكبٍ في قولك مرّ زيدٌ راكباً.
فليس هذا بالموضع الذي يحسن فيه أن يكون هو وأخواتها فصلاً؛ لأن ما بعد الاسماء هنا لا يفسد تركُه الكلام، فيكون دليلاً على أنه فيما تكلمه به، وإنما يكون هو فصلاً في هذه الحال.
؟باب لا تكون هو وأخواتها فيه فصلا
ولكن يكنّ بمنزلة اسم مبتدأ.
وذلك قولك: ما أظن أحداً هو خير منك، وما أجعلُ رجلاً هو أكرم منك، وما إخالُ رجلاً هو أكرمُ منك. لم يجعلوه فصلاً وقبله نكرة، كما أنه لا يكون وصفاً ولا بدلاً لنكرة، وكما أن كلهم وأجمعين لا يكرَّران على نكرة، فاستقبحوا أن يجعلوها فصلاً في النكرة كما جعلوها في المعرفة لأنها معرفة، فلم تصر فصلاً إلا لمعرفة كما لم تكن وصفاً ولا بدلاً إلا لمعرفة.
وأما أهل المدينة فينزلون هو ها هنا بمنزلته بين المعرفتين، ويجعلونها فصلاً في هذا الموضع. فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحناً، وقال: احتبى ابنُ مروان في ذِه في اللحن. يقول: لحنَ، وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول: اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ: " هؤلاء بناتي هنّ أطهرَ لكم " ، فنصب.
وكان الخليل يقول: والله إنه لعظيمٌ جعلهم هو فصلاً في المعرفة وتصييرهم إياها بمنزلة ما إذا كانت ما لغواً، لأن هو بمنزلة أبوه، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع لغواً كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس. وإنما قياسُها أن تكون بمنزلة كأنما وإنما. ومما يقوّي ترك ذلك في النكرة أنه لا يستقيم أن تقول: رجلٌ خيرٌ منك. ويقول: لا يستقيم أظن رجلاً خيراً منك، فإن قلت: لا أظن رجلاً خيراً منك فجيد بالغ. ولا تقول: أظن رجلاً خيراً منك، حتى تنفي وتجعله بمنزلة أحد، فلما خالفَ المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء، لم يجرِ في النفي مجراه لأنه قبيح في الابتداء وفيما أجري مجراه من الواجب، فهذا مما يقوّي ترك الفصل.
؟هذا باب أيّ
اعلم أن أيّاً مضافاً وغير مضاف بمنزلة مَن. ألا ترى أنك تقول: أيٌ أفضل، وأيُ القوم أفضلُ. فصار المضاف وغير المضاف يجريان مجرى مَن، كما أن زيداً وزيدَ مَناة يجريان مجرى عمرو، فحال المضاف في الإعراب والحُسن والقبح كحال المفرد. قال الله عز وجل: " أيّاً ما تدعو فله الأسماء الحُسنى " ؛ فحسُن كحسنه مضافاً.
وتقول: أيها تشاء لك، فتشاء صلةٌ لأيها حتى كمل اسماً، ثم بنيتَ لك على أيها، كأنك قلت: الذي تشاء لك. وإن أضمرت الفاء جاز وجزمت تشأ، ونصبت أيها. وإن أدخلتَ الفاء قلت: أيها تشأ فلك؛ لأنك إذا جازيت لم يكن الفعل وصلاً، وصار بمنزلته في الاستفهام إذا قلت أيها تشاء؟ وكذلك مَن تجري مجرى أيٍ في الذي ذكرنا وتقع موقعه.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن قولهم: اضربْ أيُّهم أفضل؟ فقال: القياس النصب، كما تقول: اضرب الذي أفضلُ، لأن أياً في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي، كما أن مَن في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة الذي.


وحدّثنا هارون أن ناساً، وهم الكوفيون يقرؤونها: " ثم لننزِعنّ من كل شيعةٍ أيَّهم أشدُّ على الرحمن عُتيّا " ، وهي لغة جيدة، نصبوها كما جرّوها حين قالوا: امرُرْ على أيهم أفضلُ، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت: اضربِ الذي أفضلُ، لأنك تُنزل أياً ومَن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام.
وزعم الخليل أن أيُّهم إنما وقع في اضربْ أيّهم أفضل على أنه حكاية، كأنه قال: اضرب الذي يقال له أيّهم أفضلُ، وشبهه بقول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
وأما يونس فيزعم أنه بمنزلة قولك: أشهدُ إنك لَرسولُ الله.
واضربْ معلّقةٌ. وأرى قولهم: اضربْ أيهم أفضلُ على أنهم جعلوا هذه الضمة بمنزلة الفتحة في خمسةَ عشرَ، وبمنزلة الفتحة في الآنَ حين قالوا من الآنَ الى غدٍ، ففعلوا ذلك بأيهم حين جاء مجيئاً لم تجئ أخواته عليه إلا قليلاً، واستُعمل استعمالاً لم تُستعمله أخواته إلا ضعيفاً. وذلك أنه لا يكاد عربي يقول: الذي أفضل فاضربْ، واضربْ مَن أفضلُ، حتى يدخلَ هو. ولا يقول: هاتِ ما أحسنُ حتى يقول ما هو أحسن. فلما كانت أخواته مفارِقة له لا تستعمل كما يُستعمل خالفوا بإعرابها إذا استعملوه على غير ما استُعملت عليه أخواته إلا قليلاً. كما أن قولك: يا اللهُ حين خالف سائرَ ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفَه، وكما أن ليس لمّا خالفت سائر الفعل ولم تصرّف تصرّف الفعل تُركت على هذه الحال.
وجاز إسقاط هو في أيهم كما كان: لا عليك، تخفيفاً، ولم يجزْ في أخواته إلا قليلاً ضعيفاً.
وأما الذين نصبوا فقاسوه وقالوا: هو بمنزلة قولنا اضربِ الذين أفضلُ، إذا أثرنا أن نتكلم به. وهذا لا يرفعه أحد.
ومن قال: امرُرْ على أيّهم أفضل قال: امرُرْ بأيهم أفضل؛ وهما سواء. فإذا جاء أيهم مجيئاً يحسن على ذلك المجيء أخواته ويكثر رجع الى الأصل والى القياس، كما ردوا ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى الأصل والى القياس.
وتفسير الخليل رحمه الله ذلك الأول بعيد، إنما يجوز في شعر أو في اضطرار. ولو ساغ هذا في الأسماء لجاز أن تقول: اضربِ الفاسقُ الخبيثُ تريد الذي يقال له الفاسقُ الخبيثُ.
وأما قول يونس فلا يشبه أشهد إنك لمنطلق. وسترى بيان ذلك في باب إن وأن إن شاء الله.
ومن قولهما: اضربْ أيٌ أفضلُ. وأما غيرهما فيقول: اضربْ أياً أفضلُ. ويقيس ذا على الذي وما أشبهه من كلام العرب، ويسلّم في ذلك المضاف الى قول العرب ذلك، يعني أيهم، وأجروا أياً على القياس.
ولو قالت العرب اضربْ أيٌ أفضلُ لقلته، ولم يكن بدٌ من متابعتهم. ولا ينبغي لك أن تقيس على الشاذ المنكر في القياس، كما أنك لا تقيس على أمس أمسك، ولا على أيقول، ولا سائر أمثلة القول، ولا على الآن أنَك. وأشبه هذا كثير.
ولو جعلوا أياً في الانفراد بمنزلته مضافاً لكانوا خُلقاء إن كان بمنزلة الذي معرفةً أن لا ينوّن؛ لأن كل اسم ليس يتمكن لا يدخله التنوين في المعرفة ويدخله في النكرة. وسترى بيان ذلك فيما ينصرف ولا ينصرف إن شاء الله.
وسألته رحمه الله عن أيّي وأيُّك كان شراً فأخزاه الله؟ فقال: هذا كقولك: أخزى الله الكاذب مني ومنك، إنما يريد منا. وكقولك: هو بيني وبينك، تريد هو بيننا. فإنما أراد أيُّنا كان شراً، إلا أنهما لم يشتركا في أي ولكنه أخلصَه لكل واحدٍ منهما. وقال الشاعر، العباس ابن مرداس:
فأيي ما وأيّك كان شراً ... فسيقَ الى المُقامةِ لا يراها
وقال خداشُ بن زهير:
ولقد علمتُ إذا الرجالُ تناهزوا ... أيي وأيّكمُ أعزُّ وأمنعُ
وقال خداش أيضاً:
فأيي وأيُّ ابنِ الحُصين وعثعثٍ ... غداةَ التقينا كان عندك أعذرا
؟باب مجرى أي مضافاً على القياس
وذلك قولك: اضربْ أيَّهم هو أفضل، واضرب أيَّهم كان أفضل، واضرب أيهم أبوه زيد. جرى ذا على القياس لأن الذي يحسن ها هنا.
ولو قلت: آضربْ أيهم عاقلٌ رفعت، لأن الذي عاقل قبيحة. فإذا أدخلتَ هو نصبتَ لأن الذي هو عاقل حسن. ألا ترى أنك لو قلت: هذا الذي هو عاقل، كان حسناً.
وزعم الخليل رحمه الله أنه سمع عربياً يقول: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً. وهذه قليلة، ومن تكلم بهذا فقياسه اضربْ أيّهم قائل لك شيئاً.


قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: لا. فقلت: فما بالُ المسألة الأولى؟ فقال: لأنه إذا طال الكلام فهو أمثلُ قليلاً، وكأن طولَه عوض من ترك هو. وقلّ من يتكلم بذلك.
؟باب أي مضافاً الى ما لا يكمل
اسماً إلا بصلة
فمن ذلك قولك: اضربْ أيُّ مَن رأيتَ أفضلُ. فمَن كمل اسماً برأيتَ فصار بمنزلة القوم، فكأنك قلت: أيُّ القوم أفضل، وأيهم أفضلُ، وكذلك أيُ الذين رأيت في الدار أفضلُ. وتقول: أي الذين رأيتَ في الدار أفضل؟ لأن رأيت من صلة الذين، وفيها متصلة برأيت، لأنك ذكرت موضع الرؤية، فكأنك قلت أيضاً: أي القوم أفضل وأيهم أفضل؛ لأن فيها لم تغيّر الكلام عن حاله. كما أنك إذا قلت: أيُ مَن رأيتَ قومَه أفضل؟ كان بمنزلة قولك: أيُ مَن رأيتَ أفضلُ. فالصلة معملةً وغيرَ معملةٍ في القوم سواءٌ.
وتقول: أيَّ من في الدار رأيت أفضلَ، وذاك لأنك جعلت في الدار صلة فتمّ المضاف إليه أيٌ اسماً، ثم ذكرتَ رأيت، فكأنك قلت: أي القوم رأيت أفضل، ولم تجعل في الدار ها هنا موضعاً للرؤية.
وتقول: أيُّ مَن في الدار رأيتَ أفضل، كأنك قلت: أيُ من رأيتَ في الدار أفضلُ. ولو قلت أيُ من في الدار رأيتَه زيدٌ، إذا أردت أن تجعل في الدار موضعاً للرؤية لجاز. ولو قلت: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، قدّمتَ أو أخّرتَ سواء.
وتقول في شيء منه آخر: أيُ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرمه. فهذا إن جعلته استفهاماً فإعرابه الرفع، وهو كلام صحيح، من قبل أن يأتنا نعطِه صلةٌ لمَن فكمل اسماً. ألا ترى أنك تقول مَن إن يأتنا نعطِه بنو فلان، كأنك قلت: القومُ بنو فلان، ثم أضفتَ أياً إليه، فكأنك قلت: أيُ القوم نُكرمه وأيّهم نُكرمه؟ فإن لم تدخل الهاء في نُكرم نصبتَ، كأنك قلت: أيهم نُكرم.
فإن جعلتَ الكلام خبراً فهو محال؛ لأنه لا يحسن أن تقول في الخبر: أيّهم نُكرمه.
ولكنك إن قلت أيَّ مَن إن يأتنا نعطِه نُكرم تُهين، كان في الخبر كلاماً، لأن أيّهم بمنزلة الذي في الخبر، فصار نكرم صلةً، وأعملت تُهين، كأنك قلت: الذي نُكرمُ تُهين.
وتقول: أيَّ مَن إن يأتنا نُعطه نُكرم تُهن، كأنك قلت: أيَّهم نُكرِم تُهن.
وتقول: أيُ مَن يأتينا يريد صلتنا فنحدّثه، فيستحيل في وجه ويجوز في وجه.
فأما الوجه الذي يستحيل فهو أن يكون يريد في موضع مُريدٍ إذا كان حالاً فيه وقع الإتيان، لأنه معلّق بيأتينا، كما كان فيها معلّقاً برأيت في: أيُ مَن رأيت في الدار أفضل، فكأنك قلت: أيُهم فنحدثه. فهذا لا يجوز في خبر ولا استفهام.
وأما الوجه الذي يجوز فيه فأن يكون يريدُ مبنياً على ما قبله، ويكون يأتينا الصلة. فإن أردت ذلك كان كلاماً، كأنك قلت: أيّهم يريد صلتَنا فنحدّثه وفنحدّثه إن أردت الخبر.
وأما أيَّ مَن يأتينا فنحدّثه فهو محال. لأن أيَّهم فنحدثه محال. فإن أخرجت الفاء فقتل: أيَّ من يأتيني نُحدّثُه، فهو كلام في الاستفهام، محالٌ في الإخبار.
وتقول: أيَّ مَن إن لم يأته مَن إن يأتِنا نُعطه تأتِ يكرمْك. وذلك أن مَن الثانية صلتها إن يأتنا نعطه، فصار بمنزلة زيد، فكأنك قلت: أيّ مَن إن يأته زيدٌ يُعطه تأتِ يكرمْك، فصار إن يأته زيدٌ يعطِه صلة لمن الأولى، فكأنك قلت: أيهم تأتِ يُكرمْك.
فجميع ما جاز وحسن في أيهم ها هنا جاز في: أي مَن إن يأته من إن يأتنا نعطه يُعطِه، لأنه بمنزلة أيهم.
وسألت الخليل رحمه الله عن قولهم: أيهنّ فلانة وأيتهنّ فلانة فقال: إذا قلت أيّ فهو بمنزلة كل لأن كلاً مذكّر يقع للمذكر والمؤنث وهو أيضاً بمنزلة بعض، فإذا قلت أيتهن فإنك أردت أن تؤنث الاسم، كما أن بعض العرب فيما زعم الخليل رحمه الله يقول: كلَّتهن منطلقة.
؟باب أي إذا كنتَ مستفهماً بها عن نكرة
وذلك أن رجلاً لو قال: رأيت رجلاً قلت: أياً؟ فإن قال: رأيت رجلين قلت: أيّيْن؟ وإن قال: رأيت رجالاً قلت: أيِّين؟ فإن ألحقتَ يا فتى في هذا الموضع فهي على حالها قبل أن تلحق يا فتى.
وإذا قال رأيت امرأة قلت: أيةً يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ امرأتين قلت: أيَّتَين يا فتى؟ فإن قال: رأيتُ نسوةً قلت: أيّاتٍ يا فتى؟ فإن تكلم بجميع ما ذكرنا مجروراً جررتَ أياً، وإن تكلم به مرفوعاً رفعتَ أياً، لأنك إنما تسألهم على ما وضع عليه المتكلم كلامه.


قلت: فإن قال: رأيت عبدَ الله أو مررت بعبد الله؟ قال: فإن الكلام أن لا تقول أياً، ولكن تقول: مَن عبدُ الله؟ وأيٌ عبدُ الله؟ لا يكون إذا جئت بأي إلا الرفع، كما أنه لا يجوز إذا قال: رأيت عبدَ الله أن تقول مَنَا؟ وكذلك لا يجوز إذا قال رأيت عبدَ الله أن تقول أيّا؟ ولا تجوز الحكاية فيما بعد أي كما جاز فيما بعد مَن وذلك أنه إذا قال رأيت عبدَ الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإذا قال: مررتُ بعبد الله قلت: أيٌ عبدُ الله؟ وإنما جازت الحكاية بعد مَن في قولك مَن عبد الله، لأن أياً واقعة على كل شيء، وهي للآدميين. ومَن أيضاً مُسكّنةٌ في غير بابها، فكذلك يجوز أن تجعل ما بعد مَن في غير بابه.
؟باب مَن إذا كنت مستفهماً عن نكرة
اعلم أنك تثنّي مَن إذا قلت رأيت رجلين كما تثنّي أياً، وذلك قولك: رأيت رجلين، فتقول: مَنَيْن كما تقول أيّين. وأتاني رجلان فتقول: مَنان، وأتاني رجال فتقول: مَنون. وإذا قال: رأيت رجالاً قلت: مَنين، كما تقول أيِّين. وإن قلت رأيت امرأة قلت: مَنَهْ؟ كما تقول أيةً. فإن وصل قال مَن يا فتى، للواحد والاثنين والجميع. وإن قال رأيت امرأتين قلت مَنَتيْن كما قلت أيّتَين، إلا أن النون مجزومة. فإن قال: رأيت نساءَ قلت: مَناتْ كما قلت أيّاتٍ، إلا أن الواحد يخالف أياً في موضع الجرّ والرفع، وذلك قولك: أتاني رجلٌ فتقول مَنُو، وتقول مررت برجل فتقول مَني. وسنبين وجه هذه الواو والياء في غير هذا الموضع إن شاء الله.
فأيّ في موضع الجر والرفع إذا وقفتَ بمنزلة زيد وعمرو؛ وذلك لأن التنوين لا يلحق مَن في الصلة وهو يلحق أياً فصارت بمنزلة زيد وعمرو وأما مَن فلا ينوّن في الصلة، فجاء في الوقف مخالفاً.
وزعم الخليل أن مَنَهْ ومَنَتَيْن ومَنَيْن ومَناتْ ومَنِين كل هذا في الصلة مُسكن النون، وذلك أنك تقول إذا رأيت رجالاً أو نساءً أو امرأة أو امرأتين، أو رجلاً أو رجلين: مَني يا فتى.
وزعم الخليل رحمه الله أن الدليل على ذلك أنك تقول مَنو في الوقف، ثم تقول مَن ي فتى، فيصير بمنزلة قولك مَن قال ذاك؟ فتقول: مَن يا فتى إذا عنيت جميعاً، كأنك تقول مَن قال ذاك، إذا عنيت جماعةً. وإما فارق باب مَن باب أيّ أن أياً في الصلة يثبت فيه التنوين، تقول: أيٌ ذا وأيةٌ ذهْ.
وزعم أن من العرب، وقد سمعناه من بعضهم، من يقول: أيّونَ هؤلاء، وأيان هذان. فأيٌ قد تُجمع في الصلة وتضاف وتثنّى وتنوّن، ومَن لا يثنّى ويُجمع في الاستفهام ولا يضاف، وأيٌ منوّن على كل حال في الاستفهام وغيره، فهو أقوى.
وحدّثنا يونس أن ناساً يقولون أبداً: مَنَا ومَنِي ومَنو، عنيت واحداً أو اثنين أو جميعاً في الوقف. فمن قال هذا قال أياً وأيٍ وأيٌ إذا عنى واحداً أو جميعاً أو اثنين. فإن وصل نوّن أياً. وإنما فعلوا ذلك بمَن لأنهم يقولون: مَن قال ذاك؟ فيعنون ما شاءوا من العدد. وكذلك أيٌ، تقول أيٌ يقول ذاك؟ فتعني بها جميعاً وإن شاء عنى اثنين.
وأما يونس فإنه كان يقيس مَنَهْ على أية، فيقول: مَنَةٌ ومنةً ومنةٍ، إذا قال يا فتى. وكذلك ينبغي له أن يقول إذا أثر أن لا يغيّرها في الصلة.
وهذا بعيد، وإنما يجوز هذا على قول شاعر قاله مرة في شعر ثم لم يُسمع بعدُ:
أتَوا ناري فقلت مَنونَ أنتم ... فقالوا الجِنُّ قلت عِموا ظلاما
وزعم يونس أنه سمع أعرابياً يقول: ضرب مَنٌ مَناً؟ وهذا بعيد لا تكلّم به العرب ولا يستعمله منهم ناس كثير. وكان يونس إذا ذكرها يقول لا يقبل هذا كلُ أحد. فإنما يجوز مَنونَ يا فتى على ذا.
وينبغي لهذا أن لا يقول مَنو في الوقف، ولكن يجعله كأي. وإذا قال رأيت امرأةً ورجلاً، فبدأت في المسألة بالمؤنّث قلت: مَن ومَنا؛ لأنك تقول مَن يا فتى في الصلة في المؤنث. وإن بدأت بالمذكّر قلت مَن ومَنَهْ؟ وإنما جُمعت أيٌ في الاستفهام ولم تُجمع في غيره لأنه إنما الأصل فيها الاستفهام، وهي فيه أكثر في كلامهم، وإنما تشبه الأسماء التامة التي لا تحتاج الى صلة في الجزاء وفي الاستفهام. وقد تشبّه مَن بها في هذه المواضع لأنها تجري مجراها فيها. ولم تقوَ قوةَ في أيٍ لما ذكرت لك، ولما يدخلها من التنوين والإضافة.
؟باب ما لا تحسن فيه مَن
كما تحسُن فيما قبله


وذلك أنه لا يجوز أن يقول الرجل: رأيت عبدَ الله، فتقول مَنَا، لأنه إذا ذكر عبد الله فإنما يذكر رجلاً تعرفه بعينه، أو رجلاً أنت عنده ممن يعرفه بعينه فإنما تسأله على أنك ممن يعرفه بعينه، إلا أنك لا تدري الطويلُ هو أم القصير أم ابنُ زيد أم ابن عمرو؟ فكرهوا أن يُجرى هذا مجرى النكرة إذا كانا مفترقين. وكذلك رأيته ورأيت الرجل، لا يحسن لك أن تقول فيهما إلا مَن هو ومنِ الرجل.
وقد سمعنا من العرب من يقال له ذهبنا معهم فيقول: مع مَنِينْ؟ وقد رأيته، فيقول: مَنا أو رأيت مَنا. وذلك أنه سأله على أن الذين ذكر ليسوا عنده ممن يعرفه بعينه، وأن الأمر ليس على ما وضعه عليه المحدِّث، فهو ينبغي له أن يسأل في ذا الموضع كما سأل حين قال رأيت رجلاً.
؟باب اختلاف العرب في الاسم
المعروف الغالب إذا استفهمت عنه بمَن
اعلم أن أهل الحجاز يقولون إذا قال الرجل رأيت زيداً: مَن زيداً؟ وإذا قال مررتُ بزيد قالوا: مَن زيد؟ وإذا قال: هذا عبد الله قالوا: من عبد الله؟ وأما بنو تميم فيرفعون على كل حال. وهو أقيسُ القولين.
فأما أهل الحجاز فإنهم حملوا قولهم على أهم حكوا ما تكلم به المسئول، كما قال بعض العرب: دعنا من تَمْرتان، على الحكاية لقوله: ما عنده تمرتان. وسمعتُ عربياً مرة يقول لرجل سأله فقال: أليس قُرشياً؟ فقال: ليس بقرشياً، حكايةً لقوله. فجاز هذا في الاسم الذي يكون علَماً غالباً على ذا الوجه، ولا يجوز في غير الاسم الغالب كما جاز فيه، وذلك أنه الأكثر في كلامهم، وهو العلَم الأول الذي به يتعارفون. وإنما يُحتاج الى الصفة إذا خاف الالتباس من الأسماء الغالبة. وإنما حكى مبادرة للمسئول، أو توكيداً عليه أنه ليس يسأله عن غير هذا الذي تكلم به. والكُنية بمنزلة الاسم.
وإذا قال: رأيت أخا خالد لم يجز مَن أخا خالد إلا على قول من قال: دعنا مِن تمرتان، وليس بقرشياً. والوجه الرفع لأنه ليس باسم غالب.
وقال يونس: إذا قال رجلٌ: رأيت زيداً وعمراً، أو زيداً وأخاه، أو زيداً أخا عمرو، فالرفع يردّه الى القياس والأصل إذا جاوز الواحد، كما تُردّ ما زيدٌ إلا منطلقٌ الى الأصل. وأما ناسٌ فإنهم قاسوه فقالوا: تقول مَن أخو زيد وعمرو، ومن عمراً وأخا زيدٍ، تُتبع الكلام بعضه بعضاً. وهذا حسن.
فإذا قالوا مَن عمراً ومن أخو زيد، رفعوا أخاً زيد، لأنه قد انقطع من الأول بمن الثاني الذي مع الأخ، فكأنك قلت مَن أخو زيد؟ كما أنك تقول تبّاً له وويلاً؛ وتباً له وويلٌ له.
وسألت يونس عن: رأيت زيدَ بنَ عمرو فقال: أقول مَن زيدَ ابن عمرو؛ لأنه بمنزلة اسم واحد. وهكذا ينبغي، إذا كنت تقول يا زيدَ ابن عمرو، وهذا زيدُ بن عمرو، فتسقط التنوين. فأما مَن زيدٌ الطويل فالرفع على كل حال؛ لأن أصل هذا جرى للواحد لتعرّفه له بالصفة، فلما جاوز ذلك ردّه الى الأعرف. ومَن نوّن زيداً جعل ابن صفةً منفصلة ورفع في قول يونس. فإذا قال رأيت زيداً قال: أيٌ زيدٌ، فليس فيه إلا الرفع، يُجريه على القياس. وإنما جازت الحكاية في مَن لأنهم لمَن أكثر استعمالاً وهم مما يغيّرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. وإن أدخلت الواو والفاء في مَن فقلت: فمَن أو وَمَنْ، لم يكن فيما بعده إلا الرفع.
؟باب مَن إذا أردت أن يضاف لك
مَن تسأل عنه
وذلك قولك: رأيت زيداً، فتقول: المَنيَّ. فإذا قال رأيت زيداً وعمراً قلت: المَنيَّيْن. فإذا ذكر ثلاثة قلت: المَنيِّينْ، وتحمل الكلام على ما حمل عليه المسئول إن كان مجروراً أو منصوباً أو مرفوعاً، كأنك قلت: القُرشيَّ أم الثّقَفيّ. فإن قال القرشيّ نصب، وإن شاء رفع على هو، كما قال صالحٌ في: كيف كنتَ؟ فإن كان المسئول عنه من غير الإنس فالجواب الهَنُ والهنَةُ، والفلانُ والفلانة؛ لأن ذلك كناية عن غير الآدميين.
؟باب إجرائهم صلةَ مَن وخبره
إذا عنيت اثنين صلة اللذين، وإذا عنيت جميعاً كصلة الذين
فمن ذلك قوله عز وجل: " ومنهم من يستعمون إليك " . ومن ذلك قول العرب فيما حدثنا يونس: مَن كانت أمَّك وأيُّهنّ كانت أمَّك، ألحق تاء التأنيث لما عنى مؤنثاً كما قال: يستعمون إليك حين عنى جميعاً.


وزعم الخليل رحمه الله أن بعضهم قرأ: " ومَن تقنُتْ منكنّ لله ورسوله " ، فجُعلت كصلة التي حين عنيتَ مؤنثاً. فإذا ألحقت التاء في المؤنث ألحقت الواو والنون في الجميع. قال الشاعر حين عنى الإثنين، وهو الفرزدق:
تعال فإنْ عاهدتَني لا لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَن يا ذئبُ يصطحبان
؟باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي
وليس يكون كالذي إلا مع ما ومَن في الاستفهام، فيكون ذا بمنزلة الذي ويكون ما حرف الاستفهام، وإجرائهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد.
أما إجراؤهم ذا بمنزلة الذي فهو قولك: ماذا رأيت؟ فيقول: متاعٌ حسنٌ. وقال الشاعر، لبيد بن ربيعة:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنَحْبٌ فيُقضى أم ضَلال وباطلُ
وأما إجراؤهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك: ماذا رأيت؟ فتقول: خيراً؛ كأنك قلت: ما رأيت؟ ومثل ذلك قولهم: ماذا ترى؟ فنقول: خيراً. وقال جلّ ثناؤه: " ماذا أنزل ربّكم قالوا خيراً " . فلو كان ذا لغواً لما قالت العرب: عمّاذا تسأل؟ ولقالوا: عمّ ذا تسأل، كأنهم قالوا: عمّ تسأل، ولكنهم جعلوا ما وذا اسماً واحداً، كما جعلوا ما وإن حرفاً واحداً حين قالوا: إنما.
ومثل ذلك كأنما وحيثما في الجزاء.
ولو كان ذا بمنزلة الذي في ذا الموضع البتة لكان الوجه في ماذا رأيت إذا أجاب أن يقول: خيرٌ. وقال الشاعر، وسمعنا بعض العرب يقول:
دعي ماذا عملتِ سأتّقيهِ ... ولكنْ بالمغيّب نبّئيني
فالذي لا يجوز في هذا الموضع، وما لا يحسن أن تُلغيها.
وقد يجوز أن يقول الرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خيرٌ، إذا جعلت ما وذا اسماً واحداً كأنه قال: ما رأيت خيرٌ، ولم يُجبه على رأيت.
ومثل ذلك قولهم في جواب كيف أصبحت؟ فيقول: صالحٌ، وفي مَن رأيت فيقول: زيدٌ، كأنه قال: أنا صالح ومن رأيت زيدٌ. والنصب في هذا الوجه، لأنه الجواب، على كلام المخاطَب، وهو أقرب الى أن تأخذ به. وقال عزّ وجلّ: " ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطيرُ الأولين " . وقد يجوز أن تقول إذا قلت من الذي رأيتَ: زيداً؛ لأن ها هنا معنى فعل فيجوز النصب ها هنا كما جاز الرفعُ في الأول.
؟باب ما تلحقه الزيادة في الاستفهام
إذا أنكرتَ أن تُثبت رأيَه على ما ذكر أو تنكر أن يكون رأيه على خلاف ما ذكر.
فالزيادة تتبع الحرف الذي هو قبلها، الذي ليس بينه وبينها شيء. فإن كان مضموماً فهو واو، وإن كان مكسوراً فهي ياء، وإن كان مفتوحاً فهي ألف، وإن كان ساكناً تحرّك، لئلا يسكن حرفان، فيتحرك كا يتحرك في الألف واللام والساكن مكسوراً، ثم تكون الزيادة تابعةً له.
فمما تحرّك من السواكن كما وصفتُ لك وتبعته الزيادةُ قول الرجل: ضربت زيداً، فتقول منكِراً لقوله: أزيدَنيه. وصارت هذه الزيادة علَماً لهذا المعنى، كعلَم الندبة، وتحركت النون لأنها ساكنة، ولا يسكن حرفان.
فإن ذكر الاسم مجروراً جررته، أو منصوباً نصبته، أو مرفوعاً رفعته، وذلك قولك إذا قال: رأيت زيداً: أزيدَنيه؟ وإذا قال مررتُ بزيد: أزيدِنيه؟ وإذا قال هذا زيدٌ: أزيدُنيه؟، لأنك إنما تسأل عما وضع كلامه عليه.
وقد يقول لك الرجل: أتعرف زيداً؟ فتقول: أزيدَنيه. إما منكِراً لرأيه أن يكون على ذلك، وإما على خلاف المعرفة.
وسمعنا رجلاً من أهل البادية قيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنِيه؟ منكِراً لرأيه أن يكون على خلاف أن يخرج.
ويقول: قد قدم زيد، فتقول: أزيدُنيه؟ غيرَ رادّ عليه متعجباً أو منكراً عليه أن يكون رأيهُ على غير أن يقدم؛ أو أنكرتَ أن يكون قدِم فقلت: أزيدُنيه؟ فإن قلت مجيباً لرجل قال: قد لقيتُ زيداً وعمراً قلت: أزيداً وعمرَنيه؟ تجعل العلامة في منتهى الكلام. ألا ترى أنك تقول إذا ضربتُ عمراً: أضربتَ عمرَاهْ؟ وإن قال: ضربتُ زيداً الطويل قلت: أزيداً الطويلاه؟ تجعلها في منتهى الكلام.


وإن قلت: أزيداً يا فتى، تركت العلامة كما تركت علامة التأنيث والجمع حرف اللين في قولك: مَنا ومَني ومَنو، حين قلت يا فتى، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو في مَن حين قلت مَن يا فتى، ولم تقل مَنين ولا مَنَهْ ولا مَني، أذهبتَ هذا في الوصل، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو من مسألتك يمنع هذا كله، وهو قولك مَن ومَنَهْ إذا قال رأيت رجلاً وامرأةً. فمَنَهْ قد منعتْ مَن من حروف اللين، فكذلك هو ها هنا يمنع كما يمنع ما كان في كلام المسئول العلامة من الأول. ولا تدخل في يا فتى العلامة لأنه ليس من حديث المسئول فصار هذا بمنزلة الطويل حين منع العلامة زيداً كما منع مَن ما ذكرتُ لك؛ وهو كلام العرب.
ومما تُتبعه هذه الزيادة من المتحرّكات، كما وصفتُ لك قوله: رأيت عُثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررت بعثمان، فتقول: أعُثماناه، ومررتُ بحذام فتقول: أحَذاميهُ، وهذا عمر فتقول: أعُمرُوهْ، فصارت تابعة كما كانت الزيادة التي في واغُلامهوهْ تابعة.
واعلم أن من العرب من يجعل بين هذه الزيادة وبين الاسم إنْ فيقول: أعُمَرُ إنِيه، وأزيدُ إنيه، فكأنهم أرادوا أن يزيدوا العلمَ بياناً وإيضاحاً، كما قالوا: ما إنْ، فأكدوا بإن. وكذلك أوضحوا بها ها هنا، لأن في العلم الهاء، والهاء خفية، والياء كذلك، فإذا جاء الهمزة والنون جاء حرفان لو لم يكن بعدهما الهاء وحرف اللين كانوا مستغنين بهما.
ومما زادوا به الهاء بياناً قولهم: اضرِبه.
وقالوا في الياء في الوقف: سعدِجْ يريدون سعدي.
فإنما ذكرت لك هذا لتعلم أنهم قد يطلبون إيضاحها بنحو من هذا الذي ذكرتُ لك.
وإن شئت تركتَ العلامة في هذا المعنى كما تركت علامة الندبة.
وقد يقول الرجل: إني قد ذهبت، فتقول: أذهبتُوه؟ ويقول: أنا خارج، فتقول: أنا إنِيه، تُلحق الزيادة ما لفظ به، وتحكيه مبادرةً له وتبييناً أنه يُنكر عليه ما تكلم به، كما فُعل ذلك في: مَن عبدَ الله؟ وإن شاء لم يتكلم بما لفظ به، وألحق العلامة ما يصحّح المعنى، كما قال حين قال: أتخرج الى البادية: أنا إنِيه.
وإن كنت متثبتاً مسترشداً إذا قال ضربت زيداً، فإنك لا تُلحق الزيادة. وإذا قال ضربتُه فقلت: أقلتَ ضربتُه؟ لم تلحق الزيادة أيضاً؛ لأنك إنما أوقعت حرف الاستفهام على قلت، ولم يكن من كلام المسئول، وإنما جاء على الاسترشاد، لا على الإنكار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق