الأحد، 3 مارس 2013

2.مغني اللبيب

فحسبيَ من ذي عندَهم ما كفانيا
وقال العقيلي:
نحنُ الّذونَ صبّحوا الصباحا
وقال الهذلي:
همُ اللاّؤونَ فكوا الغُلَّ عني
والثاني نحو أعجبني أن قمتَ، أو ما قمتَ إذا قلنا بحرفية ما المصدرية، وفي هذا النوع يقال: الموصول وصلته في موضع كذا، لأن الموصول حرف فلا إعراب له لا لفظاً ولا محلاً، وأما قول أبي البقاء في (بما كانوا يكذبون): إن ما مصدرية وصلتها يكذبون وحكمه مع ذلك بأن يكذبون في موضع نصب خبراً لكان، فظاهرهُ متناقضٌ، ولعل مراده أن المصدر إنما ينسبك من ما ويكذبون، لا منها ومن كان، بناء على قول أبي العباس وأبي بكر وأبي عليّ وأبي الفتح وآخرين: إن كان الناقصة لا مصدر لها.
الجملة السابعة: التابعة لما لا محل له نحو قام زيد ولم يقم عمرو إذا قدّرت الواو عاطفة، لا واو الحال.
الجمل التي لها محل من الإعراب
وهي أيضاً سبع:


الجملة الأولى: الواقعة خبراً، وموضعها رفع في بابي المبتدأ وإنّ، ونصب في بابي كان وكاد، واختلف في نحو زيدٌ اضربْهُ، وعمروٌ هل جاءكَ فقيل: محل الجملة التي بعد المبتدأ رفع على الخبرية، وهو صحيح، وقيل: نصب بقول مضمر هو الخبر، بناء على أن الجملة الإنشائية لا تكون خبراً وقد مرّ إبطاله.
الجملة الثانية: الواقعة حالاً، وموضعها نصب، نحو (ولا تمنُنْ تستكثرُ) ونحو (لا تقربوا الصلاةَ وأنتمْ سُكارى)، (قالوا أنؤمنُ لكَ واتبعكَ الأرذلونَ) ومنه (وما يأتيهمْ من ذكرٍ منْ ربهمْ مُحدثٍ إلا استمعوهُ وهم يلعبون) فجملة استمعوه حال من مفعول يأتيهم، أو من فاعله، وقرئ محدثاً لأن الذكر مختص بصفته مع أنه قد سبق بالنفي؛ فالحالان على الأول - وهو أن يكون استمعوه حالاً من مفعول يأتيهم - مثلهما في قولك ما لقي الزّيدينِ عمرٌو مُصعداً إلا مُنحدرينِ وعلى الثاني - وهو أن يكون جملة استمعوه حالاً من فاعل يأتيهم - مثلهما في قولك ما لقي الزّيدينِ عمرٌو راكباً إلا ضاحكاً وأما (وهم يلعبون) فحالٌ من فاعل استمعوه فالحالان متداخلتان، ولاهية: حال من فاعل يلعبون وهذا من التداخل أيضاً، أو من فاعل (استمعوه) فيكون من التعدد لا من التداخل.
ومن مثُل الحالية أيضاً قولُه عليه الصلاة والسلام (أقربُ ما يكونُ العبدُ منْ ربهِ وهو ساجدٌ) وهو من أقوى الأدلة على أن انتصاب قائماً في ضربني زيداً قائماً على الحال، لا على أنه خبر لكان محذوفة؛ إذ لا يقترن الخبر بالواو وقولك ما تكلمَ فلانٌ إلا قالَ خيراً، كما تقول ما تكلم إلا قائلاً خيراً، وهو استثناء مفرغ من أحوال عامة محذوفة، وقول الفرزدق:
بأيدي رجالٍ لمْ يشيمُوا سُيوفهمْ ... ولمْ تكثُرِ القتلى بِها حينَ سُلتِ
لأن تقدير العطف مفسد للمعنى، وقول كعب رضي الله عنه:
صافٍ بأبطح أضحى وهْوَ مشمولُ
وأضحى تامة.
الجملة الثالثة: الواقعة مفعولاً، ومحلها النصب إن لم تنُبْ عن فاعل، وهذه النيابة مختصة بباب القول نحو (ثمَّ يقالَ هذا الذي كنتمْ بهِ تُكذبون) لما قدمناه من أن الجملة التي يُراد بها لفظُها تنزل منزلة الأسماء المفردة.
قيل: وتقع أيضاً في الجملة المقرونة بمعلِّقٍ، نحو عُلم أقام زيدٌ وأجاز هؤلاء وقوع هذه فاعلاً، وحملوا عليه (وتبيّن لكُم كيف فعَلْنا بهم)، (أو لمْ يهْدِ لهم كم أهلكْنا)، (ثمّ بدا لهم مِن بعد ما رأوا الآياتِ ليسجُنُنَّه) والصواب خلاف ذلك، وعلى قول هؤلاء فيزاد في الجمل التي لها محل الجملة الواقعة فاعلاً.
فإن قلت: وينبغي زيادتها على ما قدمت اختياره من جواز ذلك مع الفعل القلبيّ المعلق بالاستفهام فقط نحو ظهر لي أقام زيدٌ.
قلت: إنما أجزتُ ذلك على أن المسند إليه مضاف محذوف، لا الجملة.
وتقع الجملة مفعولاً في ثلاثة أبواب: أحدها: باب الحكاية بالقول أو مرادفه؛ فالأول نحو (قالَ: إني عبدُ الله) وهل هي مفعول به أو مفعول مطلق نوعي كالقرفصاء في قعد القرفصاء إذ هي دالة على نوع خاص من القول؟ فيه مذهبان ثانيهما اختيار ابن الحاجب قال: والذي غرّ الأكثرين أنهم ظنوا أن تعلق الجملة بالقول كتعلقها بعلم في علمت لزيد منطلق وليس كذلك لأن الجملة نفس القول والعلم غير المعلوم فافترقا، والصوابُ قولُ الجمهور؛ إذ يصح أن يخبر عن الجملة بأنها مقولة كما يخبر عن زيد من ضربتُ زيداً بأنه مضروب، بخلاف القرفصاء في المثال؛ فلا يصح أن يخبر عنها بأنها مقعودة؛ لأنها نفس القعود، وأما تسمية النحويين الكلام قولاً فكتسميتهم إياه لفظاً، وإنما الحقيقة أنه مقول وملفوظ. والثاني: نوعان: ما معه حرف التفسير كقوله:
وتَرمينني بالطّرفِ أي أنت مذنبٌ ... وتقلينني لكنّ إياكِ لا أقلي
وقولك كتبتُ إليه أنِ افعَل إذا لم تقدر باء الجر، والجملة في هذا النوع مفسرة للفعل فلا موضع لها، وما ليس معه حرف التفسير نحو (ووصى بها إبراهيمُ بنيهِ ويعقوبُ يا بنيَّ إنّ اللهَ اصطفى لكمُ الدّين) ونحو (ونادى نوحٌ ابنهُ وكان في معزلٍ يا بني اركَب معنا) وقراءة بعضهم (فدَعا ربهُ إني مغلوب) بكسر الهمزة وقوله:
رجْلانِ من مكّةَ أخبرانا ... إنا رأينا رجلاً عُريانا


روي بكسر إنّ فهذه الجمل في محل نصب اتفاقاً، ثم قال البصريون: النصب بقول مقدر، وقال الكوفيون: بالفعل المذكور، ويشهد للبصريين التصريحُ بالقول في نحو (ونادى نوحٌ ربهُ فقال ربِّ إنّ ابني من أهلي) ونحو (إذ نادى ربهُ نداءً خفيّاً قال ربّ إني وهنَ العظمُ مني) وقول أبي البقاء في قوله تعالى: (يوصيكُمْ اللهُ في أولادكم للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين) إن الجملة الثانية في موضع نصب بيوصي، قال: لأن المعنى يفرض لكم أو يشرع لكم في أمر أولادكم، إنما يصح هذا على قول الكوفيين، وقال الزمخشري: إن الجملة الأولى إجمال، والثانية تفصيل لها، وهذا يقتضي أنها عنده مفسرة ولا محل لها، وهو الظاهر.
تنبيهات
الأول: من الجمل المحكية ما قد يخفى؛ فمن ذلك في المحكية بعد القول (فحقَّ علينا قولُ ربنا إنا لذائقون) والأصل إنكم لذائقون عذابي، ثم عدل الى التكلم؛ بأنهم تكلموا بذلك عن أنفسهم، كما قال:
ألم ترَ أنّي يومَ جوِّ سُويْقةٍ ... بكيتُ فنادتني هنيدةُ ماليا
والأصل: مالَك، ومنه في المحكية بعد ما فيه معنى القول (أم لكم كتابٌ فيه تدرسونَ إنّ لكم فيه لَما تخيَّرون) أي تدرسون فيه هذا اللفظ، أو تدرسون فيه قولنا هذا الكلام، وذلك إما على أن يكونوا خوطبوا بذلك في الكتاب على زعمهم، أو الأصل إن لهم لما يتخيرون، ثم عدل الى الخطاب عند مواجهتهم، وقد قيل في قوله تعالى: (يدعو لمن ضرُّهُ أقربُ من نفعه) إن يدعو في معنى يقول، مثلها في قول عنترة:
يدعون عنترُ والرِّماحُ كأنها ... أشْطانُ بئرٍ في لَبانِ الأدهمِ
فيمن رواه عنترُ بالضم على النداء، وإن (مَن) مبتدأ، و(لبئس المولى) خبره، وما بينهما جملة اسمية صلة، وجملة (من) وخبرها محكية بيدعو، أي إن الكافر يقول ذلك في يوم القيامة، وقيل: مَن مبتدأ حذف خبره: أي إلهه، وإن ذلك حكاية لما يقول في الدنيا، وعلى هذا فالأصل يقول: الوثن إلههُ، ثم عبر عن الوثن بمن ضرُّه أقربُ من نفعه، تشنيعاً بالكافر.
الثاني
قد يقع بعد القول ما يحتمل الحكاية وغيرها نحو أتقولُ موسى في الدار فلك أن تقدر موسى مفعولاً أول وفي الدار مفعولاً ثانياً على إجراء القول مجرى الظن، ولك أن تقدرهما مبتدأ وخبراً على الحكاية كما في قوله تعالى: (أم تقولون إنّ ابراهيم وإسماعيل وإسحاق) الآية، ألا ترى أن القول قد استوفى شروط إجرائه مجرى الظن ومع هذا جيء بالجملة بعده محكية.
الثالث
قد يقع بعد القول جملة محكية ولا عمل للقول فيها، وذلك نحو أوّلُ قولي إني أحمدُ الله إذا كسرت إنّ، لأن المعنى أول قولي هذا اللفظ، فالجملة خبر لا مفعول، خلافاً لأبي عليّ، زعمَ أنها في موضع نصب بالقول، فبقي المبتدأ بلا خبر فقدر موجودٌ أو ثابت، وهذا المقدَّر يستغنى عنه، بل هو مفسد للمعنى، لأن أول قولي إني أحمد الله باعتبار الكلمات إن وباعتبار الحروف الهمزة فيفيد الكلام على تقديره الإخبار بأن ذلك الأول ثابت، ويقتضي بمفهومه أن بقية الكلام غير ثابت، الله إلا أن يقدر أول زائداً، والبصريون لا يجيزونه، وتبع الزمخشري أبا علي في التقدير المذكور، والصوابُ خلاف قولهما، فإن فتحت فالمعنى حمد الله، يعني بأي عبارة كانت.
الرابع
قد تقع الجملة بعد القول غيرَ محكية به، وهي نوعان: محكية بقول آخر محذوف كقوله تعالى (فماذا تأمرون) بعد (قال الملأُ منْ قومِ فرعونَ إنّ هذا لساحرٌ عليم) لأن قولهم تم عند قوله (منْ أرضكم) ثم التقدير: فقال فرعون بدليل (قالوا أرجهْ وأخاهُ) وقول الشاعر:
قالتْ له وهو بعيشٍ ضنكِ ... لا تُكثري لومي وخلي عنكِ
التقدير قالت له: أتذكر قولك لي إذ ألومك في الإسراف في الإنفاق: لا تكثري لومي، فحذف المحكية بالمذكور، وأثبت المحكية بالمحذوف.


وغير محكية، وهي نوعان: دالة على المحكية، كقولك قال زيدٌ لعمروٍ في حاتمٍ، أتظنُ حاتماً بخيلاً، فحذف المقول، وهو حاتم بخيل مدلولاً عليه بجملة الإنكار التي هي من كلامك دونه، وليس من ذلك قوله تعالى: (قالَ موسى أتقولونَ للحقِّ لما جاءكمْ أسحرٌ هذا) وإن كان الأصل والله أعلم أتقولون للحق لما جاءكم هذا سحر، ثم حذفت مقالتهم مدلولاً عليها بجملة الإنكار، لأن جملة الإنكار هنا محكية بالقول الأول، وإن لم تكن محكية بالقول الثاني. وغير دالة عليه نحو (ولا يحزُنكَ قولهمْ إنّ العزّةَ للهِ جميعاً)، وقد مرّ البحث فيها.
الخامس
قد يوصل بالمحكية غير محكي، وهو الذي يسميه المُحدِّثونَ مُدرَجاً، ومنه (كذلك يفعلون) بعد حكاية قولها، وهذه الجملة ونحوها مستأنفة لا يقدر لها قول.
الباب الثاني من الأبواب التي تقع فيها الجملة مفعولاً: باب ظن وأعلم، فإنها تقع مفعولاً ثانياً لظن وثالثاً لأعلم وذلك لأن أصلهما الخبر ووقوعه جملة سائغ كما مرّ وقد اجتمع وقوع خبريْ كان وإنْ والثاني من مفعولي باب ظن جملة في قول أبي ذؤيب:
فإن تزعُميني كنتُ أجهلُ فيكُم ... فإن شريتُ الحلمَ بعدكِ بالجهلِ
الباب الثالث: باب التعليق، وذلك غير مختص بباب ظن، بل هو جائز في كل فعل قلبي، ولهذا انقسمت هذه الجملة الى ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون في موضع مفعول مقيَّد بالجار، نحو (أو لَمْ يتفكروا ما بصاحبهم من جِنّة)، (فلْيَنظر أيُّها أزكى طعاماً)، (يسألون أيّان يومُ الدين) لأنه يقال: تفكّرت فيه، وسألت عنه، ونظرت فيه، ولكن علّقت هنا بالاستفهام عن الوصول في اللفظ الى المفعول، وهي من حيث المعنى طالبة له على معنى ذلك الحرف.
وزعم ابن عصفور أنه لا يُعلّق فعل غير علِمَ وظنّ حتى يضمن معناهما، وعلى هذا فتكون هذه الجملة سادة مسدّ المفعولين.
واختلف في قوله تعالى: (إذْ يُلقونَ أقلامهُمْ أيُّهمْ يكفُلُ مريم) فقيل: التقدير ينظرون أيهم يكفل مريم، وقيل: يتعرّفون، وقيل: يقولون؛ فالجملة على التقدير الأول مما نحن فيه، وعلى الثاني في موضع المفعول به المُسَرَّح، أي غير المقيد بالجار، وعلى الثالث ليست من باب التعليق البتة.
والثاني: أن تكون في موضع المفعول المسرح، نحو عرَفْتُ مَنْ أبوكَ وذلك لأنك تقول: عرفت زيداً، وكذا علمْتُ مَنْ أبوكَ إذا أردت علم بمعنى عرف، ومنه قول بعضهم:
أما ترى أيُّ برقٍ ها هنا
لأن رأى البصرية وسائرَ أفعالِ الحواسّ إنما تتعدّى لواحد بلا خلاف، إلا سمع المعلقة باسم عين نحو سمعْتُ زيداً يقرأ فقيل: سمع متعدية لإثنين ثانيهما الجملة، وقيل: الى واحد والجملة حال، فإن علقت بمسموع فمتعدية لواحد اتفاقاً، نحو (يومَ يسْمَعون الصّيحةَ بالحق).
وليس من الباب (ثم لَننْزِعنّ منْ كلّ شيعةٍ أيّهمْ أشد) خلافاً ليونس؛ لأن ننزع ليس بفعل قلبي، بل أي موصولة لا استفهامية، وهي المفعول، وضمتها بناء لا إعراب، وأشد: خبر لهو محذوفاً، والجملة صلة.
والثالث: أن تكون في موضع المفعولين، نحو (ولَتعْلَمُنّ أيُّنا أشدُّ عَذابا)، (لنَعْلَم أيُّ الحزبينِ أحْصى)، ومنه (وسيعْلَمُ الذين ظلَموا أيَّ مُنْقلبٍ ينقَلِبون) لأن أيّاً مفعول مطلق لينقلبون، لا مفعول به ليعلم؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ومجموع الجملة الفعلية في محل نصب بفعل العلم.
ومما يوهمون في إنشاده وإعرابه:
ستَعلم ليلى أيَّ دَيْنٍ تداينَت ... وأيُّ غريمٍ للتّقاضي غريمُها
والصوابُ فيه نصبُ أي الأولى على حد انتصابها في (أيَّ مُنقلَبٍ) إلا أنها مفعول به، لا مفعول مطلق، ورفْعُ أي الثانية مبتدأ، وما بعدها الخبر، والعلم معلّق على الجملتين المتعاطفتين الفعلية والاسمية.


واختلف في نحو عرَفْتُ زيْداً مَن هو فقيل: جملة الاستفهام حال، ورُدَّ بأن الجمل الإنشائية لا تكون حالاً، وقيل: مفعول ثان على تضمين عرَف معنى علم، ورُدّ بأن التضمين لا ينقاس، وهذا التركيب مَقيس، وقيل: بدل من المنصوب، ثم اختلف؛ فقيل: بدل اشتمال، وقيل: بدل كل، والأصل عرفت شأن زيد، وعلى القول بأن عرف بمعنى علم فهل يقال: إن الفعل معلَّقٌ أم لا؟ قال جماعة من المغاربة: إذا قلت علمتُ زيْداً لأبوهُ قائم أو ما أبوه قائم فالعامل معلق عن الجملة، وهو عامل في محلها النصب على أنها مفعول ثانٍ، وخالف في ذلك بعضهم؛ لأن الجملة حكمها في مثل هذا أن تكون في موضع نصب، وألا يؤثر العامل في لفظها وإن لم يوجد معلق، وذلك نحو علمتُ زَيْداً أبوه قائم واضطرب في ذلك كلامُ الزمخشري فقال في قوله تعالى (ليَبْلُوكُمْ أيُّكُم أحسَنُ عَملاً) في سورة هود: إنما جاز تعليق فعل البَلْوى لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنه طريق إليه، فهو ملابس له، كما تقول انْظُرْ أيُّهم أحسَن وجهاً، واستَمعْ أيُّهمْ أحسنُ صوْتاً لأن النظر والاستماع من طرق العلم، ولم أقف على تعليق النظر البصري والاستماع إلا من جهته، وقال في تفسير الآية في سورة الملك: ولا يسمى هذا تعليقاً، وإنما التعليق أن يوقَعَ بعد العامل ما يسدّ مسدّ منصوبيه جميعاً كعلمت أيهما عمرو ألا ترى أنه لا يفترق الحالُ - بعد تقدم أحد المنصوبين - بين مجيء ما له الصدر وغيره؟ ولو كان تعليقاً لافترقنا كما افترقا في علمت زيداً منطلقاً، وعلمت أزيد منطلق.
تنبيه
فائدة الحكم على محل الجملة في التعليق بالنصب ظهورُ ذلك في التابع، فتقول عرَفْتُ مَنْ زيدٌ وغيْرَ ذلك منْ أموره واستدل ابن عصفور بقول كُثيّر:
وما كنتُ أدري قبلَ عزّةَ ما البكا ... ولا موجعات القلبِ حتى تولت
بنصب موجعات ولك أن تدّعي أن البكا مفعول، وأن ما زائدة، أو أن الأصل ولا أدري موجعات فيكون من عطف الجمل، أو أن الواو للحال وموجعات اسم لا، أي وما كنت أدري قبل عزة والحالُ أنه لا موجعات للقلب موجودة: ما البكاءُ، ورأيت بخط الإمام بهاء الدين بن النحاس رحمه الله: أقمتُ مدة أقول: القياسُ جواز العطف على محل الجملة المعلق عنها بالنصب، ثم رأيته منصوباً، وممن نص عليه ابنُ مالك، ولا وجه للتوقف فيه مع قولهم: إن المعلق عامل في المحل.
الجملة الرابعة: المضاف إليها، ومحلها الجر، ولا يضاف الى الجملة إلا ثمانية: أحدها: أسماء الزمان، ظروفاً كانت أو أسماء، نحو (والسّلامُ عليَّ يومَ ولدتُ) ونحو (وأنذرِ الناسَ يومَ يأتيهمُ العذابُ) ونحو (لينذرَ يومَ التلاقِ يومَ همْ بارزون) ونحو (هذا يومُ لا ينطقون) ألا ترى أن اليوم ظرف في الأولى، ومفعول ثان في الثانية، وبدل منه في الثالثة، وخبر في الرابعة، وممكن في الثالثة أن يكون ظرفاً ليخفى من قوله تعالى (لا يخفى على الله منهمْ شيء).
ومن أسماء الزمان ثلاثة إضافتها الى الجُملة واجبة: إذ باتفاق، وإذا عند الجمهور، ولمّا عند من قال باسميتها. وزعم سيبويه أن اسم الزمان المبهم إن كان مستقبلاً فهو كإذا في اختصاصه بالجمل الفعلية، وإن كان ماضياً فهو كإذ في الإضافة الى الجملتين فتقول آتيك زمنَ يقدم الحاج ولا يجوز زمن الحاجُّ قادم وتقول أتيتك زمنَ قدم الحاجُّ، وزمن الحاجُّ قادم ورد عليه دعوى اختصاص المستقبل بالفعلية بقوله تعالى (يومَ همْ بارزون) وبقول الشاعر:
وكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعة ... بمغْنٍ فتيلاً عن سواد بن قارِب
وأجاب ابن عصفور عن الآية بأنه إنما يشترط حمل الزمان المستقبل على إذا إذا كان ظرفاً، وهي في الآية بدل من المفعول به لا ظرف، ولا يتأتي هذا الجواب في البيت، والجوابُ الشامل لما أن يوم القيامة لما كان محقق الوقوع جعل كالماضي؛ فحمل على إذ، لا على إذا، على حدّ (ونفخَ في الصّور).
الثاني: حيث، وتختص بذلك عن سائر أسماء المكان، وإضافتها الى الجملة لازمة، ولا يشترط لذلك كونها ظرفاً، وزعم المهدوي شارحُ الدُّريدية وليس بالمهدوي المفسر المقرئ أن حيث في قوله:
ثُمَّتَ راحَ في الملبِّينَ الى ... حيثُ تحجّى المأزِمانِ ومنى


لما خرجت عن الظرفية بدخول الى عليها خرجت عن الإضافة الى الجمل، وصارت الجملة بعدها صفة لها، وتكلف تقدير رابط لها، وهو فيه، وليس بشيء؛ لما قدمنا في أسماء الزمان.
الثالث: آية بمعنى علامة، فإنها تضاف جوازاً الى الجملة الفعلية المتصرف فعلها مثبتاً أو منفياً بما، كقوله:
بآيةِ يُقدِمونَ الخَيلَ شعثاً
وقوله:
بآية ما كانوا ضِعافاً ولا عُزلا
هذا قول سيبويه، وزعم أبو الفتح أنها إنما تضاف الى المفرد نحو (آية مُلكه أن يأتيكم التّابوتُ) وقال: الأصل بآية ما يقدمون، أي بآية إقدامكم كما قال:
بآية ما يحِبّون الطّعاما
وفي حذف موصول حرفي غير أن وبقاء صلته، ثم هو غير متأتٍ في قوله:
بآية ما كانوا ضعافاً ولا عُزْلا
الرابع: ذو في قولهم اذهَبْ بذي تَسلم والباء في ذلك ظرفية، وذي صفة لزمن محذوف، ثم قال الأكثرون: هي بمعنى صاحب؛ فالموصوف نكرة، أي اذهب في وقت صاحب سلامة أي في وقت هو مظنّة السلامة، وقيل: بمعنى الذي فالموصوف معرفة، والجملة صلة فلا محل لها، والأصل: اذهب في الوقت الذي تسلم فيه، ويضعفه أن استعمال ذي موصولة مختص بطيئ، ولم ينقل اختصاص هذا الاستعمال بهم، وأن الغالب عليها في لغتهم البناء، ولم يسمع هنا إلا الإعراب، وأن حذف العائد المجرور هو والموصول بحرف متحد المعنى مشروط باتحاد المتعلق نحو (ويشرَبُ ممّا تشْرَبون) والمتعلق هنا مختلف، وأن هذا العائد لم يذكر في وقت، وبهذا الأخير يضعف قولُ الأخفش في (يا أيها الناسُ): إن أيّاً موصولة والناس خبر لمحذوف، والملة صلة وعائد، أي يا من هم الناس، على أنه قد حذف العائد حذفاً لازماً في نحو:
ولا سيما يومٌ ......
فيمن رفع، أي لا مثل الذي هو يوم، ولم يسمع في نظائره ذكر العائد؛ ولكنه نادر؛ فلا يحسن الحمل عليه.
والخامس والسادس: لدُنْ وريثَ، فإنهما يضافان جوازاً الى الجملة الفعلية التي فعلها متصرف، ويشترط كونه مثبتاً، بخلافه مع آية.
فأما لدُن فهي اسم لمبدأ الغاية، زمانية كانت أو مكانية، ومن شواهدها قوله:
لزِمنا لدُن سالمتمونا وفاقكم ... فلا يكُ منكم للخلاف جنوحُ
وأما رَيثَ فهي مصدر راثَ إذا أبطأ، وعوملت معاملة أسماء الزمان في الإضافة الى الجملة، كما عوملت المصادر معاملة أسماء الزمان في التوقيت كقولك جئتُكَ صَلاةَ العصر قال:
خليليَّ رفْقاً ريثَ أقضي لبانَةً ... منَ العرَصاتِ المذْكرات عُهودا
وزعم ابن مالك في كافيته وشرحها أن الفعل بعدهما على إضمار أنْ، والأول قوله في التسهيل وشرحه، وقد يعذر في ريثَ؛ لأنها ليست زماناً، بخلاف لدُن، وقد يجاب بأنها لما كانت لمبدأ الغايات مطلقاً لم تخلص للوقت، وفي الغرة لابن الدهان أن سيبويه لا يرى جواز إضافتها الى الجملة، ولهذا قال في قوله:
من لدُ شَولاً ......
إن تقديره من لد أن كانت شولا ولم يقدر من لد كانت.
والسابع والثامن: قول وقائل كقوله:
قولُ يا للرِّجالِ يُنهضُ مِنا ... مسرعينَ الكُهولَ والشبانا
وقوله:
وأجَبتُ قائلَ كيف أنت بصالح ... حتى مللتُ وملّني عوّادي
والجملة الخامسة: الواقعة بعد الفاء أو إذا جواباً لشرط جازم، لأنها لم تصدّر بمفرد يقبل الجزم لفظاً كما في قولك إن تقُمْ أقُم أو محلاً كما في قولك إن جئتني أكرمتكَ.
مثالُ المقرونة بالفاء (منْ يُضلِلِ الله فلا هادي له ويذرُهم) ولهذا قرئ بجزم يذر عطفاً على المحل.
ومثال المقرونة بإذا (وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمتْ أيديهم إذا هم يقنطون) والفاء المقدرة كالموجودة كقوله:
من يفعل الحسناتِ اللهُ يشكرُها
ومنه عند المبرد نحو إن قمت أقوم وقول زهير:
وإن أتاهُ خليلٌ يوم مَسْغَبةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ


وهذا أحد الوجهين عند سيبويه، والوجه الآخر أنه على التقديم والتأخير؛ فيكون دليل الجواب لا عينه، وحينئذ فلا يجزم ما عطف عليه، ويجوز أن يفسر ناصباً لما قبل الأداة، نحو زَيْداً إن أتاني أكرِمُهُ ومنع المبرد تقدير التقديم، محتجاً بأنّ الشيء إذا حلّ في موضعه لا ينوى به غيره، وإلا لجاز ضَرَبَ غُلامُهُ زَيْداً وإذا خلا الجواب الذي لم يجزم لفظه من الفاء وإذا، نحو إنْ قامَ زيدٌ قامَ عمْروٌ فمحل الجزم محكوم به للفعل لا للجملة، وكذا القول في فعل الشرط، قيل: ولهذا جاز نحو إنْ قام ويَقْعُدا أخَواكَ على إعمال الأول، ولو كان محل الجزم للجملة بأسرِها لزم العطف على الجملة قبل أن تكمل.
تنبيه
قرأ غيرُ أبي عمرو (لولا أخّرْتَني الى أجَلٍ قريبٍ فأصّدَّقَ وأكُنْ) بالجزم، فقيل: عطف على ما قبله على تقدير إسقاط الفاء، وجزْمِ أصدق ويسمى العطف على المعنى، ويقال له في غير القرآن العطف على التوهّم، وقيل: عطف على محل الفاء وما بعدها وهو أصدّق ومحله الجزم؛ لأنه جواب التخصيص، ويجزم بإنْ مقدرة، وإنه كالعطف على (مَنْ يُضْلِلِ الله فلا هاديَ لهُ ويذَرْهُمْ) بالجزم، وعلى هذا فيضاف الى الضابط المذكور أن يقال: أو جواب طلب، ولا تقيد هذه المسألة بالفاء؛ لأنهم أنشدوا على ذلك قوله:
فأبلوني بليَّتَكُم لعَلّي ... أصالحِكُمْ وأسْتَدْرِجْ نَوَيّا
وقال أبو علي: عطف أستدرج على محل الفاء الداخلة في التقدير على لعلّي وما بعدها، قلت: فكأن هذا هنا بمنزلة:
مَنْ يَفعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها
في باب الشرط، وبعد فالتحقيق أن العطف في الباب من العطف على المعنى؛ لأن المنصوب بعد الفاء في تأويل الاسم، فكيف يكون هو والفاء في محل الجزم؟ وسأوضح ذلك في باب أقسام العطف.
الجملة السادسة: التابعة لمفرد، وهي ثلاثة أنواع: أحدها: المنعوت بها؛ فهي في موضع رفع في نحو (منْ قبلِ أن يأتيَ يومٌ لا بيعٌ فيه)، ونصب في نحو (واتّقوا يوما تُرجَعونَ فيه)، وجرّ في نحو (ربّنا إنك جامعُ الناسِ ليومٍ لا ريب فيه). ومن مُثُل المنصوبة المحل (ربنا أنزلْ علينا مائدةً من السماءِ تكون لنا عيداً)، (خُذْ من أموالهِمْ صدقَةً تُطهّرُهُمْ) الآية؛ فجملة (تكون لنا عيداً) صفة لمائدة، وجملة (تطهرهم وتزكيهم) صفة لصدقة، ويحتمل أن الأولى حال من ضمير مائدة المستتر في من السماء على تقديره صفة لها لا متعلقاً بأنزل، أو من مائدة على هذا التقدير؛ لأنها قد وصفت، وأن الثانية حال من ضمير خذ، ونحو (فهبْ لي منْ لدُنْكَ وليّاً يرِثُني) أي ولياً وارثاً، وذلك فيمن رفع يرث وأما مَن جزمه فهو جواب للدعاء، ومثل ذلك (فأرْسِلْهُ معي رِدْأ يُصدّقني) قرئ برفع يصدق وجزمه.
والثاني: المعطوفة بالحرف، نحو زيد منطلق وأبوه ذاهب إن قدرت الواو عاطفة على الخبر؛ فلو قدرت العطف على الجملة فلا موضع لها، أو قدرت الواو واو الحال فلا تبعية والمحل نصب.
وقال أبو البقاء في قوله تعالى (ألم ترَ أن الله أنزلَ منَ السماءِ ماءً فتُصبحُ الأرضُ مخْضَرةً): الأصلُ فهي تصبح، والضمير للقصة، وتصبح خبره، أو تصبح بمعنى أصبحت، وهو معطوف على أنزل فلا محل له إذن.
وفيه إشكالان: أحدهما أنه لا محوج في الظاهر لتقدير ضمير القصة، والثاني تقديره الفعل المعطوف على الفعل المخبر به لا محل له.
وجواب الأول أنه قد يكون قدر الكلام مستأنفاً، والنحويون يقدرون في مثل ذلك مبتدأ كما قالوا في وتشربُ اللبنَ فيمن رفع: إن التقدير: وأنت تشرب اللبن، وذلك إما لقصدهم إيضاح الاستئناف، أو لأنه لا يستأنف إلا على هذا التقدير، وإلا لزم العطف الذي هو مقتضى الظاهر.
وجواب الثاني أن الفاء نزّلت الجملتين منزلة الجملة الواحد، ولهذا اكتفى فيهما بضمير واحد، وحينئذ فالخبر مجموعهما كما في جملتي الشرط والجزاء الواقعتين خبراً، والمحل لذلك المجموع، وأما كل منهما فجزء الخبر؛ فلا محل له، فافهمه فإنه بديع.
ويجب على هذا أن يدعى أن الفاء في ذلك وفي نظائره من نحو زيدٌ يطيرُ الذبابُ فيغضبُ قد أخلصت لمعنى السببية، وأخرجت عن العطف، كما أن الفاء كذلك في جواب الشرط، وفي نحو أحسنَ إليكَ فُلان فأحسنْ إليه ويكون ذكر أبي البقاء للعطف تجوزاً أو سهواً.


ومما يلحق بهذا البحث أنه إذا قيل: قال زيدٌ عبدُ اللهِ منطلقٌ وعمروٌ مُقيمٌ فليست الجملة الأولى في محل نصب والثانية تابعة لها، بل الجملتان معاً في موضع نصب، ولا محل لواحدة منهما؛ لأن المقول مجموعهما، وكل منهما جزء للمقول، كما أن جزأي الجملة الواحدة لا محل لواحد منهما باعتبار القول فتأمله.
الثالث: المبدلة كقوله تعالى: (ما يُقالُ لكَ إلا ما قد قيلَ للرُسُل من قبلكَ إنّ ربكَ لذو مغفرةٍ وذو عقابٍ أليم) فإنّ وما عملت فيه بدلٌ من ما وصلتها، وجاز إسناد يقال الى الجملة كما جاز في (وإذا قيلَ إنّ وعدَ اللهِ حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها) هذا كله إن كان المعنى ما يقول الله لك إلا ما قد قيل، فأما إن كان المعنى ما يقول لك كفار قومك من الكلمات المؤذية إلا مثل ما قد قال الكفار الماضون لأنبيائهم، وهو الوجه الذي بدأ به الزمخشري، فالجملة استئناف.
ومن ذلك (وأسرّوا النجوى) ثم قال الله تعالى: (هل هذا إلا بشرٌ مثلكمْ أفتأتونَ السِّحْرَ) قال الزمخشري: هذا في موضع نصب بدلاً من النجوى، ويحتمل التفسير، وقال ابن جني في قوله:
الى اللهِ أشكو بالمدينةِ حاجةً ... وبالشّامِ أخرى كيفَ يلتقيانِ؟
جملة الاستفهام بدل من حاجة وأخرى، أي الى الله أشكو حاجتين تعذُّر التقائهما.
الجملة السابعة: التابعة لجملة لها محل. ويقع ذلك في بابي النّسق والبدل خاصة.
فالأول نحو زيدٌ قامَ أبوهُ وقعدَ أخوه إذا لم تقدر الواو للحال، ولا قدت العطف على الجملة الكبرى.
والثاني شرطه كون الثانية أوفى من الأولى بتأدية المعنى المراد نحو (واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدَّكمْ بأنعامٍ وبنينَ وجناتٍ وعُيون) فإن دلالة الثانية على نعم الله مُفصّلة، بخلاف الأولى، وقوله:
أقولُ له ارحلْ لا تُقيمنَّ عندنا
فإن دلالة الثانية على ما أراده من إظهار الكراهية لإقامته بالمطابقة، بخلاف الأولى.
قيل: ومن ذلك قوله:
ذكرتُكِ والخطّيُّ يخطِرُ بيننا ... وقدْ نهِلتْ منا المُثقفةُ السُّمرُ
فإنه أبدل وقد نهلت من قوله والخطي يخطر بيننا بدل اشتمال.
وليس متعيناً؛ لجواز كونه من باب النسق، على أن تقدر الواو للعطف، ويجوز أن تقدر واو الحال، وتكون الجملة حالاً، إما من فاعل ذكرتك على المذهب الصحيح في جواز ترادُف الأحوال، وإما من فاعل يخطر فتكون الحالان متداخلتين، والرابط على هذا الواو، وإعادة صاحب الحال بمعناه، فإنّ المثقّفة السُّمر هي الرماح.
ومن غريب هذا الباب قولكَ قلت لهم قوموا أوّلُكم وآخرُكم زعم ابن مالك أن التقدير: ليقم أولكم وآخركم، وأنه من باب بدل الجملة من الجملة لا المفرد من المفرد، كما قال في العطف في نحو (اسكنْ أنتَ وزوجُكَ الجنّة) و(لا نُخلِفُه نحنُ ولا أنتَ مكاناً سُوًى) و(لا تُضارَّ والدةٌ بولدها ولا مولودٌ لهُ بولده).
تنبيه
هذا الذي ذكرته - من انحصار الجمل التي لها محل في سبع - جارٍ على ما قرّروا، والحق أنها تسع، والذي أهملوه: الجملة المستثناة، والجملة المسند إليها.
أما الأولى فنحو (لستَ عليهمْ بمُسيطرٍ إلا من تولى وكفرَ فيعذِّبهُ اللهُ) قال ابن خروف: مَن مبتدأ، ويعذبه الله الخبر، والجملة في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، وقال الفراء في قراءة بعضهم (فشربوا منهُ إلا قليلٌ منهم): إن قليلٌ مبتدأ حذف خبره أي لم يشربوا، وقال جماعة في (إلا امرأتكَ) بالرفع: إنه مبتدأ والجملة بعده خبر. وليس من ذلك نحو ما مررتُ بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه لأن الجملة هنا حال من أحد باتفاق، أو صفة له عند الأخفش، وكل منهما قد مضى ذكره، وكذلك الجملة في (إلا إنهمْ ليأكلونَ الطعامَ) فإنها حال، وفي نحو ما علمت زيداً إلا يفعل الخير فإنها مفعول، وكل ذلك قد ذكر.
وأما الثانية: فنحو (سواء عليهم أأنذرتهمْ) الآية إذا أعرب سواء خبراً، وأنذرتهم مبتدأ، ونحو تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه إذا لم تقدر الأصل أن تسمع، بل يقدر تسمع قائماً مقام السماع، كما أن الجملة بعد الظرف في نحو (ويومَ نُسيِّرُ الجبال) وفي نحو أأنذرتهم في تأويل المصدر، وإن لم يكن معهما حرف سابك.


واختلف في الفاعل ونائبه هل يكونان جملة أم لا؟ فالمشهور المنع مطلقاً، وأجازه هشام وثعلب مطلقاً نحو يُعجبني قام زيد وفصّل الفراء وجماعة ونسبوه لسيبويه فقالوا: إن كان الفعلُ قلبياً ووجد مُعلِّق عن العمل نحو ظهر لي أقام زيد صحّ، وإلا فلا، وحملوا عليه (ثم بدا لهمْ من بعدِ ما رأوا الآيات ليسجُننه حتى حين) ومنعوا يعجبني يقوم زيد وأجازهما هشام وثعلب، واحتجا بقوله:
وما راعني إلاّ يسيرُ بشُرطةٍ
ومنع الأكثرون ذلك كله، وأوّلوا ما ورد مما يوهمه، فقالوا: في بدا ضمير البداء، وتسمع ويسير على إضمار أن.
وأما قوله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) وقوله عليه الصلاة والسلام (لا حولَ ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) وقول العرب زعموا مطيةُ الكذب، فليس من باب الإسناد الى الجملة؛ لما بينا في غير هذا الموضع.
حكم الجمل بعد المعارف وبعد النكرات
يقول المعربون على سبيل التقريب: الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال. وشرحُ المسألة مستوفاة أن يقال: الجمل الخبرية التي لم يستلزمها ما قبلها إن كانت مرتبطة بنكرة محضة، فهي صفة لها، أو بمعرفة محضة فهي حال عنها، أو بغير المحضة منهما فهي محتملة لهما، وكل ذلك بشرط وجود المقتضي وانتفاء المانع.
مثال النوع الأول، وهو الواقع صفة لا غير لوقوعه بعد النكرات المحضة، قوله تعالى (حتى تُنزلَ علينا كتاباً نقرؤه)، (لمَ تعظونَ قوماً اللهُ مُهلكُهمْ أو مُعذِّبُهم) (من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه)، ومنه (حتى إذا أتيا أهلَ قريةٍ استطعما أهلها) وإنما أعيد ذكر الأهل لأنه لو قيل استطعماهم مع أن المراد وصف القرية لزم خلو الصفة من ضمير الموصوف، ولو قيل استطعماها كان مجازاً، ولهذا كان هذا الوجه أولى من أن تقدر الجملة جواباً لإذا؛ لأن تكرار الظاهر يَعرى حينئذ عن هذا المعنى، وأيضاً فلأنّ الجواب في قصة الغلام (قال أقتلتَ) لا قوله (فقتله) لأن الماضي المقرون بالفاء لا يكون جواباً، فليكن (قال) في هذه الآية أيضاً جواباً.
ومثال النوع الثاني - وهو الواقع حالاً لا غير لوقوعه بعد المعارف المحضة - (ولا تمنُنْ تستكثرُ)، (لا تقربوا الصلاةَ وأنتمْ سُكارى).
ومثال النوع الثالث - وهو المحتم لهما بعد النكرة - (وهذا ذكرٌ مباركٌ أنزلناه) فلك أن تقدر الجملة صفة للنكرة وهو الظاهر، ولك أن تقدرها حالاً منها لأنها قد تخصصت بالوصف وذلك يقربها من المعرفة، حتى إن أبا الحسن أجاز وصفها بالمعرفة فقال في قوله تعالى (فآخرانِ يقومانِ مقامهُما منَ الذينَ استحقَّ عليهم الأوْليانِ) إن (الأوليان) صفة لآخران لوصفه بيقومان، ولك أن تقدرها حالاً من المعرفة وهو الضمير في (مبارك) إلا أنه قد يضعف من حيث المعنى وجها الحال؛ أما الأول فلأن الإشارة إليه لم تقع في حال الإنزال كما وقعت الإشارة الى البعل في حالة الشيخوخة في (وهذا بعلي شيخاً)، وأما الثاني فلاقتضائه تقييدَ البركة بحالة الإنزال، وتقول ما فيها أحدٌ يقرأ فيجوز الوجهان أيضاً؛ لزوال الإبهام عن النكرة بعمومها.
ومثال النوع الرابع - وهو المحتمل لهما بعد المعرفة - (كمثَل الحمار يحملُ أسفاراً) فإن المعرف الجنسي يقرب في المعنى من النكرة، فيصح تقدير (يحمل) حالاً أو وصفاً ومثله (وآيةٌ لهمُ الليلُ نسلخُ منهُ النهار) وقوله:
ولقدْ أمرُّ على اللئيم يسُبُّني
وقد اشتمل الضابط المذكور على قيود: أحدها: كون الجملة خبرية، واحترزت بذلك من نحو هذا عبدٌ بعتُكه تريد بالجملة الإنشاء وهذا عبدي بعتُكه كذلك، فإن الجملتين مستأنفتان، لأن الإنشاء لا يكون نعتاً ولا حالاً، ويجوز أن يكونا خبرين آخرين إلا عند مَن منع تعدد الخبر مطلقاً، وهو اختيار ابن عصفور، وعند من منع تعدده مختلفاً بالإفراد والجملة، وهو أبو علي، وعند من منع وقوع الإنشاء خبراً، وهم طائفة من الكوفيين.
ومن الجمل ما يحتمل الإنشائية والخبرية فيختلف الحكم باختلاف التقدير، وله أمثلة: منها: قوله تعالى (قالَ رجُلان منَ الذينَ يخافونَ أنعمَ الله عليهما) فإن جملة (أنعم الله عليهما) تحتمل الدعاء فتكون معترضة، والإخبارَ فتكون صفة ثانية، ويضعف من حيث المعنى أن تكون حالاً، ولا يضعف في الصناعة لوصفها بالظرف.


ومنها: قوله تعالى (أو جاؤوكمْ حصرتْ صُدورُهم) فذهب الجمهور الى أن (حصرتْ صدورُهم) جملة خبرية، ثم اختلفوا فقال جماعة منهم الأخفش: هي حال من فاعل جاء على إضمار قد، ويؤيده قراءة الحسن (حصرةً صدورُكم) وقال آخرون: هي صفة؛ لئلا يحتاج الى إضمار قد، ثم اختلفوا فقيل: الموصوف منصوب محذوف، أي قوماً حصرت صدورهم، ورأوا أن إضمار الاسم أسهل من إضمار حرف المعنى، وقيل: مخفوض مذكور وهم قوم المتقدم ذكرهم، فلا إضمار البتة، وما بينهما اعتراض، ويؤيده أنه قرئ بإسقاط (أو) وعلى ذلك فيكون (جاؤوكم) صفة لقوم، ويكون (حصرت) صفة ثانية، وقيل: بدل اشتمال من (جاؤوكم) لأن المجيء مشتمل على الحصر، وفيه بعد، لأن الحصرَ من صفة الجائين، وقال أبو العباس المبرد: الجملة إنشائية معناها الدعاء، مثل (غُلَّتْ أيديهمْ) فهي مستأنفة، ورد بأن الدعاء عليهم بضيق قلوبهم عن قتال قومهم لا يتجه.
ومن ذلك قوله تعالى (واتقوا فتنةً لا تُصيبنَّ الذين ظلموا منكمْ خاصةً) فإنه يجوز أن تقدر لا ناهية ونافية، وعلى الأول فهي مَقولة لقول محذوف هو الصفة، أي فتنة مَقولاً فيها ذلك، ويرجحه أن توكيد الفعل بالنون بعد لا الناهية قياس نحو (ولا تحْسبنَّ اللهَ غافِلاً) وعلى الثاني فهي صفة لفتنة، ويرجحه سلامته من تقدير.
القيد الثاني: صلاحيتها للاستغناء غنها، وخرج بذلك جملة الصلة. وجملة الخبر، والجملة المحكية بالقول؛ فإنها لا يستغنى عنها، بمعنى أن معقولية القول متوقفة عليها وأشباه ذلك.
القيد الثالث: وجود المقتضي، واحترزت بذلك عن نحو (فعلوه) من قوله تعالى (وكلُّ شيءٍ فعلوه في الزُبر) فإنه صفة لكل أو لشيء، ولا يصح أن يكون حالاً من كل مع جواز الوجهين في نحو أكرم كل رجل جاءك لعدم ما يعمل في الحال، ولا يكون خبراً، لأنهم لم يفعلوا كل شيء، ونظيره قوله تعالى (لوْلا كتابٌ من الله سَبقَ) يتعين كون (سبق) صفة ثانية، لا حالاً من الكتاب، لأن الابتداء لا يعمل في الحال، ولا من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، لأن أبا الحسن حكى أن الحال لا يذكر بعد لولا كما لا يذكر الخبر، ولا يكون خبراً لما أشرنا إليه، ولا ينقض الأول بقوله لوْلا رأسُك مدْهوناً ولا الثاني بقول الزبير رضي الله عنه:
ولولا بنوها حوْلها لخبطتُها
لندورهما، وأما قول ابن الشجري في (ولوْلا فضلُ اللهِ عليكُمْ): إن عليكم خبر، فمردود، بل هو متعلق بالمبتدأ، والخبر محذوف.
القيد الرابع: انتفاء المانع، والمانع أربعة أنواع أحدها: ما يمنع حالية كانت متعينة لولا وجوده، ويتعين حينئذ الاستئنافُ نحو زارني زيد سأكافئه أو لن أنسى له ذلك فإن الجملة بعد المعرفة الحضة حال، ولكن السين ولنْ مانعان، لأن الحالية لا تصدَّر بدليل استقبال، وأما قول بعضهم في (وقالَ إني ذاهبٌ الى ربي سيَهْدين): إن (سيهدين) حال كما تقول سأذهب مَهدياً فسهو. والثاني: ما يمنع وصفية كانت متعينة لولا وجود المانع، ويمتنع فيه الاستئناف، لأن المعنى على تقييد المتقدم، فيتعين الحالية بعد أن كانت ممتنعة، وذلك نحو (وعسى أنْ تكرَهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُمْ وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرٌ لكمْ)، (أو كالذي مرّ على قريةٍ وهيَ خاويةٌ) وقوله:
مضى زمنٌ والنّاسُ يستشفِعونَ بي
والمعارض فيهن الواو؛ فإنها لا تعترض بين الموصوف وصفته، خلافاً للزمخشري، ومنْ وافقه. والثالث: ما يمنعهما معاً، نحو (وحِفظاً منْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ لا يسّمعون) وقد مضى البحث فيها. والرابع: ما يمنع أحدهما دون الآخر ولولا المانع لكانا جائزين، وذلك نحو ما جاءني أحد إلا قال خيراً فإن جملة القول كانت قبل وجود إلا محتملة للوصفية والحالية، ولما جاءت إلا امتنعت الوصفية. ومثله: (وما أهْلكْنا منْ قرْية إلا لها مُنذِرون) وأما (وما أهْلكْنا منْ قريةٍ إلا ولَها كتابٌ معلوم) فللوصفية مانعان الواو وإلا، ولم ير الزمخشري وأبو البقاء واحداً منهما مانعاً، وكلام النحويين بخلاف ذلك، قال الأخفش: لا تفصل إلا بين الموصوف وصفته، فإن قلت ما جاءني رجل إلا راكب فالتقدير إلا رجل راكب، يعني أن راكباً صفة لبدل محذوف، قال: وفيه قبح، لجعلك الصفة كالاسم، يعني في إيلائك إياها العامل، وقال الفارسي: لا يجوز ما مررتُ بأحد إلا قائم فإن قلت إلا قائماً جاز، ومثل ذلك قوله:


وقائلةٍ تخْشى عليَّ: أظنُّهُ ... سيُودي بهِ ترْحالُهُ وجعائِلُهْ
فإن جملة تخشى عليَّ حال من الضمير في قائلة، ولا يجوز أن يكون صفة لها، لأن اسم الفاعل لا يوصف قبل العمل والله أعلم.
الباب الثالث
في ذكر أحكام ما يشبه الجملة
وهو الظرف والجار والمجرور
ذكر حكمهما في التعلق
لابد من تعلقهما بالفعل، أو ما يشبهه، أو ما أوِّل بما يشبهه، أو ما يشير الى معناه، فإن لم يكن شيء من هذه الأربعة موجوداً قُدِّر، كما سيأتي.
وزعم الكوفيون وابنا طاهر وخروف أنه لا تقدير في نحو زيد عندك، وعمرو في الدار مث اختلفوا؛ فقال ابنا طاهر وخروف: الناصب المبتدأ، وزعما أنه يرفع الخبر إذا كان عيْنه نحو زيدٌ أكوك وينصبه إذا كان غيره، وأن ذلك مذهب سيبويه. وقال الكوفيون: الناصب أمر معنوي، وهو كونهما مخالفَين للمبتدأ.
ولا معوَّل على هذين المذهبين.
مثالُ التعلق بالفعل وبشبهه قولُ تعالى (أنْعَمتَ عليهِم غيرِ المغضوبِ عليهمْ) وقول ابن دريد:
واشْتعلَ المبيضُّ في مُسودِّه ... مثلَ اشْتِعالِ النّار في جزْلِ الغضى
وقد تقدر في الأولى متعلقة بالمبيض، فيكون تعلق الجارين بالاسم، ولكن تعلق الثاني بالاشتعال يرجح تعلق الأول بفعله، لأنه أتم لمعنى التشبيه، وقد يجوز تعلق في الثانية بكونٍ محذوفٍ حالاً من النار، ويبعده أن الأصل عدم الحذف.
ومثالُ التعلق بما أول بمشبه الفعل قولُه تعالى (وهو الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إله) أي وهو الذي هو إلهٌ في السماء؛ ففي متعلقة بإله، وهو اسم غير صفة، بدليل أنه يوصف فتقول إلهٌ واحد ولا يوصف به لا يقال شيء إله، وإنما صح التعلق به لتأوله بمعبود، وإله خبر لهو محذوفاً، ولا يجوز تقدير إله مبتدأ مخبراً عنه بالظرف أو فاعلاً بالظرف لأن الصلة حينئذ خالية من العائد، ولا يحسن تقدير الظرف صلة وإله بدلاً من الضمير المستتر فيه، وتقدير (وفي الأرض إله) معطوفاً كذلك، لتضمنه الإبدالَ من ضمير العائد مرتين، وفيه بعد، حتى قيل بامتناعه، ولأن الحمل على الوجه البعيد ينبغي أن يكون سببه التخلص به من محذور، فأما أن يكون هو مُوقِعاً فيما يحوج الى تأويلين فلا، ولا يجوز على هذا الوجه أن يكون (وفي الأرض إله) مبتدأ وخبراً، لئلا يلزم فساد المعنى إن استؤنف، وخلو الصلة من عائد إن عطف.
ومن ذلك أيضاً قوله:
وإنّ لساني شهدةٌ يُشْتفى بها ... وهو على منْ صبّهُ الله علقمُ
أصله علقم عليه فعلى المحذوفة متعلقة بصبه، والمذكورة متعلقة بعلقم، لتأوله بصعب، أو شاق، أو شديد. ومن هنا كان الحذف شاذاً، لاختلاف متعلقي جار الموصول وجار العائد.
ومثال التعلق بما فيه رائحته قوله:
أنا أبو المنهال بعضَ الأحيانْ
وقوله:
أنا ابنُ ماويّةَ إذ جدّ النّقُرْ
فتعلق بعض وإذ بالاسمين العلمين، لا لتأولهما باسم يشبه الفعل، بل لما فيهما من معنى قولك الشجاعأو الجواد. وتقول فلان حاتم في قومِه فتعلق الظرف بما في حاتم من معنى الجود، ومن هنا رُدَّ على الكسائي في استدلاله على إعمال اسم الفاعل المصغر بقول بعضهم أظنني مُرتحِلاً وسُويّراً فرْسخاً وعلى سيبويه في استدلاله على إعمال فَعيلٍ بقوله:
حتى شآها كَليلٌ موْهِناً عَمِلٌ
وذلك أن فرسخا ظرف مكان وموْهنا ظرف زمان، والظرف يعمل فيه روائح الفعل، بخلاف المفعول به، ويوضح كون الموْهن ليس مفعولاً به أن كليلاً من كلّ، وفعله لا يتعدّى، واعتُذر عن سيبويه بأن كليلاً بمعنى مُكل، وكأن البرق يُكلُ الوقتَ بدوامه فيه، كما يقال أتْعبتَ يومكَ أو بأنه إنما استشهد به على أن فاعلاً يُعدَل الى فعيل للمبالغة، ولم يستدل به على الإعمال، وهذا أقرب؛ فإن في الأول حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة، وقال ابن مالك في قول الشاعر:
ونِعمَ منْ هو في سِرٍّ وإعلانِ


يجوز كون منْ موصولة فاعلة بنعم، وهو مبتدأ خبرُه هو أخرى مقدرة، وفي متعلقة بالمقدرة، لأن فيها معنى الفعل، أي الذي هو مشهور، انتهى. والأولى أن يكون المعنى الذي هو مُلازم لحالة واحدة في سر وإعلان. وقدّر أبو علي منْ هذه تمييزاً، والفاعل مستتر. وقد أجيز في قوله تعالى: (وهوَ اللهُ في السمواتِ وفي الأرض) تعلقهُ باسم الله تعالى وإن كان عَلماً، على معنى وهو المعبود أو وهو المسمّى بهذا الاسم، وأجيز تعلقه ب(يعلم)، وب(سركم) و(جهركم)، وبخبر محذوف قدره الزمخشري ب(عالم)، ورد الثاني بأن فيه تقديه معمول المصدر وتنازع عاملين في متقدم، وليس بشيء، لأن المصدر هنا ليس مقدراً بحرف مصدري وصلته، ولأنه قد جاء نحو (بالمؤمنين رؤوف رَحيم) والظرف متعلقٌ بأحد الوصفين قطعاً؛ فكذا هنا، ورد أبو حيان الثالث بأن في لا تدل علىعالم ونحوه من الأكوان الخاصة، وكذا ردّ على تقديرهم في (فطلّقوهنَّ لعدّتهنّ) مستقبلات لعدتهن، وليس بشيء، لأن الدليل ما جرى في الكلام من ذكر العلم، فإن بعده (يعلم سركم وجهركم) وليس الدليل حرف الجر، ويقال له: إذا كنت تجيز الحذف للدليل المعنوي مع عدم ما يسدّ مسدّه فكيف تمنعه مع وجود ما يسد؟ وإنما اشترطوا الكونَ المطلقَ لوجوب الحذف، لا لجوازه.
ومثالُ التعلق بالمحذوف (والى ثمودَ أخاهمْ صالحاً) بتقدير وأرسلنا ولم يتقدم ذكر الإرسال، ولكن ذكر النبي والمرسل إليهم يدل على ذلك. ومثله (في تسعِ آياتٍ الى فرعون) ففي وإلى متعلقان باذهبْ محذوفاً (وبالوالدينِ إحساناً) أي وأحسنوا بالوالدين إحساناً مثل (وقد أحسنَ بي) أو: وصيناهم بالوالدين إحساناً مثل (ووصينا الإنسانَ بوالديه حُسناً) ومنه باء البسملة.
هل يتعلقان بالفعل الناقص؟
من زَعم أنه لا يدل على الحدث منع من ذلك، وهم المبرّد فالفارسي فابن جني فالجرجاني فابن برهان ثم الشلوبين، والصحيح أنها كلها دالة عليه إلا ليس.
واستدل لمثبتي ذلك التعلق بقوله تعالى: (أكانَ للناسِ عجباً أنْ أوحينا) فإن اللام لا تتعلق بعجباً لأنه مصدر مؤخر، ولا بأوحينا لفساد المعنى، ولأنه صلة لأنْ، وقد مضى عن قريب أن المصدر الذي ليس في تقدير حرف موصول ولا صلته لا يمتنع التقديم عليه، ويجوز أيضاً أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال من عجبا على حدّ قوله:
لميّةَ موحشاً طللُ
هل يتعلقان بالفعل الجامد؟
زعم الفارسي في قوله:
ونعمَ مزكأ منْ ضاقتْ مذاهبهُ ... ونعمَ منْ هو في سرٍّ وإعلانِ
أن مَنْ نكرة تامة تمييز لفاعل نعم مستتراً، كما قال هو وطائفة في ما من نحو (فنعمّا هيَ)، وأن الظرف متعلق بنعم، وزعم ابن مالك أنها موصولة فاعل، وأن هو مبتدأ خبرُه هو أخرى مقدرة على حدّ:
...... وشعري شعري
وأن الظرف متعلق بهو المحذوفة لتضمنها معنى الفعل، أي ونعم الذي باقٍ على ودّه في سره وإعلانه، وأن الخصوص محذوف، أي بشر بن مروان. وعندي أن يقدر الخصوص هو، لتقدم ذكر بشر في البيت قبله، وهو:
وكيفَ أرهبُ أمراً أو أُراعُ بهِ ... وقد زكأتُ الى بشرِ بنِ مروان
فيبقى التقدير حينئذ: هو هو هو.
هل يتعلقان بأحرف المعاني؟
المشهور منع ذلك مطلقاً، وقيل بجوازه مطلقاً، وفصّل بعضه فقال: إن كان نائباً عن فعل حُذفَ جاز ذلك على سبيل النيابة لا الأصالة، وإلا فلا. وهو قول أبي علي وأبي الفتح، زعما في نحو يا لزيد أن اللام متعلقة بيا، بل قالا في يا عبد الله إن النصب بيا، وهو نظير قولهما في قوله:
أبا خُراشةَ أمّا أنت ذا نفرٍ
إن ما الزائدة الزائدة هي الرافعة الناصبة، لا كان المحذوفة.
وأما الذين قالوا بالجواز مطلقاً فقال بعضهم في قول كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه:
وما سُعادُ غداةَ البينِ إذْ رحلوا ... إلا أغنُّ غضيضُ الطّرفِ مكحولُ


غداة البين: ظرف للنفي، أي انتفى كونها في هذا الوقت إلا كأغنّ. وقال ابن الحاجب في (ولنْ ينفعكم اليومَ إذ ظلمتُمْ) إذ: بدل من اليوم، واليوم إما ظرف للنفع المنفي، وإما لما في لن من معنى النفي، أي انتفى في هذا اليوم النفعُ، فالمنفي نفع مطلق، وعلى الأول نفع مقيد باليوم. وقال أيضاً: إذا قلت ما ضربتُهُ للتأديب فإن قصدت نفي ضربٍ مُعلل بالتأديب فاللامُ متعلقة بالفعل، والمنفي ضرب مخصوص، وللتأديب: تعليل للضرب المنفي، وإن قصدت نفي الضرب على كل حال فاللام متعلقة بالنفي والتعليل له، أي إن انتفاء الضرب كان لأجل التأديب، لأنه قد يؤدّبُ بعضُ الناس بترك الضرب. ومثله في التعلق بحرف النفي ما أكرمتُ المسيء لتأديبه، وما أهنت المحسن لمكافأته، إذ لو علق هذا بالفعل فسد المعنى الماد، ومن ذلك قوله تعالى (ما أنتَ بنعمةِ ربِّكَ بمجنون) الباء متعلقة بالنفي، إذ لو علقت بمجنون لأفاد نفي جنون خاص، وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله تعالى، وليس في الوجود جنون هو نعمة، ولا المراد نفي جنون خاص، ملخصاً وهو كلام بديع، إلا جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلق بالحرف، فينبغي على قولهم أن يقدر أن التعلق بفعل دل عليه النافي، أي انتفى ذلك بنعمة ربك.
وقد ذكرت في شرحي لقصيدة كعب رضي الله تعالى عنه أن المختار تعلق الظرف بمعنى التشبيه الذي تضمنه البيت، وذلك على أن الأصل: وما كسُعاد إلا ظبيٌ أغنُّ، على التشبيه المعكوس للمبالغة، لئلا يكون الظرف متقدماً في التقدير على اللفظ الحامل لمعنى التشبيه، وهذا الوجه هو اختيار ابن عمرون، وإذا جاز لحرف التشبيه أن يحمل في الحال في نحو قوله:
كأنّ قلوبَ الطيرِ رطباً ويابساً ... لدى وكره العُنابُ والحشفُ البالي
مع أن الحال شبيهة بالمفعول به، فعملُه في الظرف أجدر.
فإن قلت: لا يلزم من صحة إعمال المذكور صحة إعمال المقدر، لأنه أضعف.
قلت: قد قالوا زيدٌ زهيرٌ شعراً وحاتمٌ جوداً وقيل في المنصوب فيهما: إنه حال أو تمييز، وهو الظاهر، وأياً كان فالحجة قائمة به، وقد جاء أبلغ من ذلك، وهو إعماله في الحالين وذلك في قوله:
تُعيِّرُنا أننا عالةٌ ... ونحنُ صعاليكَ أنتم مُلوكا
إذ المعنى تعيرنا أننا فقراء، ونحن في حال صعلكتنا مثلكم في حال ملككم.
فإن قلت: قد أوجبت في بيت كعب بن زهير رضي الله عنه أن يكون من عكس التشبيه لئلا تتقدم الحال على عاملها المعنوي، فما الذي سوّغ تقدمَ صعاليك هنا عليه؟ قلت: سوّغه الذي سوغ تقدم بُسراً في هذا بُسراً أطيبُ منهُ رُطباً وإن كان معمول اسم التفضيل لا يتقدم عليه في نحو لهو أكفؤُهم ناصراً وهو خشية اختلاط المعنى، إلا أن هذا مطرد ثَم لقوة التفضيل، ونادر هنا لضعف حرف التشبيه.
وهذا الذي ذكرته في البيت أجود ما قيل فيه، وفيه قولان آخران، أحدهما: ذكره السخاوي في كتابه سفر السعادة، وهو أن عالةً من عالني الشيء إذا أثقلني، وملوكا مفعول، أي إننا نُثقل الملوكَ بطرح كَلِّنا عليهم، ونحن أنتم أي مثلكم في هذا الأمر، فالإخبار هنا مثله في (وأزواجهُ أمهاتهمْ). والثاني قاله الحريري وقد سئل عن البيت، وهو أن التقدير: إنا عالة صعاليكَ نحن وأنتم، وقد خطّئ في ذلك، وقيل: إنه كلام لا معنى له، وليس كذلك بل هو متّجه على بعد فيه، وهو أن يكون صعاليك مفعول عالة، أي إنا نعول صعاليكَ، ويكون نحن توكيداً لضمير عالةٌ، وأنتم توكيد لضمير مستتر في صعاليك، وحصل في البيت تقديم وتأخير للضرورة، ولم يتعرض لقوله ملوكا وكأنه عنده حال من ضمير عالة، والأولى على قوله أن يكون صعاليك حالاً من محذوف، أي نعولكم صعاليك ويكون الحالان بمنزلتهما في لقيته مُصعداً مُنحدراً فإنهم نصوا على أنه يكون الأول للثاني والثاني للأول، لأن فصلاً أسهلُ من فصلين، ويكون أنتم توكيداً للمحذوف، لا لضمير صعاليك لأنه ضمير غيبة، وإنما جوزناه أولاً لأن الصعاليك هم المخاطبون، فيحتمل كونه راعى المعنى.
ذكر ما لا يتعلق من حروف الجر
يستثنى من قولنا لابد لحرف الجر من متعلق ستة أمور:


أحدها: الحرف الزائد كالباء ومن في (كفى باللهِ شهيدا)، (هلْ منْ خالقٍ غيرُ الله)، وذلك لأن معنى التعلق الارتباط المعنوي، والأصل أن أفعالاً قصُرت عن الوصول الى الأسماء فأعينت على ذلك بحروف الجر، والزائد إنما دخل في الكلام تقويه له وتوكيداً، ولم يدخل للربط.
وقول الحوفي إن الباء في (أليسَ اللهُ بأحكمِ الحاكمين) متعلقة وهمٌ، نعم يصح في اللام المقوية أن يقال إنها متعلقة بالعامل المقوّى نحو (مُصدِّقاً لما معهمْ) و(فعّال لما يُريد) و(إن كنتُم للرّؤيا تعبُرون) لأن التحقيق أنها ليست زائدة محضة لما تخيل في العامل من الضعف الذي نزله منزلة القاصر، ولا معدية محضة لاطراد صحة إسقاطها، فلها منزلة بين المنزلتين.
الثاني: لعلّ في لغة عُقيل، لأنها بمنزلة الحرف الزائد، ألا ترى أن مجرورها في موضع رفع على الابتداء، بدليل ارتفاع ما بعده على الخبرية، قال:
لعلّ أبي المغوارِ منك قريبُ
ولأنها لم تدخل لتوصيل عامل، بل لإفادة معنى التوقّع، كما دخلت ليت لإفادة معنى التمني، ثم إنهم جروا بها منبهة على أن الأصل في الحروف المختصة بالاسم أن تعمل الإعراب المختص به كحروف الجر.
والثالث: لولا فيمن قال لولاي، ولولاك، ولولاه على قول سيبويه: إن لولا جارة للضمير، فإنها أيضاً بمنزلة لعل في أن ما بعدها مرفوع المحل بالابتداء، فإن لولا الامتناعية تستدعي جملتين كسائر أدوات التعليق. وزعم أبو الحسن أن لولا غير جارة، وأن الضمير بعدها مرفوع، ولكنهم استعاروا ضمير الجر مكان ضمير الرفع، كما عكسوا في قولهم ما أنا كأنتَ وهذا كقوله في عسايَ ويردهما أن نيابة ضمير عن ضمير يخالفه في الإعراب إنما ثبتت في المنفصل، وإنما جاءت النيابة في المتصل بثلاثة شروط: كون المنوب عنه منفصلاً، وتوافقهما في الإعراب، وكون ذلك في الضرورة كقوله:
ألاّ يجاورَنا إلاّكِ ديّارُ
وعليه خرّج أبو الفتح قوله:
نحنُ بغرسِ الوديِّ أعلمُنا ... منّا بركضِ الجيادِ في السّدَفِ
فادّعى أن نا مرفوع مؤكّدٌ للضمير في أعلم، وهو نائب عن نحن، ليتخلص بذلك من الجمع بين إضافة أفعل وكونه بمن، وهذا البيت أشكل على أبي عليّ حتى جعله من تخليط الأعراب.
والرابع: رُبَّ في نحو رُبَّ رجُل صالحٍ لقيتهُ، أو لقيت، لأن مجرورها مفعول في الثاني، ومبتدأ في الأول، أو مفعول على حد زيداً ضربتهُ ويقدر الناصب بعد المجرور لا قبل الجار، لأن ربَّ لها الصدر من بين حروف الجر، وإنما دخلت في المثالين لإفادة التكثير أو التقليل، لا لتعدية عامل، هذا قول الرماني وابن طاهر. وقال الجمهور: هي فيهما حرف جر مُعدّ، فإن قالوا إنها عدّت العاملَ المذكور فخطأ، لأنه يتعدى بنفسه، ولاستيفائه معموله في المثال الأول، وإن قالوا عدّت محذوفاً تقديره حصل أو نحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير لما معنى الكلام مستغنٍ عنه ولم يُلفظ به في وقت.
الخامس: كاف التشبيه، قاله الأخفش وابن عصفور، مستدلّين بأنه إذا قيل زيدٌ كعمرو فإن كان المتعلق استقر فالكاف لا تدل عليه، بخلاف نحو في من زيد في الدار وإن كان فعلاً مناسباً للكاف - وهو أشبه - فهو متعد بنفسه لا بالحرف.
والحق أن جميع الحروف الجارة الواقعة في موضع الخبر ونحوه تدل على الاستقرار.
السادس: حرف الاستثناء، وهو خلا وعدا وحاشا، إذا خفضنَ، فإنهن لتنحية الفعل عما دخلنَ عليه، كما أن إلاّ كذلك، وذلك عكس معنى التعدية الذي هو إيصالُ معنى الفعل الى الاسم، ولو صح أن يقال إنها متعلقة لصح ذلك في إلاّ، وإنما خُفض بها المستثنى ولم ينصب كالمستثنى بإلا لئلا يزول الفرق بينهن أفعالاً وأحرفاً.
حكمهما بعد المعارف والنكرات
حكمهما بعدهما حكم الجمل، فهما صفتان في نحو رأيتُ طائراً فوقَ غُصنٍ، أو على غُصْنٍ، لأنهما بعد نكرة محضة، وحالان في نحو رأيتُ الهِلالَ بينَ السّحابِ، أو في الأفق، لأنهما بعد معرفة محضة، ومحتملان لهما في نحو يُعْجِبُني الزّهْرُ في أكمامِه، والثمر على أغصانه، لأن المعرف الجنسي كالنكرة، وفي نحو هذا ثمرٌ يانع على أغصانه، لأن النكرة الموصوفة كالمعرفة.
حكم المرفوع بعدهما


إذا وقع بعدهما مرفوع، فإن تقدمهما نفي أو استفهام أو موصوف أو موصول أو صاحب خبر أو حال نحو ما في الدارِ أحد وأفي الدار زيد ومررت برجل معه صقر وجاء الذي في الدار أبوه وزيد عندك أخوه ومررت بزيد عليه جبة ففي المرفوع ثلاثة مذاهب: أحدها: أن الأرجحَ كونُه مبتدأ مخبراً عنه بالظرف أو المجرور، ويجوز كونه فاعلاً.
والثاني: أن الأرجح كونُه فاعلاً، واختاره ابن مالك، وتوجيهه أن الأصل عدمُ التقديم والتأخير.
والثالث: أنه يجب كونه فاعلاً، نقله ابن هشام عن الأكثرين.
وحيث أعرب فاعلاً فهل عاملُه الفعلُ المحذوف أو الظرف أو الجرور لنيابتهما عن استقر وقربهما من الفعل لاعتمادهما؟ فيه خلاف، والمذهب المختار: الثاني لدليلين: أحدهما امتناع تقديم الحال في نحو زيدٌ في الدارِ جالِساً ولو كان العاملُ الفعلَ لم يمتنع، ولقوله:
فإنّ فؤادي عندَك الدّهرَ أجمَعُ
فأكد الضمير المستتر في الظرف، والضمير لا يستتر إلا في عامله، ولا يصح أن يكون توكيداً لضميرٍ محذوف مع الاستقرار، لأن التوكيد والحذف متنافيان، ولا لاسم إنّ على محله من الرفع بالابتداء، لأن الطالب للمحل قد زال.
واختار ابن مالك المذهب الأول، مع اعترافه بأن الضمير مستتر في الظرف، وهذا تناقض، فإن الضمير لا يستكنُّ إلا في عامله.
وإن لم يعتمد الظرفُ أو المجرورُ نحو في الدار - أو عندك - زيد فالجمهور يوجبون الابتداء، والأخفش والكوفيون يجيزون الوجهين، لأن الاعتماد عندهم ليس بشرط، ولذا يجيزون في نحو قائم زيد أن يكون قائم مبتدأ وزيد فاعلاً، وغيرهم يوجب كونهما على التقديم والتأخير.
تنبيهات
يحتمل قول المتنبي يذكر دار المحبوب:
ظلْتَ بِها تَنطوي على كَبدٍ ... نضيجةٍ فوقَ خِلْبها يدُها
أن تكون اليدُ فيه فاعلة بنضيجة، أو بالظرف، أو بالابتداء، والأول أبلغ، لأنه أشد للحرارة، والخلب: زيادة الكبد، أو حجاب القلب، أو ما بين الكبد والقلب، وأضاف اليد الى الكبد للملابسة بينهما، فإنهما في الشخص.
ولا خلاف في تعين الابتداء في نحو في داره زيْد لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة.
فإن قلت في داره قيام زيد لم يجزها الكوفيون البتة، أما على الفاعلية فلما قدمنا، وأما على الابتدائية فلأن الضمير لم يعد على المبتدأ، بل على ما أضيف إليه المبتدأ، والمستحق للتقديم إنما هو المبتدأ، وأجازه البصريون على أن يكون المرفوع مبتدأ لا فاعلاً، كقولهم في أكفانِهِ درج الميت، وقوله:
بمَسْعاتِهِ هُلْكُ الفتى أو نجاتُهُ
وإذا كان الاسم في نية التقديم كان ما هو من تمامه كذلك.
والأرجح تعين الابتدائية في نحو هل أفضلُ منك زيدٌ لأن اسم التفضيل لا يرفع الفاعل الظاهر عند الأكثر على هذا الحد، وتجوز الفاعلية في لغة قليلة.
ومن المشكل قوله:
فخَيْرٌ نحنُ عندَ النّاسِ منكُمْ
لأن قول نحن إن قُدّر فاعلاً لزم إعمال الوصف غير معتمد، ولم يثبت، وعمل أفعل في الظاهر في غير مسألة الكحل وهو ضعيف، وإن قدر مبتدأ لزم الفصل به وهو أجنبي بين أفعل ومِنْ، وخرّجه أبو علي - وتبعه ابن خروف - على أن الوصف خبر لنحن محذوفة وقدر نحن المذكورة توكيداً للضمير في أفعل.
ما يجب فيه تعلقهما بمحذوف
وهو ثمانية: أحدها: أن يقعا صفة نحو (أو كصَيّبٍ من السّماء).
الثاني: أن يقعا حالاً نحو (فخرجَ على قومِهِ في زينتِه) وأما قوله سبحانه وتعالى: (فلمّا رآهُ مستقِرّاً عندَه) فزعم ابن عطية أن مستقراً هو المتعلق الذي يقدر في أمثاله قد ظهر، والصواب ما قاله أبو البقاء وغيره من أن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك، لا مطلق الوجود والحصول، فهو كونٌ خاص.
الثالث: أن يقعا صلة نحو (ولهُ منْ في السمواتِ والأرضِ ومَنْ عندَه لا يستكبرون).
الرابع: أن يقعا خبراً، نحو زيد عندك، أو في الدار وربما ظهر في الضرورة كقوله:
لكَ العزُّ إنْ مولاكَ عزَّ وإن يُهنْ ... فأنتَ لدى بُحبوحة الهون كائن
وفي شرح ابن يعيش: متعلق الظرف الواقع خبراً، صرح ابن جني بجواز إظهاره، وعندي أنه إذا حُذف ونقل ضميره الى الظرف لم يجز إظهاره، لأنه قد صار أصلاً مرفوضاً، فأما إن ذكرته أولاً فقلت زيد استقر عندك فلا يمنع مانع منه، وهو غريب.


الخامس: أن يرفعا الاسم الظاهر نحو (أفي اللهِ شك) ونحو (أو كصيّبٍ منَ السماءِ فيه ظُلماتٌ) ونحو أعندك زيد.
والسادس: أن يستعمل المتعلق محذوفاً في مثلٍ أو شبهه، كقولهم لمن ذكر أمراً قد تقادم عهده حينئذ الآن أصله: كان ذلك حينئذ واسمع الآن، وقولهم للمُعرس بالرّفاءِ والبنين بإضمار أعرست.
والسابع: أن يكون المتعلق محذوفاً على شريطة التفسير نحو أيومَ الجمعة صُمتَ فيهِ، ونحو بزيد مررت به عند من أجازه مستدلاً بقراءة بعضهم (وللظالمينَ أعدَّ لهمْ) والأكثرون يوجبون في مثل ذلك إسقاط الجار، وأن يرفع الاسم بالابتداء أو ينصب بإضمار جاوزت أو نحوه، وبالوجهين قرئ في الآية، والنصب قراءة الجماعة، ويرجحها العطف على الجملة الفعلية، وهل الأولى أن يقدر المحذوف مضارعاً، أي ويعذب، لمناسبة يُدخِل أو ماضياً، أي وعذب، لمناسبة المفسّر؟ فيه نظر. والرفع بالابتداء، وأما القراءة بالجر فمن توكيد الحرف بإعادته داخلاً على ضمير ما دخل عليه المؤكَّدُ، مثل إنّ زيداً إنهُ فاضلٌ ولا يكون الجار والمجرور توكيداً للجار والمجرور، لأن الضمير لا يؤكد الظاهر، لأن الظاهر أقوى، ولا يكون المجرور بدلاً من المجرور بإعادة الجار، لأن العرب لم تُبدل مضمراً من مظهر، لا يقولون قام زيد هو وإنما جوز ذلك بعض النحويين بالقياس.
والثامن: القسَم بغير الباء نحو (والليلِ إذا يغشى)، (وتاللهِ لأكيدنَّ أصنامكم) وقولهم لله لا يؤخر الأجل ولو صرح في ذلك بالفعل لوجبت الباء.
هل المتعلق الواجب الحذف فعل أو وصف؟
لا خلاف في تعيّن الفعل في بابي القسم والصلة، لأن القسم والصلة لا يكونان إلا جملتين. قال ابن يعيش: وإنما لم يجز في الصلة أن يقال إن نحو جاء الذي في الدار بتقدير مستقر على أنه خبر لمحذوف على حد قراءة بعضهم (تماماً على الذي أحسنُ) بالرفع، لقلة ذاك واطراد هذا.
وكذلك يجب في الصفة في نحو رجل في الدار فله درهم لأن الفاء تجوز في نحو رجل يأتيني فله درهم وتمتنع في نحو رجلٌ صالح فله درهم فأما قوله:
كلُّ أمرٍ مُباعَدٌ أو مُدانٍ ... فمنوطٌ بحكمةِ المتعالي
فنادر.
واختلف في الخبر والصفة والحال، فمن قدّر الفعل - وهم الأكثرون - فلأنه الأصل في العمل، ومن قدر الوصف فلأن الأصل في الخبر والحال والنعت الإفراد، ولأن الفعل في ذلك لابد من تقديره بالوصف، قالوا: ولأن تقليل المقدر أولى، وليس بشيء، لأن الحق أنّا لم نحذف الضمير، بل نقلناه الى الظرف، فالمحذوف فعل أو وصف، وكلاهما مفرد.
وأما في الاشتغال فيقدر بحسب المفسر فيقدر الفعل في نحو أيومَ الجمعة تعتكف فيه والوصف في نحو أيومَ الجمعة أنتَ مُعتكف فيه والحق عندي أنه لا يترجح تقديره اسماً ولا فعلاً، بل بحسب المعنى كما سأبيّنه.
كيفية تقديره باعتبار المعنى
أما في القسَم فتقديره أقسم، وأما في الاشتغال فتقديره كالمنطوق به نحو يوم الجمعة صمت فيه.
واعلم أنهم ذكروا في باب الاشتغال أنه يجب ألا يقدر مثل المذكور إذا حصل مانع صناعيّ كما في زيداً مررتُ به أو معنوي كما في زيداً ضربتُ أخاه إذ تقدير المذكور يقتضي في الأول تعدي القاصر بنفسه، وفي الثاني خلاف الواقع، إذ الضرب لم يقع بزيد، فوجب أن يقدر جاوزت في الأول، وأهنت في الثاني، وليس المانعان ع كل متعد بالحرف، ولا مع كل سببي، ألا ترى أنه لا مانع في نحو زيداً شكرتُ له لأن شكر يتعدى بالجار وبنفسه، وكذلك الظرف نحو يوم الجمعة صمت فيه لأن العامل لا يتعدّى الى ضمير الظرف بنفسه، مع أنه يتعدى الى ظاهره بنفسه، وكذلك لا مانع في نحو زيداً أهنتُ أخاه لأن إهانة أخيه إهانة له، بخلاف الضرب.


وأما في المثل فيقدَّرُ بحسب المعنى، وأما في البواقي نحو زيدٌ في الدار فيقدر كوناً مطلقاً وهو كائن أو مستقر أو مضارعهما إن أريد الحال أو الاستقبال نحو الصومُ اليوم أو في اليوم والجزاءُ غداً أو في الغد ويقدر كان أو استقر أو وصفهما إن أريد المضي، هذا هو الصواب، وقد أغفلوه مع قولهم في نحو ضربي زيداً قائماً: إن التقدير إذ كان إن أريد المضيّ أو: إذا كان إن أريد به المستقبل، ولا فرق. وإذا جهلت المعنى فقدر الوصف فإنه صالح في الأزمنة كلها وإن كانت حقيقته الحال، وقال الزمخشري في قوله تعالى (أفأنتَ تُنقِذُ مَن في النار) إنهم جُعلوا في النار الآن لتحقق الموعود به، ولا يلزم ما ذكره لأنه لا يمتنع تقدير المستقبل، ولكن ما ذكره أبلغ وأحسن.
ولا يجوز تقدير الكون الخاص كقائم وجالس إلا لدليل، ويكون الحذف حينئذ جائزاً لا واجباً، ولا ينتقل ضميرٌ من المحذوف الى الظرف والمجرور، وتوهم جماعةٌ امتناعَ حذف الكون الخاص، ويُبطله أنا متفقون على جواز حذف الخبر عند وجود الدليل وعدمِ وجود معمول، فكيف يكون وجود المعمول مانعاً من الحذف مع أنه إما أن يكون هو الدليل أو مقوياً للدليل؟ واشتراطُ النحويين الكونَ المطلق إنما هو لوجوب الحذف، لا لجوازه.
ومما يتخرج على ذلك قولهم منْ لي بكذا أي من يتكفّلُ لي به؟ وقوله تعالى: (فطلقوهنّ لعدّتهنّ) أي مستقبلاتٍ لعدتهن، كذا فسّره جماعة من السلف، وعليه عوّل الزمخشري، وردّه أبو حيان توهماً منه أن الخاص لا يحذف، وقال: الصوابُ أن اللام للتوقيت، وأن الأصل لاستقبال عدتهن، فحذف المضاف، - وقد بينّا فساد تلك الشبهة. ومما يتخرّجُ على التعلق بالكون الخاص قوله تعالى: (الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى) التقدير مقتول أو يقتل، لا كائن، اللهم إلا أن تقدر مع ذلك مضافين، أي قتل الحر كائن بقتل الحر، وفيه تكلف تقدير ثلاثة: الكون والمضافان، بل تقدير خمسة، لأن كلاً من المصدرين لابد له من فاعل، ومما يبعد ذلك أيضاً أنك لا تعلم معنى المضاف الذي تقدره مع المبتدأ إلا بعد تمام الكلام، وإنما حسن الحذف أن يعلم عند موضع تقديره نحو (واسألِ القرية) ونظير هذه الآية قوله تعالى (أنّ النفس بالنفس) الآية، أي إن النفس مقتولة بالنفس، والعين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، هذا هو الأحسن، وكذلك الأرجح في قوله تعالى (الشمسُ والقمرُ بحُسبان) أن يقدر يجريان، فإن قدر الكون قدرت مضافاً، أي جريانُ الشمس والقمر كائن بحسبان، وقال ابن مالك في قوله تعالى (قُلْ لا يعلمُ منْ في السمواتِ والأرضِ الغيبَ إلا الله): إن الظرف ليس متعلقاً بالاستقرار، لاستلزامه إما الجمع بين الحقيقة والمجاز، فإن الظرفية المستفادة من في حقيقة بالنسبة الى غير الله سبحانه وتعالى ومجاز بالنسبة إليه تعالى، وإما حملُ قراءة السبعة على لغة مرجوحة، وهي إبدال المستثنى المنقطع كما زعم الزمخشري، فإنه زعم أن الاستثناء منقطع. والمخلِّصُ من هذين المحذورين أن يقدر: قل لا يعلم من يذكر في السموات والأرض، ومن جوز اجتماع الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة واحتج بقولهم القلمُ أحدُ اللسانين ونحوه لم يحتج الى ذلك، وفي الآية وجه آخر، وهو أن يقدر مَنْ مفعولاً به، والغيبَ بدل اشتمال، والله فاعل، والاستثناء مفرَّغ.
تعيين موضع التقدير
الأصل أن يقدر مقدماً عليهما كسائر العوامل مع معمولاتها، وقد يعرض ما يقتضي ترجيح تقديره مؤخراً، وما يقتضي إيجابه.
فالأول نحو في الدار زيد لأن المحذوف هو الخبر، وأصله أن يتأخر عن المبتدأ.
والثاني نحو إنّ في الدار زيداً لأنّ إنّ لا يليها مرفوعُها.
ويلزم من قدّر المتعلق فعلاً أن يقدره مؤخراً في جميع المسائل، لأن الخبر إذا كان فعلاً لا يتقدم على المبتدأ.
تنبيه
ردّ جماعةٌ منهم ابن مالك على مَنْ قدر الفعل بنحو قوله تعالى (إذا لهم مكرٌ في آياتنا) وقولك أما في الدارِ فزيدٌ لأن إذا الفجائية لا يليها الفعل، وأمّا لا يقع بعدها فعل إلا مقروناً بحرف الشرط نحو (فأمّا إنْ كان من المُقرّبين)، وهذا ما بينّاه غير واردٍ، لأن الفعل يقدر مؤخراً.
الباب الرابع
في ذكر أحكام يكثر دورُها
ويقبح بالمعرب جهلها، وعدم معرفتها على وجهها


فمن ذلك ما يعرف به المبتدأ من الخبر.
يجب الحكم بابتدائية المقدَّم من الاسمين في ثلاث مسائل: إحداها: أن يكونا معرفتين، تساوتْ رتبتهما نحو اللهُ ربنا، أو اختلفت نحو زيدٌ الفاضلُ، والفاضلُ زيد، هذا هو المشهور، وقيل: يجوز تقدير كل منهما مبتدأ وخبراً مطلقاً، وقيل: المشتق خبر وإن تقدم نحو القائمُ زيدٌ.
والتحقيقُ أن المبتدأ ما كان أعرف كزيد في المثال، أو كان هو المعلوم عند المخاطب كأن يقول: مَنِ القائم؟ فتقول زيدٌ القائم فإن علِمهما وجهل النسبةَ فالمقدَّمُ المبتدأ.
الثانية: أن يكونا نكرتين صالحتين للابتداء بهما نحو أفضلُ منكَ أفضلُ مني.
الثالثة: أن يكونا مختلفين تعريفاً وتنكيراً والأول هو المعرفة كزيدٌ قائم وأما إن كان هو النكرة فإن لم يكن له ما يسوّغُ الابتداء به فهو خبر اتفاقاً نحو خزٌّ ثوبكَ وذهبٌ خاتمكَ وإن كان له مسوغ فكذلك عند الجمهور، وأما سبيويه فيجعله المبتدأ نحو كم مالُك وخيرٌ منكَ زيدٌ وحسبُنا الله ووجهه أن الأصل عدمُ التقديمِ والتأخير، وأنهما شبيهان بمعرفتين تأخّر الأخصُّ منهما نحو الفاضل أنت ويتجه عندي جواز الوجهين إعمالاً للدليلين، ويشهد لابتدائية النكرة قوله تعالى (فإنّ حسبكَ الله)، (إنّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ لَلذي ببكة) وقولهم إنّ قريباً منكَ زيد وقولهم بحسبكَ زيدٌ والباء لا تدخل في الخبر في الإيجاب، ولخبريتها قولهم ما جاءتْ حاجتُكَ بالرفع، والأصل ما حاجتك، فدخل الناسخ بعد تقدير المعرفة مبتدأ، ولولا هذا التقدير لم يدخل، إذ لا يعمل في الاستفهام ما قبله، وأما مَنْ نصب فالأصل ما هي حاجتك، بمعنى أيُّ حاجةٍ هي حاجتك، ثم دخل الناسخ على الضمير فاستتر فيه، ونظيره أن تقول زيدٌ هو الفاضلُ وتقدر هو مبتدأ ثانياً لا فصلاً ولا تابعاً؛ فيجوز لك حينئذ أن تُدخِلَ عليه كان فتقول زيدٌ كان الفاضلَ.
ويجب الحكم بابتدائية المؤخر في نحو أبو حنيفة أبو يوسفَ و:
بنونا بنو أبنائنا ...
رعياً للمعنى، ويضعف أن تقدر الأولى مبتدأ بناء على أنه من التشبيه المعكوس للمبالغة، لأن ذلك نادر الوقوع، ومخالف للأصول، اللهم إلا أن يقتضي المقامُ المبالغة، والله أعلم.
ما يعرف به الاسم من الخبر
اعلم أن لهما ثلاث حالات: إحداها: أن يكونا معرفتين، فإن كان المخاطب يعلم أحدهما دون الآخر فالمعلومُ الاسمُ والمجهول الخبر؛ فيقال كان زيدٌ أخا عمرٍو لمن علم زيداً وجهل أخوَّته لعمرو، وكان أخو عمرو زيداً لمن يعلم أخا لعمرو ويجهل أن اسمه زيد، وإن كان يعلمهما ويجهل انتسابَ أحدهما الى الآخر فإن كان أحدُهما أعرفَ فالمختار جعله الاسم؛ فتقول كان زيدٌ القائم لمن كان قد سمع بزيد وسمع برجل قائم، فعرف كلاً منهما بقلبه، ولم يعلم أن أحدهما هو الآخر، ويجوز قليلاً كانَ القائم زيداً. وإن لك يكن أحدُهما أعرفَ فأنت مخيّر نحو كان زيدٌ أخا عمرو، وكان أخو عمرو زيداً ويستثنى من مختلفي الرتبة نحو هذا فإنه يتعين للاسمية لمكان التنبيه المتصل به، فيقال كان هذا أخاك، وكان هذا زيداً إلا مع الضمير، فإن الأفصح في باب المبتدأ أن تجعله المبتدأ وتدخل التنبيه عليه فتقول ها أنذا ولا يتأتى ذلك في باب الناسخ، لأن الضمير متصل بالعامل، فلا يتأتى دخول التنبيه عليه، على أنه سمع قليلاً في باب المبتدأ هذا أنا.
واعلم أنهم حكموا لأنْ وأنّ المقدرتين بمصدر معرَّف بحكم الضمير، لأنه لا يوصف كما أن الضمير كذلك، فلهذا قرأت السبعة (ما كانَ حجتَهمْ إلا أنْ قالوا)، (فما كانَ جوابَ قومِهِ إلا أنْ قالوا) والرفع ضعيف كضعف الإخبار بالضمير عما دونه في التعريف.
الحالة الثانية: أن يكونا نكرتين؛ فإن كان لكل منهما مسوِّغ للإخبار عنها فأنت مخير فيما تجعله منهما الاسم وما تجعله الخبر، فتقول كان خيرٌ منْ زيد شرّاً من عمرو أو تعكس، وإن كان المسوغ لإحداهما فقط جعلتها الاسم نحو كان خيرٌ من زيدٍ امرأة.
الحالة الثالثة: أن يكونا مختلفين، فتجعل المعرفةَ الاسمَ والنكرة الخبر، نحو كان زيدٌ قائماً ولا يعكس إلا في الضرورة كقوله:
ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَداعا
وقوله:
يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءُ


وأما قراءة ابن عامر (أو لم تكُن لهم آيةٌ أن يعلمَه) بتأنيث تكن ورفع آية، فإن قدرت تكن تامة فاللام متعلقة بها وآية فاعلها، وأن يعلمه بدل من آية، أو خبر لمحذوف أي هي أن يعلمه، وإن قدرتها ناقصة فاسمها ضمير القصة، وأن يعلمه مبتدأ وآية خبره، والجملة خبر كان؛ أو آية اسمها؛ ولهم خبرها، وأن يعلمه بدل أو خبر لمحذوف، وأما تجويز الزجاج كون آية اسمها وأن يعلمه خبرها فردّوه لما ذكرنا، واعتذر له بأن النكرة قد تخصصت بلهم.
ما يعرف به الفاعل من المفعول
وأكثر ما يشتبه ذلك إذا كان أحدهما اسماً ناقصاً والآخر اسماً تاماً.
وطريق معرفة ذلك أن تجعل في موضع التام إن كان مرفوعاً ضميرَ المتكلم المرفوع، وإن كان منصوباً ضميره المنصوب، وتُبْدل من الناقص اسماً بمعناه في العقل وعدمه؛ فإن صحت المسألة بعد ذلك فهي صحيحة قبله، وإلا فهي فاسدة؛ فلا يجوز أعجبَ زيدٌ ما كره عمرو إن أوقعت ما على ما لا يعقل؛ لأنه لا يجوز أعجبتُ الثّوبَ ويجوز النصب، لأنه يجوز أعجبني الثوبُ فإن أوقعت ما على أنواع من يعقل جاز، لأنه يجوز أعجبتُ النِّساء وإن كان الاسم الناقص من أو الذي جاز الوجهان أيضاً.
فروع
تقول أمكنَ المُسافرَ السفرُ بنصب المسافر، لأنك تقول أمكنني السفر ولا تقول أمكنت السّفرَ وتقول ما دَعا زيداً الى الخروج وما كرِه زيدٌ من الخروج بنصب زيد في الأولى مفعولاً والفاعل ضمير ما مستتراً، وبرفعه في الثانية فاعلاً والمفعول ضمير ما محذوفاً، لأنك تقول ما دعاني الى الخروج وما كرهت منه ويمتنع العكس، لأنه لا يجوز دعوتُ الثّوبَ الى الخروج وكره من الخروج وتقول زيد في رزقِ عمرو عشرون ديناراً برفع العشرين لا غير، فإن قدمت عمراً فقلت عمرو زيد في رزقِه عشرون جاز رفع العشرين ونصبه، وعلى الرفع فالفعل خالٍ من الضمير، فيجب توحيده مع المثنى والمجموع. ويجب ذكر الجار والمجرور لأجل الضمير الراجع الى المبتدأ، وعلى النصب فالفعلُ متحملٌ للضمير، فيبرز في التثنية والجمع، ولا يجب ذكر الجار والمجرور.
ما افترق فيه عطف البيان والبدل
وذلك ثمانية أمور: أحدها: أن العطف لا يكون مضمراً ولا تابعاً لمضمر، لأنه في الجوامد نظير النعت في المشتق، وأما إجازة الزمخشري في (أنِ اعبُدوا اللهَ) أن يكون بياناً للهاء من قوله تعالى (إلا ما أمرتني به) فقد مضى ردُّه، نعم أجاز الكسائي أن يُنعت الضميرُ بنعتِ مدح أو ذم أو ترحم، فالأول نحو (لا إلهَ إلا هوَ الرّحمنُ الرحيم) ونحو (قُلْ إنّ ربي يقذِفُ بالحقِّ علامُ الغُيوب) وقولهم اللهمّ صلِّ عليه الرّؤوفِ الرحيم والثاني نحو مررت بهِ الخبيثِ والثالث نحو قوله:
فلا تلمْهُ أن ينامَ البائسا
وقال الزمخشري في (جعلَ اللهُ الكعْبةَ البيتَ الحرام): إن (البيتَ الحرام) عطف بيان على جهة المدح كما في الصفة، لا على جهة التوضيح، فعلى هذا لا يمتنع مثل ذلك في عطف البيان على قول الكسائي.
وأما البدل فيكون تابعاً للمضمر بالاتفاق نحو (ونرثُهُ ما يقول)، (وما أنسانيه إلا الشيطانُ أنْ أذكرهُ) وإنما امتنع الزمخشري من تجويز كون (أنِ اعبُدوا الله) بدلاً من الهاء في به توهماً منه أن ذلك يخلُّ بعائد الموصول، وقد مضى ردُّه.
وأجاز النحويون أن يكون البدل مضمراً تابعاً لمضمر كرأيتُهُ إياه أو لظاهر كرأيتُ زيداً إياه وخالفهم ابن مالك فقال: إن الثاني لم يسمع، وإن الصواب في الأول قول الكوفيين إنه توكيد كما في قمت أنت.
الثاني: أن البيان لا يخالف متبوعه في تعريفه وتنكيره، وأما قول الزمخشري: إن (مقامُ ابراهيم) عطفٌ على (آياتٌ بينات) فسهو، وكذا قال في (إنما أعظُكُمْ بواحدةٍ أنْ تقوموا): إنّ (أنْ تقوموا) عطف على (واحدة) ولا يختلف في جواز ذلك في البدل، نحو (الى صراطٍ مستقيم صراطِ الله) ونحو (بالناصيةِ ناصيةٍ كاذبةٍ).
الثالث: أنه لا يكون جملة، بخلاف البدل نحو (ما يُقال لكَ إلاّ ما قدْ قيلَ للرُّسُل منْ قبْلك إنّ ربَّك لذُو مغفرةٍ وذو عقابٍ أليم) ونحو (وأسرّوا النّجوى الذين ظلموا هلْ هذا إلا بشرٌ مثلكُمْ) وهو أصحُّ الأقوال في عرفت زيداً أبو من هُو، وقال:
لقد أذْهلتني أمُّ عمرو بكِلمةٍ ... أتصبرُ يومَ البينِ أمْ لست تصبر؟


الرابع: أنه لا يكون تابعاً لجملة، بخلاف البدل، نحو (اتبعوا المُرسلين اتبعوا مَنْ لا يسألُكُمْ أجراً) ونحو (أمدّكمْ بما تعلمونَ أمدَّكُم بأنعامٍ وبنين) وقوله:
أقولُ له: ارحلْ لا تقيمنَّ عندنا
الخامس: أنه لا يكون فعلاً تابعاً لفعل، بخلاف البدل، نحو قوله تعالى (ومن يفعلْ ذلكَ يلقَ أثاماً يُضاعفْ لهُ العذاب).
السادس: أنه لا يكون بلفظ الأول، ويجوز ذلك في البدل بشرط أن يكون مع الثاني زيادة بيان كقراءة يعقوب (وترى كُلَّ أمةٍ جاثيةً كلَّ أمةٍ تدعى الى كتابها) بنصب كل الثانية، فإنها قد اتصل بها ذكرُ سبب الجثو، وكقول الحماسي:
رُويدَ بني شيبانَ بعضَ وعيدِكُمْ ... تلاقوا غداً خيْلي على سفَوانِ
تُلاقوا جِياداً لا تحيدُ عنِ الوغى ... إذا ما غدَتْ في المأزِقِ المُتداني
تُلاقوهمُ فتعرِفوا كيفَ صبرُهمْ ... على ما جنَتْ فيهم يدُ الحدثانِ
وهذا الفرق إنما هو على ما ذهب إليه ابن الطراوة من أن عطف البيان لا يكون من لفظ الأول، وتبعه على ذلك ابن مالك وابنه، وحجتُهم أن الشيء لا يبين بنفسه، وفيه نظر من أوجه: أحدها، أنه يقتضي أن البدل ليس مبيناً للمبدل منه، وليس كذلك، ولهذا منع سيبويه مررت بي المسكين وبك المسكين دون به المسكين وإنما يفارق البدلُ عطفَ البيان في أنه بمنزلة جملة استؤنفت للتبيين، والعطف تبيينٌ بالمفرد المحض. والثاني: أن اللفظ المكرر إذا اتصل به ما لم يتصل بالأول كما قدمنا اتجه كونُ الثاني بياناً بما فيه من زيادة الفائدة، وعلى ذلك أجازوا الوجهين في نحو قوله:
يا زيدُ زيدَ اليعمَلاتِ الذُّبَّلِ
و:
يا تيْمُ تَيْمَ عدِيّ ...
إذا ضممتَ المنادى فيهما. والثالث: أن البيان يتصور مع كون المكرر مجرداً، وذلك في مثل قولك يا زيدُ زيدٌ إذا قلْته وبحضرتك اثنان اسم كل منهما زيد، فإنك حين تذكر الأول يتوهم كل منهما أنه المقصود، فإذا كررته تكرر خطابك لأحدهما وإقبالك عليه فظهر المراد، وعلى هذا يتخرج قول النحويين في قول رؤبة:
لقائلٌ يا نصْرُ نصْرٌ نصْرا
إن الثاني والثالث عطفان على اللفظ وعلى المحل، وخرّجه هؤلاء على التوكيد اللفظي فيهما أو في الأول فقط، فالثاني إما مصدر دُعائي مثل سقْياً لك أو مفعول به بتقدير عليك، على أن المراد إغراء نصر بن سيار بحاجب له اسمه نصر على ما نقل أبو عبيدة، وقيل: لو قدِّر أحدهما توكيداً لضمّاً بغير تنوين كالمؤكد.
السابع: أنه ليس في نية إحلاله محل الأول، بخلاف البدل، ولهذا امتنع البدل وتعين البيان في نحو يا زيد الحارث وفي نحو يا سعيدُ كرزٌ بالرفع أو كرزاً بالنصب، بخلاف يا سعيدُ كرزُ بالضم فإنه بالعكس، وفي نحو أنا الضاربُ الرجلِ زيدٍ وفي نحو زيد أفضل الناسِ الرجالِ والنساء، أو النساء والرجال وفي نحو يا أيها الرجلُ غلامَ زيد وفي نحو أيُّ الرجلين زيد وعمرو جاءك وفي نحو جاءني كلا أخويك زيدٍ وعمرو.
الثامن: أنه ليس في التقدير من جملة أخرى، بخلاف البدل، ولهذا امتنع أيضاً البدلُ وتعين البيان في نحو قولك هندٌ قام عمرو أخوها ونحو مررتُ برجلٍ قام عمروٌ أخوه ونحو زيدٌ ضربتُ عمراً أخاه.
ما افترق فيه اسم الفاعل والصفة المشبهة
وذلك أحد عشر أمراً: أحدها: أنه يُصاغ من المتعدي والقاصر كضارب وقائم ومستخرج ومستكبر، وهي لا تصاغ إلا من القاصر كحسن وجميل.
الثاني أنه يكون للأزمنة الثلاثة، وهي لا تكون إلا للحاضر، أي الماضي المتصل بالزمن الحاضر.
الثالث: أنه لا يكون إلا مُجارياً للمضارع في حركاته وسكناته كضارب ويضرِب ومُنطلق وينطلق، ومنه يقوم وقائم، لأن الأصل يَقْوُم، بسكون القاف وضم الواو، ثم نقَلوا، وأما توافق أعيان الحركات فغير معتبر، بدليل ذاهِب ويذْهَب وقاتِل ويقتُل ولهذا قال ابن الخشاب: هو وزن عروضي لا تصريفي. وهي تكون مجارية له كمنطلق اللسان ومطمئن النفس وطاهر العرض، وغير مجارية وهو الغالب نحو ظريف وجميل، وقول جماعة إنها لا تكون إلا غير مجارية مردودٌ باتفاقهم على أن منها قوله:
منْ صديقٍ أو أخي ثقةٍ ... أو عدوٍّ شاحطٍ دارا
الرابع: أن منصوبه يجوز أن يتقدم عليه نحو زيدٌ عمراً ضارب ولا يجوز زيدٌ وجهَه حسنٌ.


الخامس: أن معموله يكون سببياً وأجنبياً نحو زيدٌ ضاربٌ غُلامَه وعمراً ولا يكون معمولها إلا سببياً تقول زيدٌ حسنٌ وجهَه أو الوجهَ ويمتنع زيدٌ حسنٌ عِمراً.
السادس: أنه لا يخالف فعله في العمل، وهي تخالفه؛ فإنها تنصب مع قصور فعلها؛ تقول زيدٌ حسنٌ وجهَه ويمتنع زيد حُسنَ وجهَه بالنصب، خلافاً لبعضهم، أما الحديث أن امرأة كانت تُهراقُ الدماء فالدماء تمييز على زيادة أل، قال ابن مالك: أو مفعول على أن الأصل تُهريق ثم قلبت الكسرة فتحة والياء ألفاً كقولهم جاراةٌ وناصاة وبقى، وهذا مردود، لأن شرط ذلك تحرك الياء كجارية وناصية وبقي.
السابع: أنه يجوز حذفُه وبقاء معموله، ولهذا أجازوا أنا زيداً ضاربه وهذا ضارب زيدٍ وعمراً بخفض زيد ونصب عمرو بإضمار فعل أو وصف منون، وأما العطف على محل المخفوض لممتنع عند مَنْ شرط وجود المحرز كما سيأتي، ولا يجوز مررتُ برجل حسن الوجهِ والفعلَ بخفض الوجه ونصب الفعل، ولا مررتُ برجلٍ وجهَه حسنِهِ بنصب الوجه وخفض الصفة، لأنها لا تعمل محذوفة، ولأن معمولها لا يتقدمها، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً.
الثامن: أنه لا يقبح حذفُ موصوف اسم الفاعل وإضافته الى مضاف الى ضميره نحو مررتُ بقاتل أبيه ويقبح مررت بحسنِ وجهِه.
التاسع: أنه يُفصل مرفوعه ومنصوبه، كزيدٌ ضاربٌ في الدار أبوهُ عمراً ويمتنع عند الجمهور زيدٌ حسنٌ في الحرب وجهه رفعت أو نصبت.
العاشر: أنه يجوز إتباع معموله بجميع التوابع، ولا يتبع معمولها بصفة. قاله الزجاج ومتأخرو المغاربة، ويشكل عليهم الحديث في صفة الدجال أعورُ عينه اليُمنى.
الحادي عشر: أنه يجوز إتباع مجروره على الحل عند مَنْ لا يشترط المحرز، ويحتمل أن يكون منه (وجاعل الليلِ سكناً والشمسَ) ولا يجوز هو حسنُ الوجهِ والبدنَ جر الوجه ونصب البدن، خلافاً للفراء، أجاز هو قويُّ الرِّجلِ واليدُ برفع المعطوف، وأجاز البغداديون إتباع المنصوب بمجرور في البابين كقوله:
فظلَّ طُهاةُ اللحمِ ما بينَ مُنضجٍ ... صفيفَ شواءٍ أو قديرٍ مُعجَّلِ
القديرُ: المطبوخُ في القدر، وهو عندهم عطف على صفيف، وخُرِّج على أن الأصل أو طابخ قدير ثم حذف المضاف وأبقي جر المضاف إليه كقراءة بعضهم (واللهُ يُريدُ الآخرة) بالخفض، أو أنه عطف على صفيف ولكن خفض على الجوار، أو على توهم أن الصفيف مجرور بالإضافة كما قال:
ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جاثيا
ما افترق فيه الحال والتمييز
وما اجتمعا فيه
اعلم أنهما قد اجتمعا في خمسة أمور، وافترقا في سبعة.
فأوجه الاتفاق أنهما: اسمان، نكرتان، فضلتان، منصوبتان، رافعتان للإبهام.
وأما أوجه الافتراق: فأحدها أن الحال يكون جملة كجاءَ زيدٌ يضْحك وظرفاً نحو رأيتُ الهِلالَ بين السِّحابِ وجاراً ومجروراً نحو (فخرجَ على قومهِ في زينتهِ) والتمييز لا يكون إلا اسماً.
والثاني: أن الحال قد يتوقّفُ معنى الكلام عليها كقوله تعالى: (ولا تمْشِ في الأرضِ مرحاً)، (لا تقرَبوا الصّلاةَ وأنتمْ سُكارى) وقال:
إنما الميتُ منْ يعيشُ كئيباً ... كاسِفاً بالُهُ قليلَ الرّجاءِ
بخلاف التمييز.
والثالث: أن الحال مُبينة للهيئات، والتمييز مبين للذوات.
والرابع: أن الحال تتعدد كقوله:
عليَّ إذا ما زُرْتُ ليْلى بخفيةٍ ... زيارةُ بيتِ اللهِ رجْلانَ حافيا
بخلاف التمييز، ولذلك كان خطأ قول بعضهم في:
تباركَ رحماناً رحيماً وموْئلا
إنهما تمييزان، والصواب أن رحماناً بإضمار أخُصُّ أو أمْدح، ورحيماً حال منه، لا نعت له، لأن الحق قول الأعلم وابن مالك: إن الرحمن ليس بصفة بل علَم، وبهذا أيضاً يبطل كونه تمييزاً، وقول قوم إنه حال.
وأما قول الزمخشري: إذا قلت الله رحمن أتصرفه أم لا؟ وقول ابن الحاجب: إنه اختلف في صرفه، فخارج عن كلام العرب من وجهين، لأنه لم يستعمل صفة ولا مجرداً من أل، وإنما حذفت في البيت للضرورة، وينبني على عَلميته أنه في البسملة ونحوها بدل لا نعت، وأن الرحيم بعده نعت له، لا نعت لاسم الله سبحانه وتعالى، إذ لا يتقدّم البدل على النعت، وأن السؤال الذي سأله الزمخشري وغيرُه لمَ قدّم الرحمن مع أن عادتهم تقديم غير الأبلغ كقولهم: عالم نحرِير، وجواد فيّاض، غيرُ متجه.


ومما يوضح لك أنه غير صفة مجيئه كثيراً غير تابع نحو (الرّحمن علّم القُرآن) (قُلِ ادْعوا اللهَ أوِ ادْعوا الرّحمن)، (وإذا قيلَ لهمُ اسْجُدوا للرّحمنِ قالوا وما الرّحمن).
والخامس: أن الحال تتقدم على عاملها إذا كان فعلاً متصرفاً، أو وصفاً يشبهه نحو (خُشَّعاً أبْصارهمْ يخرُجون) وقوله:
نجَوْتِ وهَذا تحمِلينَ طليقُ
أي وهذا طليق محمولاً لك، ولا يجوز ذلك في التمييز على الصحيح، فأما استدلالُ ابن مالك على الجواز بقوله:
رددْتُ بمثْلِ السّيدِ نهْدٍ مُقلّصٍ ... كميشٍ إذا عطفاهُ ماءً تحلّبا
وقوله:
إذا المرءُ عيناً قرّ بالعيشِ مُثرياً ... ولمْ يُعنَ بالإحسانِ كان مُذمَّما
فسهو، لأن عطفاه والمرء مرفوعان بمحذوف يفسره المذكور، والناصبُ للتمييز هو المحذوف، وأما قوله:
وما ارعوَيتُ وشَيْباً رأسيَ اشتعلا
وقوله:
أنَفْساً تطيبُ بنيْلِ المُنى ... وَداعي المنونِ ينادي جِهارا
فضرورتان.
السادس: أن حق الحال الاشتقاق، وحق التمييز الجمود، وقد يتعاكسان فتقع الحال جامدة نحو هذا مالُك ذَهباً، (وتَنحِتونَ الجبالَ بيوتاً) ويقع التمييز مشتقاً نحو للهِ دَرُّه فارِساً وقولك كرُمَ زيدٌ ضيفاً إذا أردت الثناء على ضيف زيد بالكرم، فإن كان زيد هو الضيف احتمل الحالَ والتمييزَ، والأحسن عند قصد التمييز إدخال منْ عليه، واختلف في المنصوب بعد حبذا فقال الأخفش والفارسي والرّبعي: حال مطلقاً، وأبو عمرو بن العلاء: تمييز مطلقاً، وقيل: الجامد تمييز والمشتق حال، وقيل: الجامد تمييز والمشتق إن أريد تقييد المدح به كقوله:
يا حبذا المال مبذولاً بلا سرفٍ
فحال، وإلا فتمييز نحو حبذا راكباً زيد.
السابع: أن الحال تكون مؤكدة لعاملها نحو (وَلّى مُدْبِراً)، (فتبسم ضاحكاً) (ولا تعثَوا في الأرض مُفسدين) ولا يقع التمييز كذلك، فأما (إنّ عدَّةَ الشهورِ عندَ اللهِ اثنا عشرَ شهراً) فشهراً: مؤكد لما فُهم من (إن عدة الشهور) وأما بالنسبة الى عامله وهو اثنا عشر فمبين، وأما إجازة المبرد ومن وافقه: نعم الرّجلُ رجلاً زيد فمردودة، وأما قوله:
تزوّدْ مثلَ زادِ أبيكَ فينا ... فنعمَ الزّادُ زادُ أبيكَ زادا
فالصحيح أن زاداً معمول لتزود: إما مفعول مطلق إن أريد به التزود، أو مفعول به إن أريد به الشيء الذي يتزوده من أفعال البر، وعليهما فمثل نعت له تقدم فصار حالاً، وأما قوله:
نعمَ الفتاةُ فتاةً هندُ لوْ بذَلتْ ... ردَّ التحيةِ نُطقاً أو بإيماءِ
ففتاة: حال مؤكدة.
أقسام الحال
تنقسم باعتبارات: الأولى: انقسامها باعتبار انتقال معناها ولزومه الى قسمين: منتقلة وهو الغالب، وملازمة، وذلك واجب في ثلاث مسائل: إحداها: الجامدة غير المؤولة بالمشتق، نحو هذا مالكَ ذهباً وهذهِ جُبتكَ خزّاً بخلاف نحو بعْتهُ يداً بيدٍ فإنه بمعنى متقابضين، وهو وصف منتقل، وإنما لم يؤول في الأول، لأنها مستعملة في معناها الوضعي، بخلافها في الثاني، وكثير يتوهم أن الحال الجامدة لا تكون إلا مؤوّلة بالمشتق، وليس كذلك.
الثانية: المؤكدة نحو (ولّى مُدبراً) قالوا ومنه (هوَ الحقُّ مصدِّقاً) لأن الحق لا يكون إلا مصدقاً، والصواب أنه يكون مصدقاً ومكذباً، وغيرهما، نعم إذا قيل هوَ الحقُّ صادِقاً فهي مؤكدة.
الثالثة: التي دلّ عاملُها على تجدُّد صاحبها، نحو (وخُلقَ الإنسانُ ضعيفاً) ونحو خلقَ اللهُ الزّرافةَ يديها أطولَ منْ رجليها الحالُ أطول ويديها بدل بعض، قال ابن مالك بدر الدين: ومنه (وهو الذي أنزلَ إليكُم الكتاب مُفصّلا) وهذا سهو منه، لأن الكتاب قديم.
وتقع الملازِمةُ في غير ذلك بالسماع، ومنه (قائماً بالقسطِ) إذا أعرب حالاً، وقولُ جماعة إنها مؤكدة وهمٌ، لأن معناها غير مستفاد مما قبلها.
الثاني: انقسامها بحسبِ قصدها لذاتها وللتوطئة بها الى قسمين: مقصودة وهو الغالب، وموطِّئة وهي الجامدة الموصوفة نحو (فمثلَ لها بشراً سويّاً) فإنما ذكر بشراً توطئة لذكر سوياً، وتقول جاءني زيد رجُلاً مُحسناً.


الثالث: انقسامها بحسب الزمان الى ثلاثة: مقارنة، وهو الغالب، نحو (وهذا بعلي شيخاً) ومُقدّرة، وهي المستقبلة كمررتُ برجلٍ معهُ صقرٌ صائداً بهِ غداً، أي مُقدِّراً ذلك، ومنه (فادخلُوها خالدين)، (لتدخُلنَّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنينَ مُحلِّقينَ رؤوسكم ومُقصّرين) ومحكية، وهي الماضية نحو جاء زيدٌ أمسِ راكباً.
الرابع: انقسامها بحسب التبيين والتوكيد الى قسمين: مبينة، وهو الغالب، وتسمى مؤسِّسة أيضاً، ومؤكدة، وهي التي يستفاد معناها بدونها، وهي ثلاثة: مؤكدة لعاملها نحو (ولى مُدبراً) ومؤكدة لصاحبها نحو جاءَ القومُ طُرّاً ونحو (لآمنَ مَنْ في الأرضِ كلُّهمْ جميعاً) ومؤكدة لمضمون الجملة نحو زيدٌ أبوكَ عطوفاً وأهمل النحويون المؤكدة لصاحبها، ومثّل ابن مالك وولدُه بتلك الأمثلة للمؤكدة لعاملها، وهو سهو.
ومما يُشكل قولهم في نحو جاء زيدٌ والشمسُ طالعة: إن الجملة الاسمية حال، مع أنها لا تنحل الى مفرد، ولا تبين هيئة فاعل ولا مفعول، ولا هي حال مؤكدة، فقال ابن جني: تأويلُها جاء زيد طالعةً الشمسُ عند مجيئه، يعني فهي كالحال والنعت السببيين كمررتُ بالدار قائماً سُكانُها، وبرجلٍ قائم غلمانه وقال ابن عمرون: هي مؤولة بقولك مُبكراً، ونحوه، وقال صدر الأفاضل تلميذ الزمخشري: إنما الجملة مفعول معه، وأثبت مجيء المفعول معه جملة، وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى (والبحرُ يمدّهُ من بعدهِ سبعةُ أبحرٍ) في قراءة من رفع البحر: هو كقوله:
وقدْ أغتدي والطيرُ في وُكناتها
وجئتُ والجيشُ مُصطفّ ونحوهما من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، فلذلك عريتْ عن ضمير ذي الحال، ويجوز أن يقدر وبحرها أي وبحر الأرض.
إعراب أسماء الشرط والاستفهام ونحوها
اعلم أنها إن دخل عليها جار أو مُضاف فمحلُّها الجرُّ نحو (عمَّ يتساءلون) ونحو صبيحةَ أيِّ يومٍ سفرُكَ وغلامُ مَنْ جاءك وإلا فإن وقعت على زمان نحو (أيانَ يُبعثون) أو مكان نحو (فأينَ تذهبون) أو حدثٍ نحو (أيَّ مُنقلبٍ ينقلبون) فهي منصوبة مفعولاً فيه ومفعولاً مطلقاً، وإلا فإن وقع بعدها اسمٌ نكرة نحو مَنْ أبٌ لك فهي مبتدأة، أو اسم معرفة نحو مَن زيدٌ فهي خبر أو مبتدأ على الخلاف السابق، ولا يقع هذان النوعان في أسماء الشرط، وإلا فإن وقع بعدها فعل قاصر فهي مبتدأة نحو مَنْ قام ونحو مَن يقمْ أقمْ معه والأصحُّ أن الخبر فعل الشرط لا فعل الجواب، وإن وقع بعدها فعل متعد فإن كان واقعاً عليها فهي مفعول به نحو (فأيَّ آياتِ الله تُنكرون) ونحو (أيّاً ما تدعوا) ونحو (مَنْ يُضللِ اللهُ فلا هاديَ له) وإن كان واقعاً على ضميرها نحو مَن رأيته أو متعلقها نحو مَن رأيتَ أخاه فهي مبتدأة أو منصوبة بمحذوف مُقدر بعدها يفسره المذكور.
تنبيه
وإذا وقع اسمُ الشرط مبتدأ فهل خبره فعل الشرط وحده لأنه اسمٌ تام، وفعل الشرط مشتمل على ضميره، فقولك مَن يقمْ لو لم يكن فيه معنى الشرط لكان بمنزلة قولك كل مِن الناسِ يقومُ؟ أو فعل الجواب لأن الفائدة به تمت، ولالتزامهم عودَ ضمير منه إليه على الأصح، ولأن نظيره هو الخبر في قولك الذي يأتيني فله درهم؟ أو مجموعهما لأن قولك مَن يقمْ أقمْ معه بمنزلة قولك كل من الناس إن يقمْ أقم معه؟ والصحيح الأول، وإنما توقفت الفائدة على الجواب من حيث التعلق فقط، لا من حيث الخبرية.
مسوغات الابتداء بالنكرة
لم يُعوِّل المتقدمون في ضابط ذلك إلا على حصول الفائدة، ورأى المتأخرون أنه ليس كل أحدٍ يهتدي الى مواطن الفائةد، فتتبعوها، فمن مُقلّ مُخلّ، ومن مُكثر مُورد ما لا يصلح أو معدِّد لأمور متداخلة، والذي يظهر لي أنها منحصرة في عشرة أمور: أحدها: أن تكون موصوفة لفظاً أو تقديراً أو معنى فالأول نحو (وأجلٌ مسمّى عنده)، (ولعبدٌ مؤمنٌ خير من مشرك) وقولك رجُل صالح جاءني ومن ذلك قولهم ضعيف عاذَ بقرملة إذ الأصل: رجل ضعيف، فالمبتدأ في الحقيقة هو المحذوف، وهو موصوف، والنحويون يقولون: يبتدأ بالنكرة إذا كانت موصوفة أو خلفاً من موصوف، والصواب ما بيّنت. وليست كل صفة تُحصِّل الفائدة، فلو قلت رجل من الناس جاءني لم يجز. والثاني نحو قولهم: السّمنُ منوانِ بدرهمٍ أي منوان منه بدرهم، وقولهم: شرّ أهرّ ذا ناب و:
قدرٌ أحلّكَ ذا المجاز ...


إذ المعنى شر أيُّ شرٍّ وقدرٌ لا يغالب. والثالث نحو رُجيلٌ جاءني لأنه في معنى رجل صغير، وقولهم ما أحسنَ زيداً لأنه في معنى شيء عظيم حسّن زيداً، وليس في هذين النوعين صفة مقدرة فيكونا من القسم الثاني.
والثاني: أن تكون عاملة: إما رفعاً نحو قائمٌ الزيدانِ عند من أجازه، أو نصباً نحو أمرٌ بمعروفٍ صدقة وأفضلُ منك جاءني إذ الظرف منصوب المحل بالمصدر والوصفِ أو جراً نحو غلامُ امرأةٍ جاءني وخمسُ صلواتٍ كتبهنّ الله وشرط هذه: أن يكون المضاف إليه نكرة كما مثلنا، أو معرفة والمضاف مما لا يتعرف بالإضافة نحو مثلكَ لا يبخلُ وغيرُكَ لا يجودُ وأما ما عدا ذلك فإن المضاف إليه فيه معرفة لا نكرة.
والثالث: العطف بشرط كون المعطوف أو المعطوف عليه مما يسوغ الابتداء به نحو (طاعةٌ وقول معروف) أي أمثلُ من غيرهما، ونحو (قولٌ معروف ومغفرة خير من صدقةٍ يتبعُها أذىً) وكثير منهم أطلق العطفَ وأهمل الشرط، منهم ابن مالك، وليس من أمثلة المسألة ما أنشده من قوله:
عندي اصطبارٌ، وشكوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ من هذا امرؤ سمعا؟
إذ يحتمل أن الواو هنا للحال، وسيأتي أن ذلك مسوغ، وإن سُلم العطفُ فثَم صفة مقدرة يقتضيها المقام، أي وشكوى عظيمة، على أنا لا نحتاج الى شيء من هذا كله، فإن الخبر هنا ظرف مختص، وهذا بمجرده مُسوِّغ كما قدّمنا، وكأنه توهم أن التسويغ مشروط بتقدمه على النكرة، وقد أسلفنا أن التقديم إنما كان لدفع توهم الصفة، وإنما لم يجب هنا لحصول الاختصاص بدونه، وهو ما قدّمناه من الصفة المقدرة، أو الوقوع بعد واو الحال، فلذلك جاز تأخر الظرف كما في قوله تعالى (وأجل مُسمّى عنده).
فإن قلت: لعل الواو للعطف، ولا صفة مقدرة، فيكون العطف هو المسوغ.
قلت: لا يسوغ ذلك، لأن المسوغ عطف النكرة، والمعطوف في البيت الجملة لا النكرة.
فإن قيل: يحتمل أن الواو عطفت اسماً وظرفاً على مثليهما، فيكون من عطف المفردات.
قلنا: يلزم العطفُ على معمولي عاملين مختلفين، إذ الاصطبار معمول للابتداء، والظرف معمول للاستقرار.
فإن قيل: قدر لكل من الظرفين استقراراً، واجعل التعاطف بين الاستقرارين لا بين الظرفين.
قلنا: الاستقرار الأول خبر، وهو معمول للمبتدأ نفسه عند سيبويه، واختاره ابن مالك، فرجع الأمر الى العطف على معمولي عاملين.
والرابع: أن يكون خبرها ظرفاً أو مجروراً، قال ابن مالك: أو جملة، نحو (ولدينا مزيد) و(لكلِّ أجلٍ كتاب) وقصَدكَ غُلامُه رجل وشرط الخبر فيهنّ الاختصاصُ، فلو قيل في دارٍ رجل لم يجز، لأن الوقت لا يخلو عن أن يكون فيه رجل ما في دارٍ ما، فلا فائدة في الإخبار بذلك، قالوا: والتقديم، فلا يجوز رجل في الدار وأقول: إنما وجب التقديم هنا لدفع توهم الصفة، واشتراطه هنا يوهم أن له مدخلاً في التخصيص، وقد ذكروا المسألة فيما يجب فيه تقديم الخير، وذاك موضعها.
والخامس: أن تكون عامة: إما بذاتها كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام، أو بغيرها نحو ما رجُلٌ في الدار، وهل رجلٌ في الدار؟ و(أإلهٌ معَ الله) وفي شرح منظومة ابن الحاجب له أن الاستفهام المسوغ للابتداء هو الهمزة المعادلة بأم نحو أرَجُلٌ في الدارِ أم امرأة؟ كما مثل به في الكافية، وليس كما قال.
والسادس: أن تكون مُراداً بها صاحب الحقيقة من حيث هي، نحو رجُلٌ خيرٌ من امرأةٍ وتمرةٌ خيرٌ من جرادة.


والسابع: أن تكون في معنى الفعل، وهذا شامل لنحو عجبٌ لزيد وضبطوه بأن يراد بها التعجب، ولنحو (سلامٌ على إل ياسين) و(ويلٌ للمُطَفِّفين) وضبطوه بأن يراد بها الدعاء ولنحو قائمٌ الزّيدانِ عند من جوزها، وعلى هذا ففي نحو ما قائم الزيدان مُسَوغان كما في قوله تعالى (وعندنا كتابٌ حفيظ) مسوغان، وأما منع الجمهور لنحو قائم الزيدان فليس لأنه لا مسوغ فيه للابتداء، بل إما لفوات شرط العمل وهو الاعتماد، أو لفوات شرط الاكتفاء بالفاعل عن الخبر وهو تقدم النفي أو الاستفهام، وهذا أظهر لوجهين: أحدهما: أنه لا يكفي مُطْلق الاعتماد، فلا يجوز في نحو زيد قائم أبوه كونُ قائم مبتدأ وإن وجد الاعتماد على المخبر عنه. والثاني: أن اشتراط الاعتماد وكون الوصف بمعنى الحال أو الاستقبال إنما هو للعمل في المنصوب، لا لمطلق العمل، بدليلين: أحدهما: أنه يصح زيد قائم أبوه أمس والثاني: أنهم لم يشترطوا لصحة نحو أقائم الزّيدان كون الوصف بمعنى الحال أو الاستقبال.
والثامن: أن يكون ثبوت ذلك الخبر للنكرة من خوارق العادة، نحو شجرة سجَدتْ وبقرة تكلمتْ إذ وقوعُ ذلك من أفراد هذا الجنس غيرُ معتاد، ففي الإخبار به عنها فائدة، بخلاف نحو رجُل مات ونحوه.
والتاسع: أن تقع بعد إذا الفجائية نحو خرجْتُ فإذا أسد أو رجُل بالباب، إذ لا توجبُ العادة ألا يخلو الحال من أن يفاجئك عند خروجك أسد أو رجل.
والعاشر: أن تقع في أول جملة حالية كقوله:
سريْنا ونجْم قد أضاء، فمُذْ بدا ... مُحياك أخْفى ضوؤهُ كلَّ شارقِ
وعلة الجواز ما ذكرناه في المسألة قبلها، ومن ذلك قوله:
الذِّئبُ يطرُقها في الدّهر واحدةً ... وكلَّ يومٍ تراني مُديةٌ بيدي
وبهذا يعلم أن اشتراط النحويين وقوع النكرة بعد واو الحال ليس بلازم.
ونظيرُ هذا الموضع قولُ ابن عصفور في شرح الجمل: تكسر إنّ إذا وقعت بعد واو الحال، وإنما الضابط أن تقع في أول جملة حالية، بدليل قوله تعالى: (وما أرْسلنا قبْلك من المرسلين إلا إنّهم ليأكلون الطّعام) ومن روى مُديةً بالنصب فمفعول لحال محذوفة أي حاملاً أو ممسكاً، ولا يحسن أن يكون بدلاً من الياء، ومثّل ابن مالك بقوله تعالى: (وطائفةٌ قد أهمتُهم أنفُسهم) وقول الشاعر:
عرضنا فسلمنا فسلم كارهاً ... علينا وتبريحٌ من الجْد خانقُه
ولا دليل فيهما، لأن النكرة موصوفة بصفة مذكورة في البيت ومقدرة في الآية، أي: وطائفة من غيركم، بدليل (يغشى طائفةً منكم).
ومما ذكروا من المسوغات: أن تكون النكرة محصورة نحو إنما في الدار رجل أو للتفصيل نحو الناسُ رجلان رجُل أكرمته ورجل أهنته وقوله:
فأقبلتُ زحفاً على الرُّكبتين ... فثوبٌ نسيتُ وثوبٌ أجُرْ
وقولهم شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى، أو بعد فاء الجزاء نحو إنْ مضى عَير فعير في الرِّباط.
وفيهن نظر، أما الأولى فلأن الابتداء فيها بالنكرة صحيح قبل مجيء إنما، وأما الثانية فلاحتمال رجُل الأول للبداية والثاني عطف عليه، كقوله:
وكنتُ كذي رِجلين رِجلٍ صحيحةٍ ... ورِجل رمى فيها الزّمانُ فشلَّتِ
ويسمى بدل التفصيل، ولاحتمال شهر الأول الخبرية، والتقدير: أشهرُ الأرض الممطورة شهر ذو ثرى، أي ذو تراب ندٍ، وشهر ترى فيه الزرع، وشهر ذو مرعى، ولاحتمال نسيت وأجرّ للوصفية والخبر محذوف أي فمنها ثوب نسيته، ومنها ثوب أجره، ويحتمل أنهما خبران وثمَّ صفتان مقدرتان، أي فثوب لي نسيته وثوب لي أجرّه، وإنما نسي ثوبه لشغل قلبه بها كما قال:
لعُوبٍ تنسّيني إذا قُمْتُ سربالي
وإنما جرّ الآخر ليعفي الأثر عن القافة، ولهذا زحفَ على ركبتيه، وأما الثالثة فلأن المعنى فعير آخرُ، ثم حذفت الصفة. ورأيت في كلام محمد بن حبيب - وحبيب ممنوع من الصرف لأنه اسم أمه - قال يونس: قال رؤبة: المطر شهر ثرى إلخ، وهذا دليل على أنه خبر، ولابد من تقدير مضاف قبل المبتدأ لتصحيح الإخبار عنه بالزمان.
أقسام العطف
وهي ثلاثة:


أحدها: العطف على اللفظ، وهو الأصل، نحو ليس زيد بقائمٍ ولا قاعد بالخفض، وشرطه إمكان توجه العامل الى المعطوف، فلا يجوز في نحو ما جاءني من امرأة ولا زيد إلا الرفع عطفاً على الموضع، لأن من الزائدة لا تعمل في المعارف. وقد يمتنع العطف على اللفظ وعلى المحل جميعاً، نحو ما زيد قائماً لكن أو بل قاعد لأن في العطف على اللفظ إعمال ما في الموجب، وفي العطف على المحل اعتبار الابتداء مع زواله بدخول الناسخ، والصواب الرفع على إضمار مبتدأ.
والثاني: العطف على المحل، نحو ليس زيد بقائمٍ ولا قاعداً بالنصب، وله عند المحققين ثلاثة شروط: أحدها: إمكان ظهوره في الفصيح، ألا ترى أنه يجوز في ليس زيد بقائم وما جاءني من امرأة أن تسقط الباء فتنصب، ومِن فترفع، وعلى هذا فلا يجوز مررت بزيد وعمراً خلافاً لابن جني، لأنه لا يجوز مررت زيداً وأما قوله:
تمرّون الدِّيار ولم تعوجوا
فضرورة، ولا تختص مراعاة الموضع بأن يكون العاملُ في اللفظ زائداً كما مثّلنا، بدليل قوله:
فإن لم تجدْ من دون عدنانَ والداً ... ودون معدٍّ فلْتَزَعْكَ العواذلُ
وأجاز الفارسي في قوله تعالى: (وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة) أن يكون (يوم القيامة) عطفاً على محل هذه لأن محله النصب.
الثاني: أن يكون الموضع بحق الأصالة، فلا يجوز هذا ضارب زيداً وأخيه لأن الوصف المستوفي لشروط العمل الأصلُ إعماله لا إضافتُه لالتحاقه بالفعل، وأجازه البغداديون تمسكاً بقوله:
......... مُنضجٍ ... صفيفَ شواءٍ أو قديرٍ معجّلِ
وقد مرّ جوابه: والثالث: وجود المحرز، أي الطالب لذلك المحل، وابتنى على هذا امتناع مسائل: إحداها: إن زيداً وعمرو قائمان وذلك لأن الطالب لرفع زيد هو الابتداء والابتداء هو التجرد، والتجرد قد زال بدخول إنّ.
والثانية: إن زيداً قائم وعمرو إذا قدرت عمراً معطوفاً على المحل، لا مبتدأ، وأجاز هذه بعضُ البصريين، لأنهم لم يشترطوا المحرز، وإنما منعوا الأولى لمانع آخر، وهو توارد عاملين: إنّ والابتداء على معمولٍ واحد وهو الخبر، وأجازهما الكوفيون، لأنهم لا يشترطون المحرز، ولأن إن لم تعمل عندهم في الخبر شيئاً، بل هو مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولها، ولكن شرط الفراء لصحة الرفع قبل مجيء الخبر خفاء إعراب الاسم، لئلا يتنافر اللفظ، ولم يشترطه الكسائي، كما أنه ليس بشرط بالاتفاق في سائر مواضع العطف على اللفظ، وحجتهما قولُه تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون) الآية، وقولهم إنك وزيد ذاهبان وأجيب عن الآية بأمرين: أحدهما: أن خبر إن محذوف، أي مأجورون أو آمنون أو فرحون، والصابئون مبتدأ، وما بعده الخبر، ويشهد له قوله:
خليليّ هل طِبٌّ، فإنّي وأنتُما ... وإن لم تبوحا بالهوى دنفان؟
ويضعفه أنه حذْف من الأول لدلالة الثاني، وإنما الكثير العكس، والثاني: أن الخبر المذكور لإن وخبر (الصابئون) محذوف، أي كذلك، ويشهد له قوله:
فمن يكُ أمسى بالمدينة رحلُهُ ... فإني وقيارٌ بها لغريبُ
إذ لا تدخل اللام في خبر المبتدأ حتى يقدم نحو لقائم زيد ويضعفه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها.
وعن المثال بأمرين أحدهما: أنه عطف على توهم عدم ذكر إن. والثاني: أنه تابع لمبتدأ محذوف، أي إنك أنت وزيد ذاهبان وعليهما خرج قولهم إنهم أجمعون ذاهبون.
المسألة الثالثة: هذا ضاربٌ زيدٍ وعمراً بالنصب.
المسألة الرابعة: أعجبني ضربُ زيدٍ وعمروٌ بالرفع أو وعمراً بالنصب، منعهما الحذّاق، لأن الاسم المشبه للفعل لا يعمل في اللفظ حتى يكون بأل أو منوناً أو مضافاً، وأجازهما قوم تمسكاً بظاهر قوله تعالى (وجاعل الليلِ سكناً والشمسَ والقمرَ حُسْباناً) وقول الشاعر:
فلمْ تخلُ منْ تمهيدِ مجدٍ وسوددا


وأجيب بأن ذلك على إضمار عامل يدل عليه المذكور، أي وجعل الشمس، ومهدْتَ سودداً، أو يكون سودداً مفعولاً معه، ويشهد للتقدير في الآية أن الوصف فيها بمعنى الماضي، والماضي المجرد من أل لا يعمل النصب ويوضح لك مضيهُ قولُه تعالى (ومن رحمته جعل لكُمُ الليل والنهار لتسكُنوا فيه) الآية، وجوز الزمخشريُّ كون الشمس معطوفاً على محل الليل، وزعم مع ذلك أن الجعل مراد منه فعل مستمر في الأزمنة لا في الزمن الماضي بخصوصيته مع نصه في (مالكِ يومِ الدين) على أنه إذا حمل على الزمن المستمر كان بمنزلته إذا حمل على الماضي في أن إضافته محضة، وأما قوله:
قدْ كنتُ داينتُ بها حسانا ... مخافةَ الإفلاسِ واللّيانا
فيجوز أن يكون الليّانا مفعولاً معه، وأن يكون معطوفاً على مخافة على حذف مضاف، أي ومخافة الليان، ولو لم يقدر المضاف لم يصح، لأن الليان فعل لغير المتكلم، إذ المراد أنه داينَ حسانَ خشيةً من إفلاس غيره ومطله، ولابدّ في المفعول له من موافقته لعامله في الفاعل.
ومن الغريب قولُ أبي حيان: إن من شرط العطف على الموضع أن يكون للمعطوف عليه لفظ وموضع، فجعل صورة المسألة شرطاً لها، ثم إنه أسقط الشرطَ الأول الذي ذكرناه ولابد منه.
والثالث: العطف على التوهم نحو ليسَ زيد قائماً ولا قاعدٍ بالخفض على توهم دخول الباء في الخبر، وشرط جوازه صحةُ دخول ذلك العامل المتوهم، وشرط حسنه كثرة دخوله هناك، ولهذا حسن قولُ زهير:
بدا ليَ أنّي لستُ مُدركَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
وقول الآخر:
ما الحازمُ الشّهمُ مقداماً ولا بطلٍ ... إنْ لم يكن للهوى بالحقِّ غلابا
ولم يحسن قول الآخر:
وما كنتُ ذا نيربٍ فيهمُ ... ولا مُنمِشٍ فيهمُ مُنمِلِ
لقلة دخول الباء على خبر كان، بخلاف خبري ليس وما، والنيرب: النميمة، والمنمل: الكثير النميمة، والمنمش: المفسد ذات البين.
وكما وقع هذا العطف في المجرور وقع في أخيه المجزوم، ووقع أيضاً في المرفوع اسماً، وفي المنصوب اسماً وفعلاً، وفي المركبات.
فأما المجزوم فقال به الخليل وسيبويه في قراءة غير أبي عمرو (لولا أخرتني الى أجلٍ قريبٍ فأصدَّقَ وأكنْ) فإن معنى لولا أخرتني فأصدق ومعنى إنْ أخرتني أصدق واحد، وقال السيرافي والفارسي: هو عطف على محل فأصّدق كقول الجميع في قراءة الأخوين (مَنْ يُضللِ اللهُ فلا هاديَ لهُ ويذرْهم) بالجزم، ويردّه أنهما يُسلمان أن الجزم في نحو ائتني أُكرمْكَ بإضمار الشرط، فليست الفاء هنا وما بعدها في موضع جزم، لأن ما بعد الفاء منصوب بأن مضمرة، وأنْ والفعل في تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهم مما تقدم، فكيف تكون الفاء مع ذلك في موضع الجزم؟ وليس بين المفردين المتعاطفين شرط مقدر، ويأتي القولان في قول الهذلي:
فأبلوني بليَّتكمْ لعلّي ... أُصالحكمْ وأستدرجْ نَوَيّا
أي نوايَ، وكذلك اختلف في نحو قام القوم غير زيد وعمراً بالنصب، والصواب أنه على التوهم، وأنه مذهب سيبويه، لقوله لأن غير زيد في موضع إلا زيداً ومعناه فشبهوه بقولهم:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وقد استنبط مَنْ ضعُف فهمُه من إنشاده هذا البيت هنا أنه يراه عطفاً على المحل ولو أراد ذلك لم يقل إنهم شبهوه به.
رجع القول الى المجزوم - وقال به الفارسي في قراءة قُنبُل: (إنهُ مَنْ يتقِ ويصبرْ فإنّ اللهَ) بإثبات الياء في يتقي وجزم يصبر فزعم أن مَنْ موصولة، فلهذا ثبتت ياء يتقي، وأنها ضمنت معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء في الخبر، وإنما جزم يصبر على توهم معنى مَنْ، وقيل: بل وصل يصبر بنية الوقف كقراءة نافع (ومحيايْ ومماتي) بسكون ياء محيايْ وصلاً، وقيل: بل سكن لتوالي الحركات في كلمتين كما في (يأمرْكم) و(يشعرْكم) وقيل: مَنْ شرطية، وهذه الياء إشباع، ولام الفعل حذفت للجازم، أو هذه الياء لام الفعل، واكتفى بحذف الحركة المقدرة.
وأما المرفوع فقال سيبويه: واعلم أن ناساً من العرب يغلطون فيقولون إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيدٌ ذاهبان وذلك على أن معناه معنى الابتداء، فيرى أنه قال هم، كما قال:
بدا لي أني لستُ مُدركَ ما مضى


ومراده بالغلط ما عبر عنه غيره بالتوهم، وذلك ظاهر من كلامه، ويوضحه إنشاده البيت، وتوهم ابن مالك أنه أراد بالغلط الخطأ فاعتراض عليه بأنا متى جوّزنا ذلك عليهم زالت الثقة بكلامهم، وامتنع أن نثبت شيئاً نادراً لإمكان أن يقال في كل نادر: إن قائله غلط.
وأما المنصوب اسماً فقال الزمخشري في قوله تعالى (ومِنْ وراء إسحاقَ يعقوبَ) فيمن فتح الباء: كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله:
مشائيمُ ليسوا مُصلحينَ عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غُرابُها
وقيل: هو على إضمار وَهبنا، أي ومن وراء إسحاق وَهبنا يعقوبَ، بدليل (فبشّرناها) لأن البشارة من الله تعالى بالشيء في معنى الهبة، وقيل هو مجرور عطفاً على بإسحاق، أو منصوب عطفاً على محله، ويردّ الأولَ أنه لا يجوز الفصل بين العاطف والمعطوف على المجرور كمررت بزيدٍ واليوم عمرو، وقال بعضهم في قوله تعالى (وحفْظاً منْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ) إنه عطف على معنى (إنّا زينا السماءَ الدُّنيا) وهو إنا خلقنا الكواكب في السماء الدنيا زينةً للسماء كما قال تعالى (ولقدْ زينّا السماءَ الدُنيا بمصابيحَ وجعلْناها رُجوماً) ويحتمل أن يكون مفعولاً لأجله، أو مفعولاً مطلقاً، وعليهما فالعامل محذوف، أي وحفظاً من كل شيطان زيّناها بالكواكب، أو وحفظناها حفظاً.
وأما المنصوب فعلاً فكقراءة بعضهم (ودّوا لو تُدهِنُ فيُدهنوا) حملاً على معنى ودّوا أن تدهن، وقيل في قراءة حفص (لعلي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السمواتِ فأطلعَ) بالنصب: إنه عطف على معنى لعلّي أبلغ، وهو لعلّي أن أبلغ، فإن خبر لعل يقترن بأنْ كثيراً، نحو الحديث فلعلّ بعضكمْ أن يكونَ ألحنَ بحُجّتهِ منْ بعضٍ ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حدّ:
للُبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني
ومع هذين الاحتمالين فيندفع قولُ الكوفي: إن هذه القراءة حجة على جواز النصب في جواب الترجّي حملاً له على التمني.
وأما في المركبات فقد قيل في قوله تعالى: (ومنْ آياتِه أنْ يرسلَ الرِّياحَ مُبشِّراتٍ وليُذيقَكمْ) إنه على تقدير ليبشركم وليذيقكم، ويحتمل أن التقدير: وليذيقكم وليكونَ كذا وكذا أرسلها، وقيل في قوله تعالى (أوْ كالذي مرّ على قريةٍ) إنه على معنى أرأيت كالذي حاجّ أو كالذي مرّ. ويجوز أن يكون على إضمار فعل، أي أورأيت مثل الذي، فحذف لدلالة (ألمْ ترَ الى الذي حاجَّ) عليه، لأن كليهما تعجب، وهذا التأويلُ هنا وفيما تقدم أولى، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على المعنى، وقيل: الكاف زائدة، أي ألم تر الى الذي حاجَّ أو الذي مرّ، وقيل: الكاف اسم بمعنى مثل معطوف على الذي، أي ألم تنظر الى الذي حاجَّ أو الى مثلِ الذي مرّ.
تنبيه
من العطف على المعنى على قول البصريين نحو لألزمنكَ أو تقضيَني حقّي إذ النصب عندهم بإضمار أنْ، وأنْ والفعل في تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهم، أي ليكوننّ لزومٌ مني أو قضاء منك لحقي، ومنه (تقاتلونهم أو يُسلموا) في قراءة أُبيٍّ بحذف النون، وأما قراءة الجمهور بالنون فبالعطف على لفظ تقاتلونهم، أو على العطف بتقدير أو هم يسلمون، ومثله ما تأتينا فتُحدِّثنا بالنصب، أي ما يكون منك إتيان فحديث، ومعنى هذا نفي الإتيان فينتفي الحديث، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا، أو نفي الحديث فقط حتى كأنه قيل: ما تأتينا محدثاً، أي بل غير محدث، وعلى المعنى الأول جاء قوله سبحانه وتعالى (لا يُقْضى عليهمْ فيموتوا) أي فكيف يموتون، ويمتنع أن يكون على الثاني، إذ يمتنع أن يقضي عليهم ولا يموتون، ويجوز رفعه فيكون إما عطفاً على تأتينا، فيكون كل منهما داخلاً عليه حرفُ النفي، أو على القطع فيكون موجباً، وذلك واضح في نحو ما تأتينا فتجهل أمرنا ولم تقرأ فتنسى لأن المراد إثبات جهله ونسيانه، ولأنه لو عطف لجزم تنسى وفي قوله:
غيرَ أنّا لمْ يأتنا بيقين ... فنُرَجّي ونكثر التأميلا


إذ المعنى أنه لم يأت باليقين فنحن نرجو خلاف ما أتى لانتفاء اليقين عما أتى به، ولو جزمه أو نصبه لفسد معناه، لأن يصير منفياً على حدته كالأول إذا جزم، ومنفياً على الجمع إذا نصب، وإنما المراد إثباته، وأما إجازتهم ذلك في المثال السابق فمشكلة، لأن الحديث لا يمكن مع عدم الإتيان، وقد يوجه قولهم بأن يكون معناه: ما تأتينا في المستقبل فأنت تحدثنا الآن عوضاً عن ذلك، وللاستئناف وجه آخر، وهو أن يكون على معنى السببية وانتفاء الثاني لانتفاء الأول، وهو أحد وجهي النصب، وهو قليل، وعليه قوله:
فلقدْ تركتِ صبيّةً مرحومةً ... لم تدرِ ما جزعٌ عليكِ فتجزعُ
أي لو عرفت الجزعَ لجزعت، ولكنها لم تعرفه فلم تجزع، وقرأ عيسى بن عمر (فيموتون) عطفاً على (يُقضى)، وأجاز ابن خروف فيه الاستئنافَ على معنى السببية كما قدمنا في البيت، وقرأ السبعة (ولا يُؤذنُ لهم فيعتذرون) وقد كان النصب ممكناً مثله في (فيموتوا) ولكن عُدلَ عنه لتناسب الفواصل، والمشهور في توجيهه أنه لم يقصد الى معنى السببية، بل الى مجرد العطف على الفعل وإدخاله معه في سلك النفي، لأن المراد ب(لا يؤذن لهم) نفي الإذن في الاعتذار، وقد نهوا عنه في قوله تعالى (لا تعتذروا اليومَ) فلا يتأتى العذر منهم بعد ذلك. وزعم ابن مالك بدرُ الدين أنه مستأنف بتقدير: فهم يعتذرون، وهو مشكل على مذهب الجماعة، لاقتضائه ثبوتَ الاعتذار مع انتفاء الإذن كما في قولك لا تؤذينا فنحبُّكَ بالرفع، ولصحة الاستئناف يحمل ثبوت الاعتذار مع مجيء (لا تعتذروا اليوم) على اختلاف المواقف، كما جاء (فيومئذ لا يسألُ عن ذنبه إنسٌ ولا جانّ)، (وقفوهمْ إنهمْ مسؤولون)، وإليه ذهب ابن الحاجب، فيكون بمنزلة ما تأتينا فتجهل أمورنا ويردُّه أن الفاء غير العاطفة للسببية، ولا يتسبب الاعتذار في وقتٍ عن نفي الإذن فيه في وقت آخر، وقد صحّ الاستئناف بوجه آخر يكون الاعتذار معه منفياً، وهو ما قدمناه ونقلناه عن ابن خروف من أن المستأنف قد يكون على معنى السببية، وقد صرح به هنا الأعلم، وأنه في المعنى مثل (لا يُقضى عليهم فيموتوا) ورده ابن عصفور بأن الإذن في الاعتذار قد يحصل ولا يحصل اعتذار، بخلاف القضاء عليهم، فإنه يتسبب عنه الموت جزماً، وردَّ عليه ابنُ الضائع بأن النصب على معنى السببية في ما تأتينا فتحدثنا جائز بإجماع، مع أنه قد يحصل الإتيان ولا يحصلُ التحديثُ، والذي أقول: إن مجيء الرفع بهذا المعنى قليل جداً، فلا يحسن حمل التنزيل عليه.
تنبيه
لا تأكُلْ سمكاً وتشرَب لبناً إن جزمت فالعطف على اللفظ والنهي عن كل منهما، وإن نصبت فالعطف عند البصريين على المعنى، والنهي عند الجميع عن الجمع، أي لا يكن منك أكل سمك مع شرب لبن، وإن رفعت فالمشهور أنه نهي عن الأول وإباحة للثاني، وأن المعنى: ولك شربُ اللبن، وتوجيهه أنه مستأنف، فلم يتوجه إليه حرف النهي، وقال بدر الدين ابن مالك: إن معناه كمعنى وجه النصب، ولكنه على تقدير لا تأكل السمك وأنتَ تشربُ اللبن، وكأنه قدر الواو للحال، وفيه بُعدٌ، لدخولها في اللفظ على المضارع المُثبت، ثم هو مخالف لقولهم، إذ جعلوا لكل من أوجه الإعراب معنى.
عطف الخبر على الإنشاء وبالعكس
منعه البيانيون، وابن مالك في شرح باب المفعول معه من كتاب التسهيل، وابن عصفور في شرح الإيضاح، ونقله عن الأكثرين، وأجازه الصفار - بالفاء - تلميذ ابن عصفور، وجماعة، مستدلين بقوله تعالى: (وبشِّرِ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ) في سورة البقرة، (وبشِّرِ المؤمنين) في سورة الصف، قال أبو حيان: وأجاز سيبويه جاءني زيدٌ ومَنْ عمرٌو العاقلان على أن يكون العاقلان خبراً لمحذوف، ويؤيده قوله:
وإنّ شِفائي عبْرَةٌ مُهراقَةٌ ... وهلْ عنْد رسْمٍ دارسٍ منْ مُعوَّلِ؟
وقوله:
تُناغي غزالاً عِند بابِ ابن عامرٍ ... وكحِّلْ أماقيكَ الحِسانَ بإثْمِدِ
واستدل الصفار بهذا البيت، وقوله:
وقائلةٍ خوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ
فإن تقديره عند سيبويه: هذه خولان.


وأقول: أما آية البقرة فقال الزمخشري: ليس معتمد بالعطف الأمر حتى يطلب له مُشاكل، بل المراد عطف جملة ثَواب المؤمنين على جملة عذاب الكافرين، كقولك زيدٌ يُعاقَبُ بالقيْدِ وبشِّرْ فلاناً بالإطلاق وجوز عطفه على اتقوا وأتمُّ من كلامه في الجواب الأول أن يقال: المعتمد بالعطف جملة الثواب كما ذكر، ويزاد عليه فيقال: والكلام منظور فيه الى المعنى الحاصل منه، وكأنه قيل: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات فبشرهم بذلك، وأما الجواب الثاني ففيه نظر، لأنه لا يصح أن يكون جواباً للشرط، إذ ليس الأمر بالتبشير مشروطاً بعجز الكافرين عن الإتيان بمثل القرآن، ويجاب بأنه قد عُلم أنهم غير المؤمنين، فكأنه قيل: فإن لم يفعلوا فبشر غيرهم بالجنات، ومعنى هذا فبشر هؤلاء المُعاندين بأنه لا حظّ لهم من الجنة.
وقال في آية الصف: إن العطف على تؤمنون لأنه بمعنى آمِنوا، ولا يقدح في ذلك أن المخاطب بتؤمنون المؤمنون، وببَشِّر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أن يقال في تؤمنون: إنه تفسير للتجارة لا طَلَب، وإن يغفر لكم جواب الاستفهام تنزيلاً لسبب السبب منزلة السبب كما مرّ في بحث الجمل المفسرة، لأن تخالف الفاعلين لا يقدح، تقول قوموا واقْعُدْ يا زيد ولأن تؤمنون لا يتعين للتفسير، سلَّمنا، ولكن يحتمل أنه تفسير مع كونه أمراً، وذلك بأن يكون معنى الكلام السابق اتجِروا تجارةً تُنجيكم من عذاب أليم كما كان (فهل أنتم منتهون) في معنى انْتَهوا، أو بأنْ يكون تفسيراً في المعنى دون الصناعة، لأن الأمر قد يُساق لإفادة المعنى الذي يتحصّل من المفسرة، يقول: هل أدلك على سبب نجاتك؟ آمِنْ بالله، كما تقول: هو أن تؤمن بالله، وحينئذ فيمتنع العطفُ لعدم دخول التبشير في معنى التفسير.
وقال السكاكي: الأمران معطوفان على قُلْ مقدرة قبل يا أيها، وحذْفُ القول كثيرٌ، وقيل: معطوفان على أمر محذوف تقديره في الأولى: فأنذر، وفي الثانية: فأبشر، كما قال الزمخشري في (واهجُرْني مليّا): إن التقدير فاحذرني واهجرني لدلالة (لأرجمنّك) على التهديد.
وأمّا:
وهل عند رسم دارس من معوّل
فهلْ فيه نافية، مثلها في (فهلْ يُهْلَكُ إلا القومُ الظّالمون).
وأما: هذه خَوْلان فمعناه تنبّه لخولان، أو الفاء لمجرد السببية مثلها في جواب الشرط، وإذ قد استدلا بذلك فهلا استدلاّ بقوله تعالى (إنّا أعطيناكَ الكوثَر فصلِّ لربّك وانحَرْ) ونحوه في التنزيل كثير.
وأما:
وكحِّلْ أماقيكَ الحِسانَ بإثمدِ
فيتوقف على النظر فيما قبله من الأبيات، وقد يكون معطوفاً على أمر مقدر يدلُّ عليه المعنى، أي فافعل كذا وكحل، كما قيل في (واهجرني مليّاً).
وأما ما نقله أبو حيان عن سيبويه فغلط عليه، وإنما قال: واعلم أنه لا يجوز مَنْ عبْد الله وهذا زيد الرجلين الصالحين رفعت أو نصبت، لأنك لا تثني إلا على مَنْ أثبتّه وعلمته، ولا يجوز أن تخلط مَنْ تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وقال الصفار: لما منعها سيبويه من جهة النعت علم أنّ زوال النعت يصححها، فتصرَّفَ أبو حيان في كلام الصفار فوهم فيه، ولا حجة فيما ذكر الصفار، إذ قد يكون للشيء مانعان ويقتصر على ذكر أحدهما لأنه الذي اقتضاه المقام. والله أعلم.
عطف الاسمية على الفعلية وبالعكس
فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز مطلقاً، وهو المفهوم من قول النحويين في باب الاشتغال في مثل قام زيدٌ وعَمْراً أكرمته إن نصب عمراً أرجح لأن تناسب الجملتين المتعاطفتين أولى من تخالفهما.
والثاني: المنع مطلقاً، حكي عن ابن جني أنه قال في قوله:
عاضها اللهُ غُلاماً بعْدَ ما ... شابَتِ الأصْداغُ والضِّرْسُ نُقِدْ
إن الضرس فاعل بمحذوف يفسره المذكور، وليس بمبتدأ، ويلزمه إيجاب النصب في مسألة الاشتغال السابقة، إلا إن قال: أقدر الواو للاستئناف.
والثالث: لأبي عليّ، أنه لا يجوز في الواو فقط، نقله عنه أبو الفتح في سر الصناعة، وبنى عليه منْعَ كون الفاء في خرجت فإذا الأسدُ حاضر عاطفة.


وأضعف الثلاثة القول الثاني، وقد لهج به الرازي في تفسيره، وذكر في كتابه في مناقب الشافعي رضي الله عنه أن مجلساً جمعه وجماعةً من الحنفية، وأنهم زعموا أن قول الشافعي يحلُّ أكلُ متروك التسمية مردودٌ بقوله تعالى (ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفِسقٌ) فقال: فقلت لهم: لا دليل فيها، بل هي حجة للشافعي، وذلك لأن الواو ليست للعطف، لتخالف الجملتين بالاسمية والفعلية، ولا للاستئناف، لأن أصل الواو أن تربط ما بعدها بما قبلها، فبقي أن تكون للحال، فتكون جملة الحال مقيدة للنهي، والمعنى لا تأكلوا منه في حالة كونه فسقاً، ومفهومه جواز الأكل إذا لم يكن فسقاً، والفسقُ قد فسره الله تعالى بقوله (أو فسقاً أُهلَّ لغير الله به) فالمعنى لا تأكلوا منه إذا سمي عليه غيرُ الله، ومفهومه كلوا منه إذا لم يسمَّ عليه غير الله، ملخصاً موضحاً. ولو أبطل العطف لتخالف الجملتين بالإنشاء والخبر لكان صواباً.
العطف على معمولي عاملين
وقولهم على عاملين فيه تجوّز، أجمعوا على جواز العطف على معمولي عاملٍ واحد، نحو إن زيداً ذاهب وعمراً جالس وعلى معمولات عامل نحو أعلم زيدٌ عمراً بكراً جالساً وأبو بكرٍ خالداً سعيداً منطلقاً وعلى منع العطف على معمولي أكثر من عاملين نحو إنّ زيداً ضارب أبوه لعمرو، وأخاك غلامُه بكرٍ وأما معمولا عاملين، فإن لم يكن أحدُهما جاراً فقال ابن مالك: هو ممتنع إجماعاً نحو كان آكلاً طعامَك عمروٌ وتمرَك بكر وليس كذلك، بل نقل الفارسيُّ الجواز مطلقاً عن جماعة، وقيل: إن منهم الأخفش، وإن كان أحدهما جاراً فإن كان الجارُّ مؤخراً نحو زيد في الدار والحجرة عمروٌ، أو وعمروٌ الحجرة فنقل المهدويُّ أنه ممتنع إجماعاً، وليس كذلك، بل هو جائز عند من ذكرنا، وإن كان الجار مقدماً نحو في الدار زيد والحجرة عمروٌ فالمشهور عن سيبويه المنع، وبه قال المبرد وابن السراج وهشام، وعن الأخفش الإجازة، وبه قال الكسائي والفراء والزجاج، وفصّل قوم - منهم الأعلم - فقالوا: إن ولي المخفوضُ العاطف كالمثال جاز، لأنه كذا سمع، ولأن فيه تعادل المتعاطفات، وإلا امتنع نحو في الدار زيدٌ وعمروٌ الحجرة.
وقد جاءت مواضع يدل ظاهرها على خلاف قول سيبويه، كقوله تعالى (إنّ في السموات والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبثُّ من دابةٍ آياتٌ لقوم يوقنون، واختلافِ الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصْريف الرّياح آياتٌ لقوم يعقلون) آيات الأولى منصوبة إجماعاً، لأنها اسم إنّ، والثانية والثالثة قرأهما الأخوان بالنصب، والباقون بالرفع، وقد استدل بالقراءتين في آيات الثالثة على المسألة، أما الرفع فعلى نيابة الواو مناب الابتداء وفي، وأما النصب فعلى نيابتها مناب إنّ وفي.
وأجيب بثلاثة أوجه: أحدهما: أن في مقدرة، فالعمل لها، ويؤيده أن في حرف عبد الله التصريح بفي، وعلى هذا الواوُ نائبة مناب عامل واحد، وهو الابتداء أو إنّ.
والثاني: أن انتصاب آيات على التوكيد للأولى، ورفعها على تقدير مبتدأ، أي هي آيات، وعليهما فليست في مقدرة.
والثالث: يخصّ قراءة النصب، وهو أنه على إضمار إنّ وفي، ذكره الشاطبي وغيره، وإضمار إنّ بعيد.
ومما يشكل على مذهب سيبويه قوله:
هوِّن عليْك، فإنّ الأمور ... بكفِّ الإله مقاديرُها
فليس بآتيك منْهيُّها ... ولا قاصرٍ عنْك مأمورُها
لأن قاصر عطف على مجرور الباء، فإن كان مأمورها عطفاً على مرفوع ليس لزم العطف على معمولي عاملين، وإن كان فاعلاً بقاصرٍ لزم عدم الارتباط بالمخبر عنه، إذ التقدير حينئذ فليس منهيها بقاصر عنك مأمورها.
وقد أجيب عن الثاني بأنه لما كان الضميرُ في مأمورها عائدا على الأمور كان كالعائد على المنهيات، لدخولها في الأمور.


واعلم أن الزمخشريّ ممن منع العطف المذكور، ولهذا اتجه له أن يسأل في قوله تعالى (والشّمس وضُحاها والقمرِ إذا تلاها) الآيات، فقال: فإن قلت: نصب إذا مُعضل، لأنك إن جعلت الواوات عاطفة وقعْت في العطف على عاملين، يعني أنّ إذا عطف على إذا المنصوبة بأقسم، والمخفوضات عطف على الشمس المخفوضة بواو القسم، قال: وإن جعلتهن للقسم وقعت فيما اتفق الخليلُ وسيبويه على استكراهه، يعني أنهما استكرها ذلك لئلا يحتاج كل قسم الى جواب يخصه، ثم أجاب بأن فعل القسم لما كان لا يُذكر مع واو القسم بخلاف الباء صارت كأنها هي الناصبة الخافضة فكان العطف على معمولي عامل.
قال ابن الحاجب: وهذه قوة منه واستنباط لمعنى دقيق، ثم اعترض عليه بقوله تعالى (فلا أقسمُ بالخُنَّسِ الجواري الكنّس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفّس) فإن الجار هنا الباء، وقد صرح معه بفعل القسم، فلا تنزل الباء منزلة الناصبة الخافضة.
وبعد، فالحق جواز العطف على معمولي عاملين في نحو في الدّارِ زيدٌ والحجرةِ عمروٌ ولا إشكال حينئذ في الآية.
وأخذ ابن الخباز جواب الزمخشري فجعله قولاً مستقلاً فقال في كتاب النهاية: وقيل إذا كان أحدُ العاملين محذوفاً فهو كالمعدوم، ولهذا جاز العطف في نحو (والليلِ إذا يغشى والنهارِ إذا تجلّى) وما أظنه وقف في ذلك على كلام غير الزمخشري، فينبغي له أن يقيد الحذف بالوجوب.
المواضع التي يعود الضمير فيها على ما تأخر
لفظاً ورتبةً
وهي سبعة: أحدها: أن يكون الضمير مرفوعاً بنعم أو بئس، ولا يفسر إلا بالتمييز، نحو نِعْم رجلاً زيد، وبئْس رجلاً عمرو ويلتحق بهما فعُل الذي يُراد به المدح والذم نحو (ساء مثلاً القومُ) و(كبُرت كلمةً تخرج) وظرُف رجلاً زيد وعن الفراء والكسائي أن المخصوص هو الفاعل، ولا ضمير في الفعل، ويرده نعم رجلاً كان زيد ولا يدخل الناسخ على الفاعل، وأنه قد يحذف نحو (بئس للظالمين بدلا).
الثاني: أن يكون مرفوعاً بأول المتنازعين المعمل ثانيهما نحو قوله:
جفوني ولم أجفُ الأخلاءَ، إنّني ... لغير جميل من خليلي مُهملُ
والكوفيون يمنعون من ذلك، فقال الكسائي: يحذف الفاعل، وقال الفرّاء: يضمر ويؤخر على المفسر، فإن استوى العاملان في طلب الرفع وكان العطف بالواو نحو قام وقعد أخواك فهو عنده فاعل بهما.
الثالث: أن يكون مخبراً عنه فيفسره خبره نحو (إنْ هي إلا حياتنا الدنيا) قال الزمخشري: هذا الضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه، وأصله: إنِ الحياة إلا حياتنا الدنيا، ثم وضع هي موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها، قال: ومنه:
هي النفسُ تحملُ ما حُمّلتْ
وهي العربُ تقول ما شاءت، قال ابن مال: وهذا من جيّد كلامه، ولكن في تمثيله في النفس وهي العرب ضعف، لإمكان جعْل النفس والعرب بدلين وتحمل وتقول خبرين، وفي كلام ابن مالك أيضاً ضعف، لإمكان وجه ثالث في المثالين لم يذكره، وهو كون هي ضمير القصة، إن أراد الزمخشري أن المثالين يمكن حملُهما على ذلك لا أنه متعين فيهما فالضعف في كلام ابن مالك وحده.
الرابع: ضمير الشأن والقصة نحو (قُلْ هو اللهُ أحد) ونحو (فإذا هي شاخصةٌ أبصارُ الذين كفروا) والكوفي يسميه ضمير المجهول.
وهذا الضمير مخالف للقياس من خمسة أوجه: أحدها: عودُه على ما بعده لزوماً إذ لا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدم هي ولا شيء منها عليه، وقد غلط يوسف بن السيرافي إذ قال في قوله:
أسَكْرانُ كانَ ابنُ المَراغَةِ إذْ هَجا ... تميماً بجوِّ الشّامِ أمْ مُتَساكِرُ؟
فيمن رفع سكران وابن المراغة: إن كان شأنية، وابنُ المراغة سكرانُ: مبتدأ وخبر، والجملة خبر كان. والصواب أن كان زائدة، والأشهر في إنشاده نصب سكران ورفع ابن المراغة؛ فارتفاع متساكر على أنه خبر لهو محذوفاً، ويروى بالعكس؛ فاسم كان مستتر فيها.


والثاني: أن مفسره لا يكون إلا جملة، ولا يشاركه في هذا ضمير، وأجاز الكوفيون والأخفش تفسيره بمفرد له مرفوعٌ نحو كان قائماً زيدٌ، وظننته قائماً عمرو وهذا إن سمع خرّج على أن المرفوع مبتدأ، واسم كان وضمير ظننته راجعان إليه لأنه في نية التقديم، ويجوز كونُ المرفوعِ بعد كان اسماً لها، وأجاز الكوفيون إنه قام وإنه ضُرِبَ على حذف المرفوع والتفسير بالفعل مبنياً للفاعل أو للمفعول، وفيه فسادانِ: التفسير بالمفرد، وحذف مرفوع الفعل.
والثالث: أنه لا يتبع بتابع؛ فلا يؤكد، ولا يعطف عليه، ولا يبدل منه.
والرابع: أنه لا يعمل فيه إلا الابتداء أو أحد نواسخه.
والخامس: أنه ملازم للإفراد، فلا يثنى ولا يجمع، وإن فسر بحديثين أو أحاديث. وإذا تقرر هذا عُلم أنه لا ينبغي الحملُ عليه إذا أمكن غيره، ومن ثَمّ ضعف قول الزمخشري في (إنّهُ يراكُم هو وقبيلُه) إن اسم إن ضمير الشأن، والأولى كونه ضمير الشيطان، ويؤيده أنه قرئ (وقَبيلَهُ) بالنصب، وضمير الشأن لا يعطف عليه، وقول كثير من النحويين إن اسم أن المفتوحة المخففة ضمير شأن، والأولى أن يعاد على غيره إذا أمكن، ويؤيده قول سيبويه في (أنْ يا إبراهيمُ قد صدّقْتَ الرُّؤيا) إن تقديره أنك، وفي كتبْتُ إليه أن لا تفعل إنه يفجْزَم على النهي، وينصب على معنى لئلا، ويرفع على أنك.
الخامس: أن يجر برب مُفَسَّراً بتمييز، وحكمه حكم ضمير نعم وبئس في وجوب كون مفسره تمييزاً وكونه هو مفرداً، قال:
رُبَّهُ فِتيةً دعوْتُ الى ما ... يورِثُ المجدَ دائِباً فأجابوا
ولكنه يلزم أيضاً للتذكير؛ فيقال رُبّهُ امرأة لا رُبَّها، ويقال نعمت امرأةً هند وأجاز الكوفيون مطابقته للتمييز في التأنيث والتثنية والجمع، وليس بمسموع.
وعندي أن الزمخشري يفسر الضمير بالتمييز في غير بابي نعم ورُبَّ، وذلك أنه قال في تفسير (فسَوّاهُنّ سبْعَ سمواتٍ) الضميرُ في فسواهن ضمير مبهم، وسبع سموات تفسيره، كقولهم ربه رجلاً وقيل: راجع الى السماء، والسماء في معنى الجنس، وقيل: جمع سماءة. والوجه العربي هو الأول، وتؤول على أن مراده أن سبع سموات بدل، وظاهر تشبيهه بربه رجلاً يأباه.
السادس: أن يكون مبدلاً منه الظاهر المفسر له، كضربته زيداً قال ابن عصفور: أجازه الأخفش ومنعه سيبويه، وقال ابن كيسان: هو جائز بإجماع، نقله عنه ابن مالك، ومما خرّجوا على ذلك قولهم اللهمّ صلِّ عليهِ الرّووفِ الرّحيمِ وقال الكسائي: هو نعت، والجماعة يأبون نعت الضمير، وقوله:
قدْ أصبحتْ بقرقرى كوانِسا ... فلا تلُمهُ أن ينامَ البائِسا
وقال سيبويه: هو بإضمار أذمُّ، وقولهم قاما أخواكَ، وقاموا إخوتكَ، وقُمنَ نسوتكَ وقيل: على التقديم والتأخير، وقيل: الألف والواو والنون أحرفٌ كالتاء في قامتْ هند وهو المختار.
والسابع: أن يكون متصلاً بفاعل مقدم، ومفسره مفعول مؤخر كضرَبَ غلامُه زيداً أجازه الأخفش وأبو الفتح وأبو عبد الله الطُّوال من الكوفيين، ومن شواهدِه قولُ حسان:
ولو أن مجداً أخلد الدّهرَ واحداً ... منَ الناسِ أبقى مجدُهُ الدّهرَ مُطعما
وقوله:
كسا حلمُه ذا الحِلمِ أثوابَ سؤددٍ ... ورقّى نداهُ ذا الندى في ذُرا المجدِ


والجمهور يوجبون في ذلك في النثر تقديمَ المفعول، نحو (وإذِ ابتلى ابراهيمَ ربُّهُ) ويمتنع بالإجماع نحو صاحبُها في الدار لاتصال الضمير بغير الفاعل، ونحو ضربَ غلامُها عبدَ هند لتفسيره بغير المفعول، والواجب فيهما تقديم الخبر والمفعول، ولا خلاف في جواز نحو ضربَ غلامَهُ زيدٌ وقال الزمخشري في (لا يحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا) الآية في قراءة أبي عمرو (فلا يحسبُنَّهمْ) بالغيبة وضم آخر الفعل: إن الفعل مسند للذين يفرحون واقعاً على ضميرهم محذوفاً، والأصل لا يحسبُنَّهم توكيد، وكذا قال في قراءة هشام (ولا يحسبنّ الذين قتلوا في سبيلِ الله أمواتاً) بالغيبة: إن التقدير ولا يحسبنهم، والذين فاعل، ورده أبو حيان باستلزامه عودَ الضمير على المؤخر، وهذا غريب جداً، فإن هذا المؤخر مقدَّم في الرتبة، ووقع له نظير هذا في قول القائل مررت برجل ذاهبة فرسُه مكسوراً سرجُها فقال: تقديم الحال هنا على عاملها وهو ذاهبة ممتنع، لأن فيه تقديم الضمير على مفسره، ولا شك أنه لو قدّم لكان كقولك غلامَهُ ضربَ زيد ووقع لابن مالك سهو في هذا المثال من وجهٍ غير هذا، وهو أنه منع من التقديم لكون العاملة صفة، ولا خلاف في جواز تقديم معمول الصفة عليها بدون الموصوف، ومن الغريب أن أبا حيان صاحب هذه المقالة وقع له أنه منع عودَ الضمير الى ما تقدم لفظاً، وأجاز عوده الى ما تأخر لفظاً ورتبة، أما الأول فإنه منع في قوله تعالى: (وما عملتْ من سوءٍ تودُّ) كونَ ما شرطية، لأن تودّ حينئذ يكون دليل الجواب، لا جواباً، لكونه مرفوعاً، فيكون في نية التقديم، فيكون حينئذ الضمير في بينه عائداً على ما تأخر لفظاً ورتبة، وهذا عجيب، فإن الضمير الآن عائد على متقدم لفظاً، ولو قدم تود لغير التركيب، ويلزمه أن يمنع ضربَ زيداً غلامُه لأن زيداً في نية التأخير، وقد استشعر ورود ذلك، وفرق بينهما بما لا معول عليه، وأما الثاني فإنه قال في قوله تعالى: (ثمّ بدا لهم منْ بعدِ ما رأوا الآياتِ ليسجُنُنَّه) إن فاعل بدا عائد على السجن المفهوم من ليسجننه.
شرح حال الضمير المسمى فصلاً وعماداً
والكلام فيه في أربع مسائل: الأولى: في شروطه، وهي ستة، وذلك أنه يشترط فيما قبله أمران: أحدهما: كونه مبتدأ في الحال أو في الأصل، نحو (أولئكَ همُ المُفلحون)، (وإنا لنحنُ الصافّون) الآية، (كنتَ أنتَ الرّقيبَ عليهم)، (تجدوهُ عند اللهِ هوَ خيراً)، (إنْ ترني أنا أقلَّ منكَ مالاً وولداً)، وأجاز الأخفش وقوعه بين الحال وصاحبها كجاء زيد هو ضاحكاً، وجعل منه (هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم) فيمن نصب أطهرَ، ولحّن أبو عمرو مَنْ قرأ بذلك، وقد خُرِّجتْ على أن (هؤلاء بناتي) جملة، وهن إمّا توكيد لضمير مستتر في الخبر، أو مبتدأ ولكم الخبر، وعليهما فأطهرَ حال، وفيهما نظر، أما الأول فلأن بناتي جامد غير مؤول بالمشتق، فلا يتحمل ضميراً عند البصريين، وأما الثاني فلأن الحال لا تتقدم على عاملها عند أكثرهم.
والثاني: كونه معرفة كما مثّلنا، وأجاز الفراء وهشام ومَنْ تابعهما من الكوفيين كونه نكرة نحو ما ظننت أحداً هو القائم وكان رجل هو القائم وحملوا عليه (أن تكون أمةٌ هي أربى منْ أمة) فقدروا أربى منصوباً.
ويشترط فيما بعده أمران: كونه خبراً لمبتدأ في الحال أو في الأصل.
وكونه معرفة أو كالمعرفة في أنه لا يقبل أل كما تقدّم في خيرا وأقلّ، وشرط الذي كالمعرفة: أن يكون اسماً كما مثلنا، وخالف في ذلك الجرجاني فألحق المضارع بالاسم لتشابههما، وجعل منه (إنهُ هو يُبدئُ ويُعيد) وهو عند غيره توكيد، أو مبتدأ، وتبع الجرجانيَّ أبو البقاء، فأجاز الفصل في (ومكرُ أولئك هو يبورُ) وابن الخباز فقال في شرح الإيضاح: لا فرق بين كون امتناع أل لعارض كأفعلَ مِنْ، والمضاف كمثلك وغلام زيد، أو لذاته كالفعل المضارع، وهو قول السهيلي، قال في قوله تعالى (وأنهُ هوَ أضحكَ وأبكى، وأنهُ هوَ أماتَ وأحيا، وأنه خلقَ الزوجين الذّكرَ والأنثى): وإنما أتى بضمير الفصل في الأولين دون الثالث، لأن بعض الجهّال قد يثبت هذه الأفعال لغير الله كقول نُمرود: أنا أحيي وأميت، وأما الثالث فلم يدّعهِ أحد من الناس.


وقد يستدل لقول الجرجاني بقوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلمَ الذي أنزلَ إليكَ منْ ربِّكَ هو الحقَّ ويهدي) فعطف يهدي على الحق الواقع خبراً بعد الفصل.
ويشترط له في نفسه أمران: أحدهما: أن يكون بصيغة المرفوع، فيمتنع زيد إيّاه الفاضل، وأنت إياك العالم وأما إنك إياك الفاضل فجائز على البدل عند البصريين، وعلى التوكيد عند الكوفيين.
والثاني: أن يطابق ما قبله، فلا يجوز كنت هو الفاضل، فأما قولُ جرير ابن الخطفى:
وكائنْ بالأباطِحِ منْ صديقٍ ... يراني لو أُصبتُ هو المُصابا
وكان قياسه يراني أنا مثل (إن ترني أنا أقلَّ منك) فقيل: ليس هو فصلاً، وإنما هو توكيد للفاعل، وقيل: بل هو فصلٌ، فقيل: لما كان عند صديقه بمنزلة نفسه حتى كان إذا أصيب كأن صديقه هو قد أصيب فجعل ضمير الصديق بمنزلة ضميره، لأنه نفسه في المعنى، وقيل: هو على تقدير مضاف الى الياء، أي يرى مصابي، والمُصابُ حينئذ مصدرٌ كقولهم جبر الله مُصابك أي مصيبتك، أي يرى مصابي هو المصاب العظيم، ومثله في حذف الصفة (الآنَ جئتَ بالحقّ) أي الواضح، وإلا لكروا بمفهوم الظرف (فلا نُقيمُ لهمْ يومَ القيامةِ وزناً) أي نافعاً، لأن أعمالهم توزن، بدليل (ومَنْ خفتْ موازينُه) الآية، وأجازوا سيرَ بزيد سيرٌ بتقدير الصفة، أي واحد؛ وإلا لم يُفد، وزعم ابن الحاجب أن الإنشاد لوْ أصيبَ بإسناد الفعل الى ضمير الصديق، وأنّ هو توكيد له، أو لضمير يرى، قال: إذا لا يقول عاقل: يراني مصاباً إذا أصابتني مصيبة، وعلى ما قدمناه من تقدير الصفة لا يتجه الاعتراض، ويروى يراه أي يرى نفسه، وتراه بالخطاب، ولا إشكال حينئذ ولا تقدير، والمصاب حينئذ مفعولٌ لا مصدر، ولم يطلع على هاتين الروايتين بعضهم فقال: ولو أنه قال يراه لكان حسناً، أي يرى الصديق نفسه مصاباً إذا أصبت.
المسألة الثانية: في فائدته، وهي ثلاثة أمور: أحدها لفظي، وهو الإعلام من أول الأمر بأن ما بعده خبر لا تابع، ولهذا سمّي فصلاً، لأنه فصلَ بين الخبر والتابع، وعماداً، لأنه يعتمد عليه معنى الكلام، وأكثر النحويين يقتصر على ذكر هذه الفائدة، وذكرُ التابع أولى من ذكر أكثرهم الصفة، لوقوع الفصل في نحو (كنتَ أنتَ الرّقيبَ عليهم) والضمائر لا توصف.
الثاني معنوي، وهو التوكيد، ذكره جماعة، وبنوا عليه أنه لا يجامع التوكيد، فلا يقال زيد نفسه هو الفاضل وعلى ذلك سماه بعض الكوفيين دِعامة، لأنه يُدعمُ به الكلام، أي يُقوّى ويُؤكد.
والثالث معنوي أيضاً، وهو الاختصاص، وكثير من البيانيين يقتصر عليه، وذكر الزمخشري الثلاثة في تفسير (وأولئك همُ المُفلحون) فقال: فائدته الدلالة على أن الواردَ بعده خبر لا صفة، والتوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره.
المسألة الثالثة: في محله.
زعم البصريون أنه لا محل له، ثم قال أكثرهم: إنه حرف، فلا إشكال، وقال الخليل: اسم، ونظيره على هذا القول أسماء الأفعال فيمن يراها غير معمولة لشيء، وأل الموصولة، وقال الكوفيون: له محل، ثم قال الكسائي: محلُّه بحسب ما بعده، وقال الفراء: بحسب ما قبله، فمحله بين المبتدأ والخبر رفع، وبين معمولي ظن نصب، وبين معمولي كان رفع عند الفراء، ونصب عند الكسائي، وبين معمولي إنّ بالعكس.
المسألة الرابعة: فيما يحتمل من الأوجه.
يحتمل في نحو (كنتَ أنتَ الرّقيبَ عليم) ونحو (إنْ كنا نحنُ الغالبينَ) الفصلية والتوكيد، دون الابتداء لانتصاب ما بعده، وفي نحو (وإنّا لنحنُ الصافّون) ونحو زيد هو العالم، وإنّ عمراً هو الفاضل، الفصلية والابتداء، دون التوكيد لدخول اللام في الأولى ولكون ما قبله ظاهراً في الثانية والثالثة، ولا يؤكد الظاهر بالمضمر لأنه ضعيف والظاهر قوي، ووهم أبو البقاء، فأجاز في (إنّ شانِئكَ هوَ الأبتر) التوكيدَ، وقد يريد أنه توكيد لضمير مستتر في شانئك لا لنفس شانئك، ويحتمل الثلاثة في نحو أنتَ أنتَ الفاضلُ ونحو (إنّكَ أنتَ علاّمُ الغيوبِ) ومَنْ أجاز إبدال الضمير من الظاهر أجاز في نحو إنّ زيداً هو الفاضل البدلية، ووهم أبو البقاء، فأجاز في (تجدوهُ عندَ اللهِ هوَ خيراً) كونه بدلاً من الضمير المنصوب.


ومن مسائل الكتاب قد جربتُكَ فكنتَ أنت أنتَ الضميرانِ مبتدأ وخبر، والجملة خبر كان، ولو قدرت الأول فصلاً أو توكيداً لقلت أنت إياك.
والضمير في قوله تعالى: (أنْ تكونَ أمةٌ هيَ أربى منْ أمةٍ) مبتدأ، لأن ظهور ما قبله يمنع التوكيد، وتنكيره يمنع الفصل.
وفي الحديث كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة حتى يكون أبواهُ هما اللذان يهوِّدانِه أو ينصِّرانِه، إن قُدِّر في يكون ضميرٌ لكل فأبواه مبتدأ، وقول هما إما مبتدأ ثانٍ وخبره اللذان والجملة خبر أبواه، وإما فصل، وإما بدل من أبواه إذا أجزنا إبدال الضمير من الظاهر، واللذان خبر أبواه، وإن قُدِّر يكون خالياً من الضمير فأبواه اسمُ يكون، وهما مبتدأ أو فصل أو بدل، وعلى الأول فاللذان بالألف، وعلى الأخيرين هو بالياء.
روابط الجملة بما هي خبر عنه
وهي عشرة: أحدها: الضمير، وهو الأصل، ولهذا يربط به مذكوراً كزيد ضربته، ومحذوفاً مرفوعاً نحو (إنّ هذانِ لساحران) إذا قدّر: لهما ساحران، ومنصوباً كقراءة ابن عامر في سورة الحديد (وكلٌّ وعدَ اللهُ الحُسنى) ولم يقرأ بذلك في سورة النساء، بل قرأ بنصب كل كالجماعة، لأن قبله جملة فعلية وهي (فضلَ اللهُ المُجاهدين) فساوى بين الجملتين في الفعلية، بل بين الجمل، لأن بعده (وفضلَ اللهُ المُجاهدين) وهذا مما أغفلوه، أعني الترجيح باعتبار ما يعطف على الجملة، فإنهم ذكروا رجحان النصب على الرفع في باب الاشتغال في نحو قامَ زيد وعمراً أكرمته للتناسب، ولم يذكروا مثل ذلك في نحو زيدٌ ضربته وأكرمت عمراً ولا فرق بينهما، وقول أبي النجم:
... كلّهُ لم أصنع
ولو نصب كل على التوكيد لم يصح، لأن ذنباً نكرة، أو على المفعولية كان فاسداً معنى، لما بيناه في فصل كل، وضعيفاً صناعة، لأن حق كل المتصلة بالضمير ألاّ تستعمل إلا توكيداً أو مبتدأ نحو (إنّ الأمر كلهُ للهِ) قرئ بالنصب والرفع، وقراءة جماعة (أفحُكمُ الجاهلية يبغون) بالرفع، ومجروراً نحو السّمنُ منوانِ بدرهمٍ أي منه، وقول امرأة زوجي المس مسُّ أرنبٍ والرّيحُ ريحُ زرنبٍ إذا لم نقل إن أل نائبة عن الضمير، وقوله تعالى (ولمنْ صبرَ وغفَرَ إنّ ذلك لمنْ عزم الأمور) أي إن ذلك منه، ولابدّ من هذا التقدير، سواء أقدرنا اللام للابتداء ومَنْ موصولة أو شرطية، أم قدرنا اللام موطئة ومَنْ شرطية، أما على الأول فلأن الجملة خبر، وأما على الثاني فلأنه لابد في جواب اسم الشرط المرتفع بالابتداء من أن يشتمل على ضميره، سواء قلنا إنه الخبر أو إن الخبر فعل الشرط وهو الصحيح، وأما على الثالث فلأنها جواب القسم في اللفظ، وجواب الشرط في المعنى، وقولُ أبي البقاء والحوفي إن الجملة جواب الشرط مردود، لأنها اسمية، وقولهما إنها على إضمار الفاء مردود، لاختصاص ذلك بالشعر، ويجب على قولهما أن تكون اللام للابتداء، لا للتوطئة.
تنبيه
قد يوجد الضميرُ في اللفظ ولا يحصل الربط، وذلك في ثلاث مسائل: إحداها: أن يكون معطوفاً بغير الواو، نحو زيدٌ قامَ عمرٌو فهو، أو ثم هو.
والثانية: أن يعاد العامل، نحو زيدٌ قام عمرو وقام هو.
والثالثة: أن يكون بدلاً نحو حُسنُ الجاريةِ الجاريةُ أعجبتني هو، فهوَ: بدل اشتمال من الضمير المستتر العائد على الجارية، وهو في التقدير كأنه من جملة أخرى، وقياسُ قول مَنْ جعل العاملَ في البدل نفسَ العامل في المبدل منه أن تصح المسألة، ونحو ذلك مسألة الاشتغال، فيجوز النصب والرفع في نحو زيد ضربت عمراً وأباه ويمتنع الرفع والنصب مع الفاء وثم، ومع التصريح بالعامل، وإذا أبدلت أخاه ونحوه من عمرو لم يجوزا، على ما مرّ من الاختلاف في عامل البدل، فإنه قدرته بياناً جاز باتفاق أو بدلاً لم يجز ويجوز بالاتفاق زيدٌ ضربتُ رجُلاً يُحبه، رفعت زيداً أو نصبته، لأن الصفة والموصوف كالشيء الواحد.


الثاني: الإشارة، نحو (والذينَ كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحابُ النار)، (والذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ لا نُكلِّفُ نفساً إلا وُسعها أولئكَ أصحابُ الجنة)، (إنّ السمعَ والبصرَ والفؤاد كلُّ أولئك كان عنهُ مسؤولا) ويحتمله (ولباسُ التقوى ذلك خيرٌ) وخصّ ابن الحاج المسألة بكون المبتدأ موصولاً أو موصوفاً والإشارة إشارة البعيد، فيمتنع نحو زيد قام هذا لمانعين، وزيد قام ذلك لمانع، والحجة عليه في الآية الثالثة، ولا حجة عليه في الرابعة، لاحتمال كون ذلك فيها بدلاً أو بياناً، وجوّز الفارسي كونهُ صفةً، وتبعه جماعة منهم أبو البقاء، وردّه الحوفي بأن الصفة لا تكون أعرف من الموصوف.
الثالث: إعادة المبتدأ بلفظه، وأكثر وقوع ذلك في مقام التهويل والتفخيم، نحو (الحاقّةُ ما الحاقّةُ)، (وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين) وقال:
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ ... نغّص الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
والرابع: إعادته بمعناه، نحو زيدٌ جاءني أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كُنية له، أجازه أبو الحسن مستدلاً بنحو قوله تعالى: (والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نُضيعُ أجرَ المصلحين) وأجيب بمنع كون الذين مبتدأ، بل مجرور بالعطف على (الذين يتقون) ولئن سُلِّم فالرابطُ العموم، لأن المصلحين أعم من المذكورين، أو ضميرٌ محذوف، أي منهم، وقال الحوفي: الخبر محذوف، أي مأجورون، والجملةُ دليله.
والخامس: عموم يشمل المبتدأ نحو زيدٌ نعمَ الرجلُ وقوله:
... فأما الصبرُ عنها فلا صبرا
كذا قالوا، ويلزمهم أن يجيزوا زيد مات الناسُ، وعمرٌو كل الناس يموتون، وخالد لا رجُلَ في الدار، أما المثالُ فقيل: الرابط إعادة المبتدأ بمعناه على قول أبي الحسن في صحة تلك المسألة، وعلى القول بأن أل في فاعليْ نعم وبئس للعهد لا للجنس، وأما البيتُ فالرابطُ فيه إعادة المبتدأ بلفظه، وليس العموم فيه مراداً، إذ المراد أنه لا صبر له عنها، لأنه لا صبر له عن شيء.
والسادس: أن يعطف بفاء السببية جملةٌ ذاتُ ضمير على جملة خالية منه أو بالعكس، نحو (ألمْ ترَ أنّ اللهَ أنزلَ منَ السماءِ ماءً فتصبحُ الأرضُ مُخضرّة) وقوله:
وإنسانُ عيني يحسُرُ الماءُ تارةً ... فيبدو، وتاراتٍ يجُمُّ فيغرقُ
كذا قالوا، والبيت محتمل لأن يكون أصلُه يحسر الماء عنه، أي ينكشف عنه، وفي المسألة تحقيق تقدم في موضعه.
والسابع: العطف بالواو، أجازه هشام وحدَه نحو زيدٌ قامت هندٌ وأكرمَها، ونحو زيدٌ قام وقعدت هند بناء على أن الواو للجمع، فالجملتان كالجملة كمسألة الفاء، وإنما الواو للجمع في المفردات لا في الجمل، بدليل جواز هذانِ قائمٌ وقاعد دون هذان يقوم وقعد.
والثامن: شرطٌ يشتمل على ضمير مدلول على جوابه بالخبر، نحو زيدٌ يقومُ عمرو إنْ قام.
والتاسع: أل النائبة عن الضمير، وهو قول الكوفيين وطائفة من البصريين ومنه (وأمّا منْ خافَ مقامَ ربِّه ونهى النفسَ عن الهوى فإنّ الجنةَ هي المأوى) الأصلُ مأواه، وقال المانعون: التقدير هي المأوى له.
والعاشر: كونُ الجملة نفسَ المبتدأ في المعنى، نحو هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إله إلا الله، ومن هذا أخبار ضمير الشأن والقصة، نحو قلْ هوَ اللهُ أحد) ونحو (فإذا هي شاخصةٌ أبصارُ الذين كفروا).
تنبيه
الرابطُ في قوله تعالى (والذين يُتوفَّونَ منكمْ ويذرونَ أزواجاً يتربّصنَ) إما النون على أن الأصل وأزواج الذين، وإما كلمة هم مخفوضة محذوفة هي وما أضيف إليه على التدريج، وتقديرُهما إما قيل يتربّصنَ، أي أزواجُهم يتربصن، وهو قول الأخفش، وإما بعده، أي يتربصن بعدهم، وهو قول الفراء، وقال الكسائي - وتبعه ابن مالك - الأصلُ يتربّصُ أزواجهم، ثم جيء بالضمير مكان الأزواج لتقدّم ذكرهن فامتنع ذكر الضمير، لأن النون لا تضاف لكونها ضميراً، وحصل الربط بالضمير القائم مقام الظاهر المضاف للضمير.
الأشياء التي تحتاج الى الرابط
وهي أحدَ عشر:


أحدها: الجملة المخبر عنها، وقد مضت، ومن ثم كان مردوداً قولُ ابن الطراوة في لولا زيدٌ لأكرمتكَ: إن لأكرمتك هو الخبر، وقولُ ابن عطية في (فالحقُّ والحقَّ أقولُ لأملأنّ) إن لأملأن خبر الحق الأول فيمن قرأه بالرفع، وقوله إن التقدير أن أملأ مردودٌ، لأن أنْ تُصيّر الجملة مفرداً، وجواب القسم لا يكون مفرداً، بل الخبر فيها محذوف، أي لولا زيد موجود، والحق قسمي، كما في لعمرُكَ لأفعلنّ.
الثاني: الجملة الموصوف بها، ولا يربطها إلا الضمير: إما مذكوراً نحو (حتى تُنزِّلَ علينا كتاباً نقرؤه) أو مقدَّراً إما مرفوعاً كقوله:
إنْ يقتلوكَ فإنّ قتلكَ لم يكنْ ... عاراً عليكَ؟ ورُبّ قتلٍ عارُ
أي هو عار، أو منصوباً كقوله:
وما شيءٌ حميتَ بمُستباحِ
أي حميته، أو مجروراً نحو (واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً، ولا يُقبلُ منها شفاعة، ولا يؤخذُ منها عدل، ولا هم يُنصرون) فإنه على تقدير فيه أربع مرات، وقراءة الأعمش (فسُبحان اللهِ حيناً تُمسونَ وحيناً تصبحون) على تقدير فيه مرتين، وهل حُذِف الجار والمجرور معاً أو حذف الجار وحده فانتصب الضمير واتصل بالفعل كما قال:
ويوماً شهدناهُ سُلماً وعامراً
أي شهدنا فيه، ثم حذف منصوباً؟ قولان: الأول عن سيبويه، والثاني عن أبي الحسن، وفي أمالي ابن الشّجري قال الكسائي: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا الهاء، أي إن الجار حُذف أولاً، ثم حذف الضمير، وقال آخر: لا يكون المحذوف إلا فيه، وقال أكثر النحويين منهم سيبويه والأخفش: يجوز الأمران، والأقيسُ عندي الأول، وهو مخالف لما نقل غيره، وزعم أبو حيان أن الأولى ألا يقدر في الآية الأولى ضمير، بل يقدر أن الأصل يوماً يومَ لا تجزي، بإبدال يوم الثاني من الأول، ثم حذف المضاف، ولا يعلم أن مضافاً الى جملة حذف، ثم إنِ ادعى أن الجملة باقية على محلها من الجر فشاذ، أو أنها أنيبت عن المضاف، فلا تكون الجملة مفعولاً في مثل هذا الموضع.
الثالث: الجملة الموصول بها الأسماء، ولا يربطها غالباً إلا الضمير: إما مذكوراً نحو (الذينَ يؤمنونَ) ونحو (ما عملتهُ أيديهم)، (وفيها ما تشتهيه الأنفُسُ) نحو (يأكلُ مما تأكلونَ منهُ) وإما مقدراً نحو (أيُّهمْ أشد) ونحو (وما عملت أيديهم) (وفيها ما تشتهي الأنفُسُ) ونحو (ويشربُ مما تشربون) والحذف من الصلة أقوى منه من الصفة، ومن الصفة أقوى منه من الخبر.
وقد يربطها ظاهرٌ يخلُفُ الضميرَ كقوله:
فيا ربَّ ليلى أنتَ في كلِّ موطنٍ ... وأنت الذي في رحمة اللهِ أطمعُ
وهو قليل، قالوا: وتقديره وأنت الذي في رحمته، وقد كان يمكنهم أن يقدروا في رحمتك، كقوله:
وأنتَ الذي أخلفتني ما وعدتَني
وكأنهم كرهوا بناء قليل على قليل، إذ الغالبُ أنتَ الذي فعلَ وقولهم فعلتَ قليلٌ، ولكنه مع هذا مَقيس، وأما أنتَ الذي قام زيدٌ فقليلٌ غير مقيس، وعلى هذا فقول الزمخشري في قوله تعالى: (والحمدُ للهِ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ وجعلَ الظُّلماتِ والنّورَ ثم الذين كفروا بربهمْ يعدلون): إنه يجوز كون العطف بثم على الجملة الفعلية، ضعيف، لأنه يلزمه أن يكون من هذا القليل، فيكون الأصل كفروا به، لأن المعطوف على الصلة صلة، فلابد من رابط، وأما إذا قدر العطف على الحمد لله وما بعده فلا إشكال.
الرابع: الواقعة حالاً، وربطها إما الواو والضمير نحو (لا تقربوا الصلاةَ وأنتمْ سُكارى) أو الواو فقط نحو: (لئن أكله الذّئب ونحنُ عصبةٌ) ونحو جاء زيد والشمس طالعة أو الضمير فقط نحو (ترى الذينَ كذبوا على اللهِ وجوههمْ مسودَّة) وزعم أبو الفتح في الصورة الثانية أنه لابد من تقدير الضمير، أي طالعة وقت مجيئه، وزعم الزمخشري في الثالثة أنها شاذة نادرة، وليس كذلك لورودها في مواضع من التنزيل نحو (اهبطوا بعضكمْ لبعضٍ عدوٌّ) فنبذُوهُ وراء ظهورهمْ كأنهم لا يعلمون، (واللهُ يحكمُ لا مُعقِّبَ لحكمهِ)، (وما أرسلنا قبلكَ منَ المُرسلين إلا إنهمْ ليأكلون الطعام)، (ويومَ القيامةِ ترى الذين كذبوا على الله وجوهُهُمْ مسودّة) وقد يخلو منهما لفظاً فيقدر الضمير نحو مررت بالبُر قفيزٌ بدرهم أو الواو كقوله يصف غائصاً لطلب اللؤلؤ انتصفَ النهارُ وهو غائص وصاحبه لا يدري ما حاله:


نصفَ النهارُ الماءُ غامرهُ ... ورفيقُهُ بالغيبِ لا يدري
الخامس: المفسرة لعامل الاسم المشتغل عنه نحو زيداً ضربته، أو ضربت أخاه، أو عمراً وأخاه، أو عمراً أخاه إذا قدرت الأخ بياناً، فإن قدرته بدلاً لم يصح نصب الاسم على الاشتغال، ولا رفعه على الابتداء، وكذا لو عطفت بغير الواو، وقوله تعالى (والذين كفروا فتعساً لهم) الذين: مبتدأ، وتعساً: مصدر لفعل محذوف هو الخبر، ولا يكون الذين منصوباً بمحذوف يفسره تعساً كما تقول زيداً ضرباً إياه وكذا لا يجوز زيداً جدعاً له ولا عمراً سقياً له خلافاً لجماعة منهم أبو حيان، لأن اللام متعلقة بمحذوف، لا بالمصدر لأنه لا يتعدى بالحرف، وليست لام التقوية لأنها لازمة، ولام التقوية غير لازمة، وقوله تعالى (سلْ بني إسرائيلَ كم آتيناهمْ من آيةٍ) إن قدرت من زائدة فكم مبتدأ أو مفعول لآتينا مقدراً بعده، وإن قدرتها بياناً لكم كما هي بيان لما في (ما ننسخْ منْ آيةٍ) لم يجز واحد من الوجهين، لعدم الراجع حينئذ الى كم، وإنما هي مفعول ثان مقدَّم، مثل أعشرينَ درهماً أعطيتُك؟ وجوّز الزمخشري في كم: الخبرية والاستفهامية، ولم يذكر النحويون أن كم الخبرية تُعلّق العامل عن العمل، وجوز بعضهم زيادة من كما قدمنا، وإنما تزاد بعد الاستفهام بهلْ خاصة، وقد يكون تجويزه ذلك على قول مَنْ لا يشترط كونَ الكلام غيرَ موجبٍ مطلقاً، أو على قول مَنْ يشترطه في غير باب التمييز، ويرى أنها في رطل من زيت، وخاتم من حديد، زائدة لا مبينة للجنس.
السادس والسابع: بدلا البعض والاشتمال، ولا يربطهما إلا الضمير: ملفوظاً نحو (ثمَّ عموا وصمّوا كثيرٌ منهم)، (يسألونكَ عن الشهرِ الحرامِ قتال فيه) أو مقدراً نحو (مَن استطاعَ) أي منهم، ونحو (قُتلَ أصحابُ الأخدودِ النار) أي فيه، وقيل: إن أل خلفٌ عن الضمير، أي ناره، وقال الأعشى:
لقدْ كانَ في حولٍ ثواءٍ ثويتَهُ ... تقَضّي لُباناتٍ ويسأمَ سائمُ
أي ثويته فيه، فالهاء من ثويته مفعول مطلق، وهي ضمير الثواء، لأن الجملة صفته، والهاء رابط الصفة، والضمير المقدر رابط للبدل - وهو ثواء - بالمبدل منه وهو حوْل، وزعم ابن سيدة أنه يجوز كون الهاء من ثويته للحول عي الاتساع في ضمير الظرف بحذف كلمة في، وليس بشيء، لخلو الصفة حينئذ من ضمير الموصوف، ولاشتراط الرابط في بدل البعض وجب في نحو قولك مررتُ بثلاثةٍ زيدٌ وعمرو القطع بتقدير منهم، لأنه لو أتبع لكان بدلَ بعض من غير ضمير.
تنبيه
إنما لم يحتج بدلُ الكل الى رابط لأنه نفس المبدل منه في المعنى، كما أن الجملة التي هي نفس المبتدأ لا تحتاج الى رابط لذلك.
الثامن: معمول الصفة المشبهة، ولا يربطه أيضاً إلا الضمير: إما ملفوظاً به نحو زيدٌ حسنٌ وجهَهُ أو وجهاً منه أو مقدراً نحو زيدٌ حسنٌ وجهاً أي منه واختلف في نحو زيدٌ حسنٌ الوجهُ بالرفع، فقيل: التقدير منه، وقيل: أل خلف عن الضمير، وقال تعالى (وإن للمُتقينَ لحُسنَ مآبٍ جناتِ عدنٍ مُفتحةً لهمُ الأبواب) جنات بدل أو بيان، والثاني يمنعه البصريون، لأنه لا يجوز عندهم أن يقع عطف البيان في النكرات، وقول الزمخشري إنه معرفة لأن عدناً علَم على الإقامة بدليل (جنات عدنٍ التي وعدَ الرحمنُ عبادهُ) لو صح تعنيت البدلية بالاتفاق، إذ لا تبين المعرفة النكرة، ولكن قوله ممنوع، وإنما عدن مصدرُ عدن، فهو نكرة، والتي في الآية بدل لا نعت، ومُفتحةً حال من جنات لاختصاصها بالإضافة، أو صفة لها، لا صفة لحسن، لأنه مذكر، ولأن البدل لا يتقدم على النعت، والأبواب مفعول ما لم يسم فاعله أو بدل من ضمير مستتر، والأول أولى، لضعف مثل مررتُ بامرأةٍ حسنةٍ الوجه وعليهما فلابدّ من تقدير أن الأصل الأبواب منها أو أبوابها، ونابت ال عن الضمير، وهذا البدل بدل بعض لا اشتمال خلافاً للزمخشري.


التاسع: جواب اسم الشرط المرفوع بالابتداء، ولا يربطه أيضاً إلا الضمير: إما مذكوراً نحو (فمنْ يكفُرْ بعدُ منكمْ فإني أعذِّبهُ) أو مقدراً أو منوباً عنه نحو (فمنْ فرضَ فيهنّ الحجَّ فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحجّ) أي منه، أو الأصلُ في حجه، وأما قوله تعالى (بلى مَنْ أوفى بعهدِه واتقى فإنّ الله يحبُّ المتقين)، (ومَنْ يتولّ اللهَ ورسوله والذين آمنوا فإن حزبَ الله همُ الغالبون) وقول الشاعر:
فمنْ تكنِ الحضارةُ أعجبتهُ ... فأيَّ رجالِ بادية ترانا
فقال الزمخشري في الآية الأولى: إن الرابط عموم المتقين، والظاهر أنه لا عموم فيها، وأن المتقين مساوون لمن تقدم ذكره، وإنما الجواب في الآيتين والبيت محذوف وتقديره في الآية الأولى: يحبه الله، وفي الثانية: يغلب، وفي البيت: فلسنا على صفته.
العاشر: العاملان في باب التنازع، فلابد من ارتباطهما إما بعاطفٍ كما في قاما وقعدَ أخواك أو عملِ أولهما في ثانيهما نحو (وأنهُ كانَ يقولُ سفيهُنا على الله شططا)، (وأنهمْ ظنوا كما ظننتمْ أنْ لن يبعثَ اللهُ أحداً) أو كون ثانيهما جواباً للأول، إما جوابية الشرط نحو (تعالوْا يستغفرْ لكمْ رسولُ اللهِ) ونحو (آتوني أُفرغْ عليهِ قِطراً) أو جوابية السؤال نحو (يستفتونكَ قلِ اللهُ يُفتيكمْ في الكلالةِ) أو نحو ذلك من أوجه الارتباط، ولا يجوز قام قعد زيد ولذلك بطل قولُ الكوفيين إن من التنازع قولَ امرى القيس:
كفاني، ولمْ أطلُبْ قليلٌ منَ المال
وإنه حجة على رجحان اختيار إعمال الأول، لأن الشاعر فصيح، وقد ارتكبه مع لزوم حذف مفعول الثاني، وتركَ إعمال الثاني مع تمكنه منه وسلامته من الحذف. والصواب أنه ليس من التنازع في شيء، لاختلاف مطلوبي العاملين، فإن كفاني طالب للقليل، وأطلب طالبٌ للمُلك محذوفاً للدليل، وليس طالباً للقليل، لئلا يلزم فساد المعنى، وذلك لأن التنازع يوجب تقدير قوله ولم أطلب معطوفاً على كفاني، وحينئذ يلزم كونهُ مثبتاً، لأنه حينئذ داخلٌ في حيز الامتناع لمفهوم من لو، وإذا امتنع النفي جاء الإثبات، فيكون قد أثبت طلبه للقليل بعد ما نفاه بقوله:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة
وإنما لم يجز أن يقدر مستأنفاً لأنه لا ارتباط حينئذ بينه وبين كفاني، فلا تنازع بينهما.
فإن قلتَ: لم لا يجوز التنازع على تقدير الواو للحال، فإنك إذا قلت لو دعوتهُ لأجابني غيرَ مُتوانٍ، أفادت لو انتفاء الدعاء والإجابة دون انتفاء عدم التواني حتى يلزم إثبات التواني؟ قلتُ: أجاز ذلك قومٌ منهم ابن الحاجب في شرح المفصل، ووجه به قولَ الفارسي والكوفيين إن البيت من التنازع وإعمال الأول، وفيه نظر، لأن المعنى حينئذ لو ثبت أني أسعى لأدنى معيشة لكفاني القليلُ في حالة أني غير طالب له، فيكون انتفاء كفاية القليل المقيَّدة بعدم طلبه موقوفاً على طلبه له، فيتوقف عدم الشيء على وجوده.
ولهذه القاعدة أيضاً بطل قولُ بعضهم في (فلما تبينَ لهُ قالَ أعلمُ أن اللهَ على كلِّ شيء قدير): إن فاعل تبين ضمير راجع الى المصدر المفهوم من أن وصلتها بناء على أن تبين وأعلم قد تنازعاه كما في ضربني وضربتُ زيداً، إذ لا ارتباط بين تبينَ وأعلمُ، على أنه لو صحّ لم يحسن حملُ التنزيل عليه، لضعف الإضمار قبل الذكر في باب التنازع، حتى إن الكوفيين لا يجيزونه البتة، وضعف حذف مفعول العامل الثاني إذا أهمل كضربني وضربت زيد حتى إن البصريين لا يجيزونه إلا في الضرورة.
والصوابُ أن مفعول أطلب الملك محذوفاً كما قدمنا، وأن فاعل تبين ضمير مستتر: إما للمصدر، أي فلما تبين له تبينٌ كما قالوا في (ثَمّ بدا لهمْ منْ بعدِ رأوا الآياتِ ليسجُنُنَّهُ) أو لشيء دلّ عليه الكلام، أي فلما تبين له الأمر أو ما أشكل عليه، ونظيره إذا كان غداً فأتني أي إذا كان هو، أي ما نحن عليه من سلامة.


الحادي عشر: ألفاظ التوكيد الأُول، وإنما يربطها الضمير الملفوظ به نحو جاء زيدٌ نفسُه، والزيدان كلاهما، والقومُ كلُّهم ومن ثَمّ كان مردوداً قولُ الهروي في الذخائر: تقول جاء القومُ جميعاً على الحال، وجميعٌ على التوكيد. وقول بعض منْ عاصرناه في قوله تعالى: (هوَ الذي خلقَ لكمْ ما في الأرض جميعاً): إن جميعاً توكيد لما، ولو كان كذا لقيل جميعَه، ثم التوكيد بجميع قليل، فلا يحمل عليه التنزيل، والصوابُ أنه حال، وقول الفراء والزمخشري في قراءة بعضهم (إنا كلاً فيها): إن كلاً توكيد، والصواب أنها بدل، وإبدال الظاهر من ضمير الحاضر بدلَ كلٍّ جائز إذا كان مفيداً للإحاطة، نحو قمتمْ ثلاثتكمْ وبدل الكل لا يحتاج إلى ضمير، ويجوز لكل أن تلي العوامل إذا لم تتصل بالضمير، نحو جاءني كلُّ القومِ فيجوز مجيئها بدلاً، بخلاف جاءني كلهم فلا يجوز إلا في الضرورة، فهذا أحسن ما قيل في هذه القراءة، وخرّجها ابن مالك على أن كلاً حال، وفيه ضعفانِ: تنكير كل بقطعها عن الإضافة لفظاً ومعنىً، وهو نادر، كقول بعضهم مررتُ بهم كُلاً أي جميعاً، وتقديم الحال على عاملها الظرفي.
واحترزت بذكر الأُول عن أجمع وأخواته، فإنها إنما تؤكد بعد كل، نحو (فسجدَ الملائكةُ كلُّهمْ أجمعون).
الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة
وهي أحد عشر: أحدها: التعريف، نحو غلام زيدٍ.
الثاني: التخصيص، نحو غُلام امرأةٍ والمراد بالتخصيص الذي لم يبلغ درجة التعريف، فإن غلام رجلٍ أخصُّ من غلام، ولكنه لم يتميز بعينه كما يتميز غلام زيدٍ.
الثالث: التخفيف، كضارب زيدٍ، وضاربا عمرو، وضاربو بكرٍ إذا أردت الحال أو الاستقبال، فإن الأصل فيهن أن يعملنَ النصبَ، ولكن الخفض أخف منه، إذ لا تنوين معه ولا نون، ويدل على أن هذه الإضافة لا تفيد التعريف قولك الضاربا زيدا والضاربو زيد ولا يجتمع مع الاسم تعريفان، وقوله تعالى (هدْياً بالغ الكعبةِ) ولا توصف النكرة بالمعرفة، وقوله تعالى (ثانيَ عِطفه) وقول أبي كبير:
فأتت به حوشَ الفؤاد مبطَّناً
ولا تنصب المعرفة على الحال، وقول جرير:
يا رُب غابطنا لو كان يطلبكم
ولا تدخل رب على المعارف. وفي التحفة: أن ابن مالك رد على ابن الحاجب في قوله ولا تفيد إلا تخفيفاً فقال: بل تفيد أيضاً التخصيص، فإن ضارب زيدٍ أخص من ضارب. وهذا سهو؛ فإن ضارب زيد أصله ضاربٌ زيداً بالنصب، وليس أصله ضارباً فقط، فالتخصيص حاصل بالمعمول قبل أن تأتي الإضافة.
فإن لم يكن الوصف بمعنى الحال والاستقبال فإضافته محضة تفيد التعريف والتخصيص لأنها ليست في تقدير الانفصال. وعلى هذا صحّ وصفُ اسم الله تعالى ب(مالك يوم الدين)، قال الزمخشري: أريدَ باسم الفاعل هنا إما الماضي، كقولك هو مالكُ عبيده أمسِ أي ملك الأمور يوم الدين على حد (ونادى أصحابُ الجنة) ولهذا قرأ أبو حنيفة (مَلَكَ يومَ الدين) وأما الزمان المستمر كقولك هو مالكُ العبيد فإنه بمنزلة قولك مولى العبيد، ملخصاً.
وهو حسن، إلا أنه نقض هذا المعنى الثاني عندما تكلم على قوله تعالى: (وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر) فقال: قرئ بحر الشمس والقمر عطفاً على الليل، وبنصبهما بإضمار جعل أو عطفاً على محل الليل، لأن اسم الفاعل هنا ليس في معنى المضي فتكونَ إضافته حقيقية، بل هو دال على جعل مستمر في الأزمنة المختلفة، ومثله (فالقُ الحبِّ والنوى) و(فالقُ الإصباحِ) كما تقول زيد قادر عالم ولا تقصد زماناً دون زمان.
وحاصله أن إضافة الوصف إنما تكون حقيقية إذ كان بمعنى الماضي، وأنه إذا كان لإفادة حدث مستمر في الأزمنة كانت إضافته غير حقيقية، وكان عاملاً. وليس الأمر كذلك.
الرابع: إزادة القبح أو التجوز، كمررْت بالرجل الحسنِ الوجهِ فإن الوجه إن رُفِعَ قبُح الكلامُ، لخلو الصفة لفظاً عن ضمير الموصوف، وإن نُصب حصل التجوز بإجرائك الوصف القاصر مجرى المتعدي.
الخامس: تذكير المؤنث كقوله:
إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوع هوى ... وعقلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويرا


ويحتمل أن يكون منه (إنّ رحمةَ اللهِ قريبٌ منَ المُحسنين) ويبعده (لعلّ الساعة قريب) فذُكر الوصف حيث لا إضافة، ولكن ذكر الفراء أنهم التزموا التذكير في قريب إذا لم يُرَدْ قرب النسب، قصداً للفرق. وأما قول الجوهري إن التذكير لكون التأنيث مجازياً فوهمٌ، لوجوب التأنيث في نحو الشمسُ طالعة، والموعظة نافعة، وإنا يفترق حكم المجازي والحقيقي الظاهرين، لا المضمرين.
السادس: تأنيث المذكر، كقولهم قُطعتْ بعضُ أصابعه وقرئ (تلتقطْه بعضُ السيارة) ويحتمل أن يكون منه (فلهُ عشرُ أمثالها)، (وكنتم على شفا حُفرةٍ من النار فأنقذكم منها) أي من الشفا، ويحتمل أن الضمير للنار، وفيه بُعد، لأنهم ما كانوا في النار حتى يُنْقذوا منها، وأن الأصل فله عشر حسنات أمثالها، فالمعدود في الحقيقة الموصوف المحذوف، وهو مؤنث، وقال:
طولُ الليالي أسرعتْ في نقضي ... نقضن كلي ونقضن بعضي
وقال:
وما حُبُّ الديارِ شغفْن قلبي
وأنشد سيبويه:
وتشرَقَ بالقولِ الذي قد أذعتهُ ... كما شرِقت صدْرُ القناة من الدمِ
والى هذا البيت يشير ابن حزم الظاهريُّ في قوله:
تجنبْ صديقاً مثل ما، واحذرِ الذي ... يكونُ كعمرو بين عُربٍ وأعجُمِ
فإن صديقَ السّوء يُزري، وشاهدي ... كما شرِقتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
ومراده بما الكناية عن الرجل الناقص كنقص ما الموصولة، وبعمرو الكناية عن الرجل المريد أخذ ما ليس له كأخذ عمرو الواو في الخط.
وشرط هذه المسألة والتي قبلها صلاحيةُ المضاف للاستغناء عنه؛ فلا يجوز أمةُ زيدٍ جاء ولا غُلامُ هندٍ ذهبتْ ومن ثم ردّ ابنُ مالك في التوضيح قولَ أبي الفتح في توجيهه قراءةَ أبي العالية (لا تنفعُ نفساً إيمانُها) بتأنيث الفعل: إنه من باب قُطعتْ بعضُ أصابعه لأن المضاف لو سقط هنا لقيل نفساً لا تنفع بتقديم المفعول ليرجع إليه الضمير المستتر المرفوع الذي ناب عن الإيمان في الفاعلية، ويلزم من ذلك تعدّي فعل الضمير المتصل الى ظاهره نحو قولك زيداً ظلم تريد أنه ظلم نفسه، وذلك لا يجوز.
السابع: الظرفية، نحو (تُؤتي أُكُلَها كلَّ حين) وقوله:
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
وقال المتنبي:
أيّ يومٍ سررتني بوصالٍ ... لم تسؤني ثلاثةً
وأي في البيت استفهامية يراد بها النفي، لا شرطية، لأنه لو قيل مكان ذلك إنْ سررتني انعكس المعنى، لا يقال: يدلُّ على أنها شرطية أن الجملة المنفية إن استُؤنفت ولم تربط بالأولى فسد المعنى. لأنا نقول: الرّبطُ حاصل بتقديرها صفة لوصال، والرابط محذوف، أي لم ترعني بعده، ثم حذفا دفعة أو على التدريج، أو حالاً من تاء الخاطب، والرابط فاعلها، وهي حال مقدرة، أو معطوفة بفاء محذوفة فلا موضع لها، أي ما سررتني غير مقدر أنك تروعني، ومن روى ثلاثة بالرفع فالحالية ممتنعة، لعدم الرابط.
الثامن: المصدرية، نحو (وسيعلمُ الذين ظلموا أيّ مُنقلَب ينقلبون) فأي: مفعول مطلق، ناصبه ينقلبون، ويعلم: معلقة عن العمل بالاستفهام، وقال:
ستعلمُ ليلى أيّ دين تداينتْ ... وأيُّ غريم للتقاضي غريمُها
أيّ الأولى واجبة النصب بما بعدها كما في الآية. إلا أنها هنا مفعول به، كقولك تداينت مالاً لا مفعول مطلق، لأنها لم تضف لمصدر، والثانية واجبة الرفع بالابتداء مثلُها في (لِنعلمَ أيُّ الحزبين أحصى)، (ولتعلمُن أيُّنا أشدّ عذاباً).
التاسع: وجوب التصدّر ولهذا وجب تقديم المبتدأ في نحو غلام من عندك؟ والخبر في نحو صبيحة أيِّ يومٍ سفرُك؟ والمفعول في نحو غلامَ أيهم أكرمت؟ ومن مجرورها في نحو من غلامِ أيهم أنت أفضلُ؟ ووجب الرفع في نحو علمتُ: أبو من زيدٌ؟ والى هذا يشير قول بعض الفضلاء:
عليك بأرباب الصدور فمن غدا ... مُضافاً لأربابِ الصدورِ تصدّرا
وإياكَ أن ترضى صحابةَ ناقصٍ ... فتنحطَّ قدراً من عُلاك وتحقرا
فرفعُ أبو من ثم خفضُ مزمَّلٍ ... يبيّنُ قولي مُغرياً ومحذِّرا
والإشارةُ بقوله ثم خفض مُزمَّل الى قول امرئ القيس:
كأن أبانا في عرانينِ وبلهِ ... كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مزملِ


وذلك أن مُزملا صفة لكبير، فكان حقه الرفع، ولكنه خفض لمجاورته للمخفوض.
والعاشر: الإعراب، نحو هذهِ خمسةُ عشر زيدٍ فيمن أعربه، الأكثر البناء.
والحادي عشر: البناء، وذلك في ثلاثة أبواب: أحدها: أن يكون المضاف مبهماً كغير ومثل ودون، وقد استدل على ذلك بأمور: منها قوله تعالى (وحيلَ بينَهمْ وبينَ ما يشتهونَ)، (ومنّا دونَ ذلك) قاله الأخفش، وخولف، وأجيب عن الأول بأن نائب الفاعل ضمير المصدر، أي وحِيل هو، أي الحولُ، كما في قوله:
وقالتْ: متى يُبخلْ عليكَ ويُعتللْ ... يسؤكَ، وإنْ يُكشفْ غرامُك تدربِ
أي ويعتلل هو، أي الاعتلال، ولابد عندي من تقدير عليك مدلولاً عليها بالمذكورة، وتكون حالاً من المضمر، ليتقيد بها فتفيد ما لم يفده الفعل، وعن الثاني بأنه على حذف الموصوف، أي ومنا قومٌ دون ذلك كقولهم منّا ظعنَ ومنّا أقامَ أي منا فريق ظعن ومن فريق أقام، ومنها قوله تعالى: (لقد تقطّعَ بينكمْ) فيمن فتح بيناً، قاله الأخفش، ويؤيده قراءة الرفع، وقيل: بين ظرف، والفاعل ضمير مستتر راجع الى مصدر الفعل، أي لقد وقع التقطع، أو الى الوصل، لأن (وما نرى معكم شُفعاءَكم) يدل على التهاجر، وهو يستلزم عدم التواصل، أو الى (ما كنتم تزعمون) على أن الفعلين تنازعاه، ويؤيد التأويل قوله:
أهُمّ بأمرِ الحزمِ لو أستطيعُهُ ... وقدْ حيلَ بينَ العَيرِ والنَزَوانِ
بفتح بين مع إضافته لمعرب، ومنها قوله تعالى: (إنهُ لحقٌّ مثلَ ما أنكمْ تنطقُون) فيمن فتح مثلاً، وقراءة بعض السلف (أنْ يُصيبكم مثلَ ما أصاب) بالفتح، وقول الفرزدق:
إذْ همْ قُريشٌ وإذْ ما مثلَهمْ بشرُ
وزعم ابن مالك أن ذلك لا يكون في مثل لمخالفتها للمبهمات، فإنها تثنى وتجمع كقوله تعالى: (إلا أممٌ أمثالكم) وقول الشاعر:
والشّرُّ بالشرِّ عندَ اللهِ مِثلانِ
وزعم أن حقاً اسمُ فاعلٍ من حقَّ يحق وأصله حاقٌّ فقُصِر، كما قيل برٌّ وسَرٌّ ونَمّ، ففيه ضمير مستتر، ومثل: حال منه، وأن فاعل يصيبكم ضميره تعالى لتقدمه في (وما توفيقي إلا بالله) ومثل: مصدر، وأما بيت الفرزدق ففيه أجوبة مشهورة. ومنها قوله:
لمْ يمنعِ الشربَ منها غيرَ أنْ نطقتْ ... حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أوقالِ
فغير: فاعل ليمنع وقد جاء مفتوحاً، ولا يأتي فيه بحث ابن مالك، لأن قولهم غيرانِ وأغيارٌ ليس بعربي.
ولو كان المضاف غير مبهم لم يُبنَ، وأما قول الجرجاني وموافقيه إن غُلامي ونحوه مبني فمردود، ويلزمهم يناء غلامك، وغُلامه ولا قائل بذلك.
الباب الثاني: أن يكون المضاف زماناً مبهماً، والمضاف إليه إذ نحو (ومنْ خزيِ يومئذٍ) و(منْ عذابِ يومئذ) يقرأان بجر يوم وفتحه.
الثالث: أن يكون زماناً مبهماً والمضاف إليه فعل مبني، بناء أصلياً كان البناء كقوله:
على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا ... وقلتُ: ألمّا أصحُ والشيبُ وازعُ
أو بناء عارضاً كقوله:
لأجتذبنْ منهنّ قلبي تحلُّماً ... على حينَ يستصبينَ كلَّ حليمِ
رُويا بالفتح، وهو أرجح من الإعراب عند ابن مالك، ومرجوح عند ابن منظور.
فإن كان المضاف إليه فعلاً معرباً أو جملة اسمية، فقال البصريون: يجب الإعراب، والصحيح جواز البناء، ومنه قراءة نافع (هذا يومَ ينفعُ الصادقينَ) بفتح يوم، وقراءة غير أبي عمرو وابن كثير (يومَ لا تملكُ نفس) بالفتح، وقال:
إذا قلتُ هذا حين أسلو يهيجُني ... نسيمُ الصّبا منْ حيثُ يطّلعُ الفجرُ
وقال آخر:
ألمْ تعلمي يا عمرَكِ الله أنّني ... كريمٌ على حينَ الكرامُ قليلُ
وأنّي لا أخزى إذا قيل مُملقٌ ... سخيٌ وأخزى أنْ يُقال بخيلُ
رويا بالفتح.
ويحكى أن ابن الأخضر سُئل بحضرة ابن الأبرش عن وجه النصب في قول النابغة:
أتاني أبيتَ اللنَ أنكَ لُمتني ... وتلكَ التي تستكُّ منها المسامعُ
مقالةَ أنْ قد قلتَ: سوفَ أنالهُ ... وذلكَ من تلقاء مثلكَ رائعُ
فقال:
ولا تصحبِ الأردى فتردى مع الرّدي


فقيل له: الجواب؟، فقال ابن الأبرش: قد أجاب، يريد أنه لما أضيف الى المبني اكتسب منه البناء، فهو مفتوح لا منصوب، ومحله الرفع بدلاً من أنك لمتني وقد روي بالرفع، وهذا الجواب عندي غير جيد، لعدم إبهام المضاف، ولو صحّ لصح البناء في نحو غُلامك، وفرَسه ونحو هذا مما لا قائل به، وقد مضى أن ابن مالك منع البناء في مثل مع إبهامها لكونها تثنى وتجمع، فما ظنك بهذا؟ وإنما هو منصوب على إسقاط الباء، أو بإضمار أعني، أو على المصدرية، وفي البيت إشكال لو سأل السائل عنه لكان أولى، وهو إضافة مقالة الى أنْ قدْ قلت فإنه في التقدير: مقالة قولك، ولا يضاف الشيء الى نفسه، وجوابه أن الأصل مقالةٌ فحذف التنوين للضرورة لا للإضافة، وأنْ وصلتها بدل من مقالة، أو من أنك لمتني أو خبرٌ لمحذوف، وقد يكون الشاعر إنما قاله مقالةٌ ان بإثبات التنوين ونقل حركة الهمزة، فأنشده الناس بتحقيقها، فاضطروا الى حذف التنوين، ويروى ملامة وهو مصدر للُمتني المذكورة، أو لأخرى محذوفة.
الأمور التي لا يكون الفعل معها إلا قاصراً
وهي عشرون: أحدها: كونه على فعُل بالضم كظرُف وشرُف، لأنه وقفٌ على أفعال السجايا وما أشبهها مما يقوم بفاعله ولا يتجاوزه، ولهذا يتحوّل المتعدّي قاصراً إذا حُوِّل وزنه الى فعُلَ لغرض المبالغة والتعجب، نحو ضرُبَ الرجلُ وفهُم بمعنى ما أضرَبه وأفهمهُ، وسُمع رحُبتكُم الطاعة وإن بشراً طلُعَ اليمَنَ ولا ثالث لهما، ووجههما أنهما ضُمِّنا معنى وسِع وبلغَ.
الثاني والثالث: كونه على فعلَ بالفتح أو فعِل بالكسر ووصفُهما على فعِيل، نحو ذلّ وقويَ.
الرابع: كونه على أفعلَ بمعنى صار ذا كذا نحو أغدَّ البعيرُ، وأحصدَ الزرع إذا صارا ذوي غُدّة وحصاد.
الخامس: كونه على افعللَّ كاقشعرَّ واشمأزّ.
السادس: كونه على افْوَعَلّ كاكوهدَّ الفرخُ إذا ارتعد.
السابع: كونه على افعنللَ بأصالة اللامين كاحرنجم بمعنى اجتمع.
الثامن: كونه على افعنللَ بزيادة أحد اللامين كاقعنسس الجملُ إذا أبى أن ينقاد.
التاسع: كونه على افنعلى كاحرنبى الديكُ إذا انتفش، وشذّ قوله:
قدْ جعلَ النُّعاسُ يغرنديني ... أطردُهُ عنّي ويسرنديني
ولا ثالث لهما، ويغرنديني - بالغين المعجمة - يعلُوني ويغلبني، وبمعناه يسرنديني.
العاشر: كونه على استفعل وهو دال على التحوُّل كاستحجرَ الطينُ، وقولهم إن البَغاثَ بأرضنا يستنسِرُ.
الحادي عشر: كونه على وزن انفعلَ نحو انطلقَ وانكسَرَ.
الثاني عشر: كونه مُطاوعاً لمتعدِّ الى واحد نحو كسرتُه فانكسرَ وأزعجتُه فانزعج.
فإن قلت: قد مضى عدُّ انفعل.
قلت: نعم لكن تلك علامة لفظية وهذه معنوية، وأيضاً فالمطاوعُ لا يلزم وزنَ انفعل، تقول: ضاعفتُ الحسنات فتضاعفتْ، وعّمته فتعلّم، وثلمته فتثلم، وأصله أن المطاوع ينقص عن المطاوَع درجةً كألبستُه الثوبَ فلبِسه، وأقمته فقام، وزعم ابن بري أن الفعل ومطاوعه قد يتفقان في التعدّي لاثنين نحو استخبرته الخبرَ فأخبرني الخبرَ، واستفهمته الحديثَ فأفهمني الحديثَ، واستعطيتُه درهماً فأعطاني درهماً، وفي التعدي لواحد نحو استفتيتُه فأفتاني، واستنصحتُه فنصحني، والصواب ما قدمته لك، وهو قول النحويين، وما ذكره ليس من باب المطاوعة، بل من باب الطلب والإجابة، وإنما حقيقة المطاوعة أن يدل أحدُ الفعلين على تأثير ويدل الآخر على قبول فاعله لذلك التأثير.
الثالث عشر: أن يكون رباعياً مزيداً فيه نحو تدحرجَ واحرنجمَ واقشعرّ واطمأنّ.
الرابع عشر: أن يُضمَّن معنى فِعلٍ قاصر نحو قوله تعالى (ولا تعدُ عيناكَ عنهم)، (فليحذرِ الذين يخالفونَ عن أمره)، (أذاعوا به)، (وأصلحْ لي في ذُريتي)، (لا يسّمّعونَ الى الملأ الأعلى) وقولهم سمعَ الله لمنْ حمده وقوله:
... يجرحْ في عراقيبها نصلي
فإنها ضُمِّنت معنى ولا تنبُ، ويخرجون، وتحدثوا، وباركْ، ولا يُصغون، واستجاب، ويعثْ أو يُفسد.
والستة الباقية أن يدل على سجية كلؤُمَ وجبُن وشجُع.
أو على عرَض كفرِح وبطِرَ وأشِرَ وحزِن وكسل.
أو على نظافة كطهُر ووضُؤ.
أو دنسٍ كنجسَ ورجس وأجنبَ.
أو على لون كاحمرّ واخضرّ وأدِمَ واحمارَّ واسوادَّ.
أو حلية كدعِج وكحِلَ وشنبَ وسمِنَ وهزِل.
تنبيه


في فصيح ثعلب في باب المشدَّد فُلانٌ يتعهدُ ضيعته، قال ابن دفرستويه: ولا يجوز عنده يتعاهد، لأنه لا يكون عند أصحابه إلا من اثنين، ولا يكون متعدّياً، ويرده قوله:
تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً
وأجاز الخليلُ يتعاهد، وهو قليل، وسأل الحكم بن قنبر أبا زيد عنها فمنعها، وسأل يونس فأجازها، فجمع بينهما، وكان عنده ستة من فصحاء العرب، فسئلوا عنها فامتنعوا من يتعاهد، فقال يونس: يا أبا زيد، كم من علم استفدناه كنت أنتَ سببه، ونقل ابن عصفور عن ابن السّيد أنه قال في قول أبي ذؤيب:
بينا تعانُقِهِ الكُماة وروغهِ ... يوماً أتيحَ له جريءٌ سلفعُ
إن من رواه بجر التعانق مُخطئ، لأن تفاعل لا يتعدى، ثم رد عليه بأنه إن كان قبل دخول التاء متعدياً الى اثنين فإنه يبقى بعد دخولها متعدياً الى واحد، نحو عاطيته الدراهم وتعاطينا الدراهم، وإن كان متعدياً الى واحد فإنه يصير قاصراً، نحو تضاربَ زيد وعمرو، إلا قليلاً نحو جاوزتُ زيداً وتجاوزته، وعانقته وتعانقته، وإنما ذكر ابن السِّيد أن تعانق لا يتعدى، ولم يذكر أن تفاعل لا يكون متعدياً، وأيضاً فلم يخصَّ الرد برواية الجر، ولا معنى لذلك.
الأمور التي يتعدى بها الفعل القاصر
وهي سبعة: أحدها: همزة أفعل نحو (أذْهبتم طيباتِكم)، (ربَّنا أمتّنا اثنتين وأحييْتنا اثنتين)، (واللهُ أنبتكمْ من الأرض نباتاً، ثم يُعيدُكم فيه ويُخرجُكم إخراجاً) وقد ينقل المتعدي الى واحد بالهمزة الى التعدي الى اثنين نحو ألبستُ زيداً ثوباً، وأعطيتُه ديناراً ولم ينقل متعد الى اثنين بالهمزة الى التعدي الى ثلاثة إلا في رأى، وعلم وقاسه الأخفشُ في أخواتهما الثلاثة القلبية نحو ظن وحسب وزعم، وقيل: النقل بالهمزة كله سماعيّ، وقيل: قياسيّ في القاصر والمتعدي الى واحد، والحقُّ أنه قياسيّ في القاصر، سماعيّ في غيره، وهو ظاهر مذهب سيبويه.
الثاني: ألف المفاعلة، تقول في جلس زيد ومشى وسار جالست زيداً وماشيتُه، وسايرته.
الثالث: صوغه على فعَلتُ بالفتح أفعُل بالضم لإفادة الغلبة، تقول كرَمتُ زيداً بالفتح أي غلبته في الكرم.
الرابع: صوغه على استفعل للطلب أو النسبة الى الشيء كاستخرجتُ المال، واستحسنت زيداً، واستقبحت الظلم وقد ينقل ذو المفعول الواحد الى اثنين، نحو استكتبته الكتاب واستغفرت الله الذنب، وإنما جاز استغفرت الله من الذنب لتضمنه معنى استتبتُ، ولو استعمل على أصله لم يجز فيه ذلك، وهذا قولُ ابن الطراوة وابن عصفور، وأما قول أكثرهم إن استغفر من باب اختار فمردود.
والخامس: تضعيف العين، تقول في فرح زيد فرّحتُه ومنه (قد أفلح من زكّاها)، (هو الذي يسيّرُكم) وزعم أبو علي أن التضعيف في هذا للمبالغة لا للتعدية، لقولهم سرتُ زيداً وقوله:
فأوّلُ راضٍ سنّةً من يسيرها
وفيه نظر، لأن سرتُه قليل، وسيّرته كثير، بل قيل: إنه لا يجوز سرته وإنه في البيت على إسقاط الباء تواً، وقد اجتمعت التعدية بالهمزة والتضعيف في قوله تعالى (نزّلَ عليك الكتابَ بالحقّ مُصدِّقاً لما بين يديه وأنزلَ التوراةَ والإنجيلَ من قبلُ هدًى للنّاس وأنزل الفرقان) وزعم الزمخشري أن بين التعديتين فرقاً، فقال: لما نزِّل القرآن منجماً والكتابان جملة واحدة جيء بنزَّل في الأول وأنزل في الثاني، وإنما قال هو في خطبة الكشاف الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاماً مؤلفاً منظماً، ونزّله بحسب المصالح منجماً لأنه أراد بالأول أنزله من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا وهو الإنزال المذكور في (إنا أنزلناهُ في ليلة القدرِ) وفي قوله تعالى (شهرُ رمضان الذي أُنزِلَ فيه القرآنُ) وأما قول القفال: إن المعنى: الذي أنزل في وجوب صومه أو الذي أنزله في شأنه فتكلُّفٌ لا داعي إليه، وبالثاني تنزيلُه من السماء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاثة وعشرين سنة.
ويشكل على الزمخشري قوله تعالى (وقال الذين كفروا لولا نزِّل عليهِ القرآنُ جملةً واحدةً) فقرن نزّل بجملة واحدة، وقوله تعالى (وقد نزَّل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آياتِ اللهِ يُكفرُ بها) وذلك إشارة الى قوله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الآية، وهي آية واحدة.


والنقل بالتضعيف سماعيّ في القاصر كما مثلنا، وفي المتعدي لواحد نحو علمته الحساب، وفهمته المسألة، ولم يسمع في المتعدي لاثنين، وزعم الحريري أنه يجوز في عَلِمَ المعدية لاثنين أن ينقل بالتضعيف الى ثلاثة، ولا يشهد له سماع ولا قياس، وظاهرُ قول سيبويه أنه سماعي مطلقاً، وقيل: قياسيّ في القاصر والمتعدي الى واحد.
السادس: التضمين، فلذلك عدي رحُب وطلُع الى مفعول لما تضمنا معنى وسع وبلغ، وقالوا: فرقتُ زيداً، و(سَفِهَ نفسَه) لتضمنهما معنى خاف، وامتهن أو أهلك.
ويختص التضمين عن غيره من المعدِّيات بأنه قد ينقل الفعل الى أكثر من درجة، ولذلك عُدي ألَوْتُ بقصر الهمزة بمعنى قصرتُ الى مفعولين بعد ما كان قاصراً، وذلك في قولهم لا آلوك نُصحاً ولا آلوك جهداً لما ضمن معنى لا أمنعك، ومنه قوله تعالى: (لا يألونكم خَبالاً) وعدي أخبر وخبّر وحدّث وأنبأ ونبّأ الى ثلاثة ضما ضمنت معنى أعلم وأرى بعد ما كانت متعدية الى واحد بنفسها والى آخر بالجار، نحو (أنبئهمْ بأسمائهم، فلما أنبأهمْ بأسمائهم) (نبّئوني بعلمٍ).
السابع: إسقاط الجار توسعاً نحو (ولكن لا تواعدوهنَّ سراً) أي على سر، أي نكاح، (أعجِلتم أمر ربكم) أي عن أمره، (واقعدوا لهم كلَّ مَرْصدٍ) أي عليه، وقول الزجاج إنه ظرف رده الفارسي بأنه مختص بالمكان الذي يرصد فيه، فليس مبهماً، وقوله:
... كما عسل الطريقَ الثعلبُ
أي في اطريق، وقول ابن الطراوة إنه ظرف مردود أيضاً بأنه غير مبهم، وقوله إنه اسم لكل ما يقبل الاستطراق فهو مبهم لصلاحيته لكل موضع منازع فيه، بل هو اسم لما هو مستطرق.
ولا يحذف الجار قياساً إلا مع أنّ وأنْ، وأهمل النحويون هنا ذكر كي مع تجويزهم في نحو جئتُ كي تكرمني أن تكون كي مصدرية واللام مقدرة والمعنى لكي تكرمني، وأجازوا أيضاً كونها تعليلية وأن مضمرة بعدها، ولا يحذف مع كي إلا لام العلة، لأنها لا يدخل عليها جار غيرها، بخلاف أختيها، قال الله تعالى (وبشِّرِ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ أن لهم جناتٍ)، (شهد اللهُ أنه لا إله إلا هو) أي بأن لهم وبأنه، (وترغبونَ أن تنكحوهنّ) أي في أن، أو عن، على خلاف في ذلك بين المفسرين. ومما يحتملهما قوله:
ويرغبُ أن يبني المعاليَ خالدٌ ... ويرغبُ أن يرضى صنيع الألائم
أنشده ابن السّيد، فإن قدر في أولاً وعن ثانياً فمدحٌ، وإن عكس فذم، ولا يجوز أن يقدر فيهما معاً في أو عن، للتناقض.
ومحل أنّ وأنْ وصلتهما بعد حذف الجار نصبٌ عند الخليل وأكثر النحويين حملاً على الغالب فيما ظهر فيه الإعراب مما حذف منه، وجوّز سيبويه أن يكون المحل جراً، فقال بعدما حكى قول الخليل: ولو قال إنسان إنه جرّ لكان قولاً قوياً، وله نظائر نحو قولهم لاهِ أبوكَ وأما نقل جماعة منهم ابن مالك أن الخليل يرى أن الموضع جر وأن سيبويه يرى أنه نصب فسهو.
ومما يشهد لمدّعي الجر قوله تعالى (وأن المسجد للهِ فلا تدْعوا مع اللهِ أحداً) وأنّ هذه أمتكم امةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون، أصلهما: لا تدعوا مع الله أحداً لأن المساجد لله، و: فاعبدون لأن هذه...
ولا يجوز تقديمُ منصوب الفعل عليه إذا كان أنّ وصلتها، لا تقول أنك فاضل عرفت وقوله:
وما زرْتُ ليلى أن تكون حبيبةً ... إليّ، ولا دَينٍ بها أنا طالبُهْ
رووْهُ بخفض دين عطفاً على محل أن تكون، إذ أصله: لأن تكون، وقد يجاب بأنه عطف على توهم دخول اللام، وقد يعترض بأنّ الحمل على العطف على المحل أظهر من الحمل على العطف على التوهم، ويجاب بأن القواعد لا تثبت بالمحتملات.
وهنا مُعدٍّ ثامن ذكره الكوفيون، وهو تحويل حركة العين، يقال: كسِي زيد، بوزن فرح، فيكون قاصراً قال:
وأن يعرين إن كَسِي الجواري ... فتنبُو العين عن كرَمٍ عجافِ
فإذا فتحت السين صار بمعنى ستر وغطّى، وتعدى الى واحد، كقوله:
وأركَبُ في الروع خيفانة ... كسا وجهَها سَعَفٌ منتشرْ


أو بمعنى أعطى كسوة وهو الغالب، فيتعدى الى اثنين، نحو كسوتُ زيداً جبة، قالوا: وكذلك شتِرت عينه بكسر التاء قاصر بمعنى انقلب جفنها، وشتر الله عينه بفتحها متعد بمعنى قلبها، وهذا عندنا من باب المطاوعة، يقال شتره فشتِر كما يقال ثرَمه فثرِم وثلمه فثلِم، ومنه كسوته الثوب فكسِيه، ومنه البيت، ولكن حذف فيه المفعول.
الباب الخامس
في ذكر الجهات
التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها
وهي عشرة: الجهة الأولى: أن يراعي ما يقتضيه ظاهر الصناعة ولا يراعي المعنى، وكثيراً ما تزلُّ الأقدام بسبب ذلك.
وأولُ واجب على المعرب أن يفهم معنى ما يعربه، مفرداً أو مركباً، ولهذا لا يجوز إعراب فواتح السور على القول بأنها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه.
ولقد حكي لي أن بعض مشايخ الإقراء أعرب لتلميذ له بيت المفصَّل:
لا يُبعِدِ اللهُ التلببَ وال ... غاراتِ إذ قال الخميس: نعم
فقال: نعم حرف جواب، ثم طلبا محل الشاهد في البيت، فلم يجداه، فظهر لي حينئذ حسنُ لغة كنانة في نعم الجوابية وهي نعم بكسر العين، وإنما نعم هنا واحد الأنعام، وهو خبر لمحذوف، أي هذه نعم، وهي محل الشاهد.
وسألني أبو حيان - وقد عرض اجتماعنا - علام عطف بحقلد من قول زهير:
تقيٌ نقيٌ لم يكثّر غنيمةً ... بنهكةِ ذي قربى ولا بحقلّدِ
فقلت: حتى أعرف ما الحقلدُ؟ فنظرناه فإذا هو سيئ الخلق، فقلت: هو معطوف على شيء متوهم إذ المعنى ليس بمكثر غنيمة، فاستعظم ذلك.
وقال الشلوبين: حكي لي أن نحوياً من كبار طلبة الجزولي سئل عن إعراب كلالة من قوله تعالى (وإن كان رجُل يورَث كلالةً أو امرأةٌ) فقال أكبروني ما الكلالة، فقالوا له: الورثة إذا لم يكن فيهم أبٌ فما علا ولا ابنٌ فما سفل، فقال: فهي إذن تمييز، وتوجيه قوله أن يكون الأصل: وإن كان رجل يرثه كلالة، ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فارتفع الضمير واستتر، ثم جيء بكلالة تمييزاً، وقد أصاب هذا النحوي في سؤاله، وأخطأ في جوابه، فإن التمييز بالفاعل بعد حذفه نقضٌ للغرض الذي حذف لأجله، وتراجع عما بنيت الجملة عليه من طيِ ذكر الفاعل فيها، ولهذا لا يوجد في كلامهم مثل ضُرب أخوك رجلا، وأما قراءة من قرأ (يسبّح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ) بفتح الباء، فالذي سوغ فيها أن يذكر الفاعل بعدما حذف أنه إنما ذكر في جملة أخرى غير التي حذف فيها.
وكإعراب هذا المعربِ كلالة تمييزاً قولُ بعضهم في هذا البيت:
يبسط للأضيافِ وجهاً رحْبا ... بسطَ ذراعيه لعظمٍ كَلْبا
إن الأصل كما بسط كلبٌ ذراعيه، ثم جيء بالمصدر وأسند للمفعول فرفع، ثم أضيف إليه، ثم جيء بالفاعل تمييزاً.
والصواب في الآية أنّ كلالة بتقدير مضاف، أي ذا كلالة، وهو إما حال من ضمير يورث فكان ناقصة، ويورث خبر، أو تامة فيورث صفة، وإما خبر فيورث صفة، ومن فسّر الكلالة بالميت الذي لم يترك ولداً ولا والداً فهي أيضاً حال أو خبر، ولكن لا يحتاج الى تقدير مضاف، ومن فسرها بالقرابة فهي مفعول لأجله.
وأما البيت فتخريجه على القلب، وأصله كما بسطَ ذراعاه كلْباً، ثم جيء بالمصدر للفاعل المقلوب عن المفعول، وانتصب كلباً على المفعول المقلوب عن الفاعل.
وها أنا مُوردٌ بعون الله أمثلة متى بُني فيها على ظاهر اللفظ ولم ينظر في مُوجب المعنى حصل الفساد، وبعض هذه الأمثلة وقع للمعربين فيه وهمٌ بهذا السبب، وسترى ذلك معيناً.
فأحدها: قوله تعالى: (أصلاتُك تأمرُكَ أنْ نترُك ما يعبدُ آباؤنا أو أن نفعلَ في أموالنا ما نشاء) فإنه يتبادر الى الذهن عطف أن نفعل على أن نترك، وذلك باطل، لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون، وإنما هو عطف على ما، فهو معمول للترْك، والمعنى أن نترك أن نفعل، نعم من قرأ تفعل وتشاء - بالتاء لا بالنون - فالعطف على أن نترك، وموجب الوهم المذكور أن المعرب يرى أنْ والفعل مرتين، وبينهما حرف العطف.
ونظيرُ هذا سوء أن يتوهم في قوله:
لنْ، ما رأيتُ أبا يزيدَ مُقاتِلاً ... أدعَ القِتالَ وأشهدَ الهيجاءَ
أن الفعلين متعاطفان، حين يرى فعلين مضارعين منصوبين، وقد بينت في فصل لمّا أن ذلك خطأ، وأنّ أدع منصوب بلنْ، وأشهد معطوف على القتال.


الثاني: قوله تعالى (وإني خِفتُ المواليَ من ورائي) فإن المتبادر تعلق من بخفت، وهو فاسد في المعنى، والصوابُ تعلقه بالموالي لما فيه من معنى الولاية، أي خفت ولايتهم من بعدي وسوء خِلافتهم، أو بمحذوف هو حال من الموالي أو مضاف إليهم، أي كائنينَ من ورائي، أو فِعلَ الموالي من ورائي، وأما منْ قرأ خفّتِ بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء فمن متعلقة بالفعل المذكور.
الثالث: قوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً الى أجله) فإن المتبادر تعلق الى بتكتبوه، وهو فاسد، لاقتضائه استمرار الكتابة الى أجل الدِّين، وإنما هو حال، أي مستقراً في الذمة الى أجله.
ونظيره قوله تعالى: (فأماتهُ اللهُ مئةَ عام) فإن المتبادر انتصاب مئة بأماتهُ، وذلك ممتنع مع بقائه على معناه الوضعي، لأن الإماتة سلب الحياة وهي لا تمتد، والصوابُ أن يضمّنَ أماتهُ معنى ألبثهُ، فكأنه قيل: فألبثه الله بالموت مئة عام، وحينئذ يتعلق به الظرف بما فيه من المعنى العارض له بالتضمين، أي معنى اللبث لا معنى الإلباث، لأنه كالإماتة في عدم الامتداد، فلو صح ذلك لعقلناه بما فيه من معناه الوضعي، ويصير هذا التعلق بمنزلته في قوله تعالى: (قالَ لبثتُ يوماً أو بعض يوم، قال بلْ لبثتَ مئةَ عام).
وفائدة التضمين: أن يُدلَّ بكلمة واحدة على معنى كلمتين، يدلك على ذلك أسماء الشرط والاستفهام.
ونظيرُه أيضاً قولُه عليه الصلاة والسلام: (كلُّ مولود يولدُ على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانِه أو ينصرانه) لا يجوز أن يعلق حتى بيولد، لأن الولادة لا تستمر الى هذه الغاية، بل الذي يستمر إليها كونه على الفطرة، فالصواب تعليقُها بما تعلقت به على، وأن على متعلقة بكائن محذوف منصوب على الحال من الضمير في يولد، ويولد خبر كل.
الرابع: قولُ الشاعر:
تركتِ بنا لوحاً، ولو شئت جادنا ... بُعيدَ الكرى ثلجٌ بكرمانَ ناصحُ
فإن المتبادر تعليق بعيدَ الكرى بجاد، والصوابُ تعليقه بما في ثلج من معنى بارد، إذ المراد وصفُها بأن ريقها يوجد عقب الكرى بارداً، فما الظن به في غير ذلك الوقت؟ لا أنه يتمنى أن تجود له به بعيد الكرى دون ما عداه من الأوقات، واللوحُ - بفتح اللام - العطش.
الخامس: قوله تعالى (فلمّا بلغَ معهُ السعي) فإن المتبادر تعلق معَ ببلغ، قال الزمخشري: أي فلما بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، قال: ولا يتعلق معَ ببلغ، لاقتضائه أنهما بلغا معاً حد السعي، ولا بالسعي، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، وإنما هي متعلقة بمحذوف على أن يكون بياناً، كأنه قيل: فلما بلغ الحدّ الذي يقدرُ فيه على السعي، فقيل: مع منْ؟ فقيل: مع أعطف الناس عليه وهو أبوه، أي إنه لم يستحكم قوته بحيث يسعى مع غير مشفق.
السادس: قوله تعالى (الله أعلمُ حيث يجعلُ رسالته) فإن المتبادر أن حيث ظرف مكانٍ، لأنه المعروف في استعمالها، ويرده أن المراد أنه تعالى يعلم المكانَ المستحقَّ للرسالة، لا أن علمه في المكان، فهو مفعول به، لا مفعول فيه. وحينئذ لا ينتصب بأعلم إلا على قول بعضهم بشرط تأويله بعالم، والصواب انتصابه بيعلم محذوفاً دلّ عليه أعلم.
السابع: قوله تعالى (فخُذْ أربعةً من الطير فصُرْهُنّ إليكَ) فإن المتبادر تعلُّق الى بصرْهنَّ، وهذا لا يصح إذا فسر صرهنّ بقَطِّعْهن، وإنما تعلقه بخذ، وأما إن فسر بإمِلْهنَّ فالتعلق به، وعلى الوجهين يجب تقدير مضاف، أي الى نفسك، لأنه لا يتعدى فعلُ المضمرِ المتصل الى ضميره المتصل إلا في باب ظن نحو (أنْ رآه استغنى)، (فلا يحسبُنهمْ بمفازة) فيمن ضم الباء، ويجب تقدير هذا المضاف في نحو (وهزّي إليك بجذع النخلة)، (واضمم إليك جَناحكَ من الرّهبِ) (أمسكْ عليك زوجك) وقوله:
هوِّنْ عليكَ فإنّ الأمورَ ... بكفِّ الإلهِ مقاديرها
وقوله:
ودعْ عنْكَ نهباً صيحَ في حَجَراتهِ
قوله: حجراته بفتحتين أي نواحيه، وقول ابن عصفور إن عن وعلى في ذلك اسمان كما في قوله:
غدتْ مِن عليه بعد ما تم ظِمؤها
وقوله:
فلَقدْ أراني للرِّماح دريئةً ... منْ عنْ يميني مرة وأمامي


دفعاً للمحذور المذكور وهْم، لأن معنى على الاسمية فوق، ومعنى عن الاسمية جانب، ولا يتأتيان هنا، ولأن ذلك لا يتأتى مع إلى، لأنها لا تكون اسماً.
الثامن: قوله تعالى (يحسبُهمُ الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّف) فإن المتبادر تعلق من بأغنياء لمجاورته له، ويُفسده أنهم متى ظنّهم ظانّ قد استغنوا من تعففهم علم أنهم فقراء من المال، فلا يكون جاهلاً بحالهم، وإنما هي متعلقة بيحسب، وهي للتعليل.
التاسع: قوله تعالى (ألمْ ترَ الى الملأ منْ بني إسرائيلَ منْ بعدِ موسى إذْ قالوا) فإن المتبادر تعلقُ إذ بفعل الرؤية، ويفسده أنه لم ينته علمه أو نظره إليهم في ذلك الوقت، وإنما العامل مضاف محذوف، أي ألم تر الى قصتهم أو خبرهم، إذ التعجب إنما هو من ذلك، لا من ذواتهم.
العاشر: قوله تعالى (فمنْ شربَ منه فليسَ منّي ومن لمْ يطْعَمْهُ فإنه مني إلا من اغترفَ غُرفةً) فإن المتبادر تعلقُ الاستثناء بالجملة الثانية، وذلك فاسد، لاقتضائه أن مَن اغترف بيده ليس منه، وليس كذلك، بل ذلك مُباح لهم، وإنما هو مستثنى من الأولى، ووهم أبو البقاء تجويزه كونه مستثنى من الثانية، وإنما سهلَ الفصل بالجملة الثانية لأنها مفهومة من الأولى المفصولة، لأنه إذا ذكر أن الشارب ليس منه اقتضى مفهومُه أن (مَنْ لم يطعمه) منه، فكان الفصلُ به كلا فصلٍ.
الحادي عشر: قوله تعالى (فاغسلوا وجوهَكم وأيديكمْ الى المرافق) فإن المتبادر تعلقُ الى باغسلوا، وقد ردّه بعضهم بأن ما قبل الغاية لابدّ أن يتكرر قبل الوصول إليها، تقول ضربته الى أن مات ويمتنع قتلته الى أن مات وغسلُ اليدِ لا يتكرر قبل الوصول الى المرفق، لأن اليد شاملة لرؤوس الأنامل والمناكب وما بينهما، قال: فالصواب تعلقُ الى بأسقطوا محذوفاً، ويستفاد من ذلك دخولُ المرافق في الغسل، لأن الإسقاط قام الإجماعُ على أنه ليس من الأنامل، بل من المناكب، وقد انتهى الى المرافق، والغالب أن ما بعد الى يكون غيرَ داخلٍ، بخلاف حتى، وإذا لم يدخل في الإسقاط بقي داخلاً في المأمور بغسله، وقال بعضهم: الأيدي في عُرف الشرع اسمٌ للأكفِّ فقط، بدليل آية السرقة، وقد صح الخبر باقتصاره صلى الله عليه وسلم في التيمم على مسح الكفين، فكان ذلك تفسيراً للمراد بالأيدي في آية التيمم. قال: وعلى هذا فإلى غايةٌ للغسل، لا للإسقاط، قلت: وهذا وإن سُلِّم فلابد من تقدير محذوف أيضاً، أي ومُدّوا الغسل الى المرافق، إذ لا يكون غسل ما وراء الكف غاية لغسل الكف.
الثاني عشر: قول ابن دُريد:
إنّ امرأ القيسِ جرى الى مدى ... فاعتاقهُ حِمامهُ دونَ المدى
فإن المتبادر تعلقُ الى بجرَى، ولو كان كذلك لكان الجريُ قد انتهى الى ذلك المدى، وذلك مناقض لقوله:
فاعتاقهُ حمامهُ دون المدى
وإنما الى مدى متعلقٌ بكون خاص منصوب على الحال، أي طالباً الى مدًى، ونظيره قوله أيضاً يصف الحاجّ:
ينوي التي فضّلها ربُّ العُلا ... لما دحا تُربتها على البِنى
فإن قوله على البنى متعلق بأبعد الفعلين، وهو فضّل، لا بأقربهما وهو دحا بمعنى بسط، لفساد المعنى.
الثالث عشر: ما حكاه بعضهم من أنه سمع شيخاً يُعربُ لتلميذه قيما من قوله تعالى (ولمْ يجعلْ له عوجاً قيماً) صفةً لعوجا، قال: فقلت له: يا هذا كيف يكون العوجُ قيماً؟ وترحّمتُ على مَنْ وقف من القرّاء على ألف التنوين في عوجا وقفةً لطيفة دفعاً لهذا التوهم، وإنما قيما حالٌ: إما من اسمٍ محذوف هو وعامله، أي أنزله قيما، وإما من الكتاب، وجملة النفي معطوفة على الأول ومعترضة على الثاني، قالوا: ولا تكون معطوفة، لئلا يلزم العطفُ على الصلة قبل كمالها، وإما من الضمير المجرور باللام إذا أعيد الى الكتاب لا الى مجرور على، أو جملة النفي وقيماً حالان من الكتاب، على أن الحال يتعدد، وقياسُ قول الفارسي في الخبر إنه لا يتعدى مختلفا بالإفراد والجملة أن يكون الحال كذلك، لا يقال: قد صح ذلك في النعت نحو (وهذا ذكرٌ مباركٌ أنزلناه) بل قد ثبت في الحال في نحو (لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى) ثم قال سبحانه (ولا جُنُباً) لأن الحال بالخبر أشبه، ومن ثمَّ اختلف في تعددهما، واتفق على تعدد النعت، وأما جنبا فعطفٌ على الحال، لا حال، وقيل: المنفية حال، وقيما بدل منها، عكس عرفت زيداً أبو من هو؟.


الرابع عشر: قول بعضهم في (أحوى) إنه صفة لغُثاء، وهذا ليس بصحيح على الإطلاق، بل إذا فسر الأحوى بالأسود من الجفاف واليبس، وأما إذا فسر بالإسود من شدة الخضرة لكثرة الريِّ كما فُسِّر (مُدهامّتان) فجعْله صفة لغثاء كجعْل قيماً صفة لعوجاً، وإنما الواجب أن تكون حالاً من المرعى وأخّر لتناسب الفواصل.
الخامس عشر: قول بعضهم في قوله تعالى (فأخرجْنا به نباتَ كلِّ شيء فأخرجْنا منه خَضِراً نُخرج منه حبّاً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ وجناتٌ من أعناب) فيمن رفع جنات إنه عطفٌ على قنوان، وهذا يقتضي أن جنات الأعناب تخرج من طلع النخل، وإنما هو مبتدأ بتقدير: وهناك جنات، أو ولهم جنات، ونظيره قراءة من قرأ (وحُور عين) بالرفع بعد قوله تعالى (يُطاف عليهم بكأسٍ من معينٍ) أي ولهم حور، وأما قراءة السبعة (وجناتٍ) بالنصب فبالعطف على (نبات كل شيء) وهو من باب (وملائكته ورسله وجبريل وميكال).
السادس عشر: قول ابن السّيد في قوله تعالى (من استطاعَ إليه سبيلا) إن مَنْ فاعل بالمصدر، ويرده أن المعنى حينئذ ولله على الناس أن يحجَّ المستطيع، فيلزم تأثيمُ جميعِ الناس إذا تخلّف مستطيع عن الحج، وفيه مع فساد المعنى ضعف من جهة الصناعة، لأن الأتيان بالفاعل بعد إضافة المصدر الى المفعول شاذ، حتى قيل: إنه ضرورة كقوله:
أفنى تلادي وما جمّعتُ من نشبٍ ... قرعُ القواقيز أفواهُ الأباريقِ
فيمن رواه برفع أفواه، والحق جواز ذلك في النثر، إلا أنه قليل، ودليل الجواز هذا البيت، فإنه روي بالرفع مع التمكن من النصب وهي الرواية الأخرى، وذلك على أن القواقيز الفاعل، والأفواه مفعول، وصح الوجهان لأن كلاً منهما قارع ومقروع، ومن مجيئه في النثر الحديثُ وحجّ البيتِ من استطاعَ إليه سبيلاً ولا يتأتى فيه ذلك الإشكال، لأنه ليس فيه ذكر الوجوب على الناس، والمشهور في مَنْ في الآية أنها بدل من الناس بدلَ بعضٍ، وجوز الكسائي كونها مبتدأ، فإن كانت موصولة فخبرها محذوف، أو شرطية فالمحذوف جوابها، والتقدير عليهما: من استطاع فليحج، وعليهن فالعموم مُخصَّص إما بالبدل أو بالجملة.
السابع عشر: قول الزمخشري في قوله تعالى (يا ويلتا أعجزتُ أنْ أكونَ مثلَ هذا الغُرابِ فأُواريَ سوءةَ أخي) إن انتصاب أواري في جواب الاستفهام، ووجه فساده أن جواب الشيء مُسبَّب عنه، والمواراة لا تتسبب عن العجز وإنما انتصابه بالعطف على أكون ومن هنا امتنع نصب تصبح في قوله تعالى (ألمْ ترَ أنّ الله أنزلَ من السماءِ ماء فتُصبحُ الأرضُ مخضرّة) لأن إصباح الأرض مخضرة لا يتسبّب عن رؤية إنزال المطر، بل عن الإنزال نفسه، وقيل: إنما لم ينصب لأن ألم تر في معنى قد رأيت، أي إنه استفهام تقريري مثل (ألمْ نشرح) وقيل: النصبُ جائز كما في قوله تعالى (أفلمْ يسيروا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ) ولكن قصد هنا الى العطف على أنزل على تأويل تصبح بأصبحت، والصواب قولُ الأول، وليس ألم تر مثل أفلم يسيروا لما بينّاه.
الثامن عشر: قول بعضهم في (فلوْلا نصرَهُم الذينَ اتخذوا منْ دون اللهِ قُرْباناً آلهة) إن الأصل اتخذوهم قرباناً، وإن الضمير وقرباناً مفعولان، وآلهة بدل من قرباناً، وقال الزمخشري: إن ذلك فاسد في المعنى، وإن الصواب أن آلهة هو المفعول الثاني، وأن قرباناً حال، ولم يبين وجه فساد المعنى، ووجهه أنهم إذا ذمُّوا على اتخاذهم قرباناً من دون الله اقتضى مفهومه الحثّ على أن يتّخذوا الله سبحانه قرباناً، كما أنك إذا قلت أتتّخذ فلاناً معلماً دوني؟ كنت آمراً له أن يتخذك معلماً له دونه، والله تعالى يتقرب إليه بغيره، ولا يتقرب به الى غيره، سبحانه.
التاسع عشر: قول المبرد في قوله تعالى (أوْ جاؤوكم حصِرتْ صدورهم) إن جملة (حصرت صدورهم) جملة دعائية، وردّه الفارسيّ بأنه لا يُدعى عليهم بأن تحصر صدورهم عن قتال قومهم، ولك أن تجيب بأن المراد الدعاء عليهم بأن يسلبوا أهلية القتال حتى لا يستطيعوا أن يقاتلوا أحداً البتة.
المتممم العشرين: قول أبي الحسن في قوله تعالى (ولبثوا في كهفهمْ ثلاثمئةٍ سنين) فيمن نون مئة: إنه يجوز كون سنين منصوباً بدلاً من ثلاث، أو مجروراً بدلاً من مئة، والثاني مردود، فإنه إذا أقيم مقام مئة فسد المعنى.


الحادي والعشرون: قول المبرد في (لوْ كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا): إن اسم الله تعالى بدل من آلهة، ويرده أن البدل في باب الاستثناء مستثنى موجب له الحكم، أما الأول فلأن الاستثناء إخراج، وما قام أحد إلا زيد مفيدٌ لإخراج زيد، وأما الثاني فلأنه كلما صدق ما قام أحد إلا زيد صدق قام زيد واسم الله تعالى هنا ليس بمستثنى، ولا موجب له الحكم، أما الأول فلأن الجمع المنكّر لا عموم له فيستثنى منه، ولأن المعنى حينئذ: لو كان فيهما آلهة مستثنى منهم الله لفسدتا وذلك يقتضي أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا، وإنما المراد أن الفساد يترتّب على تقدير التعدد مطلقاً، وأما أنه ليس بموجب له الحكم فلأنه لو قيل لو كان فيهما الله لفسدتا لم يستقم. وهذا البحث يأتي في مثال سيبويه لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا لأن رجلاً ليس بعام فيستثنى منه، ولأنه لو قيل: لو كان معنا جماعة مستثنى منهم زيد لغلبنا اقتضى أنه لو كان معهم جماعة فيهم زيد لم يغلبوا، وهذا وإن كان معنى صحيحاً إلا أن المراد إنما هو أن زيداً وحده كافٍ.
فإن قيل: لا نسلم أن الجمع في الآية والمفرد في المثال غير عامين، لأنهما واقعان في سياق لو، وهي للامتناع، والامتناع انتفاء.
قلت: لو صح ذلك لصح أن يقال لو كان فيما من أحد، ولو جاءني ديّارٌ، ولو جاءني فأكرمه بالنصب لكان كذا وكذا، واللازم ممتنع.
والثاني والعشرون: قول أبي الحسن الأخفش في كلمْته فاه إلى فيّ إن انتصاب فاه على إسقاط الخافض، أي من فيه، وردّه المبرد فقال: إنما يتكلم الإنسان في نفسه لا من في غيره، وقد يكون أبو الحسن إنما قال ذلك في كلمني فاه الى فيّ أو قاله في ذلك وحمَله على القلب لفهم المعنى، فلا يرد عليه سؤال أبي العباس، فلنعدل الى مثال غير هذا.
حكي عن اليزيدي أنه قال في قول العرْجي:
أظلومُ إنّ مُصابكمْ رَجلاً ... ردّ السلامَ تحيةً ظلمُ
إن الصواب رجلٌ بالرفع خبراً لإنّ، وعلى هذا الإعراب يفسد المعنى المراد في البيت، ولا يتحصل له معنى البتة، وله حكاية مشهورة بين أهل الأدب: رووا عن أبي عثمان المازني أن بعض أهل الذمة بذلَ له مئة دينار على أن يقرئه كتاب سيبويه، فامتنع من ذلك مع ما كان به من شدة احتياج، فلامه تلميذه المبرد، فأجابه بأن الكتاب مشتملٌ على ثلاثمئة وكذا كذا آية من كتاب الله تعالى، فلا ينبغي تمكين ذمي من قراءتها. ثم قدِّر أن غنتْ جارية بحضرة الواثق بهذا البيت، فاختلف الحاضرون في نصب رجل ورفعه، وأصرّت الجارية على النصب، وزعمت أنها قرأته على أبي عثمان كذلك، فأمر الواثق بإشخاصه من البصرة، فلما حضر أوجب النصب، وشرحه بأن مصابكم بمعنى إصابتكم، ورجلاً مفعوله، وظلم الخبر، ولهذا لا يتم المعنى بدونه، قال: فأخذ اليزيدي في معارضتي، فقلت له: هو كقولك إن ضربك زيداً ظلم فاستحسنه الواثق، ثم أمر له بألف دينار، وردّه مكرماً، فقال للمبرد: تركنا لله مئة دينار فعوضنا ألفاً.
الجهة الثانية: أن يراعي المعرب معنى صحيحاً، ولا ينظر في صحته في الصناعة، وها أنا موردٌ لك أمثلة من ذلك: أحدها: قول بعضهم في (وثَموداً فَما أبْقى) إن ثموداً مفعول مقدم، وهذا ممتنع لأن لما النافية الصّدر، فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وإنما هو معطوف على عاداً أو هو بتقدير: وأهلك ثموداً، وإنما جاء:
ونحنُ عن فضلِكَ ما استغْنَينا
لأنه شعر، مع أن المعمول ظرف، وأما قراءة عمرو بن فائد (مِنْ شرٍّ ما خَلق) بتنوين شرّ فما بدلٌ من شرّ، بتقدير مضاف، أي من شرٍ شرِ ما خلق، وحذف الثاني لدلالة الأول.


الثاني: قول بعضهم في إذ من قوله تعالى (إنّ الذين كفروا ينادَوْنَ لمقْتُ اللهِ أكبرُ من مقتكم أنفُسَكم إذ تُدعونَ الى الإيمان فتكْفُرون) إنها ظرف للمقت الأول، أو الثاني، وكلاهما ممنوع؛ أما امتناع تعليقه بالثاني فلفساد المعنى، لأنهم لم يمقتوا أنفسهم ذلك الوقت، وإنما يمقتونها في الآخرة، ونظيره قول مَنْ زعم في (يومَ تجِدُ) إنه ظرف ليحذركم، حكاه مكي، قال: وفيه نظر، والصوابُ الجزمُ بأنه خطأ، لأن التحذير في الدنيا لا في الآخرة، ولا يكون مفعولاً به ل(يحذركم) كما في (وأنذرْهُمْ يومَ الآزفَة) لأن يحذر قد استوفى مفعوليه، وإنما هو نصب بمحذوف تقديره اذكروا أو احذروا، وأما امتناع تعليقه بالأول - وهو رأي جماعة منهم الزمخشري - فلاستلزامه الفصْل بين المصدر ومعموله بالأجنبي، ولهذا قالوا في قالوا:
وهُنّ وقوفٌ ينتَظِرنَ قَضاءَه ... بضاحي غداةٍ أمره وهوَ ضامزُ
إن الباء متعلقة بقضائه لا بوقوف ولا بينتظرن، لئلا يفصل بين قضاءه وأمره بالأجنبي، ولا حاجة الى تقدير ابن الشجري وغيره أمره معمولاً لقضى محذوفاً لوجود ما يعمل. ونظير ما لزم الزمخشري هنا ما لزمه إذ علق (يومَ تُبْلى السّرائِرِ) بالرجع من قوله تعالى (إنّه على رجْعه لقادِرٌ) وإذ علق أياماً بالصيام من قوله تعالى (كُتبَ عليكم الصّيامُ كما كُتب على الذين منْ قبلكُم لعلّكم تتّقون. أياماً معدودات) فإن في الأولى الفصْلَ بخبر إنّ وهو لقادر، وفي الثاني الفصل بمعمول كتبَ وهو كما كتب.
فإن قيل: لعله يقدر كما كتب صفة للصيام، فلا يكون متعلقاً بكتب.
قلنا: يلزم محذور آخر، وهو إتباع المصدر قبل أن يكمل معموله، ونظيرُ اللازم له على هذا التقدير ما لزمه إذ قال في قوله تعالى (وصدٌ عن سبيلِ اللهِ وكفْرٌ بهِ والمسجدِ الحرام): إن المسجد عطف على سبيل الله، وإنه حينئذ من جملة معمول المصدر، وقد عطف كفر على المصدر قبل مجيئه.
والصوابُ أن الظروف الثلاثة متعلقة بمحذوف، أي مَقَتكم إذ تُدعون، وصوموا أياماً، ويرْجِعه يوم تبلى السرائر، ولا ينتصب يوم بقادر، لأن قدرته تعالى لا تتقيد بذلك اليوم ولا بغيره. ونظيرُه في التعلق بمحذوف (يومَ يرَوْنَ الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين) ألا ترى أن اليوم لو علِّق ببشرى لم يصح من وجهين: أنه مصدر وأنه اسم للا، وأما (ألا يومَ يأتيهِمْ ليسَ مصروفاً عنهُمْ) فعلى الخلاف في جواز تقدّم منصوب ليس عليها.
والصواب أن خفض المسجد ببناء محذوفة لدلالة ما قبلها عليها، لا بالعطف، ومجموع الجار والمجرور عطف على ربه، ولا يكون خفض المسجد بالعطف على الهاء، لأنه لا يعطف على الضمير المخفوض إلا بإعادة الخافض.
ومن أمثلة ذلك قولُ المتنبي:
وفاؤُكُما كالرَّبعِ أشجاهُ طاسمه ... بأنْ تُسعِدا والدّمعُ أشفاهُ ساجمهْ
وقد سأل أبو الفتح المتنبي عنه، فأعرب وفاؤكما كالربع مبتدأ وخبره، وعلق الباء بوفاؤكما فقال له: كيف تخبر عن اسم لم يتم؟ فأنشده قول الشاعر:
لسنا كمنْ جعلتْ إيادٍ دارَها ... تكريتَ تمنعُ حبّها أن يُحصدا
أي أن إياد بدل من مَنْ قبل مجيء معمول جعلت وهو دارها، والصواب تعليق دارها وبأن تسعدا بمحذوف، أي جعلت، ووفيتما، ومعنى البيت وفاؤكما يا صاحبيّ بما وعدتماني به من الإسعاد بالبكاء عند ربع الأحبة إنما يُسليني إذا كان بدمع ساجم، أي هاملٍ، كما أن الربع إنما يكون أبعثَ على الحزن إذا كان دارساً.
الثالث: تعليق جماعة الظروف من قوله تعالى: (لا عاصِم اليوم منْ أمرِ الله) (لا تَثريبَ عليْكُم اليوم) ومن قوله عليه الصلاة والسلام: (لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعْطي لما منَعت) باسم لا، وذلك باطل عند البصريين لأن اسم لا حينئذ مطوّل، فيجب نصبه وتنوينه، وإنما التعليقُ في ذلك بمحذوف إلا عند البغداديين، وقد مضى.
الرابع: وهو عكس ذلك: تعليقُ بعضهم الظرفَ من قوله تعالى: (ولوْلا فضلُ الله عليكم) بمحذوف، أي كائن عليكم، وذلك ممتنع عند الجمهور، وإنما هو متعلق بالمذكور وهو الفضْل، لأن خبر المبتدأ بعد لولا واجب الحذف، ولهذا لُحن المعري في قوله:
فلوْلا الغِمدُ يمسِكهُ لسالا


الخامس: قول بعضهم في (ومنْ ذرِّيّتنا أمةً مسلمةً لك): إن الظرف كان صفة لأمة ثم قدم عليها فانتصب على الحال، وهذا يلزم منه الفصل بين العاطف والمعطوف بالحال، وأبو علي لا يجيزه بالظرف، فما الظن بالحال التي هي شبيهة بالمفعول به؟ ومثله قول أبي حيان في (فاذكُروا اللهَ كذِكركمْ آباءَكمْ أو أشد ذكْراً) إن أشد حال كان في الأصل صفة لذكراً.
السادس: قول الحوفي: إن الباء من قوله تعالى (فناظِرةٌ بمَ يرجعُ المرسَلون) متعلقة بناظرة، ويردّه أن الاستفهام له الصدْر، ومثله قول ابن عطية في (قاتلهمُ اللهُ أنّى يؤفكون): إنّ أنّى ظرفٌ لقاتلهم الله، وأيضاً فيلزم كون يؤفكون لا موقع لها حينئذ، والصوابُ تعلقهما بما بعدهما.
ونظيرهما قول المفسرين في (ثمّ إذا دَعاكمْ دعوةً منَ الأرض إذا أنتُمْ تخرجون) إن المعنى إذا أنتم تخرجون من الزرض، فعلقوا ما قبل إذا بما بعدها، حكى ذلك عنهم أبو حاتم في كتاب الوقف والابتداء، وهذا لا يصح في العربية.
وقول بعضهم في (ملعونينَ أينما ثُقفوا أُخِذوا): إن ملعونين حال من معمول ثقفوا أو أخذوا، ويردّه أن الشرط له الصّدر. والصواب أنه منصوب على الذم، وأما قول أبي البقاء إنه حال من فاعل (يجاورونك) فمردود، لأن الصحيح أنه لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان.
وقول آخر في (وكانوا فيه منَ الزاهدين): إن في متعلقة بزاهدين المذكور، وهذا ممتنع إذا قدرت ال موصولة وهو الظاهر، لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول، فيجب حينئذ تعلقها بأعني محذوفة، أو بزاهدين محذوفاً مدلولاً عليه بالمذكور، أو بالكون المحذوف الذي تعلق به من الزاهدين، وأما إن قدرت ال للتعريف فواضح.
السابع: قول بعضهم في بيت المتنبي يخاطب الشيب:
أبعد بعِدتَ بياضاً لا بياضَ لهُ ... لأنتَ أسودُ في عيني من الظُّلَمِ
إن من متعلقة بأسود، وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل، وذلك ممتنع في الألوان، والصحيح أن من الظلم صفة لأسود، أي أسود كائن من جملة الظلم، وكذا قوله:
يلقاكَ مُرتدياً بأحمرَ منْ دمٍ ... ذهبتْ بخضْرتهِ الطُّلى والأكبدُ
من دم إما تعليل، أي أحمر من أجل التباسه بالدم، أو صفة كأن السيف لكثرة التباسه بالدم صار دماً.
الثامن: قول بعضهم في سقْياً لك إن اللام متعلقة بسقياً، ولو كان كذا لقيل سقياً إياك، فإن سقَى يتعدى بنفسه.
فإن قيل: اللام للتقوية مثل (مصدِّقاً لما مَعهمْ).
فلام التقوية لا تلزم، ومن هنا امتنع في (والذينَ كفَروا فتعْساً لهُم) كونُ الذين نصباً على الاشتغال، لأن لهم ليس متعلقاً بالمصدر.
التاسع: قول الزمخشري في (ومنْ آياتِه مَنامُكم بالليلِ والنهار وابتغاؤُكُم من فضلِه) إنه من اللفِّ والنشر، وإن المعنى منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، وهذا يقتضي أن يكون النهار معمولاً للابتغاء مع تقديمه عليه، وعطفه على معمول منامكم وهو بالليل، وهذا لا يجوز في الشعر، فكيف في أفصح الكلام؟ وزعم عصريّ في تفسير له على سورتي البقرة وآل عمران في قوله تعالى: (يجعلونَ أصابعَهم في آذانِهمْ من الصواعقِ حذرَ الموتِ) أن من متعلقة بحذر أو بالموت، وفيهما تقديم معمول المصدر، وفي الثاني أيضاً تقديمُ معمول المضاف إليه على المضاف وحامله على ذلك أنه لو علّقه ب(يجعلون) وهو في موضع المفعول له لزم تعدُد المفعول له من غير عطف، إذ كان (حذر الموت) مفعولاً له، وقد أجيب بأن الأول تعليلٌ للجعل مطلقاً، والثاني تعليل له مقيداً بالأول، والمطلق والمقيد غيْرانِ، فالمعلل متعدد في المعنى، وإن اتحد في اللفظ، والصوابُ أن يحمل على أنّ المنام في الزمانين والابتغاء فيهما.
العاشر: قول بعضهم في (فقليلاً ما يؤمِنون): إن ما بمعنى مَنْ، ولو كان كذلك لرفع قليل على أنه خبر.
الحادي عشر: قول بعضهم في (وما و بمُزحْزِحِه من العذاب أن يُعمّر): إن هو ضمير الشأن، وأن يعمر: مبتدأ، وبمزحزحه: خبر، ولو كان كذلك لم يدخل الباء في الخبر.
ونظيرُه قول آخر في حديث بدْء الوحي ما أنا بقارئ: إن ما استفهامية مفعولة لقارئ، ودخول الباء في الخبر يأبى ذلك.


الثاني عشر: قولُ الزمخشري في (أينَما تكونوا يدرِكْكُم الموت) فيمن رفع يدرك: إنه يجوز كون الشرط متصلاً بما قبله، أي ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا، يعني فيكون الجواب محذوفاً مدلولاً عليه بما قبله، ثم يبتدئ (يدركُكم الموتُ ولو كنتم في بروج مشيدة) وهذا مردود بأن سيبويه وغيره من الأئمة نصّوا على أنه لا يحذف الجواب إلا وفعلُ الشرط ماضٍ، تقول أنت ظالم إن فعلْتَ ولا تقول أنت ظالم إن تفعل إلا في الشعر، وأما قول أبي بكر في كتاب الأصول: إنه يقال آتيكَ إنْ تأتني فنقله من كتب الكوفيين، وهم يجيزون ذلك، لا على الحذف، بل على أن المتقدم هو الجواب، وهو خطأ عند أصحابنا، لأن الشرط له الصّدر.
الثالث عشر: قول بعضهم في (بالأخْسرين أعمالاً): إن (أعمالاً) مفعول به، وردهُ ابن خروف بأن خسِرَ لا يتعدى كنقيضه ربح، ووافقه الصفار مستدلاً بقوله تعالى: (كرّةٌ خاسرة) إذ لم يرد أنها خسرت شيئاً، وثلاثتهم ساهون، لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، ولأن خسر متعد، ففي التنزيل (الذين خسِروا أنفُسهم)، (خسِر الدُنيا والآخرة) وأما خاسرة فكأنه على النسب، أي ذاتُ خسْر، وربِح أيضاً يتعدى فيقال: ربح ديناراً، وقال سيبويه: أعمالاً مشبه بالمفعول به، ويردّه أن اسم التفضيل لا يشبه باسم الفاعل، لأنه لا تلْحقه علامات الفروع إلا بشرط، والصوابُ أنه تمييز.
الجهة الثالثة: أن يخرج على ما لم يثبت في العربية، وذلك إنما يقع على جهْلٍ أو غفلةٍ، فلنذكر منه أمثلة: أحدها: قول أبي عبيدة في (كما أخرجَك ربُّك منْ بيتِك بالحقّ): إن الكاف حرف قسم، وإن المعنى: الأنفال لله والرسول الذي أخرج، وقد شنّع ابن الشجري على مكي في حكايته هذا القولَ وسكوتهِ عنه، قال: ولو أن قائلاً قال كالله لأفعلنّ لاستحق أن يبصق في وجهه.
ويبطل هذه المقالة أربعة أمور: أن الكاف لم تجيء بمعنى واو القسم، وإطلاق ما على الله سبحانه وتعالى، وربْطُ الموصول بالظاهر وهو فاعل أخرج، وباب ذلك الشعر كقوله:
وأنتَ الذي في رحمةِ اللهِ أطمعُ
ووصْله بأول السورة مع تباعُدِ ما بينهما.
وقد يجاب عن الثاني بأنه قد جاء نحو (والسّماء وما بناها) وعنه أنه قال: الجوابُ (يجادلونك) ويردّه عدمُ توكيدِه، وفي الآية أقوال أخر، ثانيها: أن الكاف مبتدأ، وخبره (فاتقوا الله)، ويفسده اقترانهُ بالفاء، وخُلُوّهُ من رابط، وتباعد ما بينهما. وثالثها: أنها نعت مصدر محذوف، أي يجادلونك في الحق الذي هو إخراجك من بيتك جِدالاً مثل جدال إخراجك، وهذا فيه تشبيه الشيء بنفسه، ورابعها - وهو أقرب مما قبله - : أنها نعت مصْدر أيضاً، ولكن التقدير: قل الأنفالُ ثابتةٌ لله والرسول مع كراهيتهم ثبوتاً مثلَ ثبوت إخراج ربك إياك من بيتك وهم كافرون، وخامسها - وهو أقرب من الرابع - : أنها نعت لحقاً، أي أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك، والذي سهّل هذا تقاربهما، ووصف الإخراج بالحق في الآية، وسادسها - وهو أقرب من الخامس - أنها خبر لمحذوف، أي هذه الحال كحال إخراجك، أي إن حالهم في كراهية ما رأيت من تفنيلك الغُزاة مثلُ حالهم في كراهية خروجك من بيتك للحرب، وفي الآية أقوال أخر منتشرة.
المثال الثاني: قول ابن مهران في كتاب الشواذ فيمن قرأ (إنّ البقر تّشابهت) بتشديد التاء إن العرب تزيد تاء على التاء الزائدة في أول الماضي، وأنشد:
............تتقطعت بي دونكَ الأسْبابُ
ولا حقيقة لهذا البيت ولا لهذه القاعدة، وإنما أصل القراءة (إن البقرة) باء الوَحدة، ثم أدغمت في تاء تشابهتْ، فهو إدغام من كلمتين.
الثالث: قول بعضهم في (وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله): إن الأصل: وما لنا وأن لا نقاتل أي ما لنا وترك القتال كما تقول مالك وزيداً ولم يثبت في العربية حذف واو المفعول معه.
الرابع: قول محمد بن مسعود الزكي في كتابه البديع - وهو كتاب خالف فيه أقوال النحويين في أمور كثيرة - : إن الذي وأنِ المصدرية يتقارضان، فتقع الذي مصدرية كقوله:
أتقرَحُ أكبادُ المحبّينَ كالذّي ... أرى كبِدي منْ حُبِّ ميّةَ تقرَحُ
وتقع أنْ بمعنى الذي كقولهم زيدٌ أعقلُ منْ أن يكذِبَ أي: من الذي يكذب.


فأما وقوع الذي مصدرية فقال به يونُس والفرّاء والفارسيّ، وارتضاه ابن خروف وابن مالك، وجعلوا منه (ذلك الذي يبشِّرُ اللهُ عِباده). (وخُضتُمْ كالذي خاضوا).
وأما عكسه فلم أعرف له قائلاً، والذي جرّأه عليه إشكال هذا الكلام، فإن ظاهره تفضيلُ زيد في العقل على الكذب، وهذا لا معنى له، ونظائر هذا التركيب كثيرة مشهورة الاستعمال، وقلّ من يتنبه لإشكالها، وظهر لي فيها توجيهان، أحدهما: أن يكون في الكلام تأويل على تأويل، فيؤول أنْ والفعل بالمصدر، ويؤول المصدر بالوصف، فيؤول الى المعنى الذي أراده، ولكن بتوجيه يقبله العلماء، ألا ترى أنه قيل في قوله تعالى (وما كان هذا القُرآنُ أن يُفترى): إن التقدير ما كان افتراء، ومعنى هذا ما كان مُفترى. وقال أبو الحسن في قوله تعالى (ثمّ يعودونَ لِما قالوا): إن المعنى ثم يعودون للقول، والقول في تأويل المقول، أي يعودون للمقول فيهن لفظ الظهار، وذلك هو الموافق لقول جمهور العلماء: إنّ العوْدَ الموجِب للكفارة العَوْد الى المرأة، لا العَوْدُ الى القول نفسه، كما يقول أهل الظاهر، وبعدُ فهذا الوجهُ عندي ضعيف، لأن التفضيل على الناقص لا فضل فيه، وعليه قوله:
إذا أنتَ فضّلت امْرأ ذا براعةٍ ... على ناقصٍ كان المديحُ من النّقصِ
التوجيه الثني: أنّ أعْقل ضُمِّن معنى أبعد، فمعنى المثال زيدٌ أبعد الناس من الكذب لفضله من غيره، فمن المذكورة ليست الجارة للمفضول، بل متعلقة بأفعل، لما تضمنه من معنى البعد، لا ما فيه من المعنى الوضعي، والمفضل عليه متروك أبداً مع أفعل هذا لقصد التعميم، ولولا خشية الإسهاب لأوردت لك أمثلة كثيرة من هذا الباب لتقف منها على العجب العُجاب.
الجهة الرابعة: أن يخرج على الأمور البعيدة والأوجه الضعيفة، ويترك الوجه القريب والقويَّ، فإن كان لم يظهر له إلا ذاك فله عذر، وإن ذكر الجميع فإن قصَدَ بيان المحتمل أو تدريب الطالب فحسنٌ، إلا في ألفاظ التنزيل، فلا يجوز أن يخرج إلا على ما يغلب على الظن إرادته، فإن لم يغلب شيء فليذكر الأوجه المحتملة من غير تعسّف، وإن أراد مجرد الإغراب على الناس وتكثير الأوجه فصعبٌ شديدٌ، وسأضرب لك أمثلة مما خرّجوه على الأمور المستبعدة لتجنبها وأمثالها: أحدها: قول جماعة في (وقيلهِ): إنه عطفٌ على لفظ (الساعة) فيمن خفضَ، وعلى محلها فيمن نصبَ، مع ما بينهما من التباعد.
وأبعدُ منه قولُ أبي عمرو في قوله تعالى (إنّ الذين كفروا بالذّكرِ): إن خبره (أولئك يُنادون منْ مكانٍ بعيد).
وأبعدُ من هذا قولُ الكوفيين والزجاج في قوله تعالى (ص والقرآنِ ذي الذّكرِ): إن جوابه (إنّ ذلكِ لحقٌّ).
وقول بعضهم في (ثُمَّ آتينا موسى الكتاب) إنه عطف على (ووهبنا لهُ إسحقَ).
وقول الزمخشري في (وكُلُّ أمرٍ مُستقرٍّ) فيمن جر مستقر: إن كلاً عطف على السعة.
وأبعدُ منه قوله في (وفي موسى إذْ أرسلناهُ): إنه عطف على (وفي الأرض آياتٌ).
وأبعد من هذا قوله في (فاستفتهِمْ ألربِّك البناتُ): إنه عطف على (فاستفتِهم أهمْ أشدُّ خلقاً) قال: هو معطوف على مثله في أول السورة وإنْ تباعدت بينهما المسافة، انتهى.
والصواب خلاف ذلك كله.
فأما (وقيلهِ) فيمن خفض، فقيل: الواو للقسم وما بعده الجواب، واختاره الزمخشري، وأما من نصب، فقيل: عطف على (سِرّهم) أو على مفعول محذوف معمول ل(يكتبون) أو ل(يعلمون)، أي يكتبون ذلك، أو يعلمون الحق، أو أنه مصدر لقال محذوفاً، أو نصب على إسقاط حرف القسم، واختاره الزمخشري.
وأما (إنّ الذينَ كفروا بالذّكرِ) فقيل: الذي بدل من الذين في (إنّ الذينَ يُلحدونَ) والخبر (لا يخفون) واختاره الزمخشري، وقيل: مبتدأ خبره مذكور، ولكن حذف رابطه، ثم اختلف في تعيينه، فقيل: هو (ما يُقالُ لك) أي في شأنهم، وقيل: هو (لما جاءهم) أي كفروا به، وقيل (لا يأتيه الباطلُ) أي لا يأتيه منهم)، وهو بعيد، لأن الظاهر أن (لا يأتيه) من جملة خبر إنه.


وأما (ص والقُرآن) الآية، فقيل: الجواب محذوف، أي إنه لمُعجِز بدليل الثناء عليه بقوله (ذي الذِّكر) أو إنك لمنَ المُرسلين بدليل (وعجبوا أنْ جاءهمْ مُنذرٌ منهمْ) أو ما الأمرُ كما زعموا بدليل (وقال الكافرونَ هذا ساحرٌ كذّاب) وقيل: مذكور، فقال الأخفش (إنْ كلٌّ إلا كذّبَ الرّسلَ)، وقال الفراء وثعلب (ص) لأن معناها صدقَ الله، ويرده أن الجواب لا يتقدم، فإن أريد أنه دليل الجواب فقريبٌ، وقيل (كمْ أهلكنا) الآية، وحذفت اللام للطول.
وأما (ثمَّ آتينا) فعطف على (ذلكمْ وصاكمْ به) وثم لترتيب الإخبار، لا لترتيب الزمان، أي ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب.
وأما (وكلُّ أمرٍ مستقرٍّ) فمبتدأ حُذفَ خبره، أي وكل أمر مستقر عند الله واقع، أو ذُكر وهو (حِكمةٌ بالغة) وما بينهما اعتراض، وقول بعضهم: الخبر مستقر وخفض على الوارِ حملٌ على ما لم يثبت في الخبر.
وأما (وفي موسى) فعطفٌ على فيها من (وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم).
الثاني: قولُ بعضهم في (فلا جُناحَ عليهِ أن يطوّف بهما): إن الوقف على فلا جناح وإن ما بعده إغراء ليفيد صريحاً مطلوبية التطوف بالصفا والمروة، ويردّه أن إغراء الغائب ضعيف كقول بعضهم وقد بلغه أن إنساناً يهدِّدهُ عليهِ رجُلاً ليسني أي ليلزم رجلاً غيري، والذي فسرَتْ به عائشةُ رضي الله عنها خلافُ ذلك، وقصتها مع عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم في ذلك مسطورة في صحيح البخاري. ثم الإيجاب لا يتوقفُ على كون عليه إغراء، بل كلمة على تقتضي ذلك مطلقاً.
وأما قولُ بعضهم في (قُلْ تعالوا أتلُ ما حرمَ ربُّكمْ عليكمْ أن لا تُشركوا به شيئاً): إن الوقف قبل عليكم وإن عليكم إغراء فحسنٌ، وبه يتخلص من إشكال ظاهر في الآية مُحوج للتأويل.
الثالث: قولُ بعضهم في (إنما يريدُ اللهُ ليذهبَ عنْكم الرِّجسَ أهلَ البيت): إن أهل منصوبٌ على الاختصاص، وهذا ضعيف لوقوعه بعد ضمير الخطاب مثل بكَ اللهُ نرجو الفضلَ وإنما الأكثر أن يقع بعد ضمير التكلم كالحديث نحنُ معاشرَ الأنبياءِ لا نورَثُ والصواب أنه مُنادى.
الرابع: قول الزمخشري في (فلا تجعلوا للهِ أنداداً): إنه يجوز كونُ تجعلوا منصوباً في جواب الترجي أعني (لعلّكم تتقون) على حدِّ النصب في قراءة حفص (فأطلعَ) وهذا لا يجيزه بصري، ويتأولون قراءة حفص: إما على أنه جواب للأمر وهو (ابن لي صَرْحاً) أو على العطف على الأسباب، على حد قوله:
ولبسُ عباءةٍ وتقَرَّ عيني
أو على معنى ما يقع موقع أبلغ، وهو أن أبلُغ، على حد قوله:
ولا سابقٍ شيئاً ......
ثم إن ثبت قول الفراء إن جواب الترجي منصوب كجواب التمني فهو قليل، فكيف تخرج عليه القراءة المجمع عليها؟ وهذا كتخريجه قوله تعالى (قلْ لا يعلمُ منْ في السّمواتِ والأرضِ الغيبَ إلا الله) على أن الاستثناء منقطع، وأنه جاء على البدل الواقع في اللغة التميمية، وقد مضى البحث فيها.
ونظيرُ هذا على العكس قولُ الكرماني في (ومنْ يرغبُ عن ملّةِ إبراهيمَ إلا منْ سَفِهَ نفسهُ) إن منْ نصب على الاستثناء ونفسه توكيد، فحمل قراءة السبعة على النصب في مثل ما قام أحدٌ إلا زيداً كما حمل الزمخشري قراءتهم على البدل في مثل ما فيه أحدٌ إلا حمارٌ وإنما تأتي قراءة الجماعة على أفصح الوجهين، ألا ترى الى إجماعهم على الرفع في (ولم يكنْ لهم شُهداءُ إلا أنفسُهُمْ) وأن أكثرهم قرأ به في (ما فعلوهُ إلا قليلٌ منهُم) وأنه لم يقرأ أحد بالبدل في (وما لأحدٍ عندهُ من نعمةٍ تجزى إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأعْلى) لأنه منقطع؟ وقد قيل: إن بعضهم قرأ به في (ما لهُمْ بهِ منْ علمٍ إلا اتِّباع الظّن) وإجماع الجماعة على خلافه.
ونظير حمل الكرماني النفس على التوكيد في موضع لم يحسن فيه ذلك قولُ بعضهم في قوله تعالى (والمطلّقاتُ يتربصنَ بأنفُسهنّ): إن الباء زائدة، وأنفسهن توكيد للنون، وإنما لغة الأكثرين في توكيد الضمير المرفوع المتصل بالنفس أو العين أن يكون بعد التوكيد بالمنفصل نحو قُمتم أنتم أنفسُكم.
الخامس: قول بعضهم في (لتسْتووا على ظهورِهِ): إن اللام للأمر، والفعل مجزوم، والصواب أنها لام العلة والفعل منصوب، لضعف أمر المخاطب باللام كقوله:
لتقُم أنتَ يا بنَ خيرِ قُريشٍ ... فلْتُقَضّي حوائجَ المُسْلِمينا


السادس: قول التبريزي في قراءة يحيى بن يعمر (تماماً على الذي أحسنُ) بالرفع: إن أصله أحسَنوا، فحذفت الواو اجتزاء عنها بالضمة، كما قال:
إذا ما شاءُ ضرّوا منْ أرادوا ... ولا يألوهم أحدٌ ضرارا
واجتماع حذف الواو وإطلاق الذي على الجماعة كقوله:
وإنّ الذي حانت بفلجٍ دماؤهمْ
ليس بالسهل، والأولى قولُ الجماعة: إنه بتقدير مبتدأ، أي هو أحسن، وقد جاءت منه مواضع، حتى إن أهل الكوفة يقيسونه، والاتفاق على أنه قياس مع أيٍّ كقوله:
فسلِّمْ على أيُّهُم أفْضلُ
وأما قول بعضهم في قراءة ابن محيصن (لمنْ أرادَ أن يُتمَّ الرَّضاعة): إن الأصل أن يتموا بالجمع فحسنٌ، لأن الجمع على معنى مَنْ، مثل (ومنهم مَن يستَمِعون) ولكن أظهر منه قول الجماعة: إنه قد جاء على إهمال أن الناصبة حملاً على أختها ما المصدرية.
السابع: قولُ بعضهم في قوله تعالى (وإنْ تصبروا وتتّقوا لا يضُرّكمْ كيدُهمْ شيئاً) فيمن قرأ بتشديد الراء وضمها: إنه على حد قوله:
إنك إنْ يُصرعْ أخوكَ تُصرعُ
فخرج القراءة المتواترة على شيء لا يجوز إلا في الشعر، والصواب أنه مجزوم، وأن الضمة إتباع كالضمة في قولك لم يشُدُّ ولم يرُدّ وقوله تعالى (عليكم أنفسَكم لا يضُرُّكم منْ ضلّ إذا اهتديتمْ) إذا قدر لا يضركم جواباً لاسم الفعل، فإن قدر استئنافاً فالضمة إعراب، بل قد امتنع الزمخشري من تخريج التنزيل على رفع الجواب مع مضيّ فعل الشرط فقال في قوله تعالى (وما عمِلت من سوء تودُّ) لا يجوز أن تكون ما شرطية لرفع تود، هذا مع تصريحه في المفصل بجواز الوجهين في نحو إن قام زيدٌ أقومُ ولكنه لما رأى الرفع مرجوحاً لم يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه، يوضح لك هذا أنه جوز ذلك في قراءة شاذة مع كون فعل الشرط مضارعاً، وذلك على تأويله بالماضي، فقال: قرئ (أيْنما تكونوا يُدرِككُم الموت) برفع يدرك، فقيل: هو على حذف الفاء، ويجوز أن يقال: إنه محمول على ما يقع موقعه، وهو أينما كنتم، كما حمل:
ولا ناعبٍ .........
على ما يقع موقع:
... ليسوا مصلحين ...
وهو ليسوا بمصلحين، وقد يرى كثير من الناس قول الزمخشري في هذه المواضع متناقضاً، والصوابُ ما بينت لك، قال: ويجوز أن يتصل بقوله (ولا تظلمون)، وقد مضى ذكره.
الثامن: قول ابن حبيب: إن (بسم الله) خبر، و(الحمدُ) مبتدأ، و(الله) حال، والصوابُ أن (الحمد لله) مبتدأ وخبر، و(بسم الله) على ما تقدم في إعرابها.
التاسع: قول بعضهم إن أصل بسم كسر السين أو ضمها على لغة من قال سِمٌ أو سُمٌ، ثم سكنت السين، لئلا يتوالى كسرات، أو لئلا يخرجوا من كسر الى ضم، والأولى قولُ الجماعة إن السكون أصل، وهي لغة الأكثرين، وهم الذين يبتدئون اسماً بهمز الوصل.
العاشر: قولُ بعضهم في (الرحيم) من البسملة: إنه وصَل بنية الوقف فالتقى ساكنان الميم ولام الحمد فكسرت الميم لالتقائهما. وممن جوز ذلك ابن عطية، ونظيرُ هذا قولُ جماعة منهم المبرد إن حركة راء أكبر من قول المؤذن الله أكبر، الله أكبر، فتحة، وإنه وصل بنية الوقف، ثم اختلفوا، فقيل: هي حركة الساكنين، وإنما لم يكسروا حفظاً لتفخيم اللام كما في (ألم الله) وقيل: هي حركة الهمزة نقلت، وكل هذا خروج عن الظاهر لغير داع، والصوابُ أن كسرة الميم إعرابية، وأن حركة الراء ضمة إعرابية، وليس لهمزة الوصل ثبوت في الدّرج فتنقل حركتها إلا في ندور.
الحادي عشر: قولُ الجماعة في قوله تعالى (تبيّنتِ الجنُّ أنْ لوْ كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا في العذابِ المُهين): إن فيه حذف مضافين، والمعنى علمت ضعفاء الجن أن لو كان رؤساؤهم، وهذا معنى حسن، إلا أن فيه دعوى حذف مضافين لم يظهر الدليلُ عليهما، والأولى أنّ تبين بمعنى وضح، وأن وصلتها بدلُ اشتمال من الجن، أي وضح للناس أن الجن لو كانوا إلخ.


الثاني عشر: قولُ بعضهم في (عيْناً فيها تسمّى): إن الوقف على تسمى هنا أي عيناً مسماة معروفة، وإن (سلسبيلاً) جملة أمرية أي: اسأل طريقاً موصلة إليها. ودون هذا في البعد قول آخر: إنه علم مركب كتأبّط شراً، والأظهر أنه اسم مفردٌ مبالغة في السلسال، كما أن السلسال مبالغة في السَّلِس، ثم يحتمل أنه نكرة، ويحتمل أنه علم منقول وصُرِف لأنه اسم لماء، وتقدمُ ذكر العين لا يوجب تأنيثه كما تقول هذهِ واسطٌ بالصّرف، ويبعد أن يقال: صرف للتناسب ك(قواريرا) لاتفاقهم على صرفه.
الثالث عشر: قول مكي وغيره في قوله تعالى (ولا تمدّن عينيك الى ما متّعنا بهِ أزواجاً منهُم زهرَة الحياة الدُنيا): إن زهرة حال من الهاء في به أو من ما، وإن التنوين حذف للساكنين مثل قوله:
ولا ذاكر اللهَ إلا قليلا
وإن جر الحياة على أنه بدل من ما، والصواب أن زهرة مفعول بتقدير جعلنا لهم أو أتيناهم، ودليلُ ذلك ذكر التمتيع، أو بتقدير أذم، لأن المقام يقتضيه، أو بتقدير أعني بياناً لما أو للضمير، أو بدل من أزواج، إما بتقدير ذوي زهرة، أو على أنهم جُعلوا نفس الزهرة مجازاً للمبالغة، وقال الفراء هو تمييز لما أو للهاء، وهذا على مذهب الكوفيين في تعريف التمييز، وقيل: بدل من ما، ورُدَّ بأن لنفْتنهم من صلة متْعنا فيلزم الفصل بين أبعاض الصّلة بأجنبي، وبأن الموصول لا يتبع قبل كماله صلته، وبأنه لا يقال مررت بزيد أخاك على البدل، لأن العامل في المبدل منه لا يتوجه إليه بنفسه، وقيل: من الهاء، وفيه ما ذكر، وزيادةُ الإبدالِ من العائد، وبعضهم يمنعه بناء على أن المبدل منه في نيّة الطّرح فيبقى الموصول بلا عائد في التقدير، وقد مرّ أن الزمخشري منعَ في (انِ اعبُدوا اللهَ) أن يكون بدلاً من الهاء في (أمرْتَني به) ورددناه عليه، ولو لزم إعطاء منوي الطّرح حكمَ المطروح لزم إعطاء منوي التأخير حكم المؤخر، فكان يمتنع ضرَبَ زَيداً غُلامُه ويرد ذلك قوله تعالى: (وإذ ابْتلى إبراهيمَ ربُّهُ) والإجماع على جوازه.
تنبيه
وقد يكون الموضع لا يتخرج إلا على وجه مرجوح، فلا حرج على مخرّجه، كقراءة ابن عامر وعاصم (وكذلكَ نُجّي المؤمنينَ) فقيل: الفعل ماض مبني للمفعول، وفيه ضعف من جهات: إسكان آخر الماضي، وإنابة ضمير المصدر مع أنه مفهوم من الفعل، وإنابة غير المفعول به مع وجوده، وقيل: مضارع أصله ننجِي بسكون ثانيه، وفيه ضعف، لأن النون عند الجيم تخفى ولا تدغم، وقد زعم قوم أنها أدغمت فيها قليلاً وأن منه أترجّ وإجّاصة وإجّانة، وقيل: مضارع وأصله ننجّي بفتح ثانيه وتشديد ثالثه ثم حذفت النون الثانية، ويضعفه أنه لا يجوز في مضارع نبّأتُ ونقّبت ونزّلت ونحوهن إذا ابتدأت بالنون أن تحذف النون الثانية إلا في ندور كقراءة بعضهم (ونُزِّلُ الملائكةَ تَنزيلا).
الجهة الخامسة: أن يترك بعضَ ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة. ولنورد مسائل من ذلك ليتمرن بها الطالب مرتبة على الأبواب ليسهل كَشفُها:
باب المبتدأ
مسألة: يجوز في الضمير المنفصل من نحو (إنكَ أنتَ السميعُ العَليمُ) ثلاثةُ أوجُهٍ: الفصلُ وهو أرجحها، والابتداء وهو أضعفها، ويختص بلغة تميم، والتوكيد.
مسألة
يجوز في الاسم المفتتح به من نحو قوله هذا أكرَمتُه الابتداءُ والمفعولية. ومثله كمْ رجلٍ لقيته ومنْ أكرمته؟ لكن في هاتين يقدر الفعل مؤخراً، ومثلهما رُبّ رجُل صالحٍ لَقيته.
مسألة
يجوز في المرفوع من نحو (أفي اللهِ شكٌّ) وما في الدار زيْد الابتدائية والفاعلية، وهي أرجح لأن الأصل عدم التقديم والتأخير، ومثله كلمتا (غرف) في سورة الزمر، لأن الظرف الأول معتمد على المخبر عنه، والثاني على الموصوف، إذ الغرف الأولى موصوفة بما بعدها، وكذا نار في قول الخنساء:
كأنّه علم في رأسهِ نارُ


ومثله الاسم التالي للوصف في نحو زيدٌ قائمٌ أبوه وأقائم زيْد لما ذكرنا ولأن الأب إذا قدر فاعلاً كان خبر زيد مفرداً، وهو الأصل في الخبر، ومثله (ظُلماتٌ) من قوله تعالى (أو كصيِّبٍ منَ السماءِ فيه ظُلماتٌ) لأن الأصل في الصفة الإفراد، فإن قلت أقائم أنت فكذلك عند البصريين، وأوجب الكوفيون في ذلك الابتدائية، ووافقهم ابن الحاجب، ووهم إذ نقل في أماليه الإجماع على ذلك، وحجتهم أن المضمر المرتفع بالفعل لا يجاوره منفصلاً عنه، لا يقال قام أنا والجواب أنه إنما انفصل مع الوصف لئلا يجهل معناه، لأنه يكون معه مستتراً، بخلافه مع الفعل فإنه يكون بارزاً كقمتُ أو قمتَ، ولأن طلب الوصف لمعموله دون طلب الفعل، فلذلك احتمل معه الفصلَ، ولأن المرفوع بالوصف سدّ في اللفظ مسدّ واجب الفصل وهو الخبر، بخلاف فاعل الفعل، ومما يقطع به على بُطلان مذهبهم قوله تعالى (أراغبٌ أنتَ عنْ آلهتي) وقولُ الشاعر:
خليليّ ما وافٍ بعهديَ أنتُما
فإن القول بأن الضمير مبتدأ كما زعم الزمخشري في الآية مؤدّ الى فصل العامل من معموله بالأجنبي، والقولُ بذلك في البيت مؤدّ الى الإخبار عن الاثنين بالواحد، ويجوز في نحو ما في الدار زيدٌ وجه ثالث عند ابن عصفور، ونقله عن أكثر البصريين، وهو أن يكون المرفوع اسماً لما الحجازية، والظرف في موضع نصب على الخبرية، والمشهورُ وجوبُ بطلانِ العمل عند تقدم الخبر ولو ظرفاً.
مسألة
يجوز في نحو أخوه من قولك زيدٌ ضُربَ في الدار أخوهُ أن يكون فاعلاً بالظرف، لاعتماده على ذي الحال وهو ضمير زيد المقدر في ضُربَ، وأن يكون نائباً عن فاعل ضُربَ على تقديره خالياً من الضمير، وأن يكون مبتدأ خبره الظرف والجملة حال، والفراء والزمخشري يَريانِ هذا الوجه شاذاً رديئاً، لخلو الجملة الاسمية الحالية من الواو، ويوجبان الفاعلية في نحو جاء زيدٌ عليه جبة وليس كما زعما، والأوجهُ الثلاثة في قوله تعالى (وكأيِّن منْ نبيٍ قُتلَ معهُ ربِّيُّون كثير) قيل: وإذا قرئ بتشديد قتل لزم ارتفاع ربيون بالفعل، يعني لأن التكثير لا ينصرف الى الواحد، وليس بشيء، لأن النبي هنا متعددٌ لا واحد بدليل كأين، وإنما أفرد الضمير بحسب لفظها.
مسألة
زيدٌ نعم الرجُل يتعين في زيد الابتداء، ونعم الرجل زيد قيل: كذلك، وعليهما فالرابط العموم، أو إعادة المبتدأ بمعناه، على الخلاف في الألف واللام للجنس هي أم للعهد، وقيل: يجوز أيضاً أن يكون خبراً لمحذوفٍ وجوباً، أي الممدوحُ زيدٌ، وقال ابن عصفور: يجوز فيه وجه ثالث وهو أن يكون مبتدأ حذف خبره وجوباً، أي زيد الممدوح، ورُدّ بأنه لم يسدّ شيء مسدّه.
مسألة
حبذا زيد يحتمل زيد - على القول بأنّ حبَّ فعل وذا فاعل - أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بحبذا، والرابط الإشارة، وأن يكون خبراً لمحذوف، ويجوز على قول ابن عصفور السابق أن يكون مبتدأ حذف خبره، ولم يقل به هنا، لأنه يرى أن حبذا اسم، وقيل: بدل من ذا، ويرده أنه لا يحل محل الأول، وأنه لا يجوز الاستغناء عنه، وقيل: عطف بيان، ويرده قوله:
وحبذا نفحاتٌ من يمانيةٍ
ولا تبين المعرفة بالنكرة باتفاق، وإذا قيل حبذا اسم للمحبوب فهو مبتدأ وزيد خبر، أو بلعكس عندَ مَنْ يجيز في قولك زيدٌ الفاضلُ وجهين وإذا قيل بأن حبذا كله فعل فزيد فاعل، وهذا أضعف ما قيل، لجواز حذف المخصوص كفوله:
ألا حبّذا لولا الحياءُ وربما ... منحتُ الهوى ما ليسَ بالمتقاربِ
والفاعل لا يحذف.
مسألة
يجوز في نحو (فصبرٌ جميل) ابتدائية كل منهما وخبرية الآخر، أي شأني صبر جميل، أو صبر جميل أمثلُ من غيره.
باب كان وما جرى مجراها
مسألة: يجوز في كان من نحو (إنّ في ذلك لذكرى لمن كانَ لهُ قلب) ونحو زيد كان له مال نقصان كان، وتمامها، وزيادتها وهو أضعفها، قال ابن عصفور: بابُ زيادتها الشِّعر، والظرفُ متعلق بها على التمام، وباستقرار محذوف مرفوع على الزيادة، ومنصوب على النقصان، إلا أن قدرت الناقصة شأنية فالاستقرار مرفوع لأنه خبر المبتدأ.
مسألة
(فانظُرْ كيفَ كانَ عاقبةُ مَكرهمْ) يحتمل في كان الأوجه الثلاثة، إلا أن الناقصة لا تكون شأنية، لأجل الاستفهام، ولتقدم الخبر، وكيف: حال على التمام، وخبر لكان على النقصان، وللمبتدأ على الزيادة.


مسألة
(وما كانَ لبشرٍ أن يُكلِّمهُ اللهُ إلا وحياً منْ وراء حجابٍ أو يُرسلَ رسولاً) تحتمل كان الأوجه الثلاثة، فعلى الناقصة: الخبرُ إما لبشر، ووحياً استثناء مفرغ من الأحوال، فمعناه موحياً موحىً، أو من وراء حجاب، بتقدير: أو موصّلاً ذلك من وراء حجاب، وأو يرسل بتقدير أو إرسالاً، أي أو ذا إرسال، وإما وحياً والتفريغُ في الإخبار، أي ما كان تكليمهم إلا إيحاءً أو إيصالاً من وراء حجاب أو إرسالاً، وجُعل ذلك تكليماً على حذف مضاف، ولبشر على هذا تبيين، وعلى التمام والزيادة فالتفريغُ في الأحوال المقدرة في الضمير المستتر في لبشر.
مسألة
أينَ كان زيد قائماً يحتمل الأوجه الثلاثة، وعلى النقصان فالخبر إما قائماً وأين ظرف له، أو أين فيتعلق بمحذوف وقائماً حال، وعلى الزيادة والتمام فقائماً حال، وأين ظرف له، ويجوز كونه ظرفاً لكان إن قدرت تامة.
مسألة
يجوز في نحو زيد عسى أن يقوم نقصانُ عسى فاسمها مستتر، وتمامها فأنْ والفعل مرفوعُ المحل بها.
مسألة
يجوز الوجهان في عسى أن يقوم زيد فعلى النقصان زيد اسمها وفي يقوم ضميره، وعلى التمام لا إضمار، وكل شيء في محله، ويتعين التمام في نحو عسى أن يقوم زيد في الدار و(عسى أنْ يبعثكَ ربُّكَ مقاماً محموداً) لئلا يلزم فصل صلة أنْ من معمولها بالأجنبي وهو اسم عسى.
مسألة
(وما ربُّكَ بغافلٍ) تحتمل ما الحجازية والتميمية، وأوجب الفارسيُّ والزمخشري الحجازية ظناً أن المقتضي لزيادة الباء نصب الخبر، وإنما المقتضي نفيه، لامتناع الباء في كان زيد قائماً وجوازها في:
......... لم أكنْ ... بأعجلهمْ .........
وفي ما إن زيد بقائم.
مسألة
لا رجل ولا امرأة في الدار، إن رفعت الاسمين فهما مبتدآن على الأرجح، أو اسمان للا الحجازية، فإن قلت لا زيدٌ ولا عمروٌ في الدار تعين الأول، لأن لا إنما تعمل في النكرات، فإن قلت لا رجلُ في الدار تعين الثاني، لأن لا إذا لم تتكرر يجب أن تعمل، ونحو (فلا رفثَ ولا فُسوقَ ولا جدالَ في الحج) إن فتحتَ الثلاثة فالظرف خبر للجميع عند سيبويه، ولواحد عند غيره، ويقدر للآخرين ظرفان، لأن لا المركبة عند غيره عاملة في الخبر، ولا يتوارد عاملان على معمول واحد، فكيف عوامل؟ وإن رفعتَ الأولين فإن قدرت لا معهما حجازية تعين عند الجميع إضمار خبرين إن قدرت لا الثانية كالأولى وخبراً واحداً إن قدرتها مؤكدة لها وقدرت الرفع بالعطف، وإنما وجب التقدير في الوجهين لاختلاف خبري الحجازية والتبرئة بالنصب والرفع، فلا يكون خبر واحد لهما، وإن قدرت الرفع بالابتداء فيهما - على أنهما مهملتان - قدرت عند غير سيبويه خبراً واحداً للأولين أو للثالث كما تقدر في زيد وعمرو قائم خبراً للأول أو للثاني، ولم يحتج لذلك عند سيبويه.
باب المنصوبات المتشابهة
ما يحتمل المصدرية والمفعولية من ذلك - نحو (ولا تُظلمونَ فتيلاً)، (ولا يُظلمونَ فقيراً) أي ظلماً مّا أو خيراً مّا، أي لا يُنقصونه مثل (ولم تظلمْ منهُ شيئاً) ومن ذلك (ثمّ لم ينقصوكم شيئاً) أي نقصاً أو خيراً، وأما (ولا تضرّوهُ شيئاً) فمصدر، لاستيفاء ضرَّ مفعوله، وأما (فمنْ عُفي له منْ أخيه شيء) فشيء قبل ارتفاعه مصدر أيضاً، لا مفعول به، لأن عفا لا يتعدّى.
ما يحتمل المصدرية والظرفية والحالية - من ذلك سرتُ طويلاً أي سيراً طويلاً، أو زمناً طويلاً، أو سرتهُ طويلاً، ومنه (وأزلفتِ الجنةُ للمتّقين غيرَ بعيد) أي إزلافاً غير بعيد أو زمناً غير بعيد، أو أزلفته الجنة - أي الإزلاف - في حالة كونه غير بعيد، إلا أن هذه الحال مؤكدة، وقد يجعل حالاً من الجنة فالأصل غير بعيدة، وهي أيضاً حال مؤكدة، ويكون التذكير على هذا مثله في (لعلّ الساعةَ قريبٌ).
ما يحتمل المصدرية والحالية - جاء زيد ركضاً أي يركضُ ركضاً، أو عامله جاء على حد قعدت جلوساً أو التقدير جاء راكضاً، وهو قول سيبويه، ويؤيده قوله تعالى (ائتيا طوعاً أو كرهاً، قالتا: أتينا طائعين) فجاءت الحال في موضع المصدر السابق ذكره.


ما يحتمل المصدرية والحالية والمفعول لأجله - من ذلك (يُريكُم البرقَ خوفاً وطمعاً) أي فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، وابن مالك يمنع حذف عامل المصدر المؤكد إلا فيما استثنى، أو خائفينِ وطامعين، أو لأجل الخوف والطمع، فإن قلنا لا يشترط اتحاد فاعلي الفعل والمصدر المعلِّل وهو اختيار ابن خروف، فواضح، وإن قيل باشتراطه فوجهه أنّ يريكم بمعنى يجعلكم ترون، والتعليل باعتبار الرؤية لا الإراءة، أو الأصل إخافة وإطماعاً، وحذف الزوائد.
وتقول جاء زيد رغبةً أي يرغبُ رغبة، أو مجيء رغبة، أو راغباً، أو للرغبة، وابن مالك يمنع الأول، لما مر، وابن الحاجب يمنع الثاني، لأنه يؤدي الى إخراج الأبواب عن حقائقها، إذ يصح في ضربتُه يومَ الجمعة أنْ يقدر ضربَ يوم الجمعة، قلت: وهو حذف بلا دليل، إذ لم تدع إليه ضورة، وقال المتنبي:
أبلى الهوى أسفاً يومَ النّوى بدني
والتقدير آسَفُ أسفاً، ثم اعترض بذلك بين الفاعل والمفعول به، أو إبلاء أسفٍ، أو لأجل الأسف، فمن لم يشترط اتحاد الفاعل فلا إشكال، وأما من اشترطه فهو على إسقاط لام العلة توسعاً، كما في قوله تعالى: (يبغونها عوجاً) أو الاتحاد موجود تقديراً، إما على أن الفعل المعللَ مطاوع أبلى محذوفاً، أي فبليتُ أسفاً، ولا تقدر فبليَ بدني، لأن الاختلاف حاصل، إذ الأسفُ فعلُ النفس لا البدن، أو لأن الهوى لما حصل بتسببه كان كأنه قال: أبليت بالهوى بدني.
ما يحتمل المفعول به والمفعول معه - نحو أكرمتَكَ وزيداً يجوز كونه عطفاً على المفعول به وكونه مفعولاً معه، ونحو أكرمتكَ وهذا يحتملهما وكونه معطوفاً على الفاعل، لحصول الفصل بالمفعول، وقد أجيز في حسبُكَ وزيداً درهمٌ كونُ زيد مفعولاً معه، وكونه مفعولاً به بإضمار يُحسِب، وهو الصحيح، لأنه لا يعمل في المفعول معه إلا ما كان من جنس ما يعمل في المفعول به؛ ويجوز جره، فقيل: بالعطف، وقيل: بإضمار حسب أخرى وهو الصواب، ورفعُهُ بتقدير حسب فحذفت وخلفها المضاف إليه ورَووْا بالأوجه الثلاثة قوله:
إذا كانتِ الهيجاءُ وانشقّتِ العصا ... فحسبُكَ والضحّاكُ سيفٌ مهنّدُ
باب الاستثناء
يجوز في نحو ما ضربتُ أحداً إلا زيْداً كونُ زيد بدلاً من المستثنى منه، وهو أرجحُها، وكونه منصوباً على الاستثناء، وكونُ إلا وما بعدها نعتاً، وهو أضعفها، ومثله ليس زيدٌ شيئاً إلا شيئاً لا يُعبأ به فإن جئت بما مكان ليس بطل كونُه بدلاً، لأنها لا تعمل في الموجب.
مسألة
يجوز في نحو قام القومُ حاشاكَ، وحاشاه، كون الضمير منصوباً. وكونه مجروراً، فإن قلت حاشاي تعين الجر، أو حاشاني تعين النصب، وكذا القول في خَلا وعَدا.
مسألة
يجوز في نحو ما أحدٌ يقولُ ذلك إلا زيد كون زيد بدلاً من أحد وهو المختار وكونه بدلاً من ضميره، وأن ينصب على الاستثناء، فارتفاعُه من وجهين، وانتصابه من وجه، فإن قلت ما رأيت أحداً يقولُ ذلك إلا زيد فبالعكس، ومن مجيئه مرفوعاً قوله:
في ليلة لا نرى بها أحداً ... يحكي علينا إلا كواكبها
وعلى هنا بمعنى عنْ، أو ضمّن يحكي معنى يَنمُّ أو يشنع.
ما يحتمل الحالية والتمييز - من ذلك كرُمَ زيدٌ ضيْفاً إن قدرت أن الضيف غيرُ زيدٍ فهو تمييز محول عن الفاعل، يمتنع أن تدخل عليهِ منْ، وإن قُدِّر نفسَه احتمل الحال والتمييز، وعند قصد التمييز فالأحسن إدخالُ منْ، ومن ذلك هذا خاتمٌ حَديداً والأرجح التمييز للسلامة به من جمود الحال، ولزومها، أي عدم انتقالها، ووقوعها من نكرةٍ، وخيرٌ منهما الخفضُ بالإضافة.
من الحال ما يحتمل كونه من الفاعل وكونه من المفعول - نحو ضربْتُ زيْداً ضاحِكاً ونحو (وقاتلوا المُشركينَ كافّة) وتجويز الزمخشري الوجهين في (ادخلوا في السِّلمِ كافّةً) وهمٌ، لأن كافة مختص بمن يعقل، ووهمُهُ في قوله تعالى (وما أرسلْناكَ إلا كافّةً للناس) إذ قدّر كافة نعتاً للمصدر محذوف - أي إرساله كافة - أشد، لأنه أضاف الى استعماله فيما لا يعقل إراجه عما التزم فيه من الحالية، ووهمُه في خطبة المفصَّل إذ قال محيطٌ بكافةِ الأبواب أشدُّ وأشدّ، لإخراجه إياه عن النصب البتة.


من الحال ما يحتمل باعتبار عامله وجهين - نحو (وهذا بعْلي شيخاً) يحتمل أن عامله معنى التنبيه أو معنى الإشارة، وعلى الأول فيجوز ها قائماً ذا زيد قال:
ها بيِّناً ذا صريحُ النُّصح فاصْغ لهُ
وعلى الثاني يمتنع، وأما التقديم عليهما معاً فيمتنع على كل تقدير.
من الحال ما يحتمل التعدد والتداخل - نحو جاء زيدٌ راكباً ضاحكاً فالتعدد على أن يكون عاملهما جاء، وصاحبهما زيد، والتداخل على أن الأولى من زيد وعاملها جاء، والثانية من ضمير الأول وهي العامل، وذلك واجب عند مَن منعَ تعدد الحال، وأما لقيتُه مُصْعِداً مُنْحدِراً فمن التعدد، لكن مع اختلاف الصاحب، ويستحيل التداخل، ويجب كون الأولى من المفعول والثانية من الفاعل تقليلاً للفصْلِ، ولا يحمل على العكس إلا بدليل كقوله:
خرجْتُ بها أمشي تجُرُّ وراءَنا
ومن الأول قولُه:
عهدْتُ سُعادَ ذاتَ هوَى مُعنًّى ... فزِدْتُ، وعادَ سُلْواناً هَواها
باب إعراب الفعل
مسألة ما تأتينا فتحدثنا، لك رفع تحدث على العطف فيكون شريكاً في النفي، أو الاستئناف فتكون مثبتاً، أي فأنت تحدثنا الآن بدلاً عن ذلك، ونصبه بإضمار أن، وله معنيان: نفي السبب فينتفي المسبب، ونفي الثاني فقط، فإن جئت بلَنْ مكانَ ما فللنصب وجهان: إضمار أنْ والعطف، وللرفع وجه وهو القطع، وإن جئت بلم فللنصب وجه وهو إضمار أنْ، وللرفع وجه وهو الاستئناف ولك الجزم بالعطف، فإن قلت ما أنت آتٍ فتحدثنا فلا جزم ولا رفع بالعطف، لعدم تقدم الفعل، وإنما هو على القطْع.
مسألة
هلْ تأتيني فأكرمك الرفع على وجهين، والنصب على الإضمار، وهل زيد أخوك فتكرمه لا يرفع على العطف، بل على الاستئناف، وهل لك التفات إليه فتكرمه الرفع على الاستئناف، والنصب إما على الجواب أو على العطف على التفات، وإضمارُ أنْ واجبٌ على الأول وجائز على الثاني، وكالمثال سواء (فلوْ أنّ لنا كرّةً فنكونَ) إن سُلِّم كون لو للتمني.
مسألة
ليتني أجدُ مالاً فأنفق منه الرفع على وجهين، والنصب على إضمار أنْ، وليت لي مالاً فأنفق منه يمتنع الرفع على العطف.
مسألة
ليقُمْ زيدٌ فنُكرِمهُ الرفعُ على القطع، والجزم بالعطف والنصب على الإضمار.
مسألة
نحو (أفَلمْ يسيروا في الأرضِ فينظروا) يحتمل الجزم بالعطف، والنصب على الإضمار، مثل (أفلم يسيروا في الأرضِ فتكونَ لهُمْ قُلوبٌ) ونحو (وإنْ تؤمنوا وتتّقوا يؤتكم أجورَكمْ) يحتمل تتقوا الجزم بالعطف، وهو الراجح، والنصب بإضمار أنْ على حد قوله:
ومَنْ يقتربْ منّا ويخْضعَ نُؤوِه
باب الموصول
مسألة - يجوز في نحو ماذا صنعْتَ، وماذا صنعته ما مضى شرحه، وقوله تعالى: (ماذا أجبتُمُ المُرسلينَ) ماذا: مفعول مطلق، لا مفعول به، لأن أجاب لا يتعدى الى الثاني بنفسه بل بالباء، وإسقاط الجار ليس بقياس، ولا يكون ماذا مبتدأ وخبراً، لأن التقدير حينئذ: ما الذي أجبتم به، ثم حذف العائد المجرور من غير شرط حذفه، والأكثرُ في نحو مَنْ ذا لقيتَ كونُ ذا للإشارة خبراً، ولقيت: جملة حالية، ويقلُّ كون ذا موصولة، ولقيت صلة، وبعضهم لا يجيزه، ومن الكثير (مَنْ ذا الذي يشفعُ عندهُ) إذ لا يدخل موصول على موصول إلا شاذاً كقراءة زيد بن علي (والذينَ مَنْ قبلكمْ) بفتح الميم واللام.
مسألة
(فاصدعْ بما تُؤمرُ) ما مصدرية، أي بالأمر، أو موصول اسمي أي بالذي تؤمره على حد قولهم:
أمرتُك الخير ......
وأما من قال أمرتك بكذا وهو الأكثرُ فيشكل، لأن شرط حذف العائد المجرور بالحرف أن يكون الموصول مخفوضاً بمثله معنى ومتعلقاً نحو (ويشربُ مما تشربون) أي منه، وقد يقال: إن اصدع بمعنى اؤمُر، وأما (فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا) في الأعراف فيحتمل أن يكون الأصل بما كذبوه فلا إشكال، أو بما كذبوا به، ويؤيده التصريح به في سورة يونس، وإنما جاز مع اختلاف المتعلق، لأن (ما كانوا ليؤمنوا) بمنزلة كذبوا في المعنى، وأما (ذلكَ الذي يبشِّرُ اللهُ عباده) فقيل: الذي مصدرية، أي ذلك تبشير الله، وقيل: الأصل يبشر به، ثم حذف الجار توسعاً فانتصب الضمير ثم حذف.
مسألة


يجوز في نحو (تماماً على الذي أحسن) كونُ الذي موصولاً اسمياً فيحتاج الى تقدير عائد، أي زيادة على العلم الذي أحسنه، وكونُه موصولاً حرفياً، فلا يحتاج لعائد، أي تماماً على إحسانه، وكونُه نكرة موصوفة فلا يحتاج الى صلة، ويكون أحسن حينئذ اسمَ تفضيلٍ، لا فعلاً ماضياً، وفتحته إعراب لا بناء، وهي علامة الجر، وهذان الوجهان كوفيان، وبعض البصريين يوافق على الثاني.
مسألة
نحو أعجبني ما صنعت يجوز فيه كونُ ما بمعنى الذي، وكونُها نكرة موصوفة، وعليهما فالعائد محذوف، وكونها مصدرية فلا عائد، ونحو (حتى تنْفقوا مما تحبّون) يحتمل الموصولة والموصوفة دون المصدرية، لأن المعاني لا ينفق منها، وكذا (ومما رزقناهمْ يُنفقون) فإن ذهبت الى تأويل ما تحبون وما رزقناهم بالحبّ والرزق وتأويل هذين بالمحبوب والمرزوق فقد تعسّفتَ عن غير مُحوج الى ذلك، وقال أبو حيان: لم يثبت مجيء ما نكرة موصوفة، ولا دليل في مررتُ بما مُعجبٍ لك لاحتمال الزيادة، ولو ثبت نحو سرّني ما مُعجب لك لثبت ذلك، انتهى. ولا أعلمهم زادوا ما بعد الباء إلا ومعناها السببية، نحو (فيما نقضِهمْ ميثاقَهمْ لعنّاهمْ)، (فبما رحمةٍ منَ اللهِ لنتَ لهمْ).
مسألة
إذا قلت: أعجبني مَنْ جاءكَ احتمل كون مَنْ موصولة أو موصوفة، وقد جُوِّزا في (ومنَ الناسِ منْ يقول) وضعّف أبو البقاء الموصولة، لأنها تتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى على الإبهام، وأجيب بأنها نزلت في عبد الله بن أبيٍّ وأصحابه.
باب التوابع
مسألة - نحو (آمنا بربِّ العالمينَ موسى وهرون) يحتمل بدل الكل من الكل، وعطف البيان، ومثله (نعبدُ إلهكَ وإلهَ آبائكَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحقَ)، (فانظُرْ كيفَ كان عاقبةُ مكرهمْ أنّا دمّرناهمْ) فيمن فتح الهمزة، ويحتمل هذا تقديرَ مبتدأ أيضاً، أي هي أنّا دمرناهم.
مسألة
نحو (سبِّحِ اسمَ ربِّكَ الأعلى) يجوز فيه كونُ الأعلى صفة للاسم أو صفة للرب، وأما نحو جاءني غُلامُ زيدٍ الظريف فالصفة للمضاف، ولا تكون للمضاف إليه إلا بدليل، لأن المضاف إليه إنما جيء به لغرض التخصيص ولم يؤت به لذاته وعكسه:
وكلُّ فتىً يتّقي فائز
فالصفة للمضاف إليه، لأن المضاف إنما جيء به لقصد التعميم، لا للحكم عليه، ولذلك ضعف قوله:
وكلُّ أخٍ مُفارقهُ أخوهُ ... لعمرُ أبيكَ إلا الفرقدانِ
مسألة
نحو (هُدىً للمُتقينَ الذين يؤمنون) ومررت بالرجل الذي فعلَ يجوز في الموصول أن يكون تابعاً أو بإضمار أعني أو أمدح أو هو، وعلى التبعية فهو نعت لا بدل إلا إذا تعذر، نحو (ويلٌ لكلِّ هُمزةٍ لمزة الذي جمعَ مالاً) لأن النكرة لا توصف بالمعرفة.
باب حروف الجرّ
مسألة - نحو زيدٌ كعمروٍ تحتمل الكافُ فيه عند المعربين الحرفيةَ فتتعلق باستقرار، وقيل: لا تتعلق.
والاسميةَ فتكون مرفوعة المحل وما بعدها جر بالإضافة ولا تقدير بالاتفاق.
ونحو جاء الذي كزيد تتعين الحرفية، لأن الوصلَ بالمتضايفين ممتنع.
مسألة
زيدٌ على السطحِ يحتمل على الوجهين، وعليهما فهي متعلقة باستقرار محذوف.
مسألة
قيل في نحو (والضُحى والليلِ): إن الواو تحتمل العاطفة والقسمية، والصوابُ الأول، وإلا لاحتاج كل الى الجواب، ومما يوضحه الفاء في أوائل سورتي المرسلات والنازعات.
باب في مسائل مفردة
مسألة - نحو (يسبَّحُ لهُ فيها بالغدوِّ والآصالِ) فيمن فتح الباء يحتمل كونُ النائب عن الفاعل الظرف الأول - وهو الأولى - أو الثاني أو الثالث، ونحو (ثم نُفخَ فيهِ أخرى) النائب الظرف أو الوصف، وفي هذا ضعف، لضعف قولهم سيرَ عليهِ طويلٌ.
مسألة
تجلّى الشمسُ يحتمل كون تجلى ماضياً تُركت التاء من آخره لمجازية التأنيث، وكونه مضارعاً أصله تتجلّى ثم حذفت إحدى التاءين على حد قوله تعالى: (ناراً تلظّى) ولا يجوز في هذا كونه ماضياً، وإلا لقيل تلظّتْ، لأن التأنيث واجب مع المجازي إذا كان ضميراً متصلاً، وبما ذكرنا من الوجهين في المثال الأول تعلم فساد قول من استدل على جواز نحو قامَ هندٌ في الشعر بقوله:
تمنى ابنتايَ أنْ يعيشَ أبوهما
لجواز أن يكون أصله تتمنّى.


الجهة السادسة: ألا يراعي الشروط المختلفة بسبب الأبواب، فإن العرب يشترطون في بابٍ شيئاً ويشترطون في آخرَ نقيضَ ذلك الشيء على ما اقتضته حكمة لغتهم وصحيح أقيستهم، فإذا لم يتأمل المعربُ اختلطت عليه الأبوابُ والشرائطُ.
فلنورد أنواعاً من ذلك مشيرين الى بعض ما وقع فيه الوهم للمعربين: النوع الأول: اشتراطهم الجمودَ لعطف البيان، والاشتقاق للنعت.
ومن الوهم في الأول قولُ الزمخشري في (ملكِ الناسِ، إلهِ الناسِ) إنهما عطفا بيان، والصواب أنهما نعتان، وقد يجاب بأنهما أجريا مجرى الجوامد، إذ يستعملان غير جاريين على موصوفٍ وتجري عليهما الصفاتُ، نحو قولنا إلهٌ واحدٌ وملكٌ عظيم.
ومن الخطأ في الثاني قول كثير من النحويين في نحو مررتُ بهذا الرجُلِ إن الرجل نعت، قال ابن مالك: أكثر المتأخرين يقلّد بعضهم بعضاً في ذلك، والحامل لهم عليه توهمُهم أن عطف البيان لا يكون إلا أخصَّ من متبوعه، وليس كذلك، فإنه في الجوامد بمنزلة النعت في المشتق، ولا يمتنع كونُ المنعوت أخص من النعت، وقد هُديَ ابن السِّيد الى الحق في المسألة فجعل ذلك عطفاً لا نعتاً، وكذا ابن جني. قلت: وكذا الزجاج والسهيلي، قال السهيلي: وأما تسمية سيبويه له نعتاً فتسامح، كما سمى التوكيد وعطف البيان صفة وزعم ابن عصفور أن النحويين أجازوا في ذلك الصفة والبيان، ثم استشكله بأن البيان أعرف من المبين وهو جامد، والنعت دون المنعوت أو مساوٍ له وهو مشتق أو في تأويله، فكيف يجتمع في الشيء أن يكون بياناً ونعتاً؟ وأجاب بأنه إذا قدر نعتاً فاللام فيه للعهد والاسم مؤول بقولك: الحاضر أو المشار إليه، وإذا قدر بياناً فاللام لتعريف الحضور، فيساوي الإشارة بذلك ويزيد عليها بإفادته الجنس المعين فكان أخص، قال: وهذا معنى قول سيبويه، وفيما قاله نظر، لأن الذي يؤوله النحويون بالحاضر والمشار إليه إنما هو اسم الإشارة نفسه إذا وقع نعتاً كمررتُ بزيدٍ هذا فأما نعت اسم الإشارة فليس ذلك معناه، وإنما هو معنى ما قبله، فكيف يجعل معنى ما قبله تفسيراً له؟ وقال الزمخشري في (ذلِكُم اللهُ ربُّكمْ): يجوز كونُ اسم الله تعالى صفة للإشارة أو بياناً، وربكم الخبر، فجوز في الشيء الواحد البيان والصفة، وجوز كون العَلم نعتاً، وإنما العلم يُنعت ولا ينعت به، وجوز نعت الإشارة بما ليس معرفاً بلام الجنس، وذلك مما أجمعوا على بطلانه.
النوع الثاني: اشتراطهم التعريفَ لعطف البيان ولنعت المعرفة، والتنكيرَ للحال والتمييز، وأفعلَ منْ، ونعتِ النكرة.
ومن الوهم في الأول قولُ جماعة في صديد من (ماءٍ صديدٍ) وفي طعام مساكين من (كفّارةٌ طعامُ مَساكين) فيمن نوّن كفارة: إنهما عطْفا بيانٍ، وهذا إنما هو معترض على قول البصريين ومنْ وافقهم، فيجب عندهم في ذلك أن يكون بدلاً وأما الكوفيون فيروْنَ أن عطف البيان في الجوامدِ كالنعت في المشتقّات، فيكون في المعارف والنكرات، وقولُ بعضهم في ناقع من قول النابغة:
منَ الرُّقشِ في أنيابِها السمُّ ناقعُ
إنه نعت للسم، والصواب أنه خبر للسم، والظرف متعلق به، أو خبر ثان.
وليس من ذلك قولُ الزمخشري في (شديد العقاب)، إنه يجوز كونه صفة لاسم الله تعالى في أوائل سورة المؤمن، وإن كان من باب الصفة المشبهة، وإضافتها لا تكون إلا في تقدير الانفصال، ألا ترى أن (شديد العقاب) معناه شديد عقابُه، ولهذا قالوا: كل شيء إضافته غيرُ محْضة فإنه يجوز أن تصير إضافته محضة، إلا الصفة المشبهة، لأنه جعَله على تقدير ال، وجعل سبب حذفها إرادة الازدواج، وأجاز وصفيَّتهُ أيضاً أبو البقاء، لكن على أن شديداً بمعنى مشدد كما أن الأذِينَ في معنى المؤذِّن، فأخرجه بالتأويل من باب الصفة المشبهة الى باب اسم الفاعل، والذي قدّمه الزمخشريّ أنه وجميع ما قبله أبدال، أما أنه بدل فلتنكيره، وكذا المضافان قبله وإن كانا من باب اسم الفاعل، لأن المراد بهما المستقبل وأما البواقي فللتناسب، وردّ على الزجاج في جعْله (شديد العقاب) بدلاً وما قبله صفات، وقال: في جعله بدلاً وحده من بين الصفات نُبوٌّ ظاهر.
ومن ذلك قولُ الجاحظِ في بيت الأعشى:
ولستَ بالأكثرِ منهُمْ حصىً


إنه يُبطل قولَ الحويين لا تجتمع ال ومِنْ في اسم التفضيل، فجعل كلاً من ال ومن معتدّاً به جارياً على ظاهره، والصوابُ أن تقدر ال زائدة، أو معرفة ومن متعلقة بأكثر منكرة محذوفاً مبدلاً من المذكور أو بالمذكور على أنها بمنزلتها في قولك أنتَ منهُمُ الفارسُ البطلُ أي أنت من بينهم، وقولُ بعضهم إنها متعلقة بليس قد يردُّ بأنها لا تدل على الحدثِ عند من قال في أخواتها إنها تدل عليه، ولأن فيه فصْلاً بين أفعل وتمييزه بالأجنبي، وقد يجاب بأن الظرف يتعلق بالوهم، وفي ليس رائحة قولك انتفى، وبأن فصْلَ التمييز قد جاء في الضرورة في قوله:
على أنّني بعْد ما قد مضى ... ثلاثونَ للهجرِ حوْلاً كميلا
وأفعل أقوى في العمل من ثلاثون.
ومن الوهم في الثاني قولُ مكي في قراءة ابن أبي عبْلة (فإنّه آثمٌ قلبه) بالنصب: إن قلبه تمييز، والصوابُ أنه مشبه بالمفعول به كحسن وجهَه، أو بدل من اسم إنّ وقولُ الخليل والأخفش والمازني في إياي، وإياك، وإياه: إن إيا ضميرٌ أُضيفَ الى ضمير، فحكموا للضمير بالحكم الذي لا يكون إلا للنكرات وهو الإضافة. وقول بعضهم في (لا إلهَ إلا الله) إن اسم الله سبحانه وتعالى خبر لا التبرئة، ويردُّه أنها لا تعمل إلا في نكرة منفية واسم الله تعالى معرفة موجبة، نعم يصح أن يقال: إنه خبر للا مع اسمها فإنهما في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه، وزعم أن المركبة لا تعمل في الخبر، لضعفها بالتركيب عن أن تعمل فيما تباعد منها وهو الخبر، كذال قال ابن مالك. والذي عندي أن سيبويه يرى أن المركبة لا تعمل في الاسم أيضاً، لأن جزء الشيء لا يعمل فيه، وأما لا رجُلَ ظريفاً بالنصب فإنه عند سيبويه مثل يا زيدُ الفاضِلُ بالرفع، وكذا البحث في (لا إلهَ إلا هوَ) للتعريف والإيجاب أيضاً، وفي لا إلهَ إلا إلهٌ واحد للإيجاب، وإذا قيل لا مستحقاً للعبادة إلا إلهٌ واحد، أو إلا الله لم يتجه الاعتذار المتقدم، لأن لا في ذلك عاملة في الاسم والخبر لعدم الترْكيب، وزعم الأكثرون أن المرتفع بعد إلا في ذلك كله بدل من محل اسم لا، كما في قولك ما جاءَني من أحدٍ إلا زيدٌ ويُشكل على ذلك أن البدل لا يصلح هنا لحلوله محل الأولى، وقد يجاب بأنه بدلٌ من الاسم مع لا، فإنهما كالشيء الواحد، ويصح أن يخلفهما، ولكن يذكر الخبر حينئذ فيقال اللهُ موجود وقيل: هو بدل من ضمير الخبر المحذوف، ولم يتكلم الزمخشري في كشّافه على المسألة اكتفاء بتأليفٍ مفردٍ له فيها، وزعم فيه أن الأصل الله إلهُ المعرفة مبتدأ، والنكرةُ خبر، على القاعدة، ثم قُدِّم الخبر، ثم أدخل النفيُ على الخبر والإيجابُ على المبتدأ، وركبت لا مع الخبر، فيقال له: فما تقول في نحو لا طالِعاً جبَلاً إلا زيدٌ، لمَ انتصبَ خبر المبتدأ؟ فإن قال: إن لا عاملة عمل ليس، فذلك ممتنع لتقدم الخبر ولانتقاض النفي ولتعريف أحد الجزأين. فأما قوله يجب كون المعرفة المبتدأ فقد مرّ أن الإخبار عن النكرة المخصَّصة المقدمة بالمعرفة جائز نحو (إنّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للنّاسِ للذي ببكةَ).
ومن ذلك قولُ الفارسي في مررْتُ برجُلٍ ما شئتُ من رجلٍ: إن ما مصدرية، وإنها وصلتها صفة لرجل، وتبعه على ذلك صاحب الترشيح، قال: ومثلُه قولُه تعالى (في أيِّ صورةٍ ما شاءَ ركّبكَ) أي في أيِّ صورة مشيئته أي يشاؤها، وقول أبي البقاء في (تعالوا الى كلمةٍ سواءٍ بيْننا وبينكمْ ألا نعبُدَ إلا اللهَ): إنّ أنْ وصلتَها بدل من سواء، وبدل الصفة صفة، والحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة، فلا يقع صفة للنكرة وقول بعضهم في (ويلٌ لكلِّ هُمزةٍ لُمزة الذي جمعَ): إن الذي صفة.
والصواب أن ما في المثاب شرطية حذِف جوابها، أي فهو كذلك والصفة الجملتان معاً.
وأما الآية الأولى فقال أبو البقاء: ما شرطية أو زائدة، وعليهما فالجملة صفة لصورة والعائد محذوف، أي عليها، وفي متعلقة بركبك، انتهى كلامه.


وكان حقه إذْ علّق في بركبك وقال الجملة صفة أن يقطع بأن ما زائدة، إذ لا يتعلق الشرط الجازم بجوابه، ولا تكون جملة الشرط وحدها صفة، والصوابُ أن يقال: إنْ قدرت ما زائدة فالصفة جملة شاء وحدها. والتقدير شاءها، وفي متعلقة بركبك، أو باستقرار محذوف هو حال من مفعول، أو بعدَّلكَ، أي وضعك في صورة أي صورة. وإن قدت ما شرطية فالصفة مجموع الجملتين، والعائد محذوف أيضاً، وتقديره: عليها وتكون في حينئذ متعلقةً بعدّلكَ، أي عدّلكَ في صورة أي صورة، ثم استؤنف ما بعده.
والصوابُ في الآية الثانية أنها على تقدير مبتدأ، وفي الثالثة أن الذي بدل، أو صفة مقطوعة بتقدير هو أو أذم أو أعني، هذا هو الصواب، خلافاً لمن أجاز وصف النكرة بالمعرفة مطلقاً، ولمن أجازهُ بشرط وثفِ النكرة أولاً بنكرة وهو قول الأخفش زعم أن الأوْليانِ صفة لآخران في (فآخرانِ يقومانِ مقامهُما) الآية، لوصفهما بيقومان، وكذا قال بعضهم في قوله تعالى (إنّ اللهَ لا يُحبِّ كلَّ مُختالٍ فَخورٍ الذينَ يبْخلون).
ومن ذلك قولُ الزمخشري في (إنما أعظُكم بواحدةٍ أن تقوموا للهِ): إن أنْ تقوموا عطف بيان على واحدة، وفي (مقامَ إبراهيمَ): إنه عطفُ بيان على (آياتٌ بيّناتٌ) مع اتفاق النحويين على أن البيان والمبين لا يتخالفان تعريفاً وتنكيراً وقد يكون عبّر عن البدل بعطف البيان لتآخيهما، ويؤيده قوله في (أسْكِنوهُنّ من حيثُ سكَنْتُمْ منْ وُجْدِكم): إن من وجدِكم عطفُ بيان لقوله تعالى (من حيثُ سكنْتُمْ) وتفسير له، قال: ومنْ: تبعيضية حذف مبعضها، أي أسكنوهن مكاناً من مَساكنكم مما تطيقون، وإنما يريد البدل، لأن الخافض لا يُعاد إلا معه، وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمي التوكيد صفة وعطفَ البيان صفً كما مرّ.
النوع الثالث: اشتراطُهم في بعض ما التعريفُ شرطُه تعريفاً خاصاً، كمنع الصرف اشترطوا له تعريفَ العلمية أو شبهه كما في أجْمعَ، وكنعْتِ الإشارة وأيّ في النداء، اشترطوا لهما تعريفَ اللام الجنسية، وكذا تعريف فاعليْ نعم وبئس، لكنها تكون مباشرة له أو لما أضيف إليه، بخلاف ما تقدم فشرطُها المباشرة له.
ومن الوهم في ذلك قولُ الزمخشري في قراءة ابن أبي عبلة (إنّ ذلكَ لحقٌّ تخاصُمَ أهلِ النارِ) بنصب تخاصم: إنه صفة للإشارة، وقد مضى أن جماعة من المحققين اشترطوا في نعت الإشارة الاشتقاق كما اشترطوه في غيره من النعوت، ولا يكون التخاصمُ أيضاً عطفَ بيانٍ، لأن البيان يشبه الصفةَ، فكما لا توصف الإشارة إلا بما فيه ال كذلك ما يُعطفُ عليها، ولهذا منع أبو الفتح في (وهذا بعلي شيخٌ) في قراءة ابن مسعود برفع شيخ كونَ بعلي عطفَ بيانٍ، وأوجب كونه خبراً، وشيخ: إما خبر ثانٍ، أو خبر لمحذوف، أو بدل من بعلي، أو بعلي بدل وشيخ الخبر، ونظ... منع أبي الفتح ما ذكرنا منع ابن السِّيد في كتاب المسائل والأجوبة وابن مالك في التسهيل كونَ عطف البيان تابعاً للمضمر، لامتناع ذلك في النعت، ولكن أجاز سيبويه يا هذانِ زيدٌ وعمروٌ على عطف البيان، وتبعه الزيادي، فأجاز مررتُ بهذينِ الطويلِ والقصيرِ على البيان، وأجازه على البدل أيضاً، ولم يجزه على النعت، لأن نعت الإشارة لا يكون إلا طبقها في اللفظ، وممن نص على منع النعت في هذا سيبويه والمبردُ والزجاجُ، وهو مقتضى القياس. ومنعُ سيبويه فيها مخالفٌ لإجازته في النداء.
النوع الرابع: اشتراط الإبهام في بعض الألفاظ كظروف المكان، والاختصاص في بعضها كالمبتدآت وأصحاب الأحوال.
ومن الوهم في الأول قولُ الزمخشري في (فاستبقوا الصِّراط) وفي (سنُعيدُها سيرتها الأولى) وقول ابن الطراوة في قوله:
كما عسلَ الطريقَ الثعلبُ
وقول جماعة في دخلتُ الدار، أو المسجد، أو السوق، إن هذه المنصوبات ظروف، وإنما يكون ظرفاً مكانياً ما كان مُبهماً، ويعرف بكونِه صالحاً لكل بقعة كمكان وناحية وجهة وجانب وأمام وخلف.
والصوابُ أن هذه المواضعَ على إسقاط الجار توسعاً، والجار المقدر الى في (سنُعيدها سيرَتها الأولى) وفي في البيت، وفي أو الى في الباقي، ويحتمل أن استبقوا ضُمِّنَ معنى تبادروا، وقد أجيز الوجهان في (فاستبِقوا الخيرات) ويحتمل سيرتها أن يكون بدلاً من ضمير المفعول بدلَ اشتمالٍ، أي سنعيدها طريقتها.


ومن ذلك قول الزجاج في (واقعدُوا لهمْ كلَّ مرصدٍ) إن كلاً ظرف، وردّهُ أبو علي في الأغفال بما ذكرنا، وأجاب أبو حيان بأن اقْعُدوا ليس على حقيقته، بل معناه أرصدوهم كل مرصد، ويصح ارصدوهم كل مرصد، فكذا يصح قعدت كل مرصد، قال: ويجوز قعدت مجلس زيد، كما يجوز قعدت مجلس زيد، كما يجوز قعدته مقعده.
وهذا مخالف لكلامهم، إذ اشترطوا توافق مادتي الظرف وعامله، ولم يكتفوا بالتوافق المعنوي كما في المصدر. والفرقُ أن انتصاب هذا النوع على الظرفية على خلاف القياس لكونه مختصاً، فينبغي ألاّ يتجاوز به محل السماع، وأما نجو قعدتُ جُلوساً فلا دافع له من القياس وقيل: التقدير اقعدوا لهم على كل مرصد، فحذفت على، كما قال:
وأخفي الذي لوْلا الأُسى لقضاني
أي لقضى عليّ، وقياسُ الزجاج أن يقول في (لأقعُدنّ لهم صِراطك المستقيمَ) مثلَ قوله في (واقعدوا لهمْ كلَّ مرصدٍ) والصوابُ في الموضعين أنهما على تقدير على، كقولهم ضرِبَ زيدٌ الظّهرَ والبطن فيمن نصبهما، أو أن لأقعدن، واقعدوا ضمِّنا معنى لألزَمنَّ، والزموا.
ومن الوهم في الثاني قولُ الحوفي في (ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعض): إن (بعضُها فوقَ بعضٍ) جملة مخبر بها عن ظلمات، وظلمات غير مختص، فالصواب قولُ الجماعة إنه خبر لمحذوف، أي تلك ظلمات، نعم إن قدر أن المعنى ظلمات أيُّ ظلمات بمعنى ظلمات عظام أو متكاثفة وتركت الصفة لدلالة المقام عليها كم قال:
لهُ حاجبٌ في كلِّ أمرٍ يشينُهُ
صحّ، وقول الفارسي في (ورهبانيةً ابتدعوها): إنه من باب زيداً ضربته واعترضه ابن الشجري بأن المنصوب في هذا الباب شرطُه أن يكون مختصاً ليصح رفعه بالابتداء، والمشهورُ أنه عطف على ما قبله، وابتدعوها: صفة، ولا بد من تقدير مضاف، أي وحُبَّ رهبانية، وإنما لم يحمل أبو علي الآية على ذلك لاعتزاله، فقال: لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله عز وجل، وقد يُتخيّلُ ورودُ اعتراض ابن الشجري على أبي البقاء في تجويزه في (وأخرى تُحبّونها) كونه كزيداً ضربته، ويجاب بأن الأصل وصفة أخرى ويجوز كون تحبونها صفة، والخبر إما نصْرٌ، وإما محذوف، أي ولكم نعمة أخرى، ونصر: بدل، أو خبر لمحذوف، وقول ابن مالك بدر الدين في قول الحماسي:
فارِساً ما غادَروهُ مُلحَماً
إنه من باب الاشتغال كقول أبي علي في الآية، والظاهر أنه نصب على المدح لما قدمنا، وما في البيت زائدة، ولهذا أمكن أن يدّعي أنه من باب الاشتغال.
النوع الخامس: اشتراطُهم الإضمارَ في بعض المعمولات، والإظهارَ في بعض، فمن الأول مجرور لولا ومجرور وحدَ، ولا يختصّانِ بضمير خطاب ولا غيره، تقول: لوْلايَ ولوْلاكَ، ولوْلاهُ، ووحدي، ووحْدَكَ، ووحدَهُ، ومجرور لبَّيْ وسعْدَيْ وحنانيْ، ويشترط لهن ضميرُ الخطاب، وشذ نحوُ قوله:
... فيا لَبَّيَّ إذ هدرتْ لهُم
وقول آخر:
لقُلتُ لبّيهِ لمن يدعوني
كما شذت إضافتها الى الظاهر في قوله:
فلبّي، فلبّيْ يديْ مِسوَرِ
ومن ذلك مرفوع خبر كاد وأخواتها إلا عسى، فتقول: كاد زيدٌ يموت، ولا تقول يموتُ أبوه، ويجوز عسى زيدٌ أن يقومَ، أو يقومَ أبوهُ فيرفع السببيّ، ولا يجوز رفعُه الأجنبيّ نحو عسى زيدٌ أن يقومَ عمرٌو عندَه.
ومن ذلك مرفوع اسم التفضيل في غير مسألة الكُحلِ، وهذا شرطُه - مع الإضمار - الاستتارُ، وكذا مرفوع نحو قُم وأقومُ وتقومُ ونقومُ.
ومن الثاني تأكيدُ الاسم المُظهر، والنعت والمنعوت، وعطف البيان والمبين.
ومن الوهم في الأول قولُ بعضهم في لوْلايَ وموسى: إن موسى يحتمل الجر، وهذا خطأ، لأنه لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ولأن لولا لا تجرّ الظاهر، فلو أعيدات لم تعمل الجر فكيف ولم تُعد؟ وهذه مسألة يُحاجى بها فيقال: ضمير مجرور لا يصح أن يعطف عليه اسمٌ مجرور أعدتَ الجار أم لم تعده، وقولي مجرور لأنه يصح أن تعطف عليه اسماً مرفوعاً لأن لولا محكوم لها بحكم الحروف الزائدة والزائد لا يقدح في كون الاسم مجرداً من العوامل اللفظية، فكذا ما أشبه الزائد، وقول جماعة في قول هُدْبَة:
عسى الكربُ الذي أمسيتَ فيه ... يكونُ وراءهُ فرجٌ قريبُ
إن فرجاً اسم كان، والصواب أنه مبتدأ خبرُه الظرف، والجملة خبر كان، واسمها ضمير الكرب، وأما قوله:


وقدْ جعلتُ إذا ما قُمتُ يُثقلني ... ثوبي فأنهضُ نهضَ الشاربِ الثملِ
فثوبي: بدل اشتمال من تاء جعلتُ، لا فاعل يثقلني.
ومن الوهم في الثاني قولُ أبي البقاء في (إنّ شانئكَ هو الأبترُ): إنه يجوز كون هو توكيداً وقد مضى، وقولُ الزمخشري في قوله تعالى (ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به أنِ اعبُدوا اللهَ) إذا قدرت أنْ مصدرية، فأن وصلتها عطفُ بيان على الهاء، وقولُ النحويين في نحو (اسكنْ أنتَ وزوجُكَ الجنة): إن العطفَ على الضمير المستتر، وقد ردّ ذلك ابن مالك وجعله من عطف الجمل، والأصل ولتسكن زوجك، وكذا قال في (لا نُخلفهُ نحن ولا أنتَ): إن التقدير ولا تخلفه أنت، لأنّ مرفوعَ فعلِ الأمر لا يكون ظاهراً، ومرفوع الفعل المضارع ذي النون لا يكون غير ضمير المتكلم، وجوز في قوله:
نُطوِّفُ ما نُطوِّفُ ثم نأوي ... ذوو الأموالِ منا والعديمُ
إلى حُفرٍ أسافلهُنّ جوفٌ ... وأعلاهُنَّ صُفّاحٌ مُقيمُ
كون ذوو فاعلاً بفعل غيبة محذوف، أي يأوي ذوو الأموال، وكونه وما بعده توكيداً على حد ضُربَ زيدٌ الظهرُ والبطنُ.
تنبيه
من العوامل ما يعمل في الظاهر، وفي المضمر بشرط استتاره في نعم وبئس، تقول نعمَ الرّجلانِ الزَّيدانِ، ونعمَ رجلين الزّيدانِ ولا يقال نعم ... في لغيّة، أو بشرط إفراده وتذكيره وهو رُبَّ في الأصح.
النوع السادس: اشتراطهم المفردَ في بعض المعمولات، والجملةَ في بعض.
فمن الأوّل: الفاعلُ ونائبه وهو الصحيح، فأما (ثمّ بدا لمْ منْ بعدِ ما رأوا الآياتِ ليسجُننّه)، (وإذا قيلَ لهم لا تفسدوا في الأرض) فقد مرّ البحث فيهما).
ومن الثاني: خبر أنّ المفتوحة إذا خففت.
وخبرُ القول المحكي نحو قَولي لا إله إلا الله وخرج بذكر المحكيّ قولك قولي حقٌّ.
وكذلك خبر ضمير الشأن، وعلى هذا فقوله تعالى (ومَنْ يكتُمْها فإنه آثمٌ قلبُه) إذا قدر ضمير إنه للشأن لزم كونُ آثم خبراً مقدماً وقلبه مبتدأ مؤخراً، وإذا قدر راجعاً الى اسم الشرط جاز ذلك، وأن يكون آثم الخبر وقلبه فاعل به.
وخبر أفعال المقاربة، ومن الوهم قول بعضهم في (فطفق مسحاً بالسّوقِ والأعناق) إن مسحاً خبر طفق، والصوابُ أنه مصدر لخبر محذوف، أي يمسح مسحاً.
وجوابُ الشرط، وجوابُ القسم، ومن الوهم قولُ الكسائي وأبي حاتم في نحو (يحلفونَ باللهِ لكمْ ليُرضوكمْ) إن اللام وما بعدها جواب، وقد مرّ البحث في ذلك، وقولُ بدر الدين ابن مالك في قوله تعالى (أفمنْ زُيِّنَ لهُ سوءُ عملهِ فرآهُ حسناً) إن جواب الشرط محذوف، وإن تقديره: ذهبت نفسُك عليهم حسرة، بدليل (فلا تذهبْ نفسُكَ عليهمْ حسراتٍ) أو كمن هداه الله، بدليل (فإنّ اللهَ يُضِلُّ منْ يشاءُ ويهدي منْ يشاءُ)، والتقدير الثاني باطل، ويجب عليه كونُ منْ موصولة، وقد يتوهم أنّ مثلَ هذا قولُ صاحب اللوامح - وهو أبو الفضل الرازي - فإنه قال في قوله تعالى: (أمّنْ خلَق السّمواتِ والأرضَ) لابد من إضمار جملة معادلة، والتقدير كمن لا يخلق، وإنما هذا مبني على تسمية جماعة منهم الزمخشري في مُفصَّله الظرفَ من نحو زيد في الدار جملة ظرفية، لكونه عندهم خَلفاً عن جملة مقدرة، ولا يعتذر بمثل هذا عن ابن مالك، فإن الظرف لا يكون جواباً، وإن قلنا إنه جملة.
النوع السابع: اشتراطُ الجملة الفعلية في بعض المواضع، والاسمية في بعض.
ومن الأول جملة الشرط غير لولا وجملة جواب لو ولولا ولو ما، والجملتان بعد لمّا، والجملُ التاليةُ أحرُفَ التحضيض، وجملة أخبار أفعال المقاربة، وخبر أن المفتوحة بعد لو عند الزمخشري ومتابعيه نحو (ولوْ أنهم آمنوا).
ومن الثاني الجملة بعد إذا الفجائية، وليتما على الصحيح فيهما.


ومن الوهم في الأول أن يقول مَنْ لا يذهب الى قول الأخفش والكوفيين في نحو (وإنِ امرأةٌ خافتْ)، (وإنْ أحدٌ منَ المشركينَ استجارَك) و(إذا السّماءُ انشقّتْ): إن المرفوع مبتدأ، وذلك خطأ، لأنه خلاف قول من اعتمد عليهم، وإنما قالوا سهواً، وأما إذا قال ذلك الأخفش أو الكوفي فلا يُعدُّ ذلك الإعرابُ خطأ، لأن هذا مذهب ذهبوا إليه ولم يقولوه سهواً عن قاعدة. نعم، الصواب خلاف قولهم في أصل المسألة، وأجازوا أن يكون المرفوع محمولاً على إضمار فعل كما يقول الجمهور، وأجاز الكوفيون وجهاً ثالثاً، وهو أن يكون فاعلاً بالفعل المذكور على التقديم والتأخير، مستدلين على جواز ذلك بنحو قول الزباء:
ما للجِمالِ مَشيُها وئيدا
فيمن رفع مشيها، وذلك عند الجماعة مبتدأ حذف خبره وبقي معمول الخبر، أي مشيُها يكون وئيداً أو يوجد وئيداً، ولا يكون بدلَ بعضٍ من الضمير المستتر في الظرف كما كان فيمن جره بدل اشتمالٍ من الجمال، لأنه عائد على ما الاستفهامية، ومتى أبدل اسمٌ من اسم استفهام وجب اقتران البدل بهمزة الاستفهام، فكذلك حكم ضمير الاستفهام، ولأنه لا ضمير فيه راجع الى المبدل منه.
ومن ذلك قول بعضهم في بيت الكتاب:
وصالٌ على طولِ الصّدودِ يدومُ
إن وصال مبتدأ، والصواب أنه فاعل بيدوم محذوفاً مفسراً بالمذكور، وقول آخر في نحو آتيك يوم زيداً تلقاه: إنه يجوز في زيد الرفع بالابتداء، وذلك خطأ عند سيبويه، لأن الزمنَ المبهمَ المستقبل يحمل على إذا في أنه لا يضاف الى الجملة الاسمية، وأما قوله تعالى (يوم هُم بارِزون) فقد مضى أن الزمن هنا محمول على إذ، لا على إذا، وأنه لتحققه نزِّل منزلة الماضي، وأما جواب ابن عصفور عن سيبويه بأنه إنما يوجب ذلك في الظروف، واليوم هنا بدل من المفعول به وهو (يوم التلاق) في قوله تعالى: (لتُنذِرَ يومَ التَّلاق) فمردود، وإنما ذلك في اسم الزمان ظرفاً كان أو غيره، ثم هذا الجواب لا يتأتى له في قوله:
وكُنْ لي شَفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... بمُغنٍ فتيلاً عن سوادِ بن قاربِ
ومن الوهم أيضاً قولُ بعضهم في قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى منْ رأسهِ) بعدما جزم بأنّ مَنْ شرطية: إنه يجوز كونُ الجملة الاسمية معطوفة على كان وما بعدها، ويرده أن جملة الشرط لا تكون اسمية، فكذا المعطوف عليها، على أنه لو قدّر من موصولة لم يصح قوله أيضاً، لأن الفاء لا تدخل في الخبر إذا كانت الصلة جملة اسمية، لعدم شبهه حينئذ باسم الشرط، وقولُ ابن طاهر في قوله:
فإنْ لا مالَ أعطيه فإنّي ... صديقٌ منْ غدُوٍّ أو رَواح
وقول آخرين في قول الشاعر:
ونُبِّئْتُ ليْلى أرسلَتْ بشفاعةٍ ... إليّ، فهلاّ نفسُ ليلى شفيعُها
إن ما بعد إنْ لا وهَلاّ جملةٌ اسمية نابَتْ عن الجملة الفعلية، والصواب أن التقدير في الأولى فإن أكُنْ، وفي الثانية فهَلاّ كان، أي الأمر والشأن، والجملة الاسمية فيهما خبر.
ومن ذلك قولُ جماعة منهم الزمخشري في (ولوْ أنّهُمْ آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عندِ الله خيرٌ): إن الجملة الاسمية جوابُ لو، والأولى أن يقدر الجواب محذوفاً، أي لكان خيراً لهم، أو أن يقدر لو بمنزلة ليت في إفادة التمني، فلا تحتاج الى جواب.
ومن ذلك قولُ جماعة منهم ابن مالك في قوله تعالى: (فلمّا نجّاهُمْ الى البرِّ فمنهُم مُقتصِدٌ): إن الجملة جواب لمّا، والظاهر أن الجواب جملة فعلية محذوفة، أي انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم غير ذلك، ويؤيد هذا أن جواب لما لا يقترن بالفاء.
ومن الوهم في الثاني تجويز كثير من النحويين الاشتغال في نحو خرَجتُ فإذا زيدٌ يضرِبهُ عمرٌو ومن العجب أن ابن الحاجب أجاز ذلك في كافيته مع قوله فيها في بحث الظروف: وقد تكون للمفاجأة فيلزم المبتدأ بعدها، وأجاز ابن أبي الربيع في ليتما زيداً أضربه أن يكون انتصابُ زيداً على الاشتغال كالنصب في إنما زيداً أضربه والصوابُ أن انتصابه بلَيتَ، لأنه لم يسمع نحو ليْتما قام زيدٌ كما سمع إنما قام زيد.
تنبيه


اعترض الرازيُّ على الزمخشري في قوله في (والذينَ كفروا بآيات اللهِ أولئكَ همُ الخاسرون): إن الجملة معطوفة على (ويُنجّي اللهُ الذينَ اتقوْا): بأن الاسمية لا تعطف على الفعلية. وقد مرّ أن تخالُفَ الجملتين في الاسمية والفعلية لا يمنع التعاطف. وقال بعض المتأخرين في تجويز أبي البقاء في قوله تعالى (منهُمْ مَنْ كلّم اللهُ): إنه يجوز كون الجملة الاسمية بدلاً من (فضلنا بعضهم على بعض): هذا مردود، لأن الاسمية لا تبدل من الفعلية، ولم يُقمْ دليلٌ على امتناع ذلك.
النوع الثامن: اشتراطُهم في بعض الجمل الخبرية، وفي بعضها الإنشائية.
فالأول كثير كالصلة والصفة والحال والجملة الواقعة خبراً لكان أو خبراً لإنّ أو لضمير الشأن، قيل: أو خبراً للمبتدأ أو جواباً للقسم غير الاستعطافي.
ومن الثاني جوابُ القسم الاستعطافي كقوله:
بربِّكَ هلْ ضمَمْتَ إليكَ ليلى
وقوله:
بعيشِك يا سلمى ارْحمي ذا صبابَةٍ
وما ورد على خلاف ما ذكر مؤوّلٌ، فمن الأول قوله:
وإني لرَاجٍ نظرةً قِبلَ التيلعلّي وإنْ شطّتْ نواها أزورُها
وتخريجُه على إضمار القول، أي قِبلَ التي أقول لعلي، أو على أن الصلة أزورها وخبر لعل محذوف والجملة معترضة، أي لعلّي أفعلُ ذلك، وقوله:
جاؤوا بِمذقٍ هل رأيتَ الذئبَ قطّ
وقوله:
فإنما أنتَ أخٌ لا نعدَمُهْ
وتخريجهما على إضمار القول، أي أخٌ مقول فيه لا جعلَنا الله نعدمه، وبمذق مقول عند رؤيته ذلك، وقولُ أبي الدرداء رضي الله عنه وجَدْتُ الناسَ اخبُرْ تَقِله أي صادفت الناس مقولاً فيهم ذلك، وقوله:
وكوني بالمكارمِ ذكّريني ... ودِلّي دَلَّ ماجِدةٍ صناعِ
والجملة في هذا مؤولة بالجملة الخبرية، أي وكوني تذكرينني، مثل قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كانَ في الضّلالةث فلْيمدُدْ لهُ الرّحمنُ مدّاً) أي فيمد، وقوله:
إنّ الذينَ قتلْتُمْ أمسِ سيّدضهُمْ ... لا تحسَبوا ليلَهُمْ عنْ ليلِكمْ ناما
وقوله:
إني إذا ما القومُ كانوا أنجيهْ ... واضطربَ القومُ اضطِرابَ الأرْشيهْ
هُناكَ أوصيني ولا تُوصي بيهْ
وينبغي أن يستثنى من منع ذلك في خبري إنّ وضمير الشأن خبرُ أن المفتوحة إذا خُففت، فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى: (والخامِسةَ أنْ غضِبَ اللهُ عليها) في قراءة من قرأ أنْ بالتخفيف وغضِبَ بالفعل والله فاعل، وقولِهم اما أنْ جزاك الله خيراً فيمن فتح الهمزة. وإذا لم نلتزم قولَ الجمهور في وجوب كون اسم أنْ هذه ضميرَ شأنٍ فلا استثناء بالنسبة الى ضمير الشأن، إذ يمكن أن يقدر والخامسة أنها وأمَا أنّك. وأمّا (نوديَ أنْ يروكَ مَنْ في النّار) فيجوز أنْ تفسيرية.
ومن الوهم في هذا الباب قولُ بعضهم في قوله تعالى: (وانظُرْ الى العِظامِ كيفَ نُنشِزها): إ جملة الاستفهام حال من العظام، والصواب أن كيف وحدها حال من مفعول ننشز، وأن الجملة بدل من العظام، ولا يلزم من جواز كون الحال المفردة استفهاماً جوازُ ذلك في الجملة، لأن الحال كالخبر وقد جاز بالاتفاق نحو كيفَ زيدٌ واختلف في نحو زيدٌ كيفَ هوَ وقول آخرين: إن جملة الاستفهام حال في نحو عرَفتُ زيْداً أبو مَنْ هو وقد مرّ.
واعلم أن النظر البصَريَّ يعلّقُ فعلهُ كالنظر القلبي، قال تعالى: (فلينظُرْ أيُّها أزْكى طَعاماً)، وقاله سبحانه وتعالى: (انظُرْ كيفَ فضّلنا بعضَهُمْ على بعض).
ومن ذلك قولُ الأمين المحلي فيما رأيت بخطه: إن الجملة التي بعد الواو من قوله:
اطلُبْ ولا تَضجَرَ من مَطْلبٍ
حالية، وإن لا ناهية، والصوابُ أن الواو للعطف، ثم الأصح أن الفتح إعراب مثلُها في لا تأكلِ السمك وتشْرب اللبن لا بناء لأجل نون توكيد خفيفة محذوفة.
النوع التاسع: اشتراطُهم لبعض الأسماء أن يوصف، ولبعضها ألاّ يوصف، فمن الأول مجرور رُبّ إذا كان ظاهراً، وأي في النداء، والجمّاء في قولهم جاؤوا الجمّاءَ الغَفير، وما وُطِّئ به من خبر أو صفة أو حال، نحو زيدٌ رجلٌ صالح، ومررتُ بزيدٍ الرجل الصالح ومنه (بل أنتُم قومٌ تُفْتنون)، (ولقد ضربْنا للناسِ في هذا القرآن) الى قوله تعالى (قرآناً عربياً) وقول الشاعر:


أأكرمُ مِنْ ليلى عليَّ فتبتغي ... بهِ الجاهَ أمْ كُنتُ امرأً لا أطيعُها؟
ومن ثم أبطل أبو علي كون الظرف من قول الأعشى:
رُبَّ رَفدٍ هرقتهُ ذلك اليوْ ... مَ وأسرى منْ معشرٍ أقيالِ
متعلقاً بأسرى، لئلا يخلو ما عطف على مجرور رب من صفة، قال: وأما قوله:
فيا رُبّ يومٍ قدْ لهوتُ وليلةٍ ... بآنسةٍ كأنها خطُّ تمثال
فعلى أن صفة الثاني محذوفة مدلول عليها بصفة الأول، ولا يتأتى ذلك هنا. وقد يجوز ذلك هنا، لأن الإراقة إتلاف، فقد تجعل دليلاً عليه.
ومن المثال الثاني فاعلاً نعم وبئس، والأسماء المتوغلة في شبه الحرف إلا مَنْ وما النكرتين فإنهما يوصفان نحو مررْتُ بمنْ مُعجبٍ لك، وبما مُعجبٍ لك وألحقَ بهما الأخفش أياً نحو مررتُ بأيٍّ مُعجبٍ لك وهو قويّ في القياس، لأنها معربة، ومن ذلك الضمير، وجوز الكسائي نعتَه إن كان لغائب والنعت لغير التوضيح، نحو (قُلْ إنّ ربّي يقذفُ بالحقّ عَلاّمُ الغُيوب) ونحو (لا إله إلا هوَ الرّحمنُ الرّحيمُ) فقدر علام نعتاً للضمير المستتر في (يقذف بالحق) و(الرحمن الرحيم) نعتين لهو، وأجاز غيرُ الفارسي وابن السراج نعتَ فاعليْ نعم وبئس تمسكاً بقوله:
نعمَ الفتى المُرِّيُّ أنتَ إذا همُ ... حضَروا لدى الحُجراتِ نارَ الموقدِ
وحمله الفارسي وابن السراج على البدل، وقال ابن مالك: يمتنع نعته إذا قصد بالنعت التخصيص مع إقامة الفاعل مقام الجنس، لأن تخصيصه حينئذ منافٍ لذلك القصد، فأما إذا تؤول بالجامع لأكمل الخصال فلا مانع من نعته حينئذ، لإمكان أن ينوى في النعت ما نوي في المنعوت، وعلى هذا يحمل البيت. وقال الزمخشري وأبو البقاء في (وكمْ أهلكْنا قبلَهُمْ من قرن همْ أحسنُ): إن الجملة بعد كم صفة لها، والصوابُ أنها صفة لقرن، وجمع الضمير حملاً على معناه، كما جُمِعَ وصف جميع في (وإنْ كلٌّ لمّا جميعٌ لدينا مُحضرون).
النوع العاشر: تخصيصُهم جواز وصف بعض الأسماء بمكان دون آخر، كالعامل من وصف ومصدر، فإنه لا يوصَفُ قبل العمل ويوصف بعده، وكالموصول فإنه لا يوصف قبل تمام صلته ويوصف بعد تمامها، وتعميمهم الجوازَ في البعض، وذلك هو الغالب.
ومن الوهم في الأول قولُ بعضهم في قول الحطيئة:
أزمعْتُ يأساً مُبيناً منْ نوالكمُ ... ولنْ ترى طارداً للحُرِّ كالياسِ
إن من متعلقة بيأساً، والصوابُ أن تعلقها بيئست محذوفاً، لأن المصدر لا يوصف قبل أن يأتي معموله.
وقال أبو البقاء في (ولا آمّينَ البيتَ الحرامَ يبتغونَ فضلاً): لا يكون يبتغون نعتاً لآمّين، لأن اسم الفاعل إذا وصف لم يعمل في الاختيار، بل هو حال من آمّين، وهذا قول ضعيف، والصحيحُ جوازُ الوصف بعد العمل.
النوع الحادي عشر: إجازتهم في بعض أخبار النواسخ أن يتصل بالناسخ نحو كانَ قائماً زيد ومنع ذلك في البعض نحو إنّ زيداً قائم.
ومن الوهم في هذا قولُ المبرد في قولهم إنّ منْ أفضلهِمْ كان زيداً إنه لا يجب أن يُحملَ على زيادة كان كما قال سيبويه، بل يجوز أن تقدر كان ناقصة، واسمها ضمير زيد، لأنه متقدم رتبة، إذ هو اسم إنّ، ومن أفضلهم: خبر كان، وكان ومعمولاها خبر إن، فلزمه تقديم خبر إن على اسمها مع أنه ليس ظرفاً ولا مجروراً، وهذا لا يجيزه أحد.
النوع الثاني عشر: إيجابُهم لبعض معمولات الفعل وشبهه أن يتقدم كالاستفهام والشرط وكم الخبرية نحو (فأيَّ آياتِ اللهِ تُنكرون)، (وسيعلمُ الذين ظلموا أيَّ مُنقلَبٍ ينقلبون)، (أيَّما الأجليْنِ قضيتُ) ولهذا قدّر ضمير الشأن في قوله:
إنّ مَنْ يدخُلِ الكنيسةَ يوماً ... يلقَ فيها جآذراً وظباءَ


ولبعضها أن يتأخر: إمّا لذاته كالفاعل ونائبه ومشبهه، أو لضعف الفعل كمفعول التعجب نحو ما أحسَنَ زيداً أو لعارضٍ معنويّ أو لفظيّ وذلك كالمفعول في نحو ضربَ مُوسى عيسى فإن تقديمه يوهم أنه مبتدأ وأن الفعل مسند الى ضميره، وكالمفعول الذي هو أي الموصولة نحو سأكرمُ أيهُمْ جاءني كأنهم قصدوا الفرق بينها وبين أيّ الشرطية والاستفهامية، والمفعول الذي هو أنّ وصلتها نحو عرَفتُ أنكَ فاضلٌ، كرهوا الابتداء بأنّ المفتوحة لئلا يلتبس بأن التي بمعنى لعلّ - وإذا كان المبتدأ الذي أصله التقديم يجب تأخره إذا كان أنّ وصلتَها نحو (وآيةٌ لهمْ أنّا حملنا ذرِّيتهمْ) فأنْ يجبَ تأخر المفعول الذي أصلُه التأخيرُ نحو (ولا تخافون أنكم أشركتم) أحقُّ وأولى - وكمفعول عاملٍ اقترنَ بلام الابتداء أو القسم، أو حرف الاستثناء، أو ما النافية، أو لا في جواب القسم.
ومن الوهم في الأول قولُ ابن عصفور في (أوَ لمْ يهْدِ لهمْ كم أهلكنا): إن كم فاعل يهْدِ، فإن قلت: خرّجه على لغة حكاها الأخفش، وهي أن بعض العرب لا يلتزم صَدرية كم الخبرية، قلت: قد اعترف برداءتها، فتخريج التنزيل عليها بعد ذلك رداءة، والصوابُ أن الفاعل مستتر راجع الى الله سبحانه وتعالى، أي أو لم يبين الله لهم، أو الى الهدى، والأول قول أبي البقاء، والثاني قول الزجاج، وقال الزمخشري: الفاعل جملة، وقد مرّ أن الفاعل لا يكون جملة، وكم مفعول أهلكنا، والجملة مفعول يهد، وهو معلَّق عنها، وكم الخبرية تعلِّق خلافاً لأكثرهم.
ومن الوهم في الثاني قول بعضهم في بيت الكتاب:
......... وقلّما ... وصالٌ على طولِ الصّدودِ يدومُ
إن وصال فعل بيدوم، وفي بيت الكتاب أيضاً:
أظبيٌ كانَ أمَّكَ أمْ حمارُ
إن ظبي اسم كان. والصواب أن وصال فاعل يدوم محذوفاً مدلولاً عليه بالمذكور، وأن ظبي اسم لكان محذوفة مفسرة بكان المذكورة، أو مبتدأ، والأول أولى، لأن همزة الاستفهام بالجمل الفعلية أولى منها بالاسمية، وعليهما فاسم كان ضميرٌ راجع إليه، وقول سيبويه إنه أخبر عن النكرة بالمعرفة واضحٌ على الأول، لأن ظبياً المذكور اسم كان، وخبره أمكَ وأما على الثاني فخبر ظبي إنما هو الجملة، والجمل نكرات، ولكن يكون محل الاستشهاد قوله كان أمك على أن ضمير النكرة عنده نكرة، لا على أن الاسم مقدم.
وقول بعضهم في قوله تعالى (إنّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئكَ كان عنه مسؤولاً): إن عنه مرفوع المحل بمسؤولاً، والصواب أن اسم كان ضمير المكلف وإن لم يجر له ذكر، وأن المرفوع بمسؤولاً مستتر فيه راجع إليه أيضاً، وأن عنه في موضع نصب.
وقول بعضهم في قوله:
آليتَ حبَّ العراقِ الدّهرَ أطعمهُ
إنه من باب الاشتغال، لا على إسقاط على كما قال سيبويه، وذلك مردود، لأن أطعمه بتقدير لا أطعمه.
وقول الفراء (وإن كلاً لما ليُوفِّينّهمْ ربُّك أعمالهم) فيمن خفف إنْ: إنه أيضاً من باب الاشتغال مع قوله: إن اللام بمعنى إلا، وإن نافية: ولا يجوز بالإجماع أن يعمل ما بعد إلا فيما قبلها، على أن هنا مانعاً آخر وهو لام القسم، وأما قوله تعالى (ويقولُ الإنسانُ أإذا ما متُّ لسوفَ أُخرجُ حيّا) فإن إذا ظرف لأخرج، وإنما جاز تقديم الظرف على لام القسم لتوسعهم فيالظرف، ومنه قوله:
رضيعيْ لِبانِ ثديِ أمٍّ تحالفا ... بأسحَمَ داجٍ عوْضُ لا نتفرّقُ
أي لا نتفرق أبداً، ولا النافية لها الصدر في جواب القسم، وقيل: العامل محذوف، أي أإذا ما مت أبعث لسوف أخرج.
النوع الثالث عشر: منعهم من حذف بعض الكلمات، وإيجابهم حذف بعضها.
فمن الأول الفاعل، ونائبه، والجار الباقي عمله، إلا في مواضع نحو قولهم اللهِ لأفعلنَّ وبكم درهمٍ اشتريتَ أي والله، وبكم من درهم.
ومن الثاني أحد معمولي لات.


ومن الوهم في الأول قول ابن مالك في أفعال الاستثناء نحو قاموا ليس زيداً، ولا يكونُ زيداً، وما خلا زيداً: إن مرفوعهن محذوف، وهو كلمة بعض مضافة الى ضمير مَنْ تقدم، والصواب أنه مضمر عائدٌ إما على البعض المفهوم من الجمع السابق كما عاد الضمير من قوله تعالى (فإنْ كنَّ نساءً) على البنات المفهومة من الأولاد في (يوصيكمُ اللهُ في أولادكم) وإما على اسم الفاعل المفهوم من الفعل، أي لا يكون هو - أي القائم - زيداً كما جاءَ لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن، وإما على المصدر المفهوم من الفعل، وذلك في غير ليس ولا يكون، تقول قاموا خلا زيداً أي جانبَ هو - أي قيامُهم - زيداً.
ومن ذلك قول كثير من المعربين والمفسرين في فواتح السور: إنه يجوز كونها في موضع جر بإسقاط حرف القسم.
وهذا مردود بأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه وتعالى، وبأنه لا أجوبة للقسم في سورة البقرة وآل عمران ويونس وهود ونحوهن، ولا يصحُّ أن يقال: قدِّر (ذلك الكتاب) في البقرة، و(اللهُ لا إلهَ إلا هو) في آل عمران جواباً، وحذفت اللام من الجملة الاسمية كحذفها في قوله:
وربِّ السمواتِ العُلا وبُروجها ... والأرضِ وما فيها: المقدَّرُ كائنُ
وقول ابن مسعود واللهِ الذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة لأن ذلك - على قلته - مخصوصٌ باستطالة القسم.
ومن الوهم في الثاني قول ابن عصفور في قوله:
حنّت نَوارُ ولاتَ هنّا حنّتِ
إن هنّا اسم لات، وحنّت خبرها بتقدير مضاف، أي وقت حنت، فاقتضى إعرابه الجمع بين معموليها، وإخراج هنّا عن الظرفية، وإعمال لات في معرفة ظاهرة وفي غير الزمان وهو الجملة النائبة عن المضاف، وحذف المضاف الى الجملة، والأولى قول الفارسي: إن لات مُهملة، وهنّا خبر مقدم، وحنت مبتدأ مؤخر بتقدير أنْ مثل تسمعَ بالمُعيديِّ خير من أن تراه.
النوع الرابع عشر: تجويزهم في الشعر ما لا يجوز في النثر، وذلك كثير، وقد أفرد بالتصنيف، وعكسه، وهو غريب جداً، وذلك بدلا الغلطِ والنسيان، زعم بعض القدماء أنه لا يجوز في الشعر، لأنه يقع غالباً عن تروٍّ وفكر.
النوع الخامس عشر: اشتراطهم وجودَ الرابط في بعض المواضع، وفقده في بعض فالأول قد مضى مشروحاً. والثاني الجملة المضاف إليها نحو يوم قام زيد فأما قوله:
وتسخُنُ ليلةَ لا يستطيعُ ... نُباحاً بها الكلبُ إلا هريرا
وقوله:
مضت سنةٌ لعامِ وُلدتُ فيهِ ... وعشرٌ بعدَ ذاك وحِجتانِ
فنادر، وهذا الحكم خفي على أكثر النحويين، والصوابُ في مثل قولك أعجبني يوم ولدت فيه تنوين اليوم، وجعل الجملة بعده صفة له، وكذلك أجمعُ وما يتصرف منه في باب التوكيد، يجب تجريده من ضمير المؤكد، وأما قولهم جاء القومُ بأجمُعِهم فهو بضم الميم لا بفتحها، وهو جمع لقولك جمع، على حد قولهم فَلس وأفْلُسٍ، والمعنى جاؤوا بجماعتهم، ولو كان توكيداً لكانت الباء فيه زائدة مثلها في قوله:
هذا وجدِّكمُ الصَّغارُ بعيْنهِ
فكان يصح إسقاطها.
النوع السادس عشر: اشتراطُهم لبناء بعض الأسماء أن تُقطع عن الإضافة كقبْل وبعد وغير، ولبناء بعضها أن تكون مضافة، وذلك أيّ الموصولة، فإنها لا تُبنى إلا إذا أضيفت وكان صدرُ صلتها ضميراً محذوفاً نحو (أيُّهمْ أشدُّ).
ومن الوهم في ذلك قولُ ابن الطراوة هم أشد مبتدأ وخبر، وأيُّ مبنية مقطوعة عن الإضافة، وهذا مخالف لرسمِ المصحف ولإجماع النحويين.
الجهة السابعة: أن يحمل كلاماً على شيء، ويشهد استعمال آخر في نظير ذلك الموضع بخلافه، وله أمثلة:
أحدها: قول الزمخشري في (مخْرِج الميِّتِ منَ الحيّ) إنه عطف على (فالق الحبِّ والنّوى) ولم يجعله معطوفاً على (يخرج الحي من الميت) لأن عطف الاسم على الاسم أولى، ولكن مجيء قوله تعالى (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) بالفعل فيهما يدلّ على خلاف ذلك.
الثاني: قول مكي وغيره في قوله تعالى (ماذا أراد اللهُ بهذا مثَلاً يُضِلُّ به كثيراً): إن جملة يضل صفة لمثلاً أو مستأنفة، والصواب الثاني، لقوله تعالى في سورة المدثر (ماذا أرادَ اللهُ بهذا مَثلاً؟ كذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يشاءُ).


الثالث: قول بعضهم في (ذلكَ الكتابُ لا ريبَ): إن الوقف هنا على ريب ويبتدئ فيه هدًى ويدل على خلاف ذلك قوله تعالى في سورة السجدة (ألم تنزيل الكتابِ لا ريْبَ فيه منْ ربِّ العالمين).
الرابع: قول بعضهم في (ولمنْ صبرَ وغفرَ إن ذلكَ لمنْ عزمِ الأمور): إن الرابط الإشارة، وإن الصابر والغافر جُعلا من عزْم الأمور مبالغةً، والصوابُ أن الإشارة للصبر والغفران، بدليل (وإن تصبِروا وتتّقوا فإنّ ذلك منْ عزْمِ الأمور) ولم يقل إنكم.
الخامس: قولهم في (أينَ شُركائيَ الذين كُنتم تزْعمون): إن التقدير تزعمونهم شركاء، والأولى أنْ يقدر تزعمون أنهم شركاء، بدليل (وما نرى معَكمْ شُفعاءَكم الذين زعمْتم أنّهُمْ فيكم شُركاء) ولأن الغالب على زعم ألاّ يقع على المفعولين صريحاً، بل على أنّ وصلتها، ولم يقع في التنزيل إلا كذلك.
ومثله في هذا الحكم تعلّم كقوله:
تعلّمْ رسولَ اللهِ أنّكَ مدرِكي
ومن القليل فيهما قوله:
زعمتْني شيْخاً ولسْتُ بشيخٍ
وقوله:
تعلّمْ شفاءَ النفْسِ قهْر عدُوِّها
وعكسهما في ذلك هَبْ بمعنى ظُنَّ، فالغالب تعدّيه الى صريح المفعولين كقوله:
فقلتُ: أجرْني أبا خالدٍ ... وإلا فهَبْني امْرأً هالِكا
ووقوعه على أنّ وصلتها نادر، حتى زعم الحريري أن قول الخواص هَبْ أنّ زيداً قائم لحنٌ، وذهل عن قول القائل هبْ أنّ أبانا كانَ حِماراً ونحوه.
السادس: قولهم في (سواءٌ عليهمْ أأنذرْتهمْ أم لم تُنذِرْهم لا يؤمنون) إن لا يؤمنون مستأنف، أو خبر لإنّ، وما بينهما اعتراض، والأولى الأول، بدليل (وسَواءٌ عليهمْ أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون).
السابع: قولهم في نحو (وما ربُّكَ بظلامٍ)، (وما الله بغافلٍ): إن المجرور في موضع نصب أو رفع على الحجازية والتميمية، والصواب الأول، لأن الخبر ما بعد ما لم يجئ في التنزيل مجرداً من الباء إلا وهو منصوب نحو (ما هنّ أمهاتِهمْ) (ما هذا بشراً).
الثامن: قولُ بعضهم في (ولئن سألتَهمْ من خَلقهُمْ ليقولُنّ: الله): إن اسم الله سبحانه وتعالى مبتدأ أو فاعل، أي الله خلقهم أو خلقهم الله. والصوابُ الحمل على الثاني، بدليل (ولئنْ سألتُهمْ منْ خلقَ السمواتِ والأرضَ ليقولُنَّ خلقَهُنَّ العزيزُ العليم).
التاسع: قول أبي ابقاء في (أفمنْ أسّسَ بُنيانَهُ على تقوى): إن الظرف حال أي على قصد تقوى، أو مفعول أسس، وهذا الوجه هو المعتمد عليه عندي، لتعينه في (لمسجدٌ أسِّسَ على التقوى).
تنبيه
وقد يحتمل الموضع أكثر من وجه، ويوجد ما يرجح كلاً منها، فينظر في أولاها كقوله تعالى (فاجْعلْ بيْننا وبيْنكَ موعِداً) فإنّ الموعد محتمل للمصدر، ويشهد له (لا نخلِفهُ نحْنُ ولا أنتَ) وللزمان ويشهد له (قال موعدُكمْ يومُ الزّينةِ) وللمكان ويشهد له (مكاناً سُوًى) وإذا أعرب مكاناً بدلاً منه لا ظرفاً لنخلفه تعين ذلك.
الجهة الثامنة: أن يحمل المعرب على شيء، وفي ذلك الموضع ما يدفعه. وهذا أصعب من الذي قبله، وله أمثلة.
أحدها: قول بعضهم في (إنْ هذان لساحران): إنهما إنّ واسمها، أي إن القصة، وذان: مبتدأ، وهذا يدفعه رسم إنّ منفصلة، وهذان متصلة.
والثاني: قول الأخفش وتبعه أبو البقاء في (ولا الذينَ يموتون وهمْ كفّار): إن اللام للابتداء، والذين: مبتدأ، والجملة بعده خبره، ويدفعه أن الرسم ولا وذلك يقتضي أنه مجرور بالعطف على (الذين يعملون السيئات) لا مرفوع بالابتداء، والذي حملهما على الخروج عن ذلك الظاهر أن من الواضح أن الميت على الكفر لا توبَةَ له لفوات زمن التكليف. ويمكن أن يُدّعى لهما أن الألف في لا زائدة كالألف في (لا أذبحنّه) فإنها زائدة في الرسم، وكذا في (لا أوضعوا) والجواب أن هذه الجملة لم تذكر ليفاد معناها بمجرده بل ليسوّى بينها وبين ما قبلها، أي إنه لا فرق في عدم الانتفاع بالتوبة بين منْ أخرها الى حضور الموت وبين من مات على الكفر، كما نفى الإثم عن المتأخر في (فمنْ تعجّل في يومينِ فلا إثمَ عليْه، ومَنْ تأخّر فلا إثمَ عليه) مع أن حكمه معلوم لأنه آخذ بالعزيمة، بخلاف المتعجل فإنه آخذ بالرخصة، على معنى يستوي في عدم الإثم من يتعجل ومن لم يتعجل، وحمْلُ الرسم على خلاف الأصل مع إمكانه غير سديد.


والثالث: قول ابن الطراوة في (أيُّهمْ أشدّ) هم أشد: مبتدأ وخبر، وأي مضافة لمحذوف، ويدفعه رسم أيهم متصلة، وأن أيا إذا لم تُضَفْ أعربت باتفاق.
والرابع: قول بعضهم في (وإذا كالُوهمْ أو وزنُوهمْ يُخْسرون): إن هم الأولى ضمير رفع مؤكد للواو والثانية كذلك، أو مبتدأ وما بعده خبر، والصواب أن هم مفعول فيهما لرسم الواو بغير ألف بعدها، ولأن الحديث في الفعل لا في الفاعل، إذ المعنى إذا أخذوا من الناس اسْتَوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا، وإذا جعلت الضمير للمطففين صار معناه إذا أخذوا استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر، لأن الحديث في الفعل لا في المباشر.
الخامس: قول مكي وغيره في قوله تعالى (ذلكَ هو الفضْلُ الكبيرُ، جنّاتُ عدْنٍ يدخُلونَها) إن جنات بدل من الفضل، والأولى أنه مبتدأ، لقراءة بعضهم بالنصب على حد زيداً ضربْتُهُ.
السادس: قولُ كثير من النحويين في قوله تعالى (إنّ عِبادي ليس لكَ عليهمْ سلطانٌ إلا من اتّبعكَ): إنه دليل على جواز استثناء الأكثر من الأقل، والصواب أن المراد بالعباد المخلصون لا عموم المملوكين، وأن الاستثناء منقطع، بدليل سقوطه في آية سبحان (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وكفى بربك وكيلا) ونظيره المثال الآتي.
السابع: قول الزمخشري في (ولا يلتفِتْ منكمْ أحدٌ إلاّ امرأتكَ): إن من نصب قدر الاستثناء من (فأسْرِ بأهْلكَ) ومن رفع قدره من (ولا يلتفت منكم أحد). ويردُّ باستلزامه تناقض القراءتين، فإن المرأة تكون مُسرىً بها على قراءة الرفع، وغيرَ مُسْرىً بها على قراءة النصب، وفيه نظر، لأن إخراجها من جملة النهي لا يدل على أنها مسرى بها بل على أنها معهم، وقد روي أنها تبعتهم، وأنها التفتت فرأت العذاب فصاحت فأصابها حَجر فقتلها، وبعدُ فقولُ الزمخشري في الآية خلافُ الظاهر، وقد سبقه غيره إليه، والذي حمله على ذلك أن النصب قراءة الأكثرين، فإذا قُدِّر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح، وقد التزم بعضهم جواز مجيء قراءة الأكثر على ذلك، مستدلاً بقوله تعالى (إنّا كلَّ شيء خلقْناهُ بقدرٍ) فإن النصب فيها عند سيبويه على حدّ قولهم زيداً ضربته ولم يرَ خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحاً كما رآه بعض المتأخرين، وذلك لأنه يرى في نحو خِفتُ بالكسر وطُلتُ بالضم، أنه محتمل لفعلي الفاعل والمفعول، ولا خلاف أن نحو تضارّ محتمل لهما وأن نحو مختار محتمل لوصفهما، وكذلك نحو مشتريّ في النسب، وقال الزجاج في (فما زالتْ تلكَ دعواهُم): إن النحويين يجيزون كون الأول اسماً والثاني خبراً والعكس. وممن ذكر الجواز فيهما الزمخشري، قال ابن الحاج: وكذا نحو ضرب موسى عيسى كل من الاسمين محتمل للفاعلية والمفعولية، والذي التزم فاعلية الأول إنما هو بعض المتأخرين، والإلباس واقع في العربية، بدليل أسماء الأجناس والمشتركات.
والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجوحة، وأن الاستثناء في الآية من جملة الأمر على القراءتين، بدليل سقوط (ولا يلتفتْ منكُم أحدٌ) في قراءة ابن مسعود، وأن الاستثناء منقطع، بدليل سقوطه في آية الحجر، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته، لا أهل بيته وإن لم يكونوا مؤمنين، ويؤيده ما جاء في ابن نوح عليه السلام (يا نوحُ إنّهُ ليسَ منْ أهلك إنّهُ عملٌ غيرُ صالح) ووجه الرفع أنه على الابتداء، وما بعده الخبر، والمستثنى الجملة ونظيره (لستَ عليهم بمسيطر، إلا منْ تولى وكفر، فيُعذِّبهُ الله) واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثناء منقطع، ولكنه قال: وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة ابن مسعود حكاها أبو عبيدة وغيره.
الجهة التاسعة: ألا يتأمل عند وجود المشتبهات، ولذلك أمثلة: أحدها: نحو زيدٌ أحصى ذهْناً، وعمرو أحصى مالاً فإن الأول على أن أحصى اسمُ تفضيل، والمنصوب تمييز مثل أحسن وجهاً والثاني على أن أحصى فعلٌ ماض، والمنصوب مفعول مثل (وأحصى كلَّ شيءٍ عدداً).


ومن الوهم قولُ بعضهم في (أحصى لما لبثوا أمداً): إنه من الأول، فإن الأمد ليس مُحصياً بل مُحصىً، وشرط التمييز المنصوب بعد أفعل كونُه فاعلاً في المعنى كزيدٌ أكثرُ مالاً بخلاف مالُ زيدٍ أكثرُ مالٍ.
الثاني: نحو زيدٌ كاتبٌ شاعرٌ فإن الثاني خبر أو صفة للخبر، ونحو زيدٌ رجلٌ صالحٌ فإن الثاني صفة لا غير، لأن الأول لا يكون خبراً على انفراده لعدم الفائدة، ومثلهما زيدٌ عالمٌ يفعلُ الخيرَ، وزيدٌ رجلٌ يفعل الخيرَ وزعم الفارسيّ أن الخبر لا يتعدد مختلفاً بالإفراد والجملة، فيتعين عنده كون الجملة الفعلية صفة فيهما، والمشهور فيهما الجواز، كما أن ذلك جائز في الصفات، وعليه قول بعضهم في (فإذا هُمْ فريقانِ يختصمون): إن يختصمون خبر ثانٍ أو صفة، ويحتمل الحالية أيضاً، أي فإذا هم مفترقون مختصمين، وأوجب الفارسيُّ في (كونوا قردةً خاسئين) كونَ خاسئين خبراً ثانياً، لأن جمع المذكر السالم لا يكون صفة لما لا يعقل.
الثالث: رأيتُ زيداً فقيهاً، ورأيتُ الهلالَ طالعاً فإن رأى في الأول علمية، وفقيهاً مفعول ثان، وفي الثانية بصرية، وطالعاً حال، وتقول: تركتُ زيداً عالماً فإن فسرت تركت بصيَّرت فعالماً مفعول ثان، أو بخلّفت فحال، وإذا حمل قوله تعالى: (وتركهمْ في ظُلماتٍ لا يُبصرون) على الأول فالظرف ولا يبصرون مفعول ثان تكرر كما يتكرر الخبر، أو الظرف مفعول ثان والجملة بعده حال، أو بالعكس، وإن حمل على الثاني فحالان.
الرابع: (اغترفَ غرفةً بيدهِ) إن فتحت الغين فمفعول مطلق، أو ضممتها فمفعول به، ومثلهما حسوتُ حَسوةً، وحُسوةً.
الجهة العاشرة: أن يخرج على خلاف الأصل أو على خلاف الظاهر لغير مقتضٍ كقولِ مكي في (لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي) الآية: إن الكاف نعت لمصدر محذوف، أي إبطالاً كالذي، ويلزمه أن يقدر إبطالاً كإبطال إنفاق الذي ينفق، والوجه أن يكون كالذي حالاً من الواو، أي لا تبطلوا صدقاتكم مُشبهين الذي ينفق، فهذا الوجه لا حذفَ فيه.
وقولِ بعض العصريين في قول ابن الحاجب الكلمة لفظ أصله الكلمة هي لفظ، ومثله قول ابن عصفور في شرح الجُمل: إنه يجوز في زيدُ هوَ الفاضلُ أن يحذف، مع قوله وقول غيره: إنه لا يجوز حذف العائد في نحو جاء الذي هوَ في الدّار لأنه لا دليل حينئذ على المحذوف، وردِّه على من قال في بيت الفرزدق:
فأصبحوا قدْ أعادَ اللهُ نِعمتهُمْ ... إذْ همْ قريشٌ وإذ ما مثلهمْ بشرُ
إن بشر مبتدأ، ومثلهم: نعت لمكان محذوف خبره، أي وإذ ما بشر مكاناً مثل مكانهم، بأنّ مثلاً لا يختصّ بالمكان، فلا دليل حينئذ.
وكقولِ الزمخشري في قوله:
لا نسبَ اليومَ ولا خُلّةً
إن النصب بإضمار فعل، أي ولا أرى، وإنما النصب مثله في لا حوْلَ ولا قوّة.
وقولِ الخليل في قوله:
ألا رجُلاً جزاهُ اللهُ خيراً
إن التقدير ألا تُروني رجلاً مع إمكان أن يكون من باب الاشتغال، وهو أولى من تقدير فعل غير مذكور، وقد يجاب عن هذا بثلاثة أمور: أحدها: أن رجلاً نكرة، وشرط المنصوب على الاشتغال أن يكون قابلاً للرفع بالابتداء، ويجاب بأن النكرة هنا موصوفة بقوله:
يدُلُّ على محصِّلةٍ تبيتُ
الثاني: أن نصبه على الاشتغال يستلزم الفصلَ بالجملة المفسرة بين الموصوف والصفة، ويجاب بأن ذلك جائز كقوله تعالى (... إنِ امرؤ هلكَ ليس لهُ ولد).
الثالث: أن طلب رجل هذه صفته أهم من الدعاء له، فكان الحمل عليه أولى.
وأما قول سيبويه في قوله:
آليتَ حبَّ العراقِ الدهرَ أطعَمُه
إن أصله آليت على حب العراق، مع إمكان جعله على الاشتغال، وهو قياسي بخلاف حذف الجار، فجوابه أن أطعمه بتقدير لا أطعمه، ولا النافية في جواب القسم لها الصّدرُ، لحلولها محل أدوات الصدور، كلام الابتداء وما النافية، وما له الصدر لا يعملُ ما بعده فيما قبله، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً.
وإنما قال في (قلِ اللهُمَّ فاطر السمواتِ والأرض): إنه على تقدير يا، ولم يجعله صفة على المحل، لأن عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لمّا اتصل به الميمُ المعوضة عن حرف النداء أشبه الأصوات، فلم يجز نعته.
وإنما قال في قوله:
اعتادَ قلبَكَ منْ سلمى عوائدُهُ ... وهاجَ أحزانكَ المكنونةَ الطّللُ


ربْعٌ قَواءٌ أذاع المُعصِراتُ بهِ ... وكُلُّ حيرانَ سارٍ ماؤُهُ خضِلُ
إن التقدير هو ربع، ولم يجعله على البدل من الطلل، لأن الربع أكثر منه، فكيف يبدل الأكثر من الأقل؟ ولئلا يصير الشعر معيباً لتعلّق أحد البيتين بالآخر، إذ البدل تابع للمبدل منه ويُسمي ذلك علماء القوافي تضميناً، ولأن أسماء الديار قد كثر فيها أن تحمل على عامل مضمر، يقال: دار مية، وديار الأحباب، رفعاً بإضمار هي، ونصبا بإضمار اذكر، فهذا موضع أُلِفَ فيه الحذف.
وإنما قال الأخفش في ما أحْسنَ زيداً إن الخبر محذوف بناء على أن ما معرفة موصولة أو نكرة موصوفة، وما بعدها صلة أو صفة، مع أنه إذا قدر ما نكرة تامة والجملة بعدها خبراً - كما قال سيبويه - لم يحتج الى تقدير خبر، لأنه رأى أن ما التامة غيرُ ثابتة أو غير فاشية، وحذْفُ الخبر فاشٍ، فترجح عنده الحملُ عليه.
وإنما أجاز كثير من النحويين في نحو قولك نعْمَ الرّجُلُ زيدٌ كونَ زيد خبراً لمحذوف مع إمكان تقديره مبتدأ والجملة قبله خبراً، لأن نعم وبئس موضوعان للمدح والذم العامّين، فناسبَ مقامهما الإطناب بتكثير الجمل، ولهذا يجيزون في نحو (هُدًى للمتّقين الذين يؤمنون) أن يكون الذي نصباً بتقدير أمدح، أو رفعاً بتقدير هم، مع إمكان كونه صفة تابعة، على أن التحقيق الجزم بأن المخصوص مبتدأ وما قبله خبر، وهو اختيار ابن خروف وابن الباذش، وهو ظاهر قول سيبويه: وأما قولهم: نعمَ الرجلُ عبدُ اللهِ، فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبد الله مع قوله: وإذا قال: عبد الله نعم الرجل، فهو بمنزلة: عبدُ الله ذهبَ أخوه فسوّى بين تأخير المخصوص وتقديمه، والذي غرّ أكثر النحويين أنه قال كأنه قال: نعم الرجل، فقيل له: مَنْ هو؟ فقال: عبد الله ويرِدُ عليهم أنه قال أيضاً وإذا قال: عبد الله، فكأنّه قيل له: ما شأنه؟ فقال نعم الرجل فقال مثل ذلك مع تقدم المخصوص، وإنما أراد أن تعلق المخصوص بالكلام تعلق لازم، فلا تحصل الفائدة إلا بالمجموع قدّمتَ أو أخرت، وجوز ابن عصفور في المخصوص المؤخَّر أن يكون مبتدأ حذف خبره، ويردّه أن الخبر لا يحذف وجوباً إلا إن سدّ شيءٌ مسدَّه، وذلك واردٌ على الأخفش في ما أحسنَ زيداً.
وأما قول الزمخشري في قول الله عزّ وجل (قُلْ: هوَ للذين آمنوا هُدىً وشِفاءٌ والذين لا يؤمنون في آذانِهمْ وقْر): إنه يجوز أن يكون تقديره: هو في آذانهم وقر، فحذف المبتدأ، أو في آذانهم منه وقر، والجملة خبر الذين، مع إمكان أن يكون لا حذف فيه، فوجهُه أنه لما رأى ما قبل هذه الجملة وا بعدها حديثاً في القرآن قدّر ما بينهما كذلك، ولا يمكن أن يكون حديثاً في القرآن إلا على ذلك، اللهم إلا أن يقدر عطف الذين على الذين، ووقر على هدى، فيلزم العطف على معمولي عاملين، وسيبويه لا يجيزه، وعليه فيكون (في آذانهم) نعتاً لوقر قدم عليه فصار حالاً.
وأما قول الفارسي في أوّلُ ما أقولُ إني أحمدُ الله فيمن كسر الهمزة: إن الخبر محذوف تقديره ثابت، فقد خولف فيه، وجعلت الجملة خبراً، ولم يذكر سيبويه المسألة، وذكرها أبو بكر في أصوله، وقال: الكسر على الحكاية، فتوهم الفارسي أنه أراد الحكاية بالقول المذكور. فقدّر الجملة منصوبة المحل فبقي له المبتدأ بلا خبر فقدّره، وإنما أراد أبو بكر أنه حكى لنا اللفظ الذي يفتَتحُ به قوله.
خاتمة
وإذ قد انجرَّ بنا القولُ الى ذكر الحذف فلنوجه القولَ إليه، فإنه من المهمات، فنقول: ذكر شروطه، وهي ثمانية: أحدها: وجود دليل حاليّ كقولك لمن رفعَ سوطاً زيداً بإضمار: اضرب، ومنه (قالوا سَلاماً)، أي سلّمنا سلاماً، أو مقاليٍّ كقولك لمن قال: مَنْ أضرب؟ زيْداً ومنه وإذا قيلَ لهُم: ماذا أنزلَ ربُّكمْ؟ قالوا: خيراً وإنما يحتاج الى ذلك إذا كان المحذوف الجملة بأسرها كما مثلنا، أو أحدَ ركنيها نحو (قالَ سلامٌ قومٌ مُنْكرون) أي سلام عليكم أنتم قوم منكرون، فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية، أو لفظاً يُفيد معنى فيها هي مبنية عليه نحو (تاللهِ تفتأ) أي لا تفتأ، وأما إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه وجدان الدليل، ولكن يشترط ألا يكون في حذفه ضرر معنويّ كما في قولك ما ضربتُ إلا زيداً أو صناعيّ كما في قولك زيد ضربتُه وقولك ضربني وضرَبتُه زيْد وسيأتي شرحه.


ولاشتراط الدليل فيما تقدم امتنع حذفُ الموصوف في نحو رأيتُ رجُلاً أبيضَ بخلاف نحو رأيتُ رجلاً كاتباً وحذف المضاف في نحو جاءَني غُلامُ زيد بخلاف نحو (وجاءَ ربُّك) وحذف العائد في نحو جاء الذي هو في الدار بخلاف نحو (لننزِعَنّ منْ كلِّ شيعةٍ أيُّهمْ أشدّ) وحذف المبتدأ إذا كان ضمير الشأن لأن ما بعده جملة تامة مستغنية عنه، ومن ثم جاز حذفه في باب إنّ نحو إنّ بك زيدٌ مأخوذ لأن عدم المنصوب دليل عليه، وحذف الجار في نحو رغِبتُ في أن تفعل أو عنْ أن تفعل بخلاف عجبتُ منْ أن تفعل وأما (وترغبون أن تنكحوهنّ) فإنما حذف الجار فيها لقرينة، وإنما اختلف العلماء في المقدَّر من الحرفين في الآية لاختلافهم في سبب نزولها، فالخلافُ في الحقيقة في القرينة.
وكان مردوداً قولُ أبي الفتح: إنه يجوز جلسْتُ زيداً بتقدير مضاف، أي جلوسَ زيد، لاحتمال أن المقدر كلمة الى، وقول جماعة: إن بني تميم لا يُثبتون خبر لا التبرئة، وإنما ذلك عند وجود الدليل، وأما نحو لا أحدَ أغيرُ من الله وقولك مبتدئاً من غير قرينة لا رجُلَ يفعلُ كذا فإثباتُ الخبر فيه إجماع، وقول الأكثرين: إن الخبر بعد لولا واجب الحذف، وإنما ذلك إذا كان كوْناً مطلقاً نحو لولا زيدٌ لكان كذا يريد لولا زيد موجود أو نحوه، وأما الأكوان الخاصة التي لا دليلَ عليها لو حذفت فواجبة الذكر، نحو لولا زيدٌ سالمنا ما سلمَ ونحو قوله عليه الصلاة والسلام: (لولا قومُكِ حديثو عهدٍ بالإسلامِ لأسّسْتُ البيتَ على قواعدِ إبراهيم) وقال الجمهور: لا يجوز لا تَدنُ منَ الأسَدِ يأكُلكَ بالجزم، لأن الشرط المقدر إن قدر مثبتاً - أي فإن تدن - لم يناسب فعل النهي الذي جعل دليلاً عليه، وإن قدر منفياً - أي فإلا تدنُ - فسد المعنى، بخلاف لا تدنُ منَ الأسدَ تسْلَمْ فإن الشرط المقدر منفي، وذلك صحيح في المعنى والصناعة، ولك أن تجيب عن الجمهور بأن الخبر إذا كان مجهولاً وجبَ أن يجعلَ نفسَ المخبر عنه عند الجميع في باب لولا، وعند تميم في لا، فيقال لولا قيامُ زيدٍ ولا قيامَ أي موجود، ولا يقال لولا زيد ولا رجُلَ ويراد قائم، لئلا يلزم المحذور المذكور، وأما لولا قومُكِ حديثو عهدٍ فلعله مما يروى بالمعنى، وعن الكسائي في إجازته الجزمَ بأنه يقدر الشرط مثبتاً مدلولاً عليه بالمعنى لا باللفظ، ترجيحاً للقرينة المعنوية على القرينة اللفظية وهذا وجه حسن إذا كان المعنى مفهوماً.
تنبيهان
أحدهما: إن دليل الحذف نوعان، أحدهما: غير صناعي، وينقسم الى حالي ومقالي كما تقدم، والثاني: صناعي، وهذا يختص بمعرفته النحويون، لأنه إنما عرف من جهة الصناعة، وذلك كقولهم في قوله تعالى (لأقسِمُ بيومِ القيامة) إن التقدير: لأنا أقسم، وذلك لأن فعل الحال لا يقسم عليه في قول البصريين وفي قمتُ وأصُكّ عيْنَه إن التقدير: وأنا أصك، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع المثبت الخالي من قد، وفي إنها لإبلٌ أم شاء إن التقدير: أم هي شاء، لأن أم المنقطعة لا تعطف إلا الجمل، وفي قوله:
إنّ مَنْ لام في بني بنْتِ حسّا ... نَ ألُمْه وأعصهِ في الخطوبِ
إن التقدير: إنه أي الشأن، لأن اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله، ومثله قول المتنبي:
وما كنتُ ممنْ يدخلُ العشقُ قلبهُ ... ولكنّ منْ يُبصِرْ جُفونكِ يعشَقِ
وفي (ولكنْ رسولَ الله) إن التقدير: ولكن كان رسول الله، لأن ما بعد لكن ليس معطوفاً بها لدخول الواو عليها، ولا بالواو لأنه مثبت وما قبلها منفي، ولا يعطف بالواو مفرد على مفرد إلا وهو شريكه في النفي والإثبات، فإذا قدر ما بعد الواو جملة صح تخالفهما كما تقول ما قام زيد وقام عمرو وزعم سيبويه في قوله:
ولستُ بحلاّلِ التِّلاعِ مخافةً ... ولكنْ متى يسترفِدِ القومُ أرفِدِ
أن التقدير: ولكن أنا. ووجهوه بأن لكن تشبه الفعل فلا تدخل عليه. وبيان كونها داخلة عليه أن متى منصوبة بفعل الشرط، فالفعل مُقدّم في الرتبة عليه. وردّه الفارسي بأن المشبه بالفعل هو لكنّ المشددة لا المخففة، ولهذا لم تعمل المخففة لعدم اختصاصها بالأسماء، وقيل: إنما يحتاج الى التقدير إذا دخلت عليها الواو، لأنها حينئذ تخلُص لمعناها، وتخرج عن العطف.
التنبيه الثاني


شرط الدليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف، فلا يجوز زيدٌ ضاربٌ وعمروٌ أي ضارب، وتريد بضارب المحذوف معنى يخالف المذكور: بأن يقدر أحدهما بمعنى السفر من قوله تعالى (وإذا ضربْتُمْ في الأرض) والآخر بمعنى الإيلام المعروفِ، ومن ثمّ أجمعوا على جواز زيدٌ قائم وعمروٌ، وإن زيداً قائم وعمرو وعلى منع ليت زيداً قائم وعمرو وكذا في لعل وكأنّ، لأن الخبر المذكور مُتمنّى أو مترجّى أو مشبه به، والخبر المحذوف ليس كذلك، لأنه خبر المبتدأ.
فإن قلت: فكيف تصنع بقوله تعالى (إنّ اللهَ وملائكتهُ يُصلّون على النبي) في قراءة مَنْ رفع، وذلك محمول عند البصريين على الحذف من الأول لدلالة الثاني، أي إن الله يصلي وملائكتُه يصلون. وليس عطفاً على الموضع ويصلون خبراً عنهما، لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، والصلاة المذكورة بمعنى الاستغفار، والمحذوفة بمعنى الرحمة، وقال الفرّاء في قوله تعالى (أيحسبُ الإنسانُ أنْ لنْ نجمَعَ عِظامه بل قادرين) إن التقدير: بلى ليحسبنا قادرين، والحسبان المذكور بمعنى الظن، والمحذوف بمعنى العلم، إذ التردد في الإعادة كفر، فلا يكون مأموراً به، وقال بعض العلماء في بيت الكتاب:
لنْ تراها ولوْ تأمّلتَ إلاولها في مفارقِ الرّأسِ طيبا
إن ترى المقدرة الناصبة لطيباً قلبية لا بصرية، لئلا يقتضي كون الموصوفة مكشوفة الرأس، وإنما تمدح النساء بالخفر والتصوّن، لا بالتبذل، مع أن رأى المذكورة بصرية.
قلت: الصواب عندي أن الصلاة لغة بمعنى واحد، وهو العطف، ثم العطف بالنسبة الى الله سبحانه وتعالى الرحمة والى الملائكة الاستغفار والى الآدميين دعاء بعضهم لبعض، وأما قول الجماعة فبعيد من جهات: إحداها: اقتضاؤه الاشتراك والأصل عدمه لما فيه من الإلباس، حتى إن قوماً نفَوْهُ، ثم المثبتون له يقولون: متى عارضه غيره مما يخالف الأصل كالمجاز قُدِّم عليه. والثانية: أنا لا نعرف في العربية فعلاً واحداً يختلف معناه باختلاف المسند إليه إذا كان الإسناد حقيقياً. والثالثة: أن الرحمة فعلُها مُتعدّ والصلاة فعلها قاصر، ولا يحسن تفسير القاصر بالمتعدي. والرابعة: أنه لو قيل مكان صلى عليه دعا عليه انعكس المعنى، وحقُّ المترادفين صحةُ حلول كل منهما محل الآخر.
وأما آية القيامة فالصوابُ فيها قولُ سيبويه إن قادرين حال، أي بلى نجمعها قادرين، لأن فعل الجمع أقرب من فعل الحسبان، ولأن بلى إيجابٌ للمنفي وهو في الآية فعلُ الجمع، ولو سلم قولُ الفراء فلا يسلم الحسبان في الآية ظن، بل اعتقاد وجزم، وذلك لإفراط كفرهم.
وأما قول المعرب في البيت فمردود، وأحوال الناس في اللباس والاحتشام مختلفة، فحال أهل المدَر يخالف حال أهل الوبر، وحال أهلِ الوبر مختلف، وبهذا أجاب الزمخشري عن إرسال شعيب عليه الصلاةُ والسلام ابنتيه لسقي الماشية، وقال: العاداتُ في مثل ذلك متباينة، وأحوال العرب خلاف أحوال العجم.
الشرط الثاني: ألاّ يكون ما يحذف كالجزء، فلا يحذف الفاعل ولا نائبه ولا مُشبهه، وقد مضى الردّ على ابن مالك في مرفوع أفعال الاستثناء، وقال الكسائي وهشام والسهيلي في نحو ضربني وضربت زيداً: إن الفاعل محذوف لا مضمر، وقال ابن عطية في (بئسَ مثلُ القومِ الذين كذّبوا): إن التقدير بئس المثل مثل القوم، فإن أراد أن الفاعل لفظ المثل محذوفاً فمردود، وإن أراد تفسير المعنى وأن في بئس ضمير المثل مستتراً فأين تفسيره، وهذا لازم للزمخشري فإنه قال في تقديره: بئس مثلاً! وقد نص سيبويه على أن تمييز فاعل نعم وبئس لا يحذَف، والصوابُ أن (مثل القوم) فاعل، وحذف المخصوص، أي مثل هؤلاء، أو مضاف أي مثل الذين كذبوا، ولا خلاف في جواز حذف الفاعل مع فعله نحو (قالوا خيراً) ويا عبد الله وزيداً ضربته.


الثالث: ألاّ يكون مؤكَّداً، وهذا الشرط أول من ذكره الأخفش، منع في نحو الذي رأيت زيد أن يؤكد العائد المحذوف بقولك نفسه، لأن المؤكد مُريدٌ للطول، والحاذف مريد للاختصار، وتبعه الفارسي، فرد في كتاب الأغفال قولَ الزجاج في (إنّ هذانِ لساحرانِ) إن التقدير: إن هذان لهما ساحران، فقال: الحذف والتوكيد باللام متنافيان، وتبع أبا علي أبو الفتح، فقال في الخصائص: لا يجوز الذي ضربتُ نفسَه زيد كما لا يجوز إدغام نحو اقْعَنْسَسَ، لما فيهما جميعاً من نقض الغرض، وتبعهم ابن مالك فقال: لا يجوز حذف عامل المصدر المؤكد كضربتُ ضرباً لأن المقصود به تقوية عامله وتقرير معناه، والحذف مناف لذلك، وهؤلاء كلهم مخالفون للخليل وسيبويه أيضاً، فإن سيبويه سأل الخليل عن نحو مررتُ بزيدٍ وأتاني أخوه أنفسهما كيف ينطق بالتوكيد؟ فأجابه بأنه يرفع بتقدير: هما صاحباي أنفسهما، وينصب بتقدير: أعنيهما أنفسهما، ووافقهما على ذلك جماعة، واستدلوا بقول العرب:
إنّ مَحلاً وإنّ مُرتحلا
وإنّ مالاً وإنّ ولداً فحذفوا الخبر مع أنه مؤكد بإن، وفيه نظر، فإن المؤكد نسبة الخبر الى الاسم، لا نفس الخبر، وقال الصفار: إنما فرّ الأخفشُ من حذف العائد في نحو الذي رأيته نفسه زيد لأن المقتضي للحذف الطولُ، ولهذا لا يحذف في نحو الذي هو قائم زيد فإذا فروا من الطول فكيف يؤكدون؟ وأما حذف الشيء لدليل وتوكيده فلا تنافي بينهما، لأن المحذوف لدليل كالثابت، ولبدر الدين ابن مالك مع والده في المسألة بحث أجاد فيه.
الرابع: ألا يؤدي حذفه الى اختصار المختصر، فلا يحذف اسم الفعل دون معموله، لأنه اختصار للفعل، وأما قول سيبويه في زيداً فاقتله وفي شأنك والحجَّ وقوله:
يا أيُّها المائحُ، دلوي دُونكا
إن التقدير: عليك زيداً، وعليك الحجّ، ودونك دلوي، فقالوا: إنما أراد تفسير المعنى لا الإعراب، وإنما التقدير خُذْ دلوي، والزم زيداً، والزم الحج، ويجوز في دلوي أن يكون مبتدأ ودونك خبره.
الخامس: ألا يكون عاملاً ضعيفاً، فلا يحذف الجار والجازم والناصب للفعل، إلا في مواضع قويت فيها الدلالة وكثر فيها استعمال تلك العوامل، ولا يجوز القياس عليها.
السادس: ألا يكون عِوضاً عن شيء، فلا تحذف ما في أما أنت مُنطلِقاً انطلقتُ ولا كلمة لا من قولهم افعلْ هذا إمّا لا ولا التاء من عِدَة وإقامة واستقامة، فأما قوله تعالى (وأقامِ الصّلاةِ) فمما يجب الوقوف عنده، ومن هنا لم يحذف خبر كان لأنه عوض أو كالعوض من مصدرها، ومن ثمّ لا يجتمعان، ومن هنا قال ابن مالك: إن العرب لم تقدر أحرف النداء عوضاً من أدعو وأنادي، لإجازتهم حذفها.
السابع والثامن: ألاّ يؤدي حذفُه الى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ولا الى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوي، وللأمر الأول منع البصريون حذفَ المفعول الثاني من نحو ضرَبني وضربته زيد لئلا يتسلط على زيد ثم يقطع عنه برفعه بالفعل الأول، ولاجتماع الأمرين امتنع عند البصريين أيضاً حذفُ المفعول في نحو زيدٌ ضربتُه لأن في حذفه تسليط ضرب على العمل في زيد مع قطعه عنه وإعمال الابتداء مع التمكن من إعمال الفعل، ثم حملوا على ذلك زيد ما ضربته، أو هل ضربته، فمنعوا الحذف وإن لم يؤدِّ الى ذلك، وكذلك منعوا رفع رأسها في أكلت السمكة حتى رأسَها إلا أن يذكر الخبر فتقول: مأكول، ولاجتماعهما مع الإلباس منع الجميعُ تقديمَ الخبر في نحو زيد قام، ولانتفاء الأمرين جاز عند البصريين وهشام تقديمُ معمول الخبر على المبتدأ في نحو زيدٌ ضربَ عمراً وإن لم يجز تقديمُ الخبر، فأجازوا زيداً أجَلُه أحرزَ وقال البصريون في قوله:
بما كانَ إيّاهم عطيّةُ عوَّدا
إن عطيّة مبتدأ، وإياهم مفعول عوّد، والجملة خبر كان، واسمها ضمير الشأن، وقد خفيت هذه النكتة على ابن عصفور فقال: هربوا من محذور - وهو أن يفصلوا بين كان واسمها بمعمول خبرها - فوقعوا في محذور آخر، وهو تقديم معمول الخبر حيث لا يتقدم خبر المبتدأ، وقد بينّا أن امتناع تقديم الخبر في ذلك لمعنىً مفقود في تقديم معموله، وهذا بخلاف علة امتناع تقديم المفعول على ما النافية في نحو ما ضربتُ زيداً فإنه لنفس العلة المقتضية لامتناع تقديم الفعل عليها، وهو وقوع ما النافية فيه حَشواً.
تنبيه


ربما خُولف مقتضى هذين الشرطين أو أحدهما في ضرورة أو قليل من الكلام.
فالأول كقوله:
وخالدٌ يَحمَدُ ساداتُنا
وقوله:
......... كلُّه لم أصنعِ
وقيل: هو في صيغ العموم أسهلُ، ومنه قراءة ابن عامر (وكلٌ وعدَ اللهُ الحُسنى).
والثاني كقوله:
بعُكاظَ يُعشي النّاظرينَ إذا همُ لمحوا شُعاعُهْ
فإن فيه تهيئة لمحوا للعمل في شُعاعه مع قطْعه عن ذلك بإعمال يُعشي فيه، وليس فيه إعمال ضعيف دون قوي، وذكر ابن مالك في قوله:
عممْتَهُمْ بالنّدى حتّى غُواتهُمْ ... فكُنتَ مالِكَ ذي غَيٍّ وذي رشدِ
إنه يروى غُواتهم بالأوجه الثلاثة، فإن ثبتت رواية الرفع فهو من الوارد في النوع الأول في الشذوذ، إذ لا ضرورة تمنع من الجر والنصب، وقد رويا.
بيان أنه قد يظن أن لشيء من باب الحذف، وليس منه
جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول اختصاراً واقتصاراً، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل، وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه بنحو (كلوا واشربوا) أي أوقعوا هذين الفعلين، وقول العرب فيما يتعدى الى اثنين مَنْ يسمَعْ يخَلْ أي تكن منه خيلة.
والتحقيق أن يقال: إنه تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين مَنْ أوقعه أو من أوقع عليه، فيجاء بمصدره مُسنَداً الى فعل كون عام، فيقال: حصل حريقٌ أو نهبٌ.
وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل، فيقتصر عليهما، ولا يذكر المفعول، ولا ينوى، إذ المنويّ كالثابت، ولا يسمى محذوفاً، لأن الفعل ينزل هذا القصد منزلة ما لا مفعول له، ومنه (ربي الذي يُحيي ويميتُ)، (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، (وكُلوا واشْربوا ولا تُسرِفوا)، (وإذا رأيت ثمّ) إذ المعنى: ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة؛ وهل يستوي من يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم، وأوقعوا الأكل والشرب، وذروا الإسراف، وإذا حصلت منك رؤية هنالك، ومنه على الأصح (ولمّا وردَ ماءَ مدْيَنَ) الآية، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام إنما رحمهما إذ كانتا على صفة الذِّياد وقومهما على السقي، لا لكون مَذودهما غَنماً ومَسقيهم إبلاً، وكذلك المقصود من قولهما (لا نَسقي) السقي، لا المسقي، ومن لم يتأمل قدّر: يسقون إبلَهم، وتذودان غنَمَهما، ولا نسقي غنمَنا.
وتارة يقصد إسناد الفعل الى فاعله وتعليقه بمفعوله، فيذكران نحو (لا تأكُلوا الرِّبا) (ولا تقرَبوا الزِّنى)، وقولك ما أحْسنَ زيداً وهذا النوع إذا لم يذكر مفعول قيل: محذوف، نحو (ما ودّعكَ ربُّك وما قَلى) وقد يكون في اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره، نحو (أهذا الذي بعثَ اللهُ رسولاً) (وكلٌ وعد الله الحسْنى) و:
وما شيءٌ حميتَ بمستَباحِ
بيان مكان المقدر
القياسُ أن يقدر الشيء في مكانه الأصلي، لئلا يخالف الأصل من وجهين: الحذف، ووضع الشيء في غير محله.
فيجب أن يقدر المفسر في نحو زيداً رأيته مقدّماً عليه، وجوز البيانوين تقديره مؤخراً عنه، وقالوا: لأنه يفيد الاختصاص حينئذ، وليس كما توهموا، وإنما يرتَكب ذلك عند تعذر الأصل، أو عند اقتضاء أمر معنوي لذلك.
فالأول نحو أيَّهمْ رأيتَهُ إذ لا يعمل في الاستفهام ما قبله، ونحو (وأما ثمودَ فهدَيناهُم) فيمن نصب، إذ لا يلي أما فعلٌ، وكنا قدمنا في نحو في الدار زيد أن متعلق الظرف يقدَّر مؤخراً عن زيد، لأنه في الحقيقة الخبر، وأصل الخبر أن يتأخر عن المبتدأ، ثم ظهر لنا أنه يحتمل تقديره مقدماً لمعارضة أصل آخر، وهو أنه عاملٌ في الظرف، وأصل العامل أن يتقدم على المعمول، اللهم إلا أن يقدر المتعلق فعلاً فيجب التأخير، لأن الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ في مثل هذا، وإذا قلت إنّ خلفَك زيداً وجب تأخير المتعلق، فعلاً كان أو اسماً، لأن مرفوع إنّ لا يسبق منصوبها، وإذا قلت كانَ خلفكَ زيدٌ جاز الوجهان ولو قدرته فعلاً، لأن خبر كان يتقدم مع كونه فعلاً على الصحيح، إذ لا تلتبس الجملة الاسمية بالفعلية.


والثاني نحو متعلق باء البسملة الشريفة، فإن الزمخشري قدّره مؤخراً عنها، لأن قريشاً كانت تقول: باسم اللات والعُزّى نفعل كذا، فيؤخرون أفعالهم عن ذكر ما اتخذوه معبوداً لهم تفخيماً لشأنه بالتقديم، فوجب على الموحِّد أن يعتقد ذلك في اسم الله تعالى فإنه الحقيق بذلك، ثم اعترض ب(اقرأ باسمِ ربِّكَ) وأجاب بأنها أول سورة أنزلت، فكان تقديمُ الأمر بالقراءة فيهم أهمّ، وأجاب عنه السكاكي بتقديرها متعلقة ب(اقرأ) الثاني. واعترضه بعض العصريين باستلزامه الفصلَ بين المؤكد وتأكيده بمعمول المؤكد. وهذا سهو منه، إذ لا توكيد هنا، بل أمِرَ أولاً بإيجاد القراءة، وثانياً بقراءة مقيدة، ونظيرُه (الذي خلقَ، خلقَ الإنسانَ) ومثل هذا لا يسميه أحد توكيداً. ثم هذا الإشكال لازم له على قوله إن الباء متعلقة باقرأ الأول لأن تقييد الثاني إذا منع من كونه توكيداً فكذا تقييدُ الأول، ثم لو سلم ففصْلُ الموصوف من صفته بمعمول الصفة جائز باتفاق، كمررتُ برجُلٍ عمْراً ضارب فكذا في التوكيد، وقد جاء الفصْل بين المؤكد والمؤكد في (ولا يحزَنَّ ويرضَينَ بما آتيْتهنَّ كلهُنَّ) مع أنهما مفردان، والجمل أحملُ للفصل، وقال الراجز:
إذن ظلِلْتُ الدّهْرَ أبكي أجمعا
تنبيه
ذكروا أنه إذا اعترضَ شرطٌ على آخرَ نحو إنْ أكلتِ إنْ شرِبْتِ فأنتِ طالِقٌ فإن الجواب المذكور للسابق منهما، وجوابُ الثاني محذوفٌ مدلولُ عليه بالشرط الأول وجوابه، كما قالوا في الجواب المتأخر عن القسم والشرط ولهذا قال محققو الفقهاء في المثال المذكور: إنها لا تطلُقُ حتى تقدم المؤخر وتؤخر المقدم، وذلك لأن التقدير حينئذ إن شربتِ فإن أكلت فأنت طالق، وهذا كله حسن، ولكنهم جعلوا منه قوله تعالى: (ولا ينفعُكمْ نُصحي إنْ أردتُ أن أنْصحَ لكمْ إنْ كانَ اللهُ يريدُ أنْ يُغويَكمْ) وفيه نظر، إذ لم يتوالَ شرطان وبعدهما جواب كما في المثال، وكما في قول الشاعر:
إنْ تستغِيثوا بنا إن تُذعروا تجِدوا ... منّا معاقِلَ عزٍّ زانها كرَمُ
وقول ابن دريد:
فإن عثرْتُ بعدَها إنْ وَألتْ ... نفْسيَ منْ هاتا فقولا: لا لعَا
إذ الآية الكريمة لم يذكر فيها جواب، وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للشرط الأول، فينبغي أن يُقدَّر الى جانب، ويكون الأصل: إن أردت أن أنْصحَ لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأما أنْ يقدَّر الجوابُ بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدماً الى جانب الشرط الأول فلا وجْهَ له، والله أعلم.
بيان مقدار المُقدَّر
ينبغي تقليله ما أمكن لتقل مخالفة الأصل.
ولذلك كان تقدير الأخفش في ضرْبي زيْداً قائماً: ضرْبُه قائماً، أولى من تقدير باقي البصريين: حاصلٌ إذا كان - أو إذ كان - قائماً، لأنه قدَّر اثنين وقدروا خمسة، ولأن التقدير من اللفظ أولى.
وكان تقديره في أنتَ منّي فرسخان بُعدُك مني فرسخان، أولى من تقدير الفارسي أنت مني ذو مسافة فرسخين، لأنه قدر مضافاً لا يحتاج معه الى تقدير شيء آخر يتعلق به الظرفُ، والفارسيّ قدر شيئين يحتاج معهما الى تقدير ثالث.
وضعف قول بعضهم في (وأشرِبوا في قُلوبهمُ العِجْل) إن التقدير: حبُّ عبادة العجل، والأولى تقدير الحب فقط.
وضعف قول الفارسي ومن وافقه في (واللائي يئِسْنَ) الآية: إن الأصل: واللائي لم يحضن فعدّتهن ثلاثة أشهر، والأولى أن يكون الأصل: واللائي لم يحضن كذلك.
وكذلك ينبغي أن يقدر في نحو زيدٌ صنعَ بعمرٍو جميلاً وبخالدٍ سوءاً، وبكرٌ أي كذلك، ولا يقدر عين المذكور تقليلاً للمحذوف، ولأن الأصل في الخبر الإفراد، ولأنه لو صُرِّحَ بالخبر لم يحسن إعادة ذلك المتقدم لثقل التكرار.
ولك ألاّ تقدر في الآية شيئاً، وذلك بأن تجعل الموصول معطوفاً على الموصول، فيكون الخبر المذكور لهما معاً، وكذا تصنع في نحو زيدٌ في الدّارِ وعمروٌ، ولا يتأتى ذلك في المثال السابق لأن إفراد فاعل الفعل يأباه، نعم لك أن تسْلَمَ في من الحذف، بأن تقدر العطف على ضمير الفعل لحصول الفصْل بينهما.
فإن قلت: لو صح ما ذكرته في الآية والمثال السابق لصح زيدٌ قائمان وعمروٌ بتقدير: زيد وعمر قائمان.
قلت: إن سُلم مَنعُه فلقبح اللفظ، وهو منتفٍ فيما نحن بصدده، ولكن يشهد للجواز قوله:


ولسْتُ مُقرّاً للرّجالِ ظُلامةً ... أبى ذاكَ عمّي الأكرمانِ وخاليا
وقد جوّزوا في أنتَ أعلم وزيد كوْنَ زيد مبتدأ حذف خبره، وكونه عطفاً على أنت، فيكون خبراً عنهما.
بيان كيفية التقدير
إذا استدعى الكلامُ تقديرَ أسماء متضايفة، أو موصوف وصفة مضافة، أو جار ومجرور مضمر عائد على ما يحتاج الى الرابط، فلا يقدر أنّ ذلك حذف دفعة واحدة، بل على التدريج.
فالأول نحو (كالذي يُغشَى عليْهِ) أي كدوران عين الذي.
والثاني كقوله:
إذا قامَتا تضوّع المِسْكُ منهما ... نسيمَ الصَّبا جاءَتْ برَيّا القرَنْفُلِ
أي تضوّعاً مثل تضوعِ نسيم الصبا.
والثالث كقوله تعالى: (واتّقوا يوماً لا تجْزي نفْسٌ عن نفسٍ شيئاً) أي لا تجزي فيه، ثم حذفت في فصار لا تجزيه، ثم حذف الضمير منصوباً لا مخفوضاً، هذا قولُ الأخفش، وعن سيبويه أنهما حُذِفا دفعة. ونقل ابن الشجري القولَ الأول عن الكسائي، واختاره، قال: والثاني قول نحوي آخر، وقال أكثر أهل العربية منهم سيبويه والأخفش: يجوز الأمران، وهو نقل غريب.
ينبغي أن يكون المحذوف من لفظ المذكور مهما أمكن
فيقدر في ضرْبي زيْداً قائماً: ضربُه قائماً، فإنه من لفظ المبتدأ وأقل تقديراً، دون إذ كان، أو إذا كان ويقدر اضرب دون أهِن في زَيداً اضرِبه.
فإن منعَ من تقدير المذكور معنىً أو صناعة قدِّر ما لا مانع له، فالأول نحو زيْداً اضْرِبْ أخاهُ يقدر فيه أهِنْ دون اضْرِب، فإن قلت زيْداً أهِنْ أخاهُ قدرت أهن. والثاني نحو زيْداً امرُرْ بِه تقدر فيه جاوِزْ دون امرُر، لأنه لا يتعدّى بنفسه نعم إن كان العاملُ مما يتعدّى تارةً بنفسه وتارةً بالجار نحو نصح في قولك زيْداً نصحْتُ له جاز أن يقدر نصحْتُ زيداً، بل هو أولى من تقدير غير الملفوظ به.
ومما لا يقدر فيه مثل المذكور لمانع صناعي قوله:
يا أيُّها المائحُ، دَلوي دونكا
إذا قدر دلوي منصوباً فالمقدر خُذْ، لا دونكَ، وقد مضى، وقوله:
وأضْرَبَ منّا بالسّيوفِ القوانِسا
الناصبُ فيه للقوانس فعلٌ محذوف، لا اسمُ تفضيل محذوف لأنا فررنا بالتقدير من إعمال اسم التفضيل المذكور في المفعول، فكيف يعمل فيه المقدر؟ وقولك هذا مُعطي زيدٍ أمْسِ درْهماً التقديرُ أعطاه، ولا يقدر اسم فاعل، لأنك إنما فررت بالتقدير من إعمال اسم الفاعل الماضي المجرد من ال، وقال بعضهم في قوله تعالى (لنْ نُؤثرَك على ما جاءَنا منَ البيِّناتِ والذي فطرَنا): إن الواو للقسم، فعلى هذا دليلُ الجواب المحذوف جملةُ النفي السابقة، ويجب أن يقدر: والذي فطرنا لا نؤثرك؟ لأن القسَم لا يجاب بلنْ إلا في الضرورة كقول أبي طالب:
واللهِ لنْ يصِلوا إليكَ بجمعهِم ... حتّى أوسَّدَ في التُرابِ دفينا
وقال الفارسي ومتابعوه في (واللائي لم يحِضنَ) التقدير: فعدتهن ثلاثة أشهر، وهذا لا يحسن وإن كان ممكناً، لأنه لو صُرح به اقتضت الفصاحة أن يقال: كذلك، ولا تعاد الجملة الثانية.
إذا دار الأمر بين كون المحذوف مبتدأ وكونه خبراً فأيهما أولى؟
قال الواسطي: الأولى كونُ المحذوف المبتدأ، لأن الخبر محطُّ الفائدة وقال العبدي: الأولى كونُه الخبر، لأن التجوز أواخر الجملة أسهل، نقل القولين ابنُ إياز.
ومثال المسألة (فصَبرٌ جميلٌ) أي: شأني صبر جميل، أو صبر جميل أمثَلُ من غيره، ومثلُه (طاعةٌ معروفة) أي الذي يطلب منكم طاعة معلومة لا يُرْتابُ فيها، لا إيمان باللسان لا يواطئه القلبُ، أو طاعتُكم معروفة، أي عُرِف أنها بالقول دون الفعل، أو طاعة معروفة أمثلُ بكم من هذه الأيمان الكاذبة.
ولو عرضَ ما يوجب التعيين عُمل به، كما في نِعْمَ ارجُلُ زيدٌ على القول بأنهما جملتان، إذ لا يحذف الخبر وجوباً إلا إذا سدّ شيء مسدّه، ومثله حبّذا زيدٌ إذا حمل على الحذف، وجزم كثير من النحويين في نحو عَمْرُكَ لأفْعَلَنْ وايْمُنُ اللهِ لأفْعلَنّ بأن المحذوف الخبر، وجوز ابنُ عصفور كونَه المبتدأ، ولذلك لم يعُدَّه فيما يجب فيه حذف الخبر، لعدم تعينه عنده لذلك، قال: والتقدير إمّا قسَمي أيْمُنُ الله، أو أيمُنُ الله قسَمٌ لي، ولو قدرت أيمُنُ اللهِ قسمي، لم يمتنع، إذ المعرفة المتأخرة عن المعرفة يجب كونها الخبر على الصحيح.


إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلاً والباقي فاعلاً وكونه مبتدأ والباقي خبراً
فالثاني أولى لأن المبتدأ عين الخبر، فالمحذوف عين الثابت، فيكون الحذف كلا حذف فأما الفعل فإنه غير الفاعل.
اللهم إلا أن يتعضد الأول برواية أخرى في ذلك الموضع، أو بموضع آخر يُشبهه، أو بموضع آتٍ على طريقته.
فالأول كقراءة شعْبة (يسبَّحُ لهُ فيها) بفتح الباء، وكقراءة ابن كثير (وكذلك يوحى إليكَ والى الذينَ من قبلِك، اللهُ العزيزُ الحكيمُ) بفتح الحاء، وكقراءة بعضهم (وكذلِك زُيِّن لكثيرٍ من المُشركين قتْلُ أولادِهمْ، شُرَكاؤهُمْ) ببناء زُيِّن للمفعول، ورفع القتْل والشركاء، وكقوله:
ليُبْكَ يَزيدُ، ضارعٌ لخُصومَةٍ
فيمن رواه مبنياً للمفعول، فإن التقدير: يسبِّحه رجال، ويوحيهِ الله، وزيّنه شركاؤهم، ويبْكيه ضارع، ولا تقدر هذه المرفوعات مبتدآت حذفت أخبارها، لأن هذه الأسماء قد ثبتت فاعليتُها في رواية منْ بَنى الفعلَ فيهن الفاعل.
والثاني كقوله تعالى: (ولئن سألتَهُم منْ خلقَهُم ليَقولُنّ اللهُ) فلا يقدر ليقولُن اللهُ خلقهم بل خلقهم الله لمجيء ذلك في شِبْه هذا الموضع، وهو: (ولئنْ سألتَهُمْ منْ خلقَ السّمواتِ والأرضَ ليَقولُنّ خلقَهُنّ العزيزُ العليم) وفي مواضع آتية على طريقته نحو (قالتْ: من أنْبأكَ هذا؟ قال: نبّأنيَ العَليمُ الخَبير) (قال: مَنْ يُحْيي العِظامَ وهي رميمٌ؟ قل: يُحييها الذي أنْشأها).
إذا دارَ الأمرُ بين كون المحذوف أولاً أو ثانياً فكونُه ثانياً أولى
وفيه مسائل: إحداها: نون الوقاية في نحو (أتحاجّوني) و(تأمُروني) فيمن قرأ بنون واحدة، وهو قول أبي العباس وأبي سعيد وأبي علي وأبي الفتح وأكثر المتأخرين، وقال سيبويه واختاره ابن مالك: إن المحذوف الأولى.
الثانية: نون الوقاية مع نون الإناث في نحو قاله:
يسوءُ الفالياتِ إذا فلَيْني
هذا هو الصحيح، وفي البسيط أنه مُجمع عليه لأن نون الفاعل لا يليق بها الحذف، ولكن في التسهيل أن المحذوف الأولى، وأنه مذهب سيبويه.
الثالثة: تاء الماضي مع تاء المضارع في نحو (ناراً تلظّى) وقال أبو البقاء في قوله تعالى (فإنْ تولّوا فإن الله عليمٌ بالمفسدين) يضعف كونُ تولوا فعلاً مضارعاً، لأن أحرف المضارعة لا تحذف، وهذا فاسد، لأن المحذوف الثانية، وهو قول الجمهور، والمخالفُ في ذلك هشامٌ الكوفي، ثم إن التنزيل مشتمل على مواضع كثيرة من ذلك لا شك فيها نحو (ناراً تلظّى)، (ولقد كنتُمْ تمنَّونَ الموتَ).
الرابعة: نحو مقول ومَبيع، المحذوفُ منهما واو مفعول، والباقي عين الكلمة، خلافاً للأخفش.
الخامسة: نحو إقامةٍ واستقامةٍ، والمحذوف منهما ألف الإفعال والاستفعال، والباقي عينُ الكلمة، خلافاً للأخفش أيضاً.
السادسة: نحو:
يا زيدَ زيدَ اليعملاتِ الذّبَّلِ
بفتحهما، و:
بينَ ذراعيْ وجبهةِ الأسدِ
وهذا هو الصحيح، خلافاً للمبرد.
السابعة: نحو زيدٌ وعمرو قائم ومذهب سيبويه أن الحذف فيه من الأول لسلامته من الفصل، ولأن فيه إعطاء الخبر للمجاور، مع أن مذهبه في نحوه:
يا زيدَ زيدَ اليعملات الذُبَّلِ
أن الحذف من الثاني، قال ابن الحاجب: إنما اعترض بالمُضاف الثاني بين المتضايفين ليبقى المضاف إليه المذكور في اللفظ عوضاً مما ذهب. وأما هنا فلو كان قائم خبراً عن الأول لوقع في موضعه، إذ لا ضرورة تدعو الى تأخيره، إذ كان الخبرُ يحذف بلا عوض نحو زيد قائم وعمرو من غير قبح في ذلك، وقيل أيضاً: كل من المبتدأين عامل في الخبر، فالأولى إعمالُ الثاني لقربه، ويلزم من هذا التعليل أن يقال بذلك في مسألة الإضافة.
تنبيه
الخلافُ إنما هو عند التردد، وإلا فلا تردُّدَ في أن الحذف من الأول في قوله:
نحنُ بما عندنا، وأنتَ بما ... عندَك راضٍ، والرأيُ مُختلفُ
وقوله:
خليليَّ هل طبٌّ؟ فإنّي وأنتُما ... وإنْ لمْ تبوحا بالهوى دنِفانِ


وفي الثاني في قوله تعالى (قُلْ لئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أنْ يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتون بمثلهِ) إذ لو كان الجوابُ للثاني لجزم، فقلنا بذلك في نحو إنْ أكلتِ إنْ شربتِ فأنتِ طالقٌ وفي (فأمّا إنْ كانَ منَ المقرّبينَ فروحٌ) ونحو (ولولا رجالٌ مؤمنون) ثم قال تعالى (لو تزيّلوا لعذَّبنا) وانبنى على ذلك المثال أنها لا تطلق حتى تؤخر المقدَّم وتقدم المؤخر، إذ التقدير: إن أكلت فأنت طالق إن شربت، وجواب الثاني في هذا الكلام من حيث المعنى هو الشرط الأول وجوابه، كما أن الجواب من حيث المعنى في أنت ظالمٌ إن فعلتَ ما تقدم على الشرط، بل قال جماعة: إنه الجواب في الصناعة أيضاً.
ومن ذلك قوله:
فإني وقيّاز بها لغريبُ
وقد تكلف بعضهم في البيت الأول، فزعم أن نحن للمعظم نفسه، وأنّ راضٍ خبر عنه، ولا يحفظ مثل نحنُ قائم بل يجب في الخبر المطابقة نحو (وإنا لنحنُ الصافّون، وإنا لنحنُ المُسبِّحون) وأما (قالَ ربِّ ارجعُونِ) فأفرد ثم جمع لأن غير المبتدأ والخبر لا يجب لهما من التطابق ما يجب لهما.
ذكر أماكن من الحذف يتمون بها المعرب
حذف الاسم المضاف - (وجاءَ ربكَ)، (فأتى اللهُ بُنيانَهم) أي أمره، لاستحالة الحقيقي، فأما (ذهبَ اللهُ بنورِهمْ) فالباءُ للتعدية، أي أذهب الله نورهم.
ومن ذلك ما نسب فيه حكم شرعي الى ذاتٍ، لأن الطلب لا يتعلق إلا بالأفعال نحو (حُرِّمتْ عليكم أُمهاتكمْ) أي استمتاعهن، (حُرِّمتْ عليكمُ الميتةُ) أي أكلُها، (حرّمنا عليهمْ طيِّباتٍ) أي تناولها، لا أكلها، ليتناول شرب ألبان الإبل، (حُرِّمتْ ظُهورُها) أي منافعها، ليتناول الركوب والتحميل، ومثله (وأحلّتْ لكم الأنعامُ).
ومن ذلك ما علق فيه الطلبُ بما وقع نحو (أوفُوا بالعقودِ)، (وأوفوا بعهدِ اللهِ) فإنهما قولان قد وقعا فلا يتصور فيهما نقض ولا وفاء، وإنما المراد الوفاء بمقتضاهما، ومنه (فذلكُنّ الذي لمتُنّني فيه) إذِ الذوات لا يتعلق بها لوم، والتقدير في حبه بدليل (قد شَغفها حُبّاً)، أو في مراودته بدليل (تُراودُ فتاها) وهو أولى لأنه فعلها بخلاف الحب، (واسألِ القريةَ التي كُنّا فيها والعيرَ التي أقبلنا فيها) أي أهلَ القرية وأهل العير، (والى مَدينَ أخاهُمْ شُعيباً) أي والى أهل مدين بدليل أخاهم وقد ظهر في (وما كنتَ ثاوياً في أهلِ مَدينَ) وأما (وكمْ منْ قريةٍ أهلكناها فجاءَها بأسُنا) فقدر النحويون الأهل بعد من وأهلكنا وجاء، وخالفهم الزمخشري في الأوليْن، لأن القرية تهلك، ووافقهم في فجاء لأجل (أو هُمْ قائلون)، (إذاً لأذقناكَ ضِعفَ الحياة وضِعفَ الممات) أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، (لمن كان يرجو الله) أي رحمته، (يخافون ربَّهمْ) أي عذابه، بدليل (ويرجون رحمته ويخافون عذابهُ)، (يُضاهِئونَ قولَ الذين كفروا) أي يضاهي قولهم قولَ الذين كفروا، وقال الأعشى:
ألمْ تغتمضْ عيناكَ ليلةَ أرمدَا
فحذف المضاف الى ليلة والمضاف إليه ليلة وأقام صفته مقامه، أي اغتماض ليلة رجل أرمد، وعكسه نيابة المصدر عن الزمان جئتُك طلوعَ الشمسِ أي وقت طلوعها، فناب المصدرُ عن الزمان، وليس من ذلك جئتُكَ مقدمَ الحاج خلافاً للزمخشري، بل المقدَم اسمٌ لزمن القدوم.
تنبيه
إذا احتاج الكلام الى حذف مضاف يمكن تقديره مع أول الجزأين ومع ثانيهما فتقديره مع الثاني أولى، نحو (الحجُّ أشهرٌ) ونحو (ولكنّ البرَّ مَنْ آمن) فيكون التقدير، الحجُّ أشهر، والبر بر من آمن، أولى من أن يقدر: أشهرُ الحج أشهر، وذا البر من آمن، لأنك في الأول قدّرت عند الحاجة الى التقدير، ولأن الحذف من آخر الجملة أولى.
حذف المضاف إليه
يكثر في ياء المتكلم مضافاً إليها المنادى نحو (ربِّ اغفر لي) وفي الغايات نحو (لله الأمرُ منْ قبلُ ومن بعدُ) أي من قبل الغلب ومن بعده، وفي أيٍّ وكلٍّ وبعض وغير بعد ليسَ، وربما جاء في غيرهن، نحو (فلا خوفُ عليهمْ) فيمن ضم ولم ينون، أي فلا خوف شيء عليهم، وسمع سلامُ عليكمْ فيحتمل ذلك، أي سلام الله، أو إضمار أل.
حذف اسمين مضافين
(فإنها منْ تقوى القلوب) أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، (قبضةً منْ أثر الرّسول) أي من أثر حافر فرس الرسول، (كالذي يُغشى عليه) أي كدوران عين الذي يغشى، وقال:


وقدْ جعلتْني من حزيمةَ إصبعا
أي ذا مسافة أصبع
حذف ثلاث متضايفات
(فكانَ قابَ قوسين) أي فكان مدارُ مسافة قربهِ مثلَ قاب قوسين، فحذفت ثلاثة من اسم كان، وواحد من خبرها، كذا قدّره الزمخشري.
تنبيه
للقابِ معنيان: القدْر، وما بينَ مقبضِ القوس وطرفها، وعلى تفسير الذي في الآية بالثاني فقيل: هي على القلب، والتقدير قابيْ قوسٍ، ولو أريد هذا لأغنى عنه ذكر القوس.
حذف الموصول الاسمي
ذهب الكوفيون والأخفش الى إجازته، وتبعهم ابن مالك، وشرط في بعض كتبه كونه معطوفاً على موصول آخر، ومن حجتهم (آمنّا بالذي أنزِل إلينا وأنزِل إليكمْ)، وقولُ حسان:
أمن يهجو رسولَ اللهِ منكمْ ... ويمدحهُ وينصرُهُ سواءُ
وقول آخر:
ما الذي دأبهُ احتياطٌ وحزمٌ ... وهواهُ أطاعَ يستويانِ
أي والذي أنزل، ومن يمدحه، والذي أطاع هواه.
حذف الصِّلة
يجوز قليلاً لدلالة صلة أخرى، كقوله:
وعندَ الذي واللاتِ عُدنك إحنةٌ ... عليكَ، فلا يغرُرك كَيدُ العوائدِ
أي الذي عادك، أو دلالة غيرها كقوله:
نحنُ الأُلى فاجمعْ جُمو ... عكَ ثمّ وجِّههُم إلينا
أي نحن الألى عُرفوا بالشجاعة، وقال:
بعدَ اللتيّا واللتيّا والتي ... إذا علتها أنفُسٌ تردّتِ
فقيل: يقدَّر مع اللتيّا فيما نظيرُ الجملة الشرطية المذكورة، وقيل: يقدَّر اللتيا دقّت واللتيّا دقت، لأن التصغير يقتضي ذلك، وصلة الثالثة الجملة الشرطية، وقيل: يقدر مع اللتيا فيهما: عظُمتْ، لا دقت، وإنه تصغير تعظيم كقوله:
دُويهيةٌ تصفرُّ منها الأناملُ
حذف الموصوف
قوله تعالى (وعندهمْ قاصراتُ الطرفِ) أي حُورٌ قاصرات (وألنّا له الحديد. أن اعملْ سابغاتٍ) أي دُروعاً سابغات (فليضحكوا قليلاً، وليبكوا كثيراً) أي ضحكاً قليلاً وبكاء كثيراً، كذا قيل، وفيه بحث سيأتي، (وذلك دينُ القيِّمة) أي دين الملة القيمة (ولدارُ الآخرةِ خيرٌ) أي ولدار الساعة الآخرة، قاله المبرد، وقال ابن الشجري: الحياة الآخرة، بدليل (وما الحياةُ الدُنيا إلا متاعُ الغرورِ) ومنه (حبَّ الحصيد) أي حب النبت الحصيد، وقال سُحيم:
أنا ابنُ جلا وطلاّعُ الثّنايا
قيل: تقديره أنا ابن رجل جلا الأمور، وقيل: جلا علمٌ محكيّ على أنه منقول من نحو قولك زيد جلا فيكون جملة، لا من قولك جلا زيد، ونظيره قوله:
نُبِّئتُ أخوالي بني يزيدُ ... ظُلماً، علينا لهمُ فديد
فيزيد: منقول من نحو قولك المالُ يزيدُ لا من قولك يزيد المال، وإلا لأعرب غيرَ منصرف، فكان يفتح لأنه مضاف إليه.
واختلف في المقدر مع الجملة في نحو منّا ظعنَ ومنا أقام فأصحابنا يقدرون موصوفاً: أي فريقٌ، والكوفيون يقدرون موصولً، أي: الذي أو مَنْ، وما قدرناه أقيسُ، لأن اتصال الموصول بصلته أشدُّ من اتصال الموصوف بصفته، لتلازمهما. ومثله ما منهما ماتَ حتى لقيتُهُ نقدره بأحد، ويقدرونه بمنْ (وإنْ منْ أهْلِ الكتاب ليؤمننّ به) أي إلا إنسان، أو إلا من، وحكى الفراء عن بعض قُدمائهم أن الجملة القسمية لا تكون صلة، ورده بقوله تعالى (وإن منكم لمنْ ليبطِّئنّ).
حذف الصفة
(يأخذُ كلَّ سفينةٍ غصباً) أي صالحة، بدليل أنه قرئ كذلك، وأن تعييبها لا يخرجها عن كونه سفينة، فلا فائدة فيه حينئذ، (تُدمِّرُ كلَّ شيء) أي سلطت عليه، بدليل (ما تذرُ منْ شيء أتتْ عليه) الآية، (قالوا الآنَ جئتَ بالحقِّ) أي الواضح، وإلا كان مفهومه كفراً، (وما نُريهم من آيةٍ إلا هي أكبرُ من أختها) وقال:
فلمْ أعطَ شيئاً ولم أُمنعِ
وقال:
وليست دارُنا هاتا بدارِ
أي من أختها السابقة، وبدار طائلة، ولم أعط شيئاً طائلاً، دفعاً للتناقض فيهن، (قلْ يا أهلَ الكتابِ لستُم على شيء) أي نافع، (إنْ نظنُّ إلا ظنّاً) أي ضعيفاً.
حذف المعطوف
ويجب أن يتبعه العاطف نحو (لا يستوي منكمْ منْ أنفقَ من قبلِ الفتحِ وقاتل) أي ومن أنفق من بعده، دليلُ التقدير أن الاستواء إنما يكون بين شيئين، ودليل المقدر (أولئكَ أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا).


(لا نفرِّق بين أحدٍ من رُسلهِ) (والذين آمنوا بالله ورسُلهِ ولم يفرِّقوا بين أحدٍ منهم) أي بينَ أحدٍ وأحدٍ منهم، وقيل: أحد فيهما ليس بمعنى واحد مثله في (قلْ هوَ اللهُ أحد)، بل هو الموضوع للعموم، وهمزته أصلية لا مبدلة من الواو، فلا تقدير، ورُدّ بأنه يقتضي حينئذ أن المعرَّضَ بهم وهم الكافرون فرّقوا بين كل الرسل، وإنما فرقوا بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين غيره في النبوّة، وفي لزوم هذا نظر. والذي يظهر لي وجهُ التقدير، وأن المقدر بين أحد وبين الله، بدليل (ويريدونَ أن يفرِّقوا بين اللهِ ورسُله).
ونحو (سَرابيل تقيكمُ الحرّ) أي والبرد، وقد يكون اكتفى عن هذا بقوله سبحانه وتعالى في أول السورة (لكمْ فيها دِفءٌ).
(ولهُ ما سكنَ) أي وما تحرّك، وإذا فسر سكن باستقر لم يحتج الى هذا.
(فإن أحْصِرْتُم فما استيسَرَ من الهدْي) أي فإن أحصرتم فحللتم.
(فمنْ كان منكمْ مريضاً أو بهِ منْ رأسِهِ ففدْيةٌ) أي فحلق ففدية.
(لا ينفعُ نفساً إيمانها لمْ تكُنْ آمنتْ منْ قبلُ أو كسَبتْ في إيمانها خيراً) أي إيمانها وكسبها، والآيةُ من اللف والنشر، وبهذا التقدير تندفع شبهة المعتزلة كالزمخشري وغيره، إذ قالوا: سوّى الله تعالى بين عدَم الإيمان وبين الإيمان الذي لم يقترِنْ بالعمل الصالح في عدم الانتفاع به، وهذا التأويل ذكره ابن عطية وابن الحاجب.
ومن القليل حذف أم ومعطوفها كقوله:
... فما أدري أرشْدٌ طلابُها
أي أم غيّ، وقد مرّ البحث فيه.
حذف المعطوف عليه
أنِ اضرِبْ بعصاكَ الحجرَ فانفجرَت أي فضرب فانفجرت وزعم ابن عصفور أن الفاء في فانفجرت هي فاء فضرب، وأن فاء فانفجرت حذفت، ليكون على المحذوف دليل ببقاء بعضه، وليس بشيء، لأن لفظ الفاءين واحد، فكيف يحصل الدليل؟ وجوز الزمخشري ومَنْ تبعه أن تكون فاء الجواب، أي: فإن ضرَبْتَ فقد انفجرت، ويردّه أن ذلك يقتضي تقدم الانفجار على الضرب مثل (إنْ يسرِقْ فقدْ سرَقَ أخٌ له من قبلُ) إلا إن قيل: المراد فقد حكمنا يترتّبِ الانفجار على ضربك، وقيل في (أمْ حسِبْتم أن تدخُلوا الجنّة): إن أم متصلة، والتقدير: أعلمتم أن الجنة حُفّت بالمكاره أم حسبتم.
حذف المبدل منه
قيل في (ولا تقولوا لِما تصفُ ألسنتُكم الكذِب) وفي (كما أرسلْنا فيكمْ رسولاً منكمْ): إن الكذب بدل من مفعول تصف المحذوف، أي لما تصفه، وكذلك في رسولاً بناء على أن ما في كما موصول اسميّ، ويردّه أن فيه إطلاق ما على الواحد من أولي العلم، والظاهرُ أن ما كافة، وأظهر منه أنها مصدرية، لإبقاء الكاف حينئذ على عمل الجر، وقيل في الكذِب إنه مفعول إما لتقولوا والجملتان بعده بدل منه، أي لا تقولوا الكذبَ لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل أو الحرمة، وإما لمحذوف، أي فتقولون الكذب، وإما لتصف على أن مصدرية والجملتان محكيتا القول، أي لا تحللوا وتحرموا لمجرد قول تنطق به ألسنتكم. وقرئ بالجر بدلاً من ما على أسمٌ، وبالرفع وضم الكاف والذال جمعاً لكذوب صفة للفاعل، وقد مرّ أنه قيل في لا إله إلا الله: إن اسم الله تعالى بدل من ضمير الخير المحذوف.
حذف المؤكد وبقاء توكيده
قد مر أن سيبويه والخليل أجازاه، وأن أبا الحسن ومنْ تبعه منعوه.
حذف المبتدأ
يكثر ذلك في جواب الاستفهام نحو (وما أدراك ما الحُطَمةُ؟ نارُ الله) أي هي نار الله، (وما أدْراك ما هيهْ؟ نارٌ حاميهْ)، (ما أصحابُ اليمين؟ في سدْرٍ مخضود) الآيتين، هل أنبئكم بشرٍّ من ذلكُمُ؟ النارُ.
وبعد فاء الجواب نحو (مَنْ عملَ صالحاً فلِنفسهِ، ومَنْ أساءَ فعليها) أي فعمله لنفسه وإساءتهُ عليها، (وإنْ تخالِطوهمْ فإخوانُكمْ) أي فهم إخوانكم، (فإنْ لم يصبها وابلٌ فطلٌ)، (وإنْ مسّه الشّرُّ فيؤوسٌ قنوطٌ)، (فإنْ لم يكونا رجُلين فرجُلٌ وامرأتان) أي فالشاهد. وقرأ ابن مسعود (إن تعذبهم فعبادكَ).
وبعد القول نحو (وقالوا أساطيرُ الأوّلين)، (إلا قالوا ساحرٌ أو مجنون) (سيقولون ثلاثة) الآية (بلْ قالوا أضغاثُ أحلام).
وبعد ما الخبرُ صفةٌ له في المعنى نحو (التّائِبون العابِدون) ونحو (صُمٌّ بكمٌ عمْيٌ).


ووقع في غير ذلك أيضاً نحو (لا يغُرَّنّكَ تقلّبُ الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ) (ولا تقولوا ثلاثة) (لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار، بَلاغٌ) أي هذا بلاغ، وقد صرح به في (هذا بلاغٌ للناس) (سورةٌ أنزلناها) أي هذه سورة، ومثله قول العلماء باب كذا وسيبويه يصرح به.
حذف الخبر
(وطعامُ الذينَ أوتوا الكتابَ حِلٌ لكمْ، وطعامُكمْ حِلٌ لهمْ، والمُحصنات من المؤمِناتِ والمُحصناتُ من الذينَ أوتوا الكتابَ من قبلكمْ) أي حلٌ لكم. (أكلُها دائمٌ، وظلُّها) أي دائم. وأما (أأنتم أعلمُ أمِ الله) فلا حاجة الى دعوى الحذف كما قيل لصحة كونِ أعلم خبراً عنهما. وأما أنتَ أعلم ومالُك فمشكل لأنه إن عُطِف على أنت لزم كون أعلم خبراً عنهما، أو على أعلم لزم كونُ شريكه في الخبرية، أو على ضمير أعلم لزم أيضاً نسبةُ العلم إليه، والعطفُ على الضمير المرفوع المتصل من غير توكيد ولا فصل، وإعمالُ أفعل في الظاهر، وإن قدر مبتدأ حذف خبره لزم كونُ المحذوف أعلم، والوجهُ فيه أن الأصل: بمالك، ثم أنيبت الواو مناب الباء قصداً للتشاكل اللفظي، لا للاشتراك المعنوي، كما قصد بالعطف في نحو (وأرجُلكم) فيمن خفض على القول بأن الخفض للجوار، ونظيره بعْتُ الشّاءَ شاةً ودِرهماً، والأصل شاة بدرهم وقالوا النّاسُ مجزيّون بأعمالهمْ، إن خيرٌ فخيرٌ أي إن كان في عملهم خير، فحذفت كان وخبرها، وقال:
لهفي عليْكَ للهفةِ من خائفٍ ... يبغي جوارَكَ حين ليسَ مُجيرُ
أي ليس له. وقالوا من تأنّى أصابَ أو كاد، ومن استعجل أخطأ أو كاد وقالوا إنّ مالاً وإنّ ولداً. وقال الأعشى:
إنّ محلاً وإنّ مرْتحلا
أي إن لنا حُلولاً في الدنيا وإن لنا ارتحالاً عنها. وقد مرّ البحث في (إن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله)، (إنّ الذين كفروا بالذِكرِ لمّا جاءَهم) مستوفىً. وقال تعالى (قالوا لا ضيرَ) أي علينا (ولو ترى إذْ فزعوا فلا فوتَ) أي لهم. وقال الحماسي:
من صدّ عن نيرانِها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا بَراحُ
وقد كثر حذف خبر لا هذه حتى قيل: إنه لا يذكر، وقال آخر:
إذا قيل سيروا إنّ ليلى لعلّها ... جرى دونَ ليلى مائِلُ القرنِ أعضَبُ
أي لعلها قريبة.
ما يحتمل النوعين
يكثر بعد الفاء نحو (فتحريرُ رقبة)، (فعدّةٌ من أيامٍ أُخر)، (فما استيسر من الهدْي)، (فنظِرةٌ الى ميسرة) أي فالواجبُ كذا، أو فعليه كذا، أو فعليكم كذا.
ويأتي في غيره نحو (فصبرٌ جميل) أي أمري، أو أمثلُ، ومثله (طاعةٌ وقول معروف) أي أمرنا، أو أمثلُ، ويدل للأول قوله:
فقالت: على اسم اللهِ، أمرك طاعةٌ
وقد مرّ تجويزُ ابن عصفور الوجهين في لعمركَ لأفعلنّ، وايمنُ اللهِ لأفعلنّ. وغيره جزم بأن ذلك من حذف الخبر، وفي نعم الرَّجلُ زيد، وغيره جزم بأنه إذا جعل على الحذف كان من حذف المبتدأ.
حذف الفعل
وحده أو مع مضمر مرفوع أو منصوب أو معهما
يطردُ حذفه مفسراً نحو (وإن أحدٌ من المُشركينَ استجاركَ)، (إذا السماءُ انشقّتْ)، (قلْ لو أنتم تملِكون) والأصل: لو تملكون تملكون، فلما حذف الفعل انفصل الضمير، قاله الزمخشري وأبو البقاء وأهل البيان، وعن البصريين أنه لا يجوز لو زيدٌ قام إلا في الشعر أو الندور نحو لو ذاتُ سوارٍ لطمتني وقيل: الأصل لو كنتم، فحذفت كان دون اسمها، وقيل: لو كنتم أنتم، فحذفا مثل التمِس ولو خاتماً من حديد وبقي التوكيد.
ويكثر في جواب الاستفهام نحو (ليقولُنّ اللهُ) أي ليقولن خلقهم الله. وإذا قيلَ لهمْ ماذا أنزلَ ربُّكم؟ قالوا: خيراً.
وأكثر من ذلك كله حذف القول، نحو (والملائكةُ يدخلون عليهمْ من كل باب: سلامٌ عليكم) حتى قال أبو علي: حذف القول من حديث البحر، قُل ولا حرج.
ويأتي حذف الفعل في غير ذلك نحو (انتهوا خيراً لكم) أي وأتوا خيراً، وقال الكسائي: يكن الانتهاء خيراً، وقال الفراء: الكلام جملة واحدة، وخيراً: نعت لمصدر محذوف، أي انتهءً خيراً. (والذين تبوّؤوا الدار والإيمانَ من قبلمْ) أي واعتقدوا الإيمان من قبل هجرتهم. وقال:
علفتُها تبناً وماءً بارداً


فقيل: التقديرُ وسقيتها، وقيل: لا حذف، بل ضمن علفتها معنى أنلتها وأعطيتها، وألزموا صحة علفتها ماء بارداً وتبناً فالتزموه مُحتجّين بقول طرفة:
لها سببٌ ترعى بهِ المءَ والشجرْ
وقالوا الحمدُ لله أهل الحمدِ بإضمار أمدح. وفي التنزيل (وامرأتُه حمالةَ الحطب) بإضمار أذم، ونظائره كثيرة. وقالوا أما أنت مُنطلِقاً انطلقتُ أي لأن كنت منطلقاً انطلقت. وقالوا لا أكلّمهُ ما أنّ حِراء مكانه، وما أنّ في السماءِ نجماً أي ما ثب، ويروى نجم بالرفع، فأنّ: فعل ماضٍ بمعنى عرض، وأصله عنّ.
حذف المفعول
يكثر بعد لو شئت نحو (فلو شاءَ لهداكمْ) أي فلو شاء هدايتكم. وبعد نفي العلم ونحوه، نحو (ألا إنهم همُ السّفهاءُ ولكنْ لا يعلمون) أي إنهم سفهء. (ونحنُ أقربُ إليهِ منكمْ ولكن لا تُبصرون).
وعائداً على الموصول نحو (أهذا الذي بعثَ اللُ رسولاً).
وحذف عائد الموصوف دون ذلك كقوله:
وما شيءٌ حميتَ بمُستباح
وعائد المخبر عنه دونهما كقوله:
عليَّ ذنباً كلُّه لمْ أصنعِ
وقوله:
فثوب لبستُ وثوب أجرّ
وجاء في غير ذلك، نحو (فمنْ لمْ يجدْ فصيامُ شهرين)، (فمن لم يستطعْ فإطعامُ ستينَ مسكيناً) أي فمن لم يجد الرقبة، فمن لم يستطع الصوم.
ومن غريبه حذفُ المقول وبقاء القول نحو (قال موسى أتقولونَ للحقِّ لمّا جاءَكم) أي هو سحر، بدليل (أسِحرٌ هذا).
ويكثر حذفه في الفواصل نحو (وما قلى) (ولا تخشى).
ويجوز حذف مفعولي أعطى نحو (فأمّا مَن أعطى) وثانيهما فقط نحو (ولسوفَ يعطيكَ ربُّك)، وأولهما فقط خلافاً للسهيلي نحو (حتى يُعطوا الجزيَةَ).
حذف الحال
أكثر ما يرد ذلك إذا كان قولاً أغنى عنه المقول نحو (والملائكةُ يدخلونَ عليهم من كلّ باب: سلامٌ عليكمْ) أي قائلين ذلك. ومثله (وإذْ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ واسماعيلُ: ربَّنا تقبّلْ منّا) ويحتمل أن الواو للحال وأن القول المحذوف خبر، أي وإسماعيل يقول. كما أن القول حذف خبراً للموصول في (الذين اتخذوا من دونه أولياءَ: ما نعبُدُهمْ إلا ليقرِّبونا) ويحتمل أن الخبر هنا (إنّ الله يحكمُ بينهمْ) فالقول المحذوف نصب على الحال، أو رفع خبراً أول، أو لا موضع له لأنه بدل من الصلة، هذا كله إن كان الذي للكفار، والعائد الواو، فإن كان للمعبودين عيسى والملائكة والأصنام والعائد محذوف - أي اتخذوهم - فالخبر (إن الله يحكم بينهم) وجملة القول حال أو بدل.
حذف التمييز
نحو كمْ صمتَ أي كم يوماً، وقال تعالى (عليها تسعة عشر)، (إن يكنْ منكمْ عشرونَ صابرون). وهو شاذ في باب نعم نحو مَنْ توضّأ يومَ الجمعة فبها ونعمت أي فبالرخصة أخذ ونعمت رخصةً.
حذف الاستثناء
وذلك بعد إلا وغير المسبوقين بليس، يقال: قبضت عشرة ليس إلا، أو ليس غيرُ، وقد تقدم، وأجاز بعضهم ذلك بعد لم يكن، وليس بمسموع.
حذف حرف العطف
بابه الشعر، كقول الحطيئة:
إنّ امرأ رهطُه بالشّامِ، منزلهُ ... برمل يبرينَ جاراً شدّ ما غترَبا
أي ومنزله برمل يبرين، كذا قالوا، ولك أن تقول: الجملة الثانية صفة ثانية، لا معطوفة. وحكى أبو زيد أكلتُ خبزاً لحماً تمراً فقيل: على حذف الواو، وقيل: على بدل الإضراب. وحكى أبو الحسن أعطه دِرهماً درهمين ثلاثةً وخرج على إضمار أو، ويحتمل البدل المذكور، وقد خرج على ذلك آيات: إحداها (وجوهٌ يومئذ ناعمة) أي ووجوه عطفاً على (وجوه يومئذ خاشعة).
والثانية (أنّ الدّين عندَ اللهِ الإسلامُ) فيمن فتح الهمزة، أي وأنّ الدّين، عطفاً على (أنّه لا إلهَ إلا هو) ويبعده أن فيه فصلاً بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب، وبين المنصوبين بالمرفوع، وقيل: بدل من أن الأولى وصلتها، أو من (القسط)، أو معمول ل(الحكيم) على أن أصله الحاكم ثم حوّل للمبالغة.
والثالثة (ولا على الذين إذا ما أتوكَ لتحْملهمْ قُلتَ لا أجدُ) أي وقلت، وقيل: بل هو الجواب، و(تولوْا) جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما حالهم إذ ذاك؟ وقيل: (تولوا) حال على إضمار قد، وأجاز الزمخشري أن يكون (قلت) استئنافاً، أي إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، ثم قدر أنه قيل: لم تولوا باكين؟ فقيل: (قلت لا أجد ما أحملكم عليه) ثم وسط بين الشرط والجزاء.
حذف فاء الجواب


هو مختصّ بالضرورة كقوله:
مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها
وقد مرّ أن أبا الحسن خرج عليه (إنْ تركَ خيراً الوصيّةُ للوالدين).
حذف واو الحال
تقدم في قوله:
نَصفَ النّهارُ الماءُ غامِرُهُ
أي انتصف النهارُ والحالُ أن الماء غامر هذا الغائص.
حذف قد
زعم البصريون أن الفعل الماضي الواقع حالاً لابدّ معه من قد ظاهرة نحو (وما لكمْ إلاّ تأكُلوا مما ذُكرَ اسم اللِ عليهِ وقد فصّل لكم)، أو مضمرة نحو (أنؤمنُ لكَ واتّبعكَ الأرذلون)، (أو جاؤوكم حصِرَت صُدورُهم) وخالفهم الكوفيون، واشترطوا ذلك في الماضي الواقع خبراً لكان كقوله عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه (أليسَ قدْ صليتَ معنا)، وقول الشاعر:
وكنّا حسِبنا كل بيضاءَ شحْمةً ... عشيّةَ لاقينا جُذاماً وحِميرا
وخالفهم البصريون. وأجاز بعضهم إن زيداً لقام على إضمار قد. وقال الجميع: حقُّ الماضي المثبت المجاب به القسم أن يقرن باللام وقد نحو (تاللهِ لقد آثرك اللهُ علينا) وقيل في (قُتِل أصحابُ الأخدودِ) إنه جواب للقَسم على إضمار اللام وقد جميعاً للطول، وقال:
حلفْتَ لها باللهِ حِلفةَ فاجرٍ ... لناموا، فما إنْ من حديثٍ ولا صالِ
فأضمر قد وأما (ولَئنْ أرسلنا ريحاً فرأوْهُ مُصفراً لظلّوا منْ بعدِه يكفُرون) فزعم قوم أنه من ذلك، وهو سهو، لأن ظلوا مستقبل، لأنه مرتبط على الشرط وسادّ مسدّ جوابه فلا سبيل فيه الى قد إذ المعنى ليظلن، ولكن النون لا تدخل على الماضي.
حذف لا التبرئة
حكى الأخفش لا رجُلَ وامرأةَ بالفتح، وأصله ولا امرأة، فحذفت لا وبقي البناء للتركيب بحاله.
حذف لا النافية وغيرها
يطرد ذلك في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعاً نحو (تاللهِ تفتأ تذْكر يوسُف) وقوله:
فقلتُ: يمين اللهِ أبرحُ قاعِداً
ويقلّ مع الماضي كقوله:
فإن شئْتِ آليْتُ بين المَقا ... مِ والرّكْنِ والحجرِ الأسْودِ
نسيتُكِ ما دام عقلي معي ... أمدّ به أمدَ السّرْمدِ
ويسهله تقدم لا على القسم كقوله:
فلا واللهِ نادى الحيُّ قومي
وسمع بدون القسم كقوله:
وقُولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ... يُلاقونهُ حتّى يؤوبَ المنخَّلُ
وقد قيل به في (يُبيّنُ اللهُ لكم أنْ تضلّوا) أي لئلا، وقيل: المحذوف مضاف. أي كراهةَ أن تضلوا.
حذف ما النافية
ذكر ابن معطٍ ذلك في جواب القسم فقال في ألفيته:
وإنْ أتى الجوابُ منْفيّاً بِلا ... أو ما كقولي: والسّما ما فَعلا
فإنهُ يجوزُ حذف الحرفِ ... إنْ أُمِنَ الإلباسُ حالَ الحذفِ
قال ابن الخباز: وما رأيت في كتب النحو إلا حذف لا، وقال لي شيخنا: لا يجوز حذف ما، لأن التصرف في لا أكثر من التصرف في ما، انتهى. وأنشد ابن مالك:
فواللهِ ما نُلْتمْ وما نِيلَ منكُم ... بمُعتَدلٍ وفقٍ ولا مُتقاربِ
وقال: أصله ما مانلتم، ثم في بعض كتبه قدّر المحذوف ما النافية، وفي بعضها قدّره ما الموصولة.
حذف ما المصدرية
قاله أبو الفتح في قوله:
بآيةِ تُقدمونَ الخيْلَ شُعثاً
والصواب أن آية مضافة الى الجملة كما مرّ، وعكسه قول سيبويه في قوله:
بآية ما تحبّون الطّعاما
إن ما زائدة، والصواب أنها مصدرية.
حذف كي المصدرية
أجازه السيرافي نحو جئت لتكرمني وإنما يقدر الجمهور هنا أنْ بعينها لأناه أمّ الباب، فهي أولى بالتجوّز.
حذف أداة الاستثناء


لا أعلم أن أحداً أجازه، إلا أن السهيلي قال في قوله تعالى (ولا تَقولَنّ لشيء) الآية: لا يتعلق الاستثناء ب(فاعل)؛ إذ لم ينه عن أن يصل (إلا أن يشاء الله) بقوله ذلك، ولا بالنهي؛ لأنك إذا قلت: أنت مَنهيٌ عن أن تقوم، إلا أن يشاء الله فلستَ بمنهي، فقد سلّطْته على أن يقوم ويقول: شاء الله ذلك، وتأويلُ ذلك أن الأصل إلا قائلاً إلا أن يشاء الله، وحذف القول كثير، فتضمن كلامه حذف أداة الاستثناء والمستثنى جميعاً، والصوابُ أن الاستثناء مفرَّّغ، وأن المستثنى مصدر أو حال أي إلا قولاً مصحوباً بأنْ يشاء الله، أو إلا متلبساً بأن يشء الله، وقد علم أنه لا يكون القول مصحوباً بذلك إلا مع حرف الاستثناء، فطوي ذكره لذلك، وعليهما فالباء محذوفة من أنْ، وقال بعضهم: يجوز أن يكون (أن يشاء الله) كلمة تأبيد، أي لا تقولنّه أبداً، كما قيل في (وما يكونُ لنا أن نعودَ فيها إلاّ أنْ يشاءَ الله ربُّنا)، لأن عودَهم في ملّتهم مما لا يشاؤه الله سبحانه.
وجوّز الزمخشري أن يكون المعنى ولا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه.
ولما قاله مُبعِد وهو أن ذلك معلوم في كل أمر ونهي، ومُبطل وهو أنه يقتضي النهي عن قول إني فاعل ذلك غداً مطلقاً، وبهذا يرد أيضاً قول مَنْ زعم أن الاستثناء منقطع، وقول من زعم أن (إلا أن يشاء الله) كنايةٌ عن التأييد.
حذف لام التوطئة
(وإنْ لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسّنّ)، (وإنْ أطعْتُموهمْ إنّكمْ لمُشركون)، (وإنْ لم تغفِرْ لنا وترحمْنا لنكوننّ منَ الخاسِرين) بخلاف (وإلا تغفِرْ لي وترْحَمْني أكُنْ منَ الخاسرين).
حذف الجار
يكثر ويطّرد مع أنّ وأنْ نحو (يمُنّون عليك أنْ أسْلموا) أي بأنْ. ومثله (بل اللهُ يمنّ عليكمْ أنْ هداكمْ)، (والذي أطمعُ أنْ يغفِرَ لي)، (ونطمعُ أن يُدخِلنا ربُّنا)، (وأنّ المساجِدَ للهِ) أي: ولأن المساجد لله، (أيعِدُكم أنّكمْ إذا متُّمْ) أي بأنكم.
وجاء في غيرهما نحو (قدّرناهُ منازِلَ) أي قدرنا له، (ويبغونها عِوجاً) أي يبغون لها. (إنما ذلِكم الشيطانُ يخوِّفُ أولياءه) أي يخوفكم بأوليائه.
وقد يحذف مع بقاء الجر كقول رؤبة - وقد قيل له كيف أصبحت - خَيرٍ عافاكَ الله وقولهم بكم درهمٍ اشتريْتَ ويقال في القسم أللهِ لأفعلنّ.
حذف أن الناصبة
هو مطرد في مواضع معروفة، وشاذ في غيرها نحو: خُذِ اللصَّ قبلَ يأخُذَك ومُرهُ يحفِرَها، ولابدّ من تَتْبَعها، وقال به سيبويه في قوله:
ونهنهتُ نفسي بعدما كدتُ أفعلَهْ
وقال المبرد: الأصل أفعلُها، ثم حذفت الألف ونقلت حركة الهاء الى ما قبلها، وهذا أولى من قول سيبويه، لأنه أضمر أنْ في موضعٍ حقُّها ألا تدخل فيه صريحاً وهو خبر كاد، واعتد بها مع ذلك بإبقاء عملها.
وإذا رفع الفعل بعد إضمار أنْ سهل الأمر، ومع ذلك لا ينقاس، ومنه (قُل أفغيْرَ اللهِ تأمُرونّي أعبُدُ)، (ومنْ آياتِهِ يُريكُم البرْقَ)، وتسمَعُ بالمُعيديِّ خيرٌ من أن تراه، وهو الأشهر في بيت طرفة:
ألا أيُّهذا الزّاجِري أحضُرُ الوغى ... وأنْ أشهدَ اللذّاتِ، هل أنتَ مُخلِدي
وقرئ (أعبُدُ) بالنصب كما روي أحضُرَ كذلك، وانتصاب غير في الآية على القراءتين لا يكون بأعبد، لأن اصلة لا تعمل فبما قبل الموصول، بل بتأمروني، وأن أعبد بدل اشتمال منه، أي تأمروني بغير الله عبادتِهِ.
حذف لام الطلب
هو مطرد عند بعضهم في نحو قُلْ لهُ يفعلْ وجعل منه (قُل لعِبادي الذينَ آمنوا يُقيموا الصّلاةَ)، (وقُل لعبادي يقولوا) وقيل: هو جواب لشرط محذوف، أو جواب للطلب، والحقُّ أن حذفها مختص بالشعر كقوله:
مُحمّدُ تفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ
حذف حرف النداء
نحو (أيها الثّقلانِ)، (يُوسُف أعرِضْ عن هذا)، (أن أدّوا إليّ عِبادَ الله)، وشذّ في اسمي الجنس والإشارة في نحو أصبِح ليلُ وقوله:
بمِثلكَ هذا لوعةٌ وغرامُ
ولحّن بعضهم المتنبي في قوله:
هذي برزْتِ لنا فجْتِ رَسيسا
وأجيب بأن هذي مفعول مطلق، أي برزت هذه البرزَةَ، وردّه ابن مالك بأنه لا يشار الى المصدر إلا منعوتاً بالمصدر المشار إليه كضربتُهُ ذلكَ الضربَ، ويرده بيت أنشده هو، وهو قوله:


يا عمرو إنك قد ملِلتَ صحابتي ... وصحابتيكَ إخالُ ذاكَ قليلُ
حذف همزة الاستئناف
قد ذكر في أول الباب الأول من هذا الكتاب
حذف نون التوكيد
يجوز في نحو لأفعَلن في الضرورة كقوله:
فلا وأبي لنأتِيها جميعاً ... ولو كانت بها عربٌ ورومُ
ويجب حذف الخفيفة إذا لقيها ساكن نحو اضرِبَ الغُلامَ بفتح الباء، والأصل اضرِبنْ، وقوله:
ولا تُهينَ الفقيرَ علّكَ أنْ ... تركعَ يوماً والدّهرُ قد رفعَه
وإذا وقف عليها تالية ضمة أو كسرة، ويعاد حينئذ ما كان حذف لأجلها، فيقال في اضرِبُن يا قومِ): اضرِبوا، وفي اضربِن يا هند اضرِبي، قيل: وحذفها في غير ذلك ضرورة كقوله:
اضرِبَ عنكَ الهُمومَ طارقَها ... ضرْبَكَ بالّسيفِ قوْنَسَ الفرَسِ
وقيل: ربما جاء في النثر، وخرج بعضهم عليه قراءة من قرأ (ألمْ نشرحَ) بالفتح، وقيل: إن بعضهم ينصب بلم ويجزم بلن، ولك أن تقول: لعل المحذوف فيهما الشديدة، فيجاب بأن تقليل الحذف والحمل على ما ثبت حذفه أولى.
حذف نوني التثنية والجمع
يحذفان للإضافة نحو (تَبتْ يَدا أبي لهَب) و(إنا مُرسلو النّاقةِ). ولشبه الإضافة نحو لا غُلامي لزَيدٍ ولا مُكرمي لعمْرو إذا لم تقدر اللام مُقحمة. ولتقصير الصلة نحو الضّارِبا زيداً، والضارِبو عمراً. واللام الساكنة قليلاً نحو (لذائقو العذابَ) فيمن قرأه بالنصب. وللضرورة نحو قوله:
هُما خُطتا: إما إسارٌ ومنةٌ ... وإما دمٌ، والقتْلُ بالحرِّ أجدَرُ
فيمن رواه برفع إسار ومنة وأما من خفض فبالإضافة، وفصلَ بين المتضايفين بإما، فلم ينفكّ البيت عن ضرورة، واختلف في قوله:
لا يزالونَ ضارِبينَ القِبابِ
فقيل: الأصل ضاربي القباب، وقيل للقباب، كقوله:
أشارَتْ كُليْبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
وقيل ضاربين معرب إعراب مساكين، فنصبُه بالفتحة، لا بالياء.
حذف التنوين
يحذف لزوماً لدخول ال نحو الرّجُل وللإضافة نحو غلامك ولشبهها نحو لا مالَ لزيدٍ إذا لم تقدر اللام مُقْحَمة، بل قدرت فهو مضاف، ولمانع الصرف نحو فاطِمة وللوقف في غير النصب، وللاتصال بالضمير نحو ضارِبك فيمن قال إنه غير مضاف، فأما قوله:
أمُسْلمني إلى قومي شراحي
فضرورة، خلافاً لهشام، ثم هو نون وقاية لا تنوين كقوله:
وليسَ المُوافيني ليُرفَدَ خائباً
إذ لا يجتمع التنوين مع أل، ولكون الاسم علماً موصوفاً بما اتصل به وأضيف الى علم، من ابن وابنة اتفاقاً، أو بنت عند قوم من العرب، فأما قوله:
جاريةٌ منْ قيسٍ بنِ ثعلبه
فضرورة.
ويحذف لالتقاء الساكنين قليلاً كقوله:
فألفيْته غير مُستعتِبٍ ... ولا ذاكرِ الله إلا قَليلا
وإنما آثر ذلك على حذفه للإضافة لإرادة تماثل المتعاطفين في التنكير، وقرئ (قُلْ هو اللهُ أحد اللهُ الصّمد)، (ولا الليلُ سابقُ النهر) بترك تنوين أحد وسابق ونصب النهر.
واختلف لم ترك تنوين غير في نحو قبضتُ عشرَةً ليسَ غيرُ فقيل: لأنه مبني كقبلُ وبعدُ، وقيل: لنية الإضافة وإن الضمة إعراب وغير متعينة لأنها اسمُ ليس، لا محتملة لذلك وللخبرية، ويردّه أن هذا التركيبَ مطرد، ولا يحذف تنوين مضاف لغير مذكور باطراد، إلا إنْ أشبه في اللفظ المضاف نحو قطعَ اللهُ يدَ ورجْلَ منْ قالها فإن الأول مضاف الى المذكور، والثاني لمجاورته له مع أنه المضاف إليه في المعنى كأنه مضاف إليه لفظاً.
حذف ال
تحذفُ للإضافة المعنوية، وللنداء نحو يا رحمنُ إلا من اسم الله تعالى، والجمل المحكية، قيل: والاسم المشبه به نحو يا الخليفةَ هيْبةً وسمع سلامُ عليكم بغير تنوين، فقيل: على إضمار ال، ويحتمل عندي كونهُ على تقدير المضاف إليه، والأصل سلام الله عليكم، وقال الخليل في ما يحْسنُ بالرَّجُلِ خيرِ منكَ أنْ يفعلَ كذا هو على نية ال في خير، ويرده أنها لا تجامع من الجارة للمفضول، وقال الأخفش: اللام زائدة، وليس هذا بقياس، والتركيب قياسي، وقال ابن مالك: خير بدل وإبدال المشتق ضعيف، وأولى عندي أن يخرج على قوله:
ولقدْ أمرّ على اللئيمِ يسُبني
حذف لام الجواب
وذلك ثلاثة: حذف لام جواب لو نحو (لو نشاءُ جعلْناهُ أجاجاً).


وحذف لام لقد، يحسن مع طول الكلام نحو (قد أفْلح منْ زكّاها).
وحذف لام لأفْعلنّ يختص بالضرورة كقول عامر بن الطّفيل:
وقتيلِ مرّةَ أثأرنّ، فإنّهُ ... فِرغٌ، وإنّ أخاكمُ لم يُثأرِ
حذف جملة القسم
كثير جداً، وهو لازم مع غير الباء من حروف القسم، وحيث قيل لأفعلنّ أو لقدْ فعلَ أو لَئنْ فعل ولم يتقدم جملة قسم فثمَّ جملة قسم مقدرة، نحو (لأعذبنهُ عَذاباً شديداً) الآية، (ولقد صَدقكمُ اللهُ وعْدَهُ)، (لئنْ أُخْرجوا لا يخرجون معهُمْ)، واختلف في نحو لزَيدٌ قائم ونحو إنّ زيداً قائم، أو لقائم هل يجب كونه جواباً لقسم أو لا؟
حذف جواب القسم
يجب إذا تقدم عليه أو اكتنَفه ما يغني عن الجواب، فالأول نحو زيدٌ قائمٌ والله ومنه إنْ جاءني زيدٌ والله أكرمته. والثاني نحو زيدٌ والله قائم فإن قلت زيد والله إنه قائم، أو لقائم احتمل كون المتأخر عنه خبراً عن المقدم عليه، واحتمل كونه جواباً وجملة القسم وجوابه الخبر.
ويجوز في غير ذلك نحو (والنّازِعاتِ غَرقاً) الآيات، أي لتُبعثُنّ، بدليل ما بعده، وهذا المقدر هو العامل في (يومَ ترجُفُ) أو عامله اذكر، وقيل: الجواب: (إنّ في ذلك لعِبرَة) وهو بعيد لبعده.
ومثله (ق والقرآنِ المجيد) أي ليهلكن بدليل (كمْ أهْلكنا)، أو إنك لمنذر بدليل (بلْ عجِبوا أنْ جاءَهم منذِرٌ)، وقيل: الجواب مذكور، فقال الأخفش: (قد علِمنا) وحذفت اللام للطول مثل (قد أفلحَ مَنْ زكاها) وقال ابن كيسان (ما يلفِظُ منْ قولٍ) الآية، الكوفيون: (بل عجِبوا) والمعنى لقد عجبوا، بعضهم: (إنّ في ذلك لذكرى).
ومثله (ص والقرآنِ ذي الذِّكر) أي إنه لمعجز، أو إنّكَ لمنَ المرسلين أو ما الأمر كما يزعمون، وقيل: مذكور، فقال الكوفيون والزجاج (إنّ ذلكَ لحق) وفيه بعد، الأخفش: (إنْ كلٌ إلا كذّبَ الرُّسل)، الفراء وثعلب: (ص) لأن معناها صدق الله، ويرده أن الجواب لا يتقدم، وقيل: (كمْ أهْلَكنا) وحذفت اللام للطول.
حذف جملة الشرط
هو مطرد بعد الطلب نحو (فاتّبعوني يُحبِبْكمُ الله) أي فإن تتبعوني يحببكم الله. (فاتّبعني أهدِك) (ربَّنا أخِّرنا الى أجل قريب نجِب دعوتكَ ونتبعِ الرُسلَ).
وجاء بدونه نحو (إنّ أرضي واسِعة فإيايَ فاعبُدونِ) أي فإن لم يتأت إخلاص العبادة لي في هذه البلدة فإياي فاعبدون في غيرها. (أم اتخذوا منْ دونهِ أولياءَ فالله هو الولي) أي إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي. (أو تقولوا لو أنّا أنزلَ علينا الكتابُ لكنّا أهدى منهمْ، فقد جاءكم بيّنةٌ من ربِّكمْ وهُدًى ورحمةٌ، فمن أظلمُ ممن كذّب بآياتِ الله) أي إن صدقتم فيما كنتم تعِدون به من أنفسكم فقد جاءكم بينة وإن كذبتم فلا أحد أكذب منكم فمن أظلم، وإنما جعلت هذه الآية من حذف جملة الشرط فقط - وهي من حذفها وحذف جملة الجواب - لأنه قد ذكر في اللفظ جملة قائمة مقام الجواب، وذلك يسمى جواباً تجوزاً كما سيأتي.
وجعل منه الزمخشري وتبعه ابن مالك بدر الدين (فلم تقتلوهم) أي إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، ويرده أن الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه الفاء.
وجعل منه أبو البقاء (فذلكَ الذي يدُعُّ اليتيم) أي إن أردت معرفته فذلك، وهو حسن.
وحذف جملة الشرط بدون الأداة كثير كقوله:
فطلِّقها فلستَ بها بكفءٍ ... وإلا يعلُ مفرقكَ الحُسامُ
أي وإن لا تطلقها.
حذف جملة جواب الشرط
وذلك واجب إن تقدم عليه أو اكتنفه ما يدل على الجواب، فالأول نحو هوَ ظالمٌ إن فعل والثاني نحو هو إن فعلَ ظالم (وإنّا إن شاءَ اللُ لمهتدون) ومنه والله إن جاءني زيدٌ لأكرمنه. وقول ابن معطٍ:
اللفظُ إن يُفِد هوَ الكلامُ
إما من ذلك ففيه ضرورة، وهي حذف الجواب مع كون الشرط مضارعاً، وإما الجوابُ الجملة الاسمية وجملتا الشرط والجواب خير ففيه ضرورة أيضاً، وهي حذف الفاء كقوله:
من يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها


ووهم ابن الخباز إذ قطع بهذا الوجه، ويجوز حذف الواب في غير ذلك نحو (فإن استطعتَ أن تبتغيَ نفقاً في الأرض) الآية، أي فافعل. (ولو أنّ قُرآناً سُيِّرتْ بهِ الجبال) الآية، أي لما آمنوا به، بدليل (وهمْ يكفرونَ بالرّحمنِ) والنحويون يقدرون: لكان هذا القرآن، وما قدرته أظهر. (لو تعلمونَ علمَ ايقين) أي لارتدعتم وما ألهاكم التكاثر. (ولو افتدى به) أي ما تُقبِّلَ منه. (ولو كنتم في بُروجٍ مشيّدة) أي لأدرككم. (وإذا قيلَ لهمُ اتقوا ما بين أيديكمْ وما خلفكمْ لعلّكم تُرحمون) أي أعرضوا، بدليل ما بعده. (أإن ذُكِّرتُمْ) أي تطيّرتم. (ولو جئنا بمثلهِ مددا) أي لنفد. (ولو ترى إذِ المُجرمونَ ناكسو رؤوسهم) أي لرأيت أمراً فظيعاً. (ولولا فضلُ اللهِ عليكمْ ورحمتهُ وأنّ اللهَ توابٌ حكيمٌ) أي لهلكتم. (قلْ أرأيتم إنْ كانَ منْ عندِ الله وكفرتم به) قال الزمخشري: تقديره ألستم ظالمين، بدليل (إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين) ويرده أن جملة الاستفهام لا تكون جواباً إلا بالفاء مؤخرة عن الهمزة نحو إن جئتك أفما تُحسنُ إليّ ومقدمة على غيرها نحو فهل تحسن إليّ.
تنبيه
التحقيقُ أن من حذف الجواب مثل (من كانَ يرجو لقاءَ الله فإنّ أجل الله لآتٍ) لأن الجواب مسبب عن الشرط، وأجل الله آت سواء أوجد الرجاء أم لم يوجد، وإنما الأصل فليبادر بالعمل فإن أجل الله لآت. ومثله (وإنْ تجهر بالقول) أي فاعلم أنه غني عن جهرك (فإنه يعلمُ السر). (وإنْ يُكذِّبوك) أي فتصبّر (فقد كُذِّبتْ رُسلٌ من قبلك). (إن يمسسكُمْ قرحٌ) أي فاصبروا (فقد مس القومَ قرحٌ مثله). (ومن يتبعْ خطواتِ الشيطان) أي يفعل الفواحش والمنكرات (فإنه يأمرُ بالفحشاء والمنكر). (ومن يتولّ الله ورسولَه والذين آمنوا) أي يغلِبْ (فإنّ حزب اللهِ هم الغالبون). (وإن عزموا الطلاقَ) أي فلا تؤوذهم بقول ولا فعل، فإن الله يسمع ذلك ويعلمه. (فإن تولوا) أي فلا لوم عليّ (فقد أبلغتكم).
حذف الكلام بجملته
يقع ذلك باطراد في مواضع: أحدها: بعد حرف الجواب، يقال: أقام زيد؟ فتقول: نعم، وألم يقم زيد؟ فتقول: نعم إن صدّقت النفي وبلى إن أبطلته، ومن ذلك قوله:
قالوا: أخفت؟ فقلتُ؟ إنّ، وخيفتي ... ما إنْ تزالُ منوطةً برجائي
فإن إنّ هنا بمعنى نعم، وأما قوله:
ويقُلن: شيبٌ قد علا ... كَ وقد كبرتَ، فقلتُ: إنّه
فلا يلزم كونه من ذلك، خلافاً لأكثرهم، لجواز ألا تكون الهاء للسكت، بل اسما لإن على أنها المؤكدة والخبر محذوف، أي إنه كذلك.
الثاني: بعد نعم وبئس إذا حذف المخصوص وقيل: إن الكلام جملتان نحو (إنا وجدناه صابراً نعمَ العبدُ).
والثالث: بعد حروف النداء في مثل (يا ليت قومي يعلمون) إذا قيل: إنه على حذف المنادى، أي يا هؤلاء.
الرابع: بعد إن الشرطية كقوله:
قالتْ بناتُ العمِّ: يا سلمى وإنْ ... كان فقيراً مُعدِماً؟ قالتْ: وإنْ
أي: وإن كان كذلك رضيته.
الخامس: في قولهم افعل هذا إما لا أي إن كنت لا تفعل غيره فافعله.
حذف أكثر من جملة
في غير ما ذكر، أنشد أبو الحسن:
إنْ يكُنْ طبُّكِ الدّلال فلو في ... سالِفِ الدّهر والسّنينَ الخوالي
أي إن كان عادتُك الدلال فلو كان هذا فيما مضى لاحتملناهُ منك. وقالوا في قوله تعالى (فقلْنا اضرِبوهُ ببعضها، كذلكَ يُحيي اللهُ الموتى): إن التقدير فضربوه فحيي فقلنا: كذلك يحيي الله. وفي قوله تعالى (أنا أنبِّئُكمْ بتأويلهِ فأرسِلونِ) الآية: إن التقدير: فأرسلون الى يوسف لأستعبره الرؤيا فأرسلوه فأتاه وقال له يا يوسف. وفي قوله تعالى (فقُلنا اذْهبا الى القومِ الذين كذّبوا بآياتنا فدمّرناهم): إن التقدير فأتياهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما فدمرناهم.
تنبيه


الحذف الذي يلزم النحويَّ النظر فيه هو ما اقتضته الصناعة، وذلك بأن يجدَ خبراً بدون مبتدأ أو بالعكس، أو شرطاً بدون جزاء أو بالعكس، أو معطوفاً بدون معطوف عليه، أو معمولاً بدون عامل، نحو (ليقولنّ: الله) ونحو (قالوا: خيراً) ونحو خيرٍ عافاك الله، وأما قولهم في نحو (سَرابيل تقيكُم الحرَّ): إن التقدير: والبرد، ونحو (وتلكَ نعمةٌ تمنها عليَّ أنْ عبّدتَ بني إسرائيل): إن التقدير: ولم تعبِّدني، ففضولٌ في فن النحو، وإنما ذلك للمفسِّر، وكذا قولهم: يحذف الفاعل لعظمته وحقارة المفعول أو بالعكس أو للجهل به أو للخوف عليه أو منه ونحو ذلك، فإنه تطفل منهم في صناعة البيان، ولم أذكر بعض ذلك في كتابي جرياً على عادتهم، وأُنشِدَ متمثلاً:
وهلْ أنا إلا من غزيّةَ: إنْ غوتْ ... غويتُ، وإنْ ترشُدْ غزية أرشدِ
بل لأني وضعت الكتاب لإفادة متعاطي التفسير والعربية جميعاً، وأما قولهم في راكب الناقةِ طليحانِ إنه على حذف عاطف ومعطوف، أي والناقة، فلازمٌ لهم ليطابق الخبر المخبر عنه، وقيل: هو على حذف مضاف، أي أحدُ طليحين، وهذا لا يتأتى في نحو غلامُ زيدٍ ضربتُهما.
الباب السادس
في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين
والصوابُ خلافها
وهي كثيرة، والذي يحضرني الآن منها عشرون موضعاً: أحدها: قولهم في لوْ إنها حرف امتناع لامتناع وقد بينّا الصواب في ذلك في فصل لو، وبسطنا القول فيه بما لم نُسبقْ إليه.
الثاني: قولهم في إذا غير الفجائية إنها ظرف لما يستقبل من الزمان وفيها معنى الشرط غالباً وذلك مَعيبٌ من جهات: إحداها: أنهم يذكرونه في كل موضع، وإنما ذلك تفسير للأداة من حيث هي، وعلى المعرب أن يبين في كل موضع: هل هي متضمنة لمعنى الشرط أو لا؟ وأحسن مما قالوه أن يقال، إذا أريد تفسيرها من حيث هي: ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه صالح لغير ذلك.
والثانية: أن العبارة تُلقى للمتدربين يطلب فيها الإيجاز لتخف على الألسنة، إذ الحاجة داعية الى تكرارها، وكان أخصر من قولهم لما يستقبل من الزمان أن يقولوا: مستقبل.
والثالثة: أن المراد أنها ظرف موضوع للمستقبل، والعبارة موهمة أنها محل للمستقبل، كما تقول: اليوم ظرف للسفر، فإن الزمان قد يجعل ظرفاً للزمان مجازاً كما تقول: كتبتُه في يوم الخميس في عام كذا، فإن الثاني حال من الأول، فهو ظرف له على الاتساع، ولا يكون بدلاً منه، إذ لا يبدل الأكثر من الأقل على الأصح، ولو قالوا ظرف مستقبل لسلموا من الإسهاب والإيهام المذكورين.
والرابعة: أن قولهم غالباً راجع الى قولهم فيه معنى الشرط كذا يفسرونه، وذلك يقتضي أن كونه ظرفاً وكونه للزمان وكونه للمستقبل لا يتخلفْنَ، وقد بينا في بحث إذا أن الأمر بخلاف ذلك.
الثالث: قولهم النعت يتبع المنعوت في أربعة من عشرة وإنما ذلك في النعت الحقيقي، فأما السببي فإنما يتبع في اثنين من خمسة: واحد من أوجه الإعراب، وواحد من التعريف والتنكير، وأما الإفراد والتذكير وأضدادهما فهو فيها كالفعل، تقول: مررت برجلين قائمٍ أبواهما، وبرجالٍ قائم آباؤهم، وبرجل قائمةٍ أمُّه، وبامرأةٍ قائمٍ أبوها، وإنما يقول: قائمين أبواهما، وقائمين آباؤهم، مَنْ يقول: أكلوني البراغيث، وفي التنزيل (ربَّنا أخرِجنا من هذه القرية الظالم أهلُها) غير أن الصفة الرافعة للجمع يجوز فيها في الفصيح أن تُفردَ، وأن تكسر، وهو أرجح على الأصح كقوله:
بكرْتُ عليهِ بُكرة فوجدتُهُ ... قُعوداً عليه بالصريمِ عواذلُهْ
وصح الاستشهاد بالبيت لأن هذا الحكم ثابت أيضاً للخبر والحال.
والرابع: قولهم في نحو (وكُلا منها رَغداً) إن رغداً نعت مصدر محذوف ومثله (واذْكرْ ربَّك كثيراً) وقول ابن دريد:
واشتعَلَ المُبيضُّ في مسودِّه ... مثلَ اشتِعال النّارِ في جزْلِ الغضى
أي أكلاً رغداً، وذكراً كثيراً، واشتعالاً مثل اشتعال النار.


قيل: ومذهب سيبويه والمحققين خلافُ ذلك، وأن المنصوب حالٌ من ضمير مصدر الفعل، والأصل فكلاه، واشتعله، أي فكلا الأكل واشتعل الاشتعال، ودليل ذلك قولهم سيرَ عليه طويلاً ولا يقولون طويل، ولو كان نعتاً للمصدر لجاز، وبدليل أنه لا يحذف الموصوف إلا والصفة خاصة بجنسه: تقول رأيت كاتِباً ولا تقول: رأيت طويلاً، لأن الكتابة خاصة بجنس الإنسان دون الطول.
وعندي فيما احتجوا به نظر، أما الأول فلجواز أن المانع من الرفع كراهية اجتماع مجازيْن: حذف الموصوف، وتصيير الصفة مفعولاً على السَّعة، ولهذا يقولون دخَلتُ الدار بحذف في توسعاً، ومنعوا دخلتُ الأمرَ لأن تعلق الدخول بالمعاني مجاز، وإسقاط الخافض مجاز، وتوضيحه أنهم يفعلون ذلك في صفة الأحيان، فيقولون: سِيرَ عليه زمنٌ طويل، فإذا حذفوا الزمان قالوا: طويلاً، بالنصب لما ذكرنا. وأما الثاني فلأن التحقيق أن حذف الموصوف إنما يتوقف على وجْدان الدليل، لا على الاختصاص، بدليل (وألنّا لهُ الحديدَ أنِ اعمَلْ سابِغاتٍ) أي دروعاً سابغاتٍ. ومما يقدح في قولهم مجيء نحو قولهم اشتملَ الصّماءَ أي الشملة الصماء، والحالية متعذرة لتعريفه.
والخامس: قولهم الفاء جواب الشرط والصواب أن يقال: رابطة لجواب الشرط، وإنما جواب الشرط الجملة.
والسادس: قولهم العطف على عاملين والصواب على معمولي عاملين.
والسابع: قولهم بل: حرف إضراب والصواب حرف استدراك وإضراب، فإنها بعد النفي والنهي بمنزلة لكن سواء.
والثامن: قولهم في نحو ائتِني أكرِمْكَ: إن الفعل مجزوم في جواب الأمر، والصحيح أنه جواب لشرط مقدر، وقد يكون إنما أرادوا تقريب المسافة على المتعلمين.
والتاسع: قولهم في المضارع في مثل يقومُ زيد فعل مضارع مرفوع لخلوه من ناصب وجازم، والصواب أن يقال: مرفوع لحلوله محل الاسم، وهو قول البصريين، وكأن حاملهم على ما فعلوا إرادة التقريب، وإلا فما بالهم يبحثون على تصحيح قول البصريين في ذلك، ثم إذا أعربوا أو عرّبوا قالوا خلاف ذلك؟ والعاشر: قولهم امتنع نحو سكْرانَ من الصرف للصفة والزيادة، ونحو عثمان للعلمية والزيادة وإنما هذا قولُ الكوفيين، فأما البصريون فمذهبهم أن المانع الزيادة المشبهة لألفي التأنيث، ولهذا قال الجرجاني: وينبغي أن تُعدَّ موانع الصرف ثمانية لا تسعة، وإنما شُرطتِ العلمية أو الصفة لأن الشبه لا يتقوم إلا بأحدهما، ويلزم الكوفيين أن يمنعوا صرف نحو عفريت - علماً - فإن أجابوا بأن المعتبر هو زيادتان بأعيانهما، سألناهم عن علة الاختصاص فلا يجدون مصرفاً عن التعليل بمشابهة ألفي التأنيث، فيرجعون الى ما اعتبره البصريون.
والحادي عشر: قولهم في نحو قوله تعالى (فانْكحوا ما طابَ لكمْ منَ النّساء مثنى وثُلاثَ ورباع) إن الواو نائبة عن أو ولا يعرف ذلك في اللغة، وإنما يقوله بعضُ ضعفاء المعربين والمفسرين، وأما الآية فقال أبو طاهر حمزة بن الحسين الأصفهاني في كتابه المسمى بالرسالة المُعرِبة عن شرف الإعراب: القول فيها بأن الواو بمعنى أو عجز عن دَرك الحق، فاعلموا أن الأعداد التي تجمع قسمان: قسم يؤتى به ليضم بعضه الى بعض وهو الأعداد الأصول، نحو (ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجعتمْ، تلكَ عَشرةٌ كاملة) (... ثلاثين لَيلةً، وأتمَمناها بعشرٍ، فتمّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً). وقسم يؤتى به لا ليضم بعضُه الى بعض، وإنما يراد به الانفراد، لا الاجتماع، وهو الأعداد المعدولة كهذه الآية وآية سورة فاطر، وقال: أي منهم جماعة ذوو جناحين وجماعة ذوو ثلاثة ثلاثة وجماعة ذوو أربعة أربعة، فكل جنسٍ مفرد بعدد، وقال الشاعر:
ولكنّما أهلي بوادٍ أنيسُه ... ذئابٌ تبغّى النّاسَ مَثنى وموْحَدُ
ولم يقولوا ثُلاث وخُماس ويريدون ثمانية كما قال تعالى (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) وللجهل بمواقع هذه الألفاظ استعملها المتنبي في غير موضع التقسيم فقال:
أحادٌ أم سُداسٌ في أحادِ ... لُيَيلتُنا المنوطةُ بالتّنادي


وقال الزمخشري: فإن قلت الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مَثنى وثلاث ورُباع؟ قلت: الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراده من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المالَ درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت: لم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت: كما جاء بها في المثال المذكور، ولو جئت فيه بأو لأعلمْت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسمة على تثنية وبعضها على تثليث وبعضها على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلّتْ عليه الواو، وتحريره أن الواو دلّتْ على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد وإن شاؤوا متفقين فيها، محظوراً عليهم ما وراء ذلك.
وأبلغ من هذه المقالة في الفساد قولُ مَنْ أثبت واو الثمانية، وجعل منها (سبعةٌ وثامنهمْ كلبُهم) وقد مضى في باب الواو أن ذلك لا حقيقة له، واختلف فيها هنا فقيل: عاطفة خبر هو جملة على خبر مفرد، والأصل هم سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل: للاستئناف، والوقف على سبعة، وإن في الكلام تقريراً لكونهم سبعة، وكأنه لما قيل سبعة قيل: نعم وثامنهم كلبهم، واتصل الكلمان، ونظيره (إنّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً) الآية، فإن (وكذلكَ يفعلون) ليس من كلامها، ويؤيده أنه قد جاء في المقالتين الأوليين (رجماً بالغيب) ولم يجئ مثله في هذه المقالة، فدل على مخالفتها لهما فتكون صدقاً، ولا يردّ ذلك بقوله تعالى (ما يَعلمُهمْ إلا قليل) لأنه يمكن أن يكون المراد ما يعلم عدتهم أو قصتهم قبل أن نتلوها عليك إلا قليل من أهل الكتاب اذين عرفوه من الكتب، وكلام الزمخشري يقتضي أن القليل هم الذين قالوا سبعة، فيندفع الإشكال أيضاً، ولكنه خلاف الظاهر، وقيل: هي واو الحال، أو الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لُصوق الاسم بالصفة كمررت برجُل ومعه سيفٌ، فأما الواو الأولى فلا حقيقة لها، وأما واو الحال فأين عامل الحال إن قدرت هم ثلاثة أو هؤلاء ثلاثة؟ فإن قيل على التقدير الثاني: هو من باب (وهذا بَعلي شيخاً) قلنا: العامل المعنوي لا يحذف.
الثاني عشر: قولهم المؤنثُ المجازيُّ يجوز معه التذكير والتأنيث وهذا يتداوله الفقهاء في محاوراتهم، والصواب تقييده بالمسند الى المؤنث المجازي، وبكون المسند فعلاً أو شبهه، وبكون المؤنث ظاهراً، وذلك نحو طلعَ الشمسُ، وطلُعُ الشمسُ، وأطالعٌ الشمسُ، ولا يجوز: هذا الشمس، ولا هو الشمس، ولا الشمس هذا أو هو، ولا يجوز في غير ضرورة الشّمسُ طلع خلافاً لابن كيسان، واحتج بقوله:
ولا أرْضَ أبقل إبقالَها
قال: وليس بضرورة لتمكنه من أن يكون أبقَلتِ ابْقالها بالنقل، وردّ بأنا لا نسلم أن هذا الشاعر ممن لغته تخفيف الهمزة بنقل أو غيره.
الثالث عشر: قولهم ينوب بعضُ حروف الجر عن بعض وهذا أيضاً مما يتداولونه ويستدلون به، وتصحيحه بإدخال قد على قولهم ينوب، وحينئذ فيتعذر استدلالهم به، إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك يقال لهم فيه: لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة، ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت الى القلم، على أن البصريين ومَنْ تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باقٍ على معناه، وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف، لأنّ التجوّز في الفعل أسهل منه في الحرف.
الرابع عشر: قولهم إن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة أو أعيدت المعرفة معرفة أن نكرة كان الثاني عين الأول، وحملوا على ذلك ما روي لَنْ يغلِبَ عُسرٌ يسرينِ قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره، فصار المعنى إن مع العسر يسرين، ويشهد للصورتين الأوليين أنك تقول: اشتريت فرساً ثم بعت فرساً، فيكون الثاني غير الأول، ولو قلت: ثم بعت الفرس، لكان الثاني عين الأول، وللرابع قول الحماسي:
صفَحنا عنْ بني ذُهلٍ ... وقُلنا: القومُ إخوانُ
عسى الأيامُ أنْ يرجِعنَ قوماً كالذي كانوا
ويُشكِلُ على ذلك أمور ثلاثة:


أحدها: أن الظاهر في آية (ألم نشرح) أن الجملة الثانية تكرار للجملة الأولى، كما تقول إنّ لزيدٍ داراً إن لزيد داراً وعلى هذا فالثانية عين الأولى.
والثاني: أن ابن مسعود قال: لو كان العسر في جُحْر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسرٌ يسرين، مع أن الآية في قراءته وفي مصحفه مرة واحدة؛ فدل على ما ادعينا من التأكيد، وعلى أنه لم يستفد تكرر اليسر من تكرره، بل هو من غير ذلك كأن يكون فهِمه مما في التنكير من التفخيم فتأوله بيسر الدارين.
والثالث: أن في التنزيل آيات تردُّ هذه الأحكام الأربعة، فيشكل على الأول قوله تعالى (اللهُ الذي خلقكُم من ضَعفٍ) الآية، (وهو الذي في السّماء إلهٌ، وفي الأرضِ إلهٌ) والله إلهٌ واحد سبحانه وتعالى، وعلى الثاني قوله تعالى (فلا جُناح عليهِما أن يُصلِحا بينهما صُلحاً والصُّلحُ خيرٌ) فالصلح الأول خاص، وهو الصلح بين الزوجين، والثاني عام، ولهذا يستدل بها على استحباب كل صلح جائز، ومثله (زدناهُم عذاباً فوقَ العذابِ) والشيء لا يكون فوق نفسه. وعلى الثالث قولُه تعالى (قلْ اللهمّ مالكَ المُلكِ تؤتي الملكَ مَنْ تشاءُ وتنزعُ الملكَ ممّن تشاءُ) فإن الملك الأول عام والثاني خاص، (هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ) فإن الأول العملُ والثاني الثوابُ، (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) فإن الأولى القاتلة والثانية المقتولة، وكذلك بقية الآية. وعلى الرابع (يسألُك أهلُ الكتابِ أن تُنزِّل عليهم كتاباً منَ السّماءِ) وقوله:
إذِ النّاسُ ناسٌ والزّمانُ زمانُ
فإن الثاني لو ساوى الأول في مفهومه لم يكون في الإخبار به عنه فائدة، وإنما هذا من باب قوله:
أنا أبو النّجم وشعري شِعري
أي وشعري لم يتغير عن حالته.
فإذا ادعي أن القاعدة فيهن إنما هي مستمرة مع عدم القرينة، فأما إن وجدت قرينة فالتعويل عليها، سهل الأمر.
وفي الكشاف فإن قلت: ما معنى: لن يغلب عسر يسرين؟ قلت: هذا حمل الظاهر، وبناء على قوة الرجاء، وأن وعد الله لا يحمل إلا على أبلغ ما يحتمله اللفظ، والقول فيه إن الجملة الثانية يحتمل أن تكون تكريراً للأولى كتكرير (ويل يومئذ للمكذبين) لتقرير معناها في النفوس وكتكرير المفرد في: جاء زيد زيد، وأن تكون الأولى عِدة بأن العسر مردوف باليسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع باليسر لا محالة، فهما يسران على تقدير الاستئناف، وإنما كان العسر واحداً لأن اللام إن كانت فيه للعهد في العسر الذي كانوا فيه فهو هو، لأن حكمه حكم زيد في قولك إنّ مع زيد مالاً إن مع زيد مالاً وإن كانت للجنس الذي يعلمه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً، وأما اليسر فمنكَّرٌ متناولٌ لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً فقد تناول بعضاً آخر، ويكون الأول ما تيسر لهم من الفتوح في زمنه عليه الصلاة والسلام، والثاني ما تيسر في أيام الخلفاء، ويحتمل أن المراد بهما يُسرُ الدنيا ويسر الآخرة مثل (هل تربَّصون بنا إلا إحدى الحُسنيين) وهما الظفرُ والثواب، ملخصاً.
وقال بعضهم: الحقُّ أن في تعريفِ الأول ما يوجب الاتحاد، وفي التنكير يقع الاحتمال، والقرينة تعين، وبيانها هنا أنه عليه الصلاة والسلام كان هو وأصحابه في عسر الدنيا، فوسّع الله عليهم بالفتوح والغنائم، ثم وعد عليه الصلاة والسلام بأن الآخرة خير له من الأولى، فالتقدير: إن مع العسر في الدنيا يسراً في الدنيا وإن مع العسر في الدنيا يسراً في الآخرة، للقطع بأنه لا عسر عليه في الآخرة، فتحققنا اتحاد العسر، وتيقنا أن له يسراً في الدنيا ويسراً في الآخرة.
الخامس عشر: قولهم يجب أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها وهذا مشهور في كتبهم وعلى ألسنتهم، وليس بلازم عند سيبويه، ويشهد لذلك أمور: أحدها: قولك أعجبني وجهُ زيدٍ متبسماً، وصوتُه قارئاً فإن صاحب الحال معمول للمضاف أو لجار مقدر، والحال منصوبة بالفعل.
والثاني قوله:
لميّةَ موحِشاً طللُ
فإن صاحب الحال عند سيبويه النكرة، وهو عنده مرفوع بالابتداء، وليس فاعلاً كما يقول الأخفش والكوفيون، والناصب للحال الاستقرار الذي تعلق به الظرف.


والثالث: (وإنّ هذه أمّتُكم أمةً واحدة) فإن أمةً حال من معمول إنّ وهو أمتكم وناصب الحال حرف التنبيه أو اسم الإشارة، ومثله (وأنّ هذا صِراطي مُستقيماً) وقال:
ها بيِّناً ذا صريحُ النُّصحِ فاصغَ لهُ
العامل حرف التنبيه، ولك أن تقول: لا نسلم أن صاحب الحال طلل، بل ضميره المستتر في الظرف، لأن الحال حينئذ حال من المعرفة، وأما جوابُ ابنِ خروف بأن الظرف إنما يحتمل الضمير إذا تأخر عن المبتدأ فمخالف لإطلاقهم ولقول أبي الفتح في:
عليكِ ورحمةُ اللهِ السّلامُ
إنّ الأولى حملُه على العطف على ضمير الظرف، لا على تقديم المعطوف على المعطوف عليه، وقد اعترض عليه بأنّه تخلّصٌ عن ضورة بأخرى، وهي العطف مع عدم الفصل، ولم يعترض بعدم الضمير، وجوابه أن عدم الفصل أسهلُ، لوروده في النثر كمررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ حتى قيل: إنهُ قياسٌ، وأما جوابُ ابن مالك بأن الحمل على طلل أولى لأنه ظاهر، فإنما يصح لو ساوى الظاهرُ الضميرَ في التعريف، وأما البواقي فاتحادُ العاملِ فيها موجود تقديراً، إذ المعنى أشيرُ الى أمتكم والى صراطي، وتنبه لصريح النصح بينا، وأما مسألتا المضاف إليه فصلاحيةُ المضاف فيهما للسقوط جعل المضاف إليه كأنه معمول للفعل، وعلى هذا فالشرط في المسألة اتحاد العامل تحقيقاً أو تقديراً.
السادس عشر: قولهم يُغلَّبُ المؤنثُ على المذكر في مسألتين: إحداهما ضبُعان في تثنية ضبُع للمؤنث، وضِبْعان للمذكر، إذ لم يقولوا ضِبْعانان. والثانية: التأريخ، فإنهم أرّخوا بالليالي دونَ الأيام ذكر ذلك الجرجاني وجماعة، وهو سهو، فإن حقيقة التغليب: أن يجتمع شيئان فيجري حكم أحدهما على الآخر، ولا يجتمع الليل والنهار، ولا هنا تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما، وإنما أرّخَتِ العربُ بالليالي لسبقها، إذ كانت أشهرهُم قمرية، والقمر إنما يطلع ليلاً، وإنما المسألة الصحيحة قولك: كتبتُه لثلاث بين يوم وليلة، وضابطها: أن يكون معنا عدد مميز بمذكر ومؤنث، وكلاهما مما لا يعقل، وفُصِلا من العدد بكلمة بين قال:
فطافتْ ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ
السابع عشر: قولهم في نحو (خلق اللهُ السمواتِ) إن السموات مفعول به، والصواب أنه مفعول مطلق، لأن المفعول المطلق ما يقع عليه اسم المفعول بلا قيد، نحو قولك ضربْتُ ضرباً والمفعول به ما لا يقع عليه ذلك إلا مقيداً بقولك به كضربت زيداً، وأنت لو قلت السموات مفعول كما تقول الضّرب مفعول كان صحيحاً، ولو قلت السموات مفعول بها كما تقول زيد مفعول به لم يصح.
وقد يعارضُ هذا بأن يصاغ لنحو السموات في المثال اسم مفعول تام، فيقال: فالسموات مخلوقة، وذلك مختص بالمفعول به.
إيضاح آخر: المفعول به ما كان موجوداً قبل الفعل الذي عمل فيه، ثم أوقعَ الفاعل به فعلاً، والمفعول المطلق ما كان الفعل العامل فيه هو فعلُ إيجادِه، والذي غرّ أكثر النحويين في هذه المسألة أنهم يمثلون المفعولَ المطلق بأفعال العباد، وهم إنما يجري على أيديهم إنشاء الأفعال لا الذوات، فتوهّموا أن المفعول المطلق لا يكون إلا حدثاً، ولو مثلوا بأفعال الله تعالى لظهر لهم أنه لا يختص بذلك، لأن الله تعالى مُوجِد للأفعال والذوات جميعاً، لا موجِد لهما في الحقيقة سواهُ سبحانه وتعالى، وممن قال بهذا الذي ذكرته الجرجاني وابن الحاجب في أماليه.
وكذا البحث في أنشأت كتاباً وعمل فلانٌ خيراً و(آمنوا وعملوا الصّالحات).
وزعم ابن الحاجب في شرح المفصل وغيره أن المفعول المطلق يكون جملة، وجعل من ذلك نحو قال زيد عمرو منطلق وقد مضى ردُّه، وزعم أيضاً في أنبأتُ زيداً عمراً فاضلاً أن الأول مفعول به، والثاني والثالث مفعول مطلق، لأنهما نفس النبأ، قال: بخلاف الثاني والثالث في أعلمتُ زيداً عمراً فاضلاً فإنهما متعلقا العلمِ، لا نفسه، وهذا خطأ، بل هما أيضاً مُنبأ بهما، لا نفس النبأ، وهذا الذي قاله لم يقله أحد، ولا يقتضيه النظر الصحيح.
الثامن عشر: قولهم إن كاد: إثباتُها نفي، ونفيها إثبات، فإذا قيل كادَ يفعلُ فمعناه أنه لم يفعل، وإذا قيل لم يكدْ يفعل فمعناه أنه فعله، دليل الأول (وإن كادوا ليفتنونكَ عن الذي أوحينا إليكَ) وقوله:
كادتِ النفسُ أن تفيضَ عليه
ودليل الثاني (وما كادوا يفعلون) وقد اشتهر ذلك بينهم حتى جعله المعري لغزاً فقال:


أنحويَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ ... جرت في لسانيْ جُرهمٍ وثمودِ
إذا استُعملتْ في صورةِ الجحدِ أثبتتْ ... وإن أُثبتت قامت مقامَ جُحودِ
والصواب أن حكمها حكم سائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، وبيانها: أن معناها المقاربة، ولا شك أن معنى كاد يفعل قارب الفعلَ، وأن معنى ما كاد يفعلُ ما قارب الفعلَ، فخبرها منفي دائماً، أما إذا كانت منفية فواضح، لأنه إذا انتفت مُقاربة الفعلِ انتفى عقلاً حصول ذلك الفعل، ودليله (إذا أخرج يدهُ لم يكدْ يراها) ولهذا كان أبلغ من أن يقال لمْ يرَها لأن من لم يرَ قد يقارب الرؤية، وأما إذا كانت المقاربة مُثبتة فلأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفاً عدمَ حصوله، وإلا لكان الإخبار حينئذ بحصوله، لا بمقاربة حصوله، إذ لا يحسن في العرف أن يقال لمن صلّى: قارب الصلاة، وإن كان ما صلى حتى قارب الصلاة، ولا فرق فيما ذكرنا بين كاد ويكاد، فإن أورد على ذلك (وما كادوا يفعلون) مع أنهم قد فعلوا، إذ المراد بالفعل الذبح، وقد قال تعالى (فذبحوها) فالجواب أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنهم كانوا أولاً بُعداء من ذبحها بدليل ما يتلى علينا من تعنتهم وتكرر سؤالهم، ولما كثر استعمال مثل هذا فيمن انتفت عنه مقاربة الفعل أولاً ثم فعله بعد ذلك توهَّم من توهم أن هذا الفعل بعينه هو الدال على حصول ذلك الفعل بعينه، وليس كذلك، وإنما فهم حصول الفعل من دليل آخر كما فهم في الآية من قوله تعالى (فذبحوها).
التاسع عشر: قولهم في السين وسوف: حرف تنفيسٍ، والأحسن حرف استقبال، لأنه أوضح، ومعنى التنفيس التوسيع، فإن هذا الحرف ينقل الفعل عن الزمن الضيق - وهو الحال - الى الزمن الواسع وهو الاستقبال.
وهاهنا تنبيهان
أحدهما: أن الزمخشري قال في (أولئكَ سيرحمهم الله): إن السين مفيدة وجودَ الرحمة لا محالةَ، فهي مؤكدة للوعد، واعترضه بعض الفضلاء بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل، لا من السين، وبأن الوجوب المشار إليه بقوله لا محالة لا إشعار للسين به، وأجيب بأن السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخر، فإذا كان المقام ليس مقام تأخر لكونه بشارةً تمحضت لإفادة الوقوع، وبتحقق الوقوع يصل الى درجة الوجوب.
الثاني
قال بعضهم في (ستجدون آخرين): السين للاستمرار، لا للاستقبال مثل (سيقولُ السُّفهاء) فإنها نزلت بعد قولهم: (ما ولاّهم عنْ قبلتهم) الآية، ولكن دخلت السين إشعاراً للاستمرار.
والحق أنها للاستقبال، وأنّ يقول بمعنى يستمر على القول، وذلك مستقبل، فهذا في المضارع نظير (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا) في الأمر، هذا إن سُلِّم أن قولهم سابق على النزول، وهو خلاف المفهوم من كلام الزمخشري، فإنه سأل: ما الحكمة في الإعلام بذلك قبل وقوعه؟ تمام العشرين: قولهم في نحو جلست أمام زيدٍ: إن زيداً مخفوض بالظرف، والصواب أن يقال: مخفوض بالإضافة، فإنه لا مدخل في الخفض لخصوصية كون المضاف ظرفاً.
خاتمة
ينبغي للمُعرب أن يتخير من العبارات أوجزَها وأجمعها للمعنى المراد فيقول في نحو ضُرب: فعل ماض لم يسم فاعله، ولا يقول: مبني لما لم يسم فاعله، لطول ذلك وخفائه، وأن يقول في المرفوع به: نائب عن الفاعل، ولا يقول: مفعول ما لم يسم فاعله، لذلك ولصدق هذه العبارة على المنصوب من نحو أُعطي زيدٌ ديناراً ألا ترى أنه مفعول لأعطي، وأعطي لم يسم فاعله، وأما النائب عن الفاعل فلا يصدق إلا على المرفوع، وأن يقول فيقد: حرف لتقليل زمن الماضي وحدث الآتي ولتحقيق حدثهما، وفي أما: حرف شرط وتفصيل وتوكيد، وفي لم: حرف جزم لنفي المضارع وقلبه ماضياً، ويزيد في لمّا الجازمة: متصلاً نفيُه متوقعاً ثبوته، وفي الواو: حرف عطف لمجرد الجمع، أو لمطلق الجمع، ولا يقول: للجمع المطلق، وفي حى: حرف عطف للجمع والغاية، وفي ثم: حرف عطف للترتيب والمُهلة، وفي الفاء: حرف عطف للترتيب والتعقيب، وإذا اختصرت فيهن فقل: عاطف ومعطوف، وناصب ومنصوب، وجازم ومجزوم، كما تقول: جار ومجرور.
الباب السابع
في كيفية الإعراب
والمخاطب بمعظم هذا الباب المبتدئون


اعلم أن اللفظ المعبر عنه إن كان حرفاً واحداً عبر عنه باسمه الخاص به أو المشترك، فيقال في المتصل بالفعل من نحو ضربت: التاء فاعل، أو الضمير فاعل، ولا يقال ت فاعل، كما بلغني عن بعض المعلّمين، إذ لا يكون اسم ظاهر هكذا، فأما الكاف الاسمية فإنها ملازمة للإضافة، فاعتمدت على المضاف إليه، ولهذا إذا تكلمت عن إعرابها جئت باسمها فقلت في نحو قوله:
وما هداكَ الى أرضٍ كعالمها
الكاف فاعل، ولا تقول ك فاعل، لزوال ما تعتمد عليه، ويجوز في نحو مُ اللهِ وقِ نفسكَ وشِ الثوبَ ولِ هذا الأمرَ أن تنطلق بلفظها فتقول: مُ مبتدأ، وذلك على القول بأنها بعض ايمن، وتقول: قِ فعل أمر... لأن الحذف فيهن عارض، فاعتبر فيهن الأصل، وتقول: الباء حرف جر، والواو حرف عطف، ولا تنطلق بلفظهما.
وإن كان اللفظ على حرفين نطق به، فقيل: قد حرف تحقيق، وهل حرف استفهام، ونا فاعل أو مفعول، والأحسن أن تعبر عنه بقولك: الضمير، لئلا تنطق بالمتصل مستقلاً، ولا يجوز أن تنطق باسم شيء من ذلك كراهيةَ الإطالة، وعلى هذا فقولهم ألْ أقيسُ من قولهم: الألف واللام، وقد استعمل التعبير بهما الخليل وسيبويه.
وإن كان أكثرَ من ذلك نطق به أيضاً، فقيل: سوف حرف استقبال، وضرب فعل ماض، وضربَ هذا اسمٌ، ولهذا أخبر عنها بقولك فعل ماض، وإنما فتحت على الحكاية، يدلك على ما ذكرنا أن الفعل ما دلّ على حدث وزمان، وضرب هنا لا تدل على ذلك، وأن الفعل لا يخلو عن الفاعل في حالة التركيب، وهذا لا يصح أن يكون له فاعل، ومما يوضح لك ذلك أنك تقول في زيد من ضرب زيد زيد مرفوع بضرب أو فاعل بضرب، فتدخل الجار عليه، وقال لي بعضهم: لا دليل في ذلك، لأن المعنى بكلمة ضرب، فقلت له: وكيف وقع ضربَ مضافاً إليه مع أنه في ذلك ليس باسم في زعمك؟ فإن قلت: فإذا كان اسماً فكيف أخبرت عن زيد باعتبار مسماه، لا باعتباره لفظه؟ وكذلك أخبرت عن ضرب باعتبار مسماه، وهو ضرب الذي يدلّ على الحدث والزمان، فهذا في أنه لفظٌ مسماه لفظٌ كأسماء السّور وأسماء حروف المعجم، ومن هنا قلت: حرف التعرطف أل، فقطعت الهمزة، وذلك لأنك لما نقلت اللفظ من الحرفية الى الاسمية أجريتَ عليه قياس همزات الأسماء، كما أنك إذا سميت بإضربْ قطعت همزته، وأما قول ابن مالك: إن الإسناد اللفظي يكون في الأسماء والأفعال والحروف، وإن الذي يختص به الاسمُ هو الإسناد المعنوي، فلا تحقيق فيه.
وقال لي بعضهم: كيف تتوهم أن ابن مالك اشتبه عليه الأمر في الاسم والفعل والحرف؟ فقلت: كيف توهّم ابن مالك أن النحويين كافة غلطوا في قولهم: إن الفعل يخبر به ولا يخبر عنه، وإن الحرف لا يخبر به ولا عنه، وممن قلّد ابن مالك في هذا الوهم أبو حيان.
ولابد للمتكلم على الاسم أن يذكر ما يقتضي وجه إعرابه كقولك: مبتدأ، خبر، فاعل، مضاف إليه، وأما قول كثير من المعربين مضاف أو موصول أو اسم إشارة فليس بشيء، لأن هذه الأشياء لا تستحقّ إعراباً مخصوصاً، فالاقتصار في الكلام عليها على هذا القدر لا يُعلم به موقعها من الإعراب. وإن كان المبحوث فيه مفعولاً عيّن نوعه، فقيل: مفعول مطلق، أو مفعول به، أو لأجله، أو معه، أو فيه، وجرى اصطلاحهم على أنه إذا قيل مفعول وأطلق لم يُردْ إلا المفعول به، لما كان أكثر المفاعيل دوراً في الكلام خففوا اسمه، وإنما كان حق ذلك ألا يصدق إلا على المفعول المطلق، ولكنهم لا يطلقون على ذلك اسم المفعول إلا مقيداً بقيد الإطلاق. وإن عُيِّن المفعول فيه - فقيل: ظرف زمان أو مكان - فحسنٌ، ولابد من بيان متعلقه كما في الجار والمجرور الذي له متعلق. وإن كان المفعول به متعدداً عينت كل واحد فقلت: مفعول أول، أو ثان، أو ثالث.


وينبغي أن تعين للمبتدئ نوع الفعل، فتقول: فعل ماض، أو فعل مضارع، أو فعل أمر، وتقول في نحو تلظّى: فعل مضارع أصله تتلظى، وتقول في الماضي: مبني على الفتح، وفي الأمر مبني على ما يجزم به مضارعه وفي نحو (يتربصن) مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، وفي نحو (ليُنبذنّ): مبني على الفتح لمباشرته لنون التوكيد، وتقول في المضارع المعرب: مرفوع لحلوله محل الاسم، وتقول: منصوب بكذا، أو بإضمار أنْ، ومجزوم بكذا، ويبين علامة الرفع والنصب والجزم، وإن كان الفعل ناقصاً نصّ عليه فقال مثلاً: كان: فعل ماض ناقص يرفع الاسم وينصب الخبر، وإن كان المعرب حالاًّ في غير محله عُيّن ذلك: فقيل في قائم مثلاً من نحو قائم زيد: خبر مقدم، ليعلم أنه فارقَ موضعه الأصلي، وليتطلب مبتدأه، وفي نحو (ولو ترى إذْ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ): الذين مفعول مقدم، ليتطلب فاعله، وإن كان الخبر مثلاً غير مقصود لذاته قيل: خبر موطِّئ، ليعلم أن المقصود ما بعده كقوله تعالى (بلْ أنتم قومٌ تجهلون) وقوله:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إيّاكَ لمْ ترني
ولهذا أعيد الضمير بعد قوم ورجل الى ما قبلهما، لا إليهما، ومثله الحال الموطِّئة في نحو (إنا أنزلناهُ قرآناً عربياً).
وإن كان المبحوث فيه حرفاً بيّن نوعه ومعناه وعمله إن كان عاملاً، فقال مثلاً: إنّ: حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر. لن: حرف نفي ونصب واستقبال. أنْ: حرف مصدريّ ينصب الفعل المضارع. لم: حرف نفي بجزم المضارع ويقلبه ماضياً. ثم بعد الكلام على المفردات يتكلم على الجمل، ألها محلّ أم لا؟
فصل
وأول ما يحترز منه المبتدئ في صناعة الإعراب ثلاثة أمور: أحدها: أن يلتبس عليه الأصليّ بالزائد، ومثاله أنه إذا سمع أنّ أل من علامات الاسم، وأن أحرف نأيت من علامات المضارع، وأن تاء الخطاب من علامات الماضي، وأن الواو الفاء من أحرف العطف، وأن الباء واللام من أحرف الجر، وأن فعل ما لم يُسمَّ فاعله مضموم الأول... سبقَ وهمهُ الى أن ألفيت وألهبتُ اسمان، وأن أكرمت وتعلمت مضارعان، وأن وعظ وفسخ عاطفان ومعطوفان، وأن نحو بيت وبين ولهو ولعب كل منها جار ومجرور، وأن نحو أدحْرج مبنيٌ لما لم يُسمَّ فاعلهُ، وقد سمعت منْ يُعْرب (ألهاكمُ التكاثرُ) مبتدأ وخبراً، فظنهما مثل قولك المنطلق زيد. ونظير هذا الوهم قراءة كثير من العوام (نارٌ حاميةٌ الهاكم التكاثر) بحذف الألف كما تحذف أول السورة في الوصل فيقال (لخبيرٌ القارِعةُ).
وذكر لي عن رجل كبير من الفقهاء ممن يقرأ علم العربية أنه استشكل قول الشريف المرتضى:
أتبيتُ ريّانَ الجفونِ منَ الكرى ... وأبيتَ منْكَ بليلةِ الملْسوعِ؟
وقال: كيف ضمّ التاء من تَبيتُ وهي للمخاطب لا للمتكلم؟ وفتحها من أبيتَ وهو للمتكلم لا للمخاطب؟ فبينت للحاكي أن الفعلين مضارعان، وأن التاء فيهما لام الكلمة، وأن الخطاب في الأول مستفاد من تاء المضارعة، والتكلم في الثاني مستفاد من الهمزة، والأول مرفوع لحلوله محل الاسم، والثاني منصوب بأنْ مضمرة بعد واو المصاحبة على حد قول الحطيئة:
ألمْ أكُ جارَكمْ ويكونَ بيْني ... وبيْنكمُ المودّةُ والإخاءُ
وحكى العسكري في كتاب التصحيف أنه قيل لبعضهم: ما فعلَ أبوك بحماره؟ فقال: باعِهِ؟ فقيل له: لم قلت: باعِهِ؟ قال: فلم قلت أنت بحمارهِ؟ فقال: أنا جررته بالباء، فقال: فلم تجرُّ باؤك وبائي لا تجر؟ ومثله من القياس الفاسد ما حكاه أبو بكر التاريخي في كتاب أخبار النحويين أن رجلاً قال لسمّاكٍ بالبصرة: بكم هذه السّمكة؟ فقال: بدرهمان، فضحك الرجل، فقال السماك: أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان.
وقلت يوماً: تردُ الجملة الاسمية الحالية بغير واو في فصيح الكلام، خلافاً للزمخشري، كقوله تعالى: (ويومَ القيامةِ ترى الذين كذَبوا على الله وجوهُهم مسودّة) فقال بعض منْ حضر: هذه الواو في أولها.
وقلت يوماً: الفُقهاء يلحنون في قولهم البايع بغير همز، فقال قائل: فقد قال الله تعالى (فبايِعهُنّ).
وقال الطبري في قوله تعالى (أثُمَّ إذا ما وقعَ): إن ثم بمعنى هنالك.


وقال جماعة من المعربين في قوله تعالى (وكذلك نُجِّي المؤمِنينَ) في قراءة ابن عامر وأبي بكر بنونٍ واحدة: إن الفعل ماضٍ، ولو كان كذلك لكان آخره مفتوحاً، والمؤمنين مرفوعاً.
فإن قيل: سكنت الياء للتخفيف كقوله:
هو الخليفَةُ فارْضَوا ما رضي لكمُ
وأقيم ضمير المصدر مقام الفاعل.
قلنا: الإسكان ضرورة، وإقامة غير المفعول به مقامه مع وجوده ممتنعة، بل إقامة ضمير المصدر ممتنعة، ولو كان وحده، لأنه مبهم.
ومما يشبه نحو تولّوا بعد الجازم والناصب، والقرائنُ تبيّن، فهو في نحو (فإن تولّوا فقل حسْبيَ الله) ماض، وفي نحو (وإنْ تولوا فإني أخافُ عليكمْ) (فإنْ تولوا فإنّما عليهِ ما حُمِّل وعليْكمْ ما حُمِّلتم) مضارع، وقوله تعالى: (وتعاونوا على البرِّ والتّقوى ولا تعاونوا على الاثمِ والعُدوان) الأول أمر، والثاني مضارع، لأن النهي لا يدخل على الأمر، وتلظى في (فأنذرتُكمْ ناراً تلظّى) مضارع، وإلا لقيل: تلظّتْ، وكذا تمنى من قوله:
تمنّى ابنتايَ أن يَعيش أبوهما
ووهم ابن مالك فجعله ماضياً من باب:
ولا أرضَ أبقلَ إبقالها
وهذا حمل على الضرورة من غير ضرورة.
ومما يلتبس على المبتدئ أن يقول في نحو مررتُ بقاضٍ: إن الكسرة علامة الجر، حتى إن بعضهم يستشكل قوله تعالى (لا ينكحُها إلا زانٍ أو مشركٌ) وقد سألني بعضهم عن ذلك فقال: كيف عطف المرفوع على المجرور؟ فقلت: فهلاّ استشكلت ورود الفاعل مجروراً، وبيّنت له أن الأصل زانيٌ بياء مضمومة، ثم حذفت الضمة للاستثقال، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة هي والتنوين، فيقال فيه: فاعل، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة، ويقال في نحو مررتُ بقاضٍ: جار ومجرور، وعلامة جرّه كسرة مقدرة على الياء المحذوفة، وفي نحو (والفجرِ وليالٍ عشرٍ) والفجر: جار ومجرور، وليال: عاطف ومعطوف، وعلامة جره فتحة مقدرة على الياء المحذوفة، وإنما قدرت الفتحة مع خفتها لنيابتها عن الكسرة، ونائب الثقيل ثقيل، ولهذا حذفت الواو في يهبُ كما حذفت في يعِدُ، ولم تحذف في يوجل، لأن فتحته ليست نائبة عن الكسرة، لأن ماضيه وجِلَ بالكسر فقياسُ مضارعه الفتح، وماضيهما فعَل بالفتح فقياسُ مضارعهما الكسر، وقد جاء يعِدُ على ذلك، وأما يهبُ فإن الفتحة فيه عارضة لحرف الحلق.
ومن هنا أيضاً قال أبو الحسن في يا غلاما: يا غُلامَ، بحذف الألف وإن كانت أخف الحروف، لأن أصلها الياء.
ومن ذلك أن يبادر في نحو المصْطفيْنَ والأعليْنَ الى الحكم بأنه مثنى، والصوابُ أن ينظر أولاً في نونه، فإن وجدها مفتوحة كما في قوله تعالى (وإنهُم عندنا لمن المصطَفينَ الأخيارِ) حكم بأنه جمع،وفي الآية دليل ثانٍ، وهو وصفه بالجمع، وثالث وهو دخول من التبعيضية عليه بعد (وإنهُم) ومحالٌ أن يكون الجمع من الاثنين، وقال الأحنف بن قيس:
تحلمْ عنِ الأدنيْنَ واستبقِ ودَّهم ... ولنْ تستطيعَ الحِلمَ حتى تحلّما
ومن ذلك أن يعرب الياء والكاف والهاء في نحو غُلامي أكرمني، وغلامك أكرمك، وغلامه أكرمه إعراباً واحداً، أو بعكس الصواب، فليعلم أنهن إذا اتصلن بالفعل كن مفعولات، وإن اتصلن بالاسم كن مضافاً إليهن، ويستثنى من الأول، نحو أرأيتكَ زيْداً ما صنَع، وأبْصِرْك زيداً فإن الكاف فيهما حرف خطاب، ومن الثاني نوعان: نوع لا محل فيه لهذه الألفاظ، وذلك نحو قولهم ذلك، وتلك، وإيايَ، وإياكَ، وإياه فإنهن أحرف تكلم وخطاب وغيبة، ونوع هي فيه في محل نصب، وذلك نحو الضّاربكَ والضّاربه على قول سيبويه، لأنه لا يضاف الوصف الذي بأل الى عارٍ منها، ونحو قولهم لا عهد لي بألأم قَفاً منهُ ولا أوضعه بفتح العين، فالهاء في موضع نصب كالهاء في الضّاربه إلا أن ذلك مفعول، وهذا مشبه بالمفعول، لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول إجماعاً، وليست مضافاً إليها وإلا لخفض أوضع بالكسرة، وعلى ذلك فإذا قلت مررتُ برجُلٍ أبيض الوجه لا أحمره فإن فتحت الراء فالهاء منصوبة المحل، وإن كسرتها فهي مجرورته، ومن ذلك قوله:
فإنّ نِكاحها مطرٍ حرامُ
فيمن رواه بجر مطر، فالضمير منصوب على المفعولية، وهو فاصل بين المتضايفين
تنبيه
إذا قلت رويدكَ زيْداً فإن قدرت رويداً اسمَ فعلٍ فالكاف حرف خطاب، وإن قدرته مصدراً فهو اسم مضاف إليه، ومحله الرفع، لأنه فاعل.


والثاني: أن يجري لسانه الى عبارة اعتادها فيستعملها في غير محلها كأن يقول في كنت، وكانوا في الناقصة: فعل وفاعل، لما ألف من قول ذلك في نحو فعلت وفعلوا، وأما تسمية الأقدمين الاسم فاعلاً والخبر مفعولاً فهو اصطلاح غير مألوف، وهو مجاز، كتسميتهم الصورةَ الجميلةَ دُمية، والمبتدئ إنما يقوله على سبيل الغلط، فلذلك يُعاب عليه.
والثالث: أن يعرب شيئاً طالباً لشيء، ويهمل النظر في ذلك المطلوب، كأن يعرب فعلاً ولا يتطلب فاعله، أو مبتدأ ولا يتعرض لخبره، بل ربما مرّ به فأعربه بما لا يستحقه ونسي ما تقدم له.
فإن قلت: فهل من ذلك قول الزمخشري في قوله تعالى (وطائفةٍ قدْ أهمتْهمْ أنفسُهم) الآية: قد أهمتهم: صفة لطائفة، ويظنون: صفة أخرى، أو حال بمعنى قد أهمتهم أنفسُهم ظانين، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها، ويقولون: بدل من يظنون، فكأنه نسي المبتدأ، فلم يجعل شيئاً من هذه الجمل خبراً له؟ قلت: لعله رأى أن خبره محذوف، أي ومعكم طائفة صفتهم كيت وكيت، والظاهر أن الجملة الأولى خبر، وأن الذي سوّغ الابتداء بالنكرة صفة مقدرة، أي وطائفة من غيركم، مثل السّمنُ مَنَوانِ بدِرهمٍ أي منه، أو اعتماده على واو الحال كما جاء في الحديث دخل عليه الصّلاةُ والسّلامُ وبُرمةٌ على النّار.
وسألت كثيراً من الطلبة عن إعراب أحقُّ ما سألَ العبْدُ موْلاه فيقولون: مولاه مفعول، فيبقى لهم المبتدأ بلا خبر، والصواب أنه الخبر، والمفعول العائدُ المحذوف أي سأله، وعلى هذا فيقال: أحقُّ ما سأل العبدُ ربُّه، بالرفع، وعكسه:
إنّ مصابك المولى قبيحٌ
يذهب الوهم فيه الى أن المولى خبر، بناء على أن المصاب اسم مفعول، وإنما هو مفعول، والمصاب مصدر بمعنى الإصابة بدليل مجيء الخبر بعده، ومن هنا أخطأ مَنْ قال في مجلس الواثق بالله في قوله:
أظلومُ إنّ مُصابكمْ رجُلاً ... أهدى السّلامَ تحيّة ظُلمُ
إنه برفع رجل، وقد مضت الحكاية.
تنبيه
قد يكون للشيء إعراب إذا كان وحده، فإذا اتصل به شيء آخر تغير إعرابه، فينبغي التحرز في ذلك.
من ذلك ما أنتَ، وما شأنُكَ فإنهما مبتدأ وخبر، إذا لم تأت بعدهما بنحو قولك وزيداً فإن جئت به فأنتَ مرفوع بفعل محذوف، والأصل: ما تصنع، أو ما تكون، فلما حذف الفعل برز الضمير وانفصل، وارتفاعه بالفاعلية، أو على أنه اسم لكان، وشأنك بتقدير ما يكون، وما فيهما في موضع نصب خبراً ليكون، أو مفعولاً لتصنع. ومثل ذلك كيفَ أنت وزيْداً إلا أنك إذا قدرت تصنع كان كيف حالاً، إذ لا تقع مفعولاً به.
وكذلك يختلف إعراب الشيء باعتبار المحل الذي يحل فيه وسألت طالباً: ما حقيقة كان إذا ذكرت في قولك ما أحْسنَ زيداً؟ فقال: زائدة، بناء منه على أن المثال المسؤول عنه ما كانَ أحسنَ زيداً وليس في السؤال تعيين ذلك، والصوابُ الاستفصال، فإنها في هذا الموضع زائدة كما ذكر، وليس لها اسم ولا خبر، لأنها قد جرتْ مجرى الحروف، كما أن قلّ في قلّما يقومُ زيدٌ لما استعملت استعمال ما النافية لم تحتج لفاعل، هذا قول الفارسي والمحققين، وعند أبي سعيد هي تامة، وفاعلها ضمير الكون، وعند بعضهم هي ناقصة، واسمها ضمير ما، والجملة بعدها خبرها. وإن ذكرت بعد فِعْل التعجب وجب الإتيان قبلها بما المصدرية، وقيل ما أحْسن ما كانَ زيدٌ وكان تامة، وأجاز بعضهم أنها ناقصة على تقدير ما اسماً موصولاً، وأن ينصب زيد على أنه الخبر أي: ما أحسن الذي كان زيداً، ورُدَّ بأن ما أحسنَ زيداً مُغْنٍ عنه.
الباب الثامن
في ذكر أمور كُلية
يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية
وهي إحدى عشرةَ قاعدةً:
القاعدة الأولى
قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه
في معناه، أو في لفظه، أو فيهما
فأما الأول فله صور كثيرة: إحداها: دخول الباء في خبر أنّ في قوله تعالى (أو لمْ يروْا أنّ اللهَ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ ولم يعْيَ بخلقهِنَّ بقادرٍ) لأنه في معنى أوَ ليس الله بقادر، والذي سهل ذلك التقدير تباعد ما بينهما، ولهذا لم تدخل في (أو لم يروا أنّ اللهَ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ قادرٌ على أن يخلقَ مثلهم).
ومثله إدخال الباء في (كفى باللهِ شهيداً) لما دخله من معنى اكتفِ باللهِ شهيداً، بخلاف قوله:


قليلٌ منكَ يكفيني، ولكِنْ
وفي قوله:
سودُ المحاجر لا يقرأنَ بالسُّوَرِ
لما دخله من معنى لا يتقربن بقراءة السور، ولهذا قال السهيلي: لا يجوز أن تقول وصل إليّ كتابُك فقرأت به على حد قوله:
...... لا يقرأن بالسّورِ
لأنه عارٍ عن معنى التقرب.
والثانية: جواز حذف خبر المبتدأ في نحو إنّ زيداً قائمٌ وعمرو اكتفاء بخبر إنّ، لما كان إنّ زيداً قائم في معنى زيد قائم، ولهذا لم يجز ليتَ زيداً قائم وعمرو.
والثالثة: جواز أنا زيداً غيرُ ضاربٍ لما كان في معنى أنا زيداً لا أضرب، ولولا ذلك لم يجز، إذ لا يتقدم المضاف إليه على المضاف، فكذا لا يتقدم معموله، لا تقول أنا زيداً أولُ ضاربٍ، أو مثلُ ضاربٍ ودليل المسألة قوله تعالى (وهو في الخِصامِ غير مُبين) وقول الشاعر:
فتىً هو حقّاً غيرُ مُلغٍ تولّهُ ... ولا تتّخِذ يوماً سِواهُ خليلا
وقوله:
إن امْرأ خصّني يوماً مودتَهُ ... على التّنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
ويحتمل أن يكون منه (فذلكَ يومئذ يومٌ عسيرٌ، على الكافرين غيرُ يسيرٍ).
ويحتمل تعلق على بعسير، أو بمحذوف هو نعت له، أو حال من ضميره.
ولو قلت جاءني غيرُ ضاربٍ زيْداً لم يجز التقديم، لأن النافي هنا لا يحل مكان غير.
والرابعة: جواز غيرُ قائمٍ الزّيدانِ لما كان في معنى ما قام الزيدان، ولولا ذلك لم يجز، لأن المبتدأ إما أن يكون ذا خبر أو ذا مرفوع يغني عن الخبر، ودليل المسألة قوله:
غيرُ لاهٍ عداكَ فاطّرِحِ ال ... لهوَ، ولا تَغترِرْ بعارضِ سِلمِ
وهو أحسن ما قيل في بيت أبي نواس:
غيرُ مأسوفٍ على زمَنٍ ... ينقضي بالهمِّ والحزَنِ
والخامسة: إعطاؤهم ضارِب زيدٍ الآن أو غداً حكم ضاربٌ زيداً في التنكير، لأنه في معناه، ولهذا وصفوا به النكرة، ونصبوه على الحال، وخفضوه برب، وأدخلوا عليه ال، وأجاز بعضُهم تقديم حال مجروره عليه نحو هذا مَلتوتاً شاربُ السَّويقِ كما يتقدم عليه حال منصوبه، ولا يجوز شيء من ذلك إذا أريد المضيُّ، لأنه حينئذ ليس في معنى الناصب.
والسادسة: وقع الاستثناء المفرغ في الإيجاب في نحو (وإنها لَكبيرةٌ إلا على الخاشعين)، (ويأبى اللهُ إلا أن يُتمَّ نورَه) لما كان المعنى وإنها لا تسهل إلا على الخاشعين، ولا يريد الله إلا أن يتم نوره.
السابعة: العطف بولا بعد الإيجاب في نحو:
أبي اللهُ أن أسمو بأمٍّ ولا أبِ
لما كان معناه قال الله لي: لا تسْمُ بأم ولا أب.
الثامنة: زيادة لا في قوله تعالى (ما مَنعكَ ألاّ تسجُدَ) قال ابن السيد: المانع من الشيء آمر للممنوع ألا يفعل، فكأنه قيل: ما الذي قال لك لا تسجد، والأقرب عندي أن يقدر في الأول لم يرد الله لي، وفي الثاني ما الذي أمرك، يوضِّحه في هذا أن الناهية لا تصاحب الناصبة بخلاف النافية.
التاسعة: تعدّي رضي بعلى في قوله:
إذا رضيَتْ عليَّ بَنو قُشيرٍ
لما كان رضي عنه بمعنى أقبل عليه بوجه ودّه، وقال الكسائي: إنما جاز هذا حملاً على نقيضه وهو سخط.
العاشرة: رفع المستثنى على إبداله من الموجب في قراءة بعضهم (فشربوا منهُ إلا قليلٌ) لما كان معناه فلم يكونوا منه، بدليل (فمنْ شرِبَ منهُ فليسَ مني) وقيل: إلاّ وما بعدها صفة، فقيل: إن الضمير يوصف في هذا الباب، وقيل: مرادهم بالصفة عطف البيان، وهذا لا يخلص من الاعتراض إن كان لازماً، لأن عطف البيان كالنعت فلا يتبع الضمير، وقيل: قليلٌ مبتدأ حذف خبره، أي لم يشربوا.
الحادية عشرة: تذكير الإشارة في قوله تعالى (فذانِكَ بُرهانان) مع أن المشار إليه اليدُ والعصا وهما مؤنثان، ولكن المبتدأ عين الخبر في المعنى، والبرهان مذكر، ومثله (ثمَّ لم تكُنِ فِتنتَهم إلا أنْ قالوا) فيمن نصب الفتنة وأنّثَ الفعل.
الثانية عشرة: قولهم علمْتُ زيدٌ منْ هوَ برفع زيد جوازاً، لأنه نفس مَنْ في المعنى.
الثالثة عشرة: قولهم إن أحداً لا يقول ذلك فأوقع أحداً في الإثبات لأنه نفس الضمير المستتر في يقول، والضمير في سياق النفي فكأن أحداً كذلك، وقال:
في ليلةٍ لا نرى بها أحداً ... يحْكي عليْنا إلاّ كواكبُها


فرفع كواكبها بدلاً من ضمير يحكي، لأنه راجع الى أحداً، وهو واقع في سياق غير الإيجاب، فكان الضمير كذلك.
وهذا الباب واسع، ولقد حكى أبو عمرو بن العلاء أنه سمع شخصاً من أهل اليمن يقول: فلانٌ لغوبٌ أتتْه كتابي فاحتقرها، فقال له: كيف قلت أتته كتابي؟ فقال: أليس الكتاب في معنى الصحيفة؟ وقال أبو عبيدة لرؤبة بن العجاج لما أنشد:
فيها خُطوطٌ منْ سوادٍ وبَلقْ ... كأنّهُ في الجِلدِ توليع البهَقْ
إن أردت الخطوط فقل: كأنها، أو السواد والبلق فقل: كأنهما، فقال: أردت ذلك ويلَكَ.
وقالوا مررتُ برجلٍ أبي عشرَةٍ نفسُه، وبقومٍ عربٍ كلُّهم، وبقاعٍ عرْفجٍ كلُّهُ برفع التوكيد فيهنّ، فرفعوا الفاعل بالأسماء الجامدةِ، وأكدوه ما لحظوا فيها المعنى، إذ كان العرب بمعنى الفصحاء، والعرفج بمعنى الخشن، والأب بمعنى الوالد.
تنبيهان
الأول: انه وقع في كلامهم أبلغ مما ذكرنا من تنزيلهم لفظاً موجوداً منزلة لفظ آخر لكونه بمعناه، وهو تنزيلهم اللفظ المعدوم الصالح للوجود بمنزلة الموجود كما في قوله:
بَدا لي أني لستُ مدرِكَ ما مضى ... ولا سابِقٍ شيئاً إذا كان جائيا
وقد مضى ذلك.
والثاني
أنه ليس بلازم أن يعطى الشيء حكم ما هو في معناه، ألا ترى أن المصدر قد لا يُعطى حكم أنّ أو أنْ وصلتهما، وبالعكس. دليلُ الأو أنهم لم يعطوه حكمهما في جواز حذف الجار، ولا في سدهما مسدّ جزأي الإسناد، ثم إنهم شركوا بين أنّ وأنْ في هذه المسألة في باب ظن، وخصّوا أن الخفيفة وصلتها بسدها مسدّهما في باب عسى، وخصوا الشديدة بذلك في باب لو، ودليلُ الثاني أنهما لا يُعطيان حكمه في النيابة عن ظرف الزمان، تقول: عجبت من قيامك، وعجبت أن تقوم، وأنك قائم، ولا يجوز: عجبت قيامك، وشذ قوله:
فإيّاكَ إياكَ المراءَ فإنّهُ ... إلى الشرِّ دعّاءٌ وللشّرِّ جالبُ
فأجري المصدر مجرى أن يفعل في حذف الجار، وتقول حسبت أنه قائم، أو أن قام ولا تقول حسبت قيامك حتى تذكر الخبر. وتقول عسى أن تقوم ويمتنع: عسى أنك قائم، ومثلها في ذلك لعل، وتقول: لو أنّك تقوم، ولا تقول لو أنْ تقوم، وتقول جئت صلاةَ العصْر، ولا يجوز جئتك أن تُصلي العصر، خلافاً لابن جني والزمخشري.
والثاني: وهو ما أعطي حكم الشيء المشبه له في لفظه دون معناه، له صور كثيرة أيضاً.
إحداها: زيادة إنْ بعد ما المصدرية الظرفية، وبعد ما التي بمعنى الذي، لأنهما بلفظ ما النافية كقوله:
ورجِّ الفتى للخيرِ ما إنْ رأيتَهُ ... على السّنِّ خيراً لا يزالُ يزيدُ
وقوله:
يرجّي المرءُ ما إنْ لا يراهُ ... وتعرِضُ دون أدناهُ الخطوبُ
فهذان محمولان على نحو قوله:
ما إنْ رأيتُ ولا سمعْتُ بمثلهِ ... كاليومِ هانئَ أيْنُقٍ جُرْبِ
الثانية: دخول لام الابتداء على ما النافية، حمْلاً لها في اللفظ على ما الموصولة الواقعة مبتدأ، كقوله:
لما أغفلتُ شكركَ فاصْطنِعْني ... فكيْفَ ومنْ عطائك جُلُّ مالي؟
فهذا محمول في اللفظ على نحو قولك لما تصنعه حسنٌ.
الثالثة: توكيد المضارع بالنون بعد لا النافية حملاً لها في اللفظ على لا الناهية نحو (ادخُلوا مساكنكمْ لا يحطِمنّكم سُليمانُ وجُنودُه) ونحو (واتّقوا فِتنةً لا تُصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصّةً) فهذا محمول في اللفظ على نحو (ولا تحْسبنَّ اللهَ غافلاً) ومن أولها على النهي لم يحتج الى هذا.
الرابعة: حذف الفاعل في نحو قوله تعالى (أسمِعْ بهِمْ وأبصرْ) لما كان أحْسن بزيد مشبهاً في اللفظ لقولك امرُر بزيدٍ.
الخامسة: دخول لام الابتداء بعد إنّ التي بمعنى نعم، لشبهها في اللفظ بإنّ المؤكدة، قال بعضهم في قراءة من قرأ (إنّ هذانِ لساحرانِ) وقد مضى البحث فيها.


السادسة: قولهم اللهمّ اغفر لنا أيّتها العصابةُ بضم أية ورفع صفتها كما يقال يا أيّتها العِصابةُ وإنما كان حقهما وجوب النصب كقولهم نحنُ العُربَ أقرى النّاسِ للضّيفِ ولكنها لما كانت في اللفظ بمنزلة المستعملة في النداء أعطيت حكمها وإن انتفى موجب الندء، وأما نحن العُربَ في المثال فإنه لا يكون منادى، لكونه بأل، فأعطي الحكم الذي يستحقه في نفسه، وأما نحو نحنُ معاشرَ الأنبياءِ لا نورثُ فواجب النصب، سواء اعتبر حاله أو حال ما يشبهه وهو المنادى.
السابعة: بناء باب حذامِ في لغة الحجاز على الكسر، تشبيهاً لها بداركِ ونزالِ، وذلك مشهور في المعارف، وربما جاء في غيرها، وعليه وُجِّه قوله:
يا ليْت حظّي منْ جداكَ الصّافي ... والفضْلِ أن تترُكني كفافِ
فالأصل كفافاً، فهو حال، أو ترك كفافٍ فمصدر، ومنه عند أبي حاتم قوله:
جاءَتْ لتصرَعني فقُلتُ لها: اقصِري ... إني امرؤٌ صرْعي عليكِ حرامِ
وليس كذلك، إذ ليس لفعله فاعل أو فاعلة، فالأولى قول الفارسي إن أصله حراميّ كقوله:
والدّهرُ بالإنسانِ دوّاريُّ
ثم خفف، ولو أقوى لكان أولى، وأما قوله:
طلبوا صُلحَنا ولاتَ أوانِ ... فأجبْنا أن ليسَ حينَ بقاءِ
فعلةُ بنائه قطعه عن الإضافة، ولكن علة كسرِه وكونهِ لم يُسلك به في الضم مسلك قبل وبعد شبهُه بنزال.
الثامنة: بناء حاشا في (وقلن حاشَ للهِ) لشبهها في اللفظ بحاشا الحرفية، والدليل على اسميتها قراءة بعضهم حاشاً بالتنوين على إعرابها كما تقول تنزيهاً للّه وإنما قلنا إنها ليست حرفاً لدخولها على الحرف، ولا فعلاً إذ ليس بعدها اسم منصوب بها، وزعم بعضهم أنها فعل حُذفَ مفعوله، أي جانب يوسفُ المعصيةَ لأجل الله، وهذا التأويل لا يتأتى في كل موضع، يقال لك: أتفعل كذا؟ أو فعلت كذا؟ فتقول حاشا لله فإنما هذه بمعنى تبرأت لله براءة من هذا الفعل، ومن نوّنها أعربها على إلغاء هذا الشبه، كما أن بني تميم أعربوا باب حذام لذلك.
التاسعة: قولُ بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قصَرْنا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرَ ما كُنّا قطُّ وآمنَه فأوقع قطُّ بعد ما المصدرية كما تقع بعد ما النافية.
العاشرة: إعطاء الحرف حكم مقاربه في المخرج حتى أدغم فيه، نحو (خلق كل شيء) و(لك قُصوراً) وحتى اجتمعا رويَّينِ كقوله:
بُنيَّ إنّ البرّ شيءٌ هيِّنُ ... المنطقُ الطيّبُ والطُّعَيِّمُ
وقول أبي جهل:
ما تنقِمُ الحربُ العوانُ منّي ... بازِل عامينِ حديثٌ سِنّي
لمثلِ هذا ولدتني أمّي
وقول آخر:
إذا ركبتُ فاجعلوني وسطا ... إني كبيرٌ لا أطيقُ العُنّدا
ويسمى ذلك إكفاء.
والثالث: وهو ما أعطي حكم الشيء لمشابهته له لفظاً ومعنى، نحو اسم التفضيل وأفعل في التعجب، فإنهم منعوا أفعل التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل في التعجب وزناً وأصلاً وإفادةً للمبالغة، وأجازوا تصغير أفعل في التعجب لشبهه بأفعل التفضيل فيما ذكرنا، قال:
يا ما أميْلِح غزلاناً شدنَّ لنا
ولم يسمع ذلك إلا في أحسن وأملح، ذكره الجوهري، ولكن النحويين مع هذا قاسوه، ولم يحك ابن مالك اقتياسه إلا عن ابن كيسان، وليس كذلك، قال أبو بكر ابن الأنباري: ولا يقال إلا لمن صغر سنه.
القاعدة الثانية
أن الشيء يعطى حكم الشيء إذا جاوره
كقول بعضهم هذا جُحرُ ضبٍ خربٍ بالجر، والأكثر الرفع، وقال:
كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزمَّلِ
وقيل به في (وحُور عينٍ) فيمن جرهما، فإن العطف على (ولدانٌ مخلدون) لا على (أكواب وأباريق) إذ ليس المعنى أن الولدان يطوفون عليهم بالحور، وقيل: العطف على (جنات) وكأنه قيل: المقربون في جنات وفاكهةٍ ولحمِ طيور وحور، وقيل: على أكوابٍ باعتبار المعنى، إذ معنى (يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بأكواب): ينعمون بأكواب. وقيل في (وأرْجُلِكُم) بالخفض: إنه عطف على (أيديكم) لا على (رؤوسكم)، إذ الأرجل مغسولة لا ممسوحة، ولكنه خفض لمجاورة رؤوسكم والذي عليه المحققون أن خفض الجوار يكون في النعت قليلاً كما مثلنا، وفي التوكيد نادراً كقوله:
يا صاح بلِّغْ ذوي الزّوجاتِ كلِّهِمُ ... أن ليس وصلٌ إذا انحلتْ عُرا الذَّنَبِ


قال الفراء: أنشدنيه أبو الجراح بخفض كلهم، فقلت له هلاّ قلت كلَّهم - يعني النصب - فقال: هو خير من الذي قلته أنا، ثم استنشدته إياه، فأنشدنيه بالخفض. ولا يكون في النسق، لأن العاطف يمنع من التجاور، وقال الزمخشري: لما كانت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصبّ الماء عليها كانت مظنة الإسراف المذموم شرعاً، فعُطفت على الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، وقيل (الى الكعبين) فجيء بالغاية إماطةً لظن من يظن أنها ممسوحة، لأن المسح لم تُضرَبْ له غاية في الشريعة، انتهى.
تنبيه
أنكر السيرافي وابن جني الخفْض على الجوار، وتأوّلا قولهم خرِبٍ بالجر على أنه صفة لضب.
ثم قال السيرافي: الأصل خربٍ الجُحرُ منه، بتنوين خرب ورفع الجحر، ثم حذف الضمير للعلم به، وحُوِّل الإسناد الى ضمير الضب، وخفض الجحر كما تقول مررتُ برجلٍ حسنِ الوجهِ بالإضافة، والأصل حسنٍ الوجهُ منه، ثم أتى بضمير الجحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر.
وقال ابن جني: الأصل خرِبٍ جُحرُه، ثم أنيب المضاف إليه عن المضاف فارتفع واستتر.
ويلزمهما استتار الضمير مع جريان الصفة على غير من هي له، وذلك لا يجوز عند البصريين وإن أُمِنَ اللبس، وقولُ السيرافي إن هذا مثل مررت برجلٍ قائمٍ أبواه لا قاعديْنِ مردود، لأن ذلك إنما يجوز في الوصف الثاني دون الأول على ما سيأتي.
ومن ذلك قولهم هنأني ومَرأني والأصل أمرأني، وقولهم هو رجسٌ نجسٌ بكسر النون وسكون الجيم، والأصل نجسٌ بفتحة فكسرة، كذا قالوا، وإنما يتم هذا أنْ لو كانوا لا يقولون هنا نجسٌ بفتحة فكسرة، وحينئذ فيكون محل الاستشهاد إنما هو الالتزام للتناسب، وأما إذا لم يلتزم فهذا جائز بدون تقدم رجس، إذ يقال فعلٌ بكسرة فسكون في كل فعِلٍ بفتحة فكسرة، نحو: كتفٍ ولبنٍ ونبقٍ، وقولهم أخذَهُ ما قدُم وما حدُثَ بضم دال حدث، وقراءة جماعة (سلاسِلاً وأغلالاً) بصرف سلاسل، وفي الحديث ارْجِعن مأزُوراتٍ غير مأجوراتٍ والأصل موْزورات بالواو لأنه من الوزْر، وقراءة أبي حيّة (يؤقِنون) بالهمزة، وقوله:
أحَبُ المؤقِدينَ إليّ مُؤسى ... وجَعْدةُ، إذْ أضاءهما الوقودُ
بهمز المؤقدين، ومؤسى على إعطاء الواو المجاورة للضمة حكم الواو المضمومة، فهمزت كما قيل في وجوه: أُجوه، وفي وُقِّتت: أقِّتتْ، ومن ذلك قولهم في صُوَّم صُيَّم، حملاً على قولهم في عُصوٍّ عِصيٍّ، وكان أبو علي ينشد في مثل ذلك:
قد يُؤخذُ الجارُ بجرمِ الجارِ
القاعدة الثالثة
قد يُشربون لفظاً معنى لفظ
فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك تضميناً
وفائدته: أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين، قال الزمخشري: ألا ترى كيف رجع معنى (ولا تعْدُ عيناكَ عنهمْ) الى قولك: ولا تقتحم عيناك مجاوزتين الى غيرهم، (ولا تأكلوا أموالهمْ الى أموالكم) أي ولا تضموها إليها آكلين.
ومن مثل ذلك أيضاً قوله تعالى (الرَّفَث الى نِسائكمْ) ضمن الرفث معنى الإفضاء، فعدي بإلى مثل (وقد أفضى بعضُكمْ الى بعضٍ) وإنما أصل الرفث أن يتعدى بالباء، يقال: أرفثَ فلانٌ بامرأته. وقوله تعالى (وما يفعلوا منْ خيرٍ فلن يُكفروهُ) أي فلن يحرموه، أي فلن يحرموا ثوابه، ولهذا عُدِّي الى اثنين لا الى واحد. وقوله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح) أي لا تنووا، ولهذا عدي بنفسه لا بعلى. وقوله تعالى (لا يسمعون الى الملأ الأعلى) أي لا يُصغون. وقولهم سمعَ الله لمن حمِدَه أي استجاب، فعدي يسمع في الأول بإلى وفي الثاني باللام، وإنما أصله أن يعدى بنفسه مثل (يومَ يسمعونَ الصّيحةَ) وقوله تعالى (واللهُ يعلمُ المُفسدَ منَ المُصلحِ) أي يميز، ولهذا عدي بمن لا بنفسه. وقوله تعالى (للذينَ يُؤلونَ منْ نسائهم) أي يمتنعون من وطء نظائهم بالحلف، فلهذا عدي بمن، ولما خفي التضمين على بعضهم في الآية، ورأى أنه لا يقال حلف من كذا بل حلف عليه، قال: من متعلقة بمعنى للذين، كما تقول: لي منك مبرَّةٌ، قال: وأما قول الفقهاء آلى منْ امرأته فغلط أوقعهم فيه عدم فهم المتعلق في الآية.
وقال أبو كبير الهذلي:
حملتْ بهِ في ليلةٍ مزؤودةٍ ... كَرهاً وعقدُ نِطاقها لمْ يفحللِ
وقال قبله:


ممن حملنَ بهِ وهنّ عواقِدٌ ... حُبُكَ النِّطاقِ فشبَّ غيرَ نهبَّلِ
مزؤودة أي مذعورة، ويروى بالجر صفة لليلة مثل (والليل إذا يسرِ) وبالنصب حالاً من المرأة، وليس بقويّ مع أن الحقيقة، لأن ذكر الليلة حينئذ لا كبير فائدة فيه. والشاهد فيهما أنه ضمن حملَ علِقَ، ولولا ذلك لعدي بنفسه مثل (حملتهُ أمُّهُ كُرهاً).
وقال الفرزدق:
كيفَ تراني قالِباً مجنِّي ... قدْ قتلَ اللهُ زياداً عني
أي صرفه عني بالقتل.
وهو كثير، قال أبو الفتح في كتاب التمام: أحسِبُ لو جمع ما جاء منه لجاء منه كتاب يكون مِئينَ أوراقاً.
القاعدة الرابعة
أنهم يغلِّبون على الشيء ما لغيره
لتناسب بينهما، أو اختلاط
فلهذا قالوا الأبوين في الأب والأم، ومنه (ولأبويهِ لكلّ واحدٍ منهما السُّدسُ) وفي الأب والخالة، ومنه (ورفعَ أبويْهِ على العرش) والمشرقين والمغربين ومثله الخافقان في المشرق والمغرب، وإنما الخافق المغرب، ثم إنما سمي خافقاً مجازاً، وإنما هو مخفوقٌ فيه، والقمرين في الشمس والقمر، قال المتنبي:
واستقبلت قمرَ السماءِ بوجهها ... فأرَتني القمرينِ في وقتٍ معا
أي الشمس وهو وجهها وقمر السماء. وقال التبريزي: يجوز أنه أراد قمراً وقمراً، لأنه لا يجتمع قمران في ليلة كما أنه لا تجتمع الشمس والقمر، وما ذكرناه أمدح، والقمران في العرف الشمس والقمر، وقيل: إن منه قول الفرزدق:
أخذْنا بآفاق السماءِ عليكُمُ ... لنا قمراها والنّجومُ الطوالعُ
وقيل: إنما أراد محمداً والخليل عليهما الصلاة والسلام، لأنه نسبه راجع إليهما بوجه، وإن المراد بالنجوم الصحابة، وقالوا العمرين في أبي بكر وعمر، وقيل: المراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فلا تغليب، ويُردُّ بأنه قيل لعثمان رضي الله عنه: نسألك سيرة العمرين، قال: نعم:. قال قتادة: أعتقَ العُمرانِ فيمن بيهما من الخلفاء أمهاتِ الأولاد، وهذا المراد به عمر وعمر، وقالوا العجاجينِ في رؤبة والعجاج، والمروتين في الصفا والمروة.
ولأجل الاختلاط أطلقت مَن على ما لا يعقل في نحو (فمنهم من يمشي على بطنِه، ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) فإن الاختلاط حاصل في العموم السابق قوله تعالى (كل دابةٍ من ماءٍ)، وفي (من يمشي على رجلين) اختلاط آخر في عبارة التفصيل، فإنه يعم الإنسان والطائر، واسم المخاطبين على الغائبين في قوله تعالى (اعبُدوا ربّكم الذي خلقكم والذينَ من قبلكم لعلكم تتقون) لأن لعلَّ متعلقة بخلقكم لا باعبدوا، والمذكرين على المؤنث حتى عدّت منهم في (وكانت من القانتينَ)؛ والملائكة على إبليس حتى استثني منهم في (فسجدوا إلا إبليس) قال الزمخشري: والاستثناء متصل لأنه واحد من بين أظهر الألوف من الملائكة، فغلبوا عليه في فسجدوا ثم استثني منهم استثناء أحدهم، ثم قال: ويجوز أن يكون منقطعاً.
ومن التغليب (أو لتعودُنَّ في ملتنا) بعد (لنُخرجنكَ يا شعيبُ والذين آمنوا معكَ من قريتنا) فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن في ملتهم قط، بخلاف الذي آمنوا معه. ومثله (جعلَ لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه) فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام، فغلب المخاطبون والعاقلون على الغائبين والأنعام، ومعنى يذرؤكم فيه يبثكم ويكثركم في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى حصل بينهم التوالد، فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبثّ والتكثير، فلهذا جيء بفي دون الباء، ونظيره (ولكم في القصاص حياةٌ) وزعم جماعة أن منه (يا أيها الذين آمنوا) ونحو (بلْ أنتم قومٌ تجهلون) وإنما هذا من مراعاة المعنى، والأول من مراعاة اللفظ.
القاعدة الخامسة
أنهم يعبرون بالفعل عن أمور
أحدها: وقوعه، وهو الأصل.
والثاني: مُشارفته، نحو (وإذا طلقتم النساءَ فبلغنَ أجلهنّ فأمسكوهنَّ) أي فشارفنَ انقضاء العدة، (والذين يُتوفَّوْن منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم) أي والذين يشرفون الموتَ وتركَ الأزواج يوصون وصية، (وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرّيةً) أي لو شارفوا أن يتركوا، وقد مضت في فصل لو ونظائرها، ومما لم يتقدم ذكره قوله:


الى ملكٍ كادَ الجبالُ لفقدهِ ... تزولُ زوالَ الرّاسياتُ من الصخر
الثالث: إرادته، وأكثر ما يكون ذلك بعد أداة الشرط نحو (فإذا قرأتَ القرآنَ فاستعِذْ باللهِ)، (إذا قُمْتمْ الى الصلاةِ فاغْسِلوا)، (إذا قضى أمراً فإنما يقول لهُ كُنْ)، (وإنْ حكمتَ فاحْكم بينهُم بالقِسْطِ)، (وإن عاقبْتمْ فعاقِبوا بمثلِ ما عوقِبْتمْ به)، (إذا تناجيتمْ فلا تناجوا بالإثمِ والعُدوان)، (إذا ناجيتمُ الرّسولَ فقدّموا) الآية، (إذا طلّقتمُ النِّساءَ فطلِّقوهُنَّ لعدّتهنّ) وفي الصحيح إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل.
ومنه في غيره (فأخرجْنا مَنْ كان فيها من المؤمنين، فما وجَدنا فيها غيرَ بيتٍ من المُسلمين) أي فأردنا الإخراج، (ولقدْ خلَقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا للملائكةِ اسجُدوا لآدمَ) لأن ثم للترتيب، ولا يمكن هنا مع الحمل على الظاهر، فإذا حمل خلقنا وصورنا على إرادة الخلق والتصوير لم يشكل. وقيل: هما على حذف مضافين، أي خلقنا أباكم ثم صورنا أباكم. ومثله (وكمْ منْ قريةٍ أهْلكناها فجاءها بأسُنا) أي أردنا إهلاكها، (ثم دنا فتَدلى) أي أراد الدنوّ من محمد عليه الصلاة والسلام، فتدلى فتعلق في الهواء، وهذا أولى من قول من ادعى القلب في هاتين الآيتين وأن التقدير: وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، ثم تدلى فدنا، وقال:
فارَقَنا قبلَ أنْ نفارقهُ ... لمّا قضى منْ جِماعِنا وطَرا
أي أراد فراقنا.
وفي كلامهم عكس هذا، وهو التعبير بإرادة الفعل عن إيجاده، نحو (ويريدونَ أنْ يفرِّقوا بين الله ورُسُلهِ) بدليل أنه قوبل بقوله سبحانه وتعالى (ولم يفرِّقوا بينَ أحدٍ منهم).
والرابع: اقدرة عليه، نحو (وعْداً علينا إنّا كُنا فاعلين) أي قادرين على الإعادة، وأصل ذلك أن الفعل يتسبّبُ عن الإرادة والقدرة، وهم يقيمون السبب مُقامَ المسبب وبالعكس، فالأول نحو (ونبْلوَ أخبارَكمْ) أي ونعلم أخباركم، لأن الابتلاء الاختبار، وبالاختبار يحصل العلم، وقوله تعالى (هل يستطيعُ ربك) الآية في قراءة غير الكسائي يستطيع بالغيبة وبك بالرفع، معناه هل يفع ربك، فعبر عن الفعل بالاستطاعة لأنها شرطه، أي هل يُنزِلُ علينا ربُّك مائدةً إن دعوتَه. ومثله (فظنّ أنْ لنْ نقدِرَ عليهِ) أي لن نؤاخذه، فعبر عن المؤاخذة بشرطها وهو القدة عليها. وأما قراءة الكسائي فتقديرها هل تستطيع سؤال ربك، فحذف المضاف، أو هل تطلب طاعة ربك في إنزال المائدة أي استجابته.
ومن الثاني (فاتّقوا النّارَ) أي فاتقوا العناد الموجب للنار.
القاعدة السادسة
أنهم يعبرون عن الماضي والآتي
كما يعبرون عن الشيء الحاضر
قصْداً لإحضاره في الذهن حتى كأنه مُشاهد حالة الإخبار، نحو (وإنّ ربَّك ليحْكمُ بينَهُمْ يومَ القيامةِ) لأن لام الابتداء للحال، ونحو (هذا من شيعته وهذا من عدوّه) إذ ليس المراد تقريب الرجلين من النبي عليه الصلاة والسلام، كما تقول: هذا كتابك فخذه، وإنما الإشارة كانت إليهما في ذلك الوقت هكذا فحكيت، ومثله (والله الذي أرسل الرّياحَ فتُثيرُ سحاباً) قصد بقوله سبحانه وتعالى فتُثير إحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب، تبدو أولاً قِطعاً ثم تتضامُّ متقلبة بين أطوار حتى تصير رُكاماً. ومنه (ثم قالَ لهُ كُنْ فيكون) أي فكان، (ومن يشرِكْ باللهِ فكأنما خرَّ منَ السّماءِ فتخطَفُه الطّيرُ أو تهوي به الرّيحُ في مكانٍ سحيقٍ)، (ونريدُ أن نمُنّ على الذين استُضعِفوا في الأرض) الى قوله تعالى (ونُريَ فرعونَ وهامانَ)، ومنه عند الجمهور (وكلبُهم باسِطٌ ذراعيْه بالوصيد) أي يَبسط ذراعيه، بدليل (ونقلِّبهم) ولم يقل وقلبناهم، وبهذا التقرير يندفع قول الكسائي وهشام: إن اسم الفاعل الذي بمعنى يعمل، ومثله (واللهُ مخرجٌ ما كنْتمْ تكتمون) إلا أن هذا على حكاية حال كانت مستقبلة وقت التدارؤ، وفي الآية الأولى حكيت الحال الماضية ومثلها قوله:
جاريةٌ في رمضانَ الماضي ... تُقطِّع الحديثَ بالإيماضِ
ولولا حكاية الحال في قول حسان:
يُغْشَون حتى لا تهِرُّ كلابُهم
لم يصح الرفع، لأنه لا يرفع إلا وهو للحال، ومنه قوله تعالى: (حتى يقولُ الرّسول) بالرفع.
القاعدة السابعة
إن اللفظ قد يكون على تقدير


وذلك المقدر على تقدير آخر
نحو قوله تعالى: (وما كانَ هذا القرآن أنْ يُفترى من دونِ الله) فإن يفترى مؤول بالافتراء، والافتراء مؤول بمفترى. وقال:
لعمرُكَ ما الفِتيانُ أن تنبُت اللِّحى ... ولكنما الفتيانُ كلُّ فتى ندي
وقالوا عسى زيدٌ أن يقومَ فقيل: هو على ذلك، ويل: على حذف مضاف، أي عسى أمرُ زيدٍ أو عسى زيدٌ صاحب القيمِ، وقيل: أنْ زائدة، ويرده عدم صلاحيتها للسقوط في الأكثر، وأنها قد عملت، والزائدة لا تعمل خلافاً لأبي الحسن، وأما قولُ أبي الفتح في بيت الحماسة:
حتى يكونَ عزيزاً في نُفوسِهم ... أو أن يبينَ جميعاً وهو مخارُ
يجوز كونُ أنْ زائدة، فلأن النصب هنا يكون بالعطف لا بأن، وقيل في (ثمَّ يعودونَ لما قالوا) إن ما قالوا بمعنى القول، والقول بتأويل المقول، أي يعودون للمقول فيهن لفظُ الظهار وهنّ الزوجات، وقال أبو البقاء في (حتى تُنفِقوا مما تحبّون) يجوز عند أبي علي كون ما مصدرية، والمصدر في تأويل اسم المفعول، وهذا يقتضي أن غير أبي علي لا يجيز ذلك. وقال السيرافي: إذا قيل: قاموا ما خلا زيداً، وما عدا زيداً، فما مصدرية، وهي وصلتها حال، وفيه معنى الاستثناء، قال ابن مالك: فوقعت الحال معرفة لتأولها بالنكرة، والتأويل خالينَ عن زيد، ومُتجاوزين زيداً، وأما قول ابن خروف والشلوبين إن ما وصلتها نصب على الاستثناء فغلط، لأن معنى الاستثناء قائم بما بعدهما لا بهم، والمنصوب على معنى لا يليق ذلك المعنى بغيره.
القاعدة الثامنة
كثيراً ما يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل
فمن ذلك كلّ شاةٍ وسخْلتِها بردهمٍ و:
وأيُّ فتى هيجاءَ أنتَ وجارِها
ورُبَّ رجلٍ وأخيه و(إن نشأ نُنزِّل عليهم من السماءِ آيةً فظلت) ولا يجوز: كل سخلتها، ولا أي جارها، ولا رب أخيه، ولا يجوز إن يقُم زيد قام عمرو في الأصح إلا في الشعر كقوله:
إن يَسمعوا سُبّةً طاروا بها فرحاً ... عني، وما يسمعوا منْ صالحٍ دفنوا
إذ لا تضاف كلٌّ وأيّ الى معرفة مفردة، كما أن اسم التفضيل كذلك، ولا تجر ربَّ إلا النكرات، ولا يكون في النثر فعلُ الشرطِ مضارعاً والجواب ماضياً، وقال الشاعر:
إنْ تركبوا فركوبُ الخيلِ عادتُنا ... أو تنزلونَ فإنا معشرٌ نُزُلُ
فقال يونس: أراد أو أنتم تنزلون، فعطف الجملة الاسمية على جملة الشرط، وجعل سيبويه ذلك من العطف على التوهم، قال: فكأنه قال: أتركبون فذلك عادتنا أو تنزلون فنحن معروفون بذلك، ويقولون: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدينِ ويمتنع قائمَينِ لا قاعد أبواه، على إعمال الثاني وربْطِ الأول بالمعنى.
القاعدة التاسعة
أنهم يتّسعون في الظرف والمجرور
ما لا يتسعون في غيرهما
فلذلك فصَلوا بهما الفعلَ الناقصَ من معموله نحو كانَ في الدّارِ - أو عندكَ - زيدٌ جالساً وفعلَ التعجب من المتعجب منه نحو ما أحسنَ في الهيجاءِ لقاءَ زيدٍ، وما أثبتَ عندَ الحربِ زيداً وبين الحرف الناسخ ومنسوخه نحو قوله:
فلا تلحَني فيها فإنّ بحبها ... أخاكَ مُصابُ القلبِ جمٌ بلابِلُهْ
وبين الاستفهام والقول الجاري مجرى الظن كقوله:
أبعدَ بعدٍ تقول الدّارَ جامعةً
وبين المضاف وحرف الجر ومجرورهما، وبين إذنْ ولنْ ومنصوبهما نحو هذا غُلامُ واللهِ زيدٍ، واشتريته بوالله درهمٍ وقوله:
إذنْ واللهِ نرميَهُم بحربٍ
وقوله:
لنْ، ما رأيتُ أبا يَزيدَ مُقاتلاً ... أدعَ القتالَ وأشهدَ الهيجاءَ
وقدموهما خبرين على الاسم في باب إنّ نحو (إنّ في ذلكَ لعبرةً) ومعمولين للخبر في باب ما نحو ما في الدار زيدٌ جالساً وقوله:
فما كلَّ حينٍ منْ تؤاتي مؤاتيا
فإن كان المعمول غيرهما بطل عملها كقوله:
وما كلَّ منْ وافى منىً أنا عارفُ
ومعمولين لصلة ال نحو (وكانوا فيه من الزّاهدين) في قولٍ، وعلى الفعل المنفي بما في نحو قوله:
ونحنُ عنْ فضلكَ ما استغنينا
قيل: وعلى إن معمولاً لخبرها في نحو: أما بعد فإني أفعل كذا وكذا، وقوله:
أبا خُراشةَ أمّا أنْتَ ذا نفَرٍ ... فإنّ قوميَ لمْ تأكلْهُمُ الضّبعُ
وعلى العامل المعنوي في نحو قولهم أكلَّ يومٍ لكَ ثوبٌ.


وأقول: أما مسألة أمّا فاعلم أنه إذا تلاها ظرف، ولم يل الفاء ما يمتنع تقدم معموله عليه نحو أما في الدّار - أو عندك - فزيدٌ جالس جاز كونه معمولاً لأما أو لما بعد الفاء، فإن تلا الفاء ما لا يتقدم معموله عليه نحو أما زيْدا - أو اليوم - فإني ضارب فالامل فيه عند المازني أما فتصبح مسألة الظرف فقط، لأن الحروف لا تنصب المفعول به، وعند المبرد تجوز مسألة الظرف من وجهين، ومسألة المفعول به من جهة إعمال ما بعد الفاء، واحتج بأن أما وضعت على أن ما بعد فاء جوابها يتقدم بعضه فاصلاً بينها وبين أما، وجوزه بعضهم في الظرف دون المفعول به، وأما قوله:
...... أما أنت ذا نفرٍ
فليس المعنى على تعلقه بما بعد الفاء، بل هو متعلق تعلق المفعول لأجله بفعل محذوف، والتقدير: ألهذا فخرت علي؟ وأما المسألة الأخيرة فمن أجاز زيد جالساً في الدر لم يكن ذلك مختصاً عنده بالظرف.
القاعدة العاشرة
من فنون كلامهم القلب
وأكثر وقوعه في الشعر كقول حسان رضي الله تعالى عنه:
كأنّ سبيئةً منْ بيتِ رأسٍ ... يكونُ مِزاجَها عسلٌ وماءُ
فيمن نصب المزاج، فجعل المعرفة الخبر والنكرة الاسم، وتأوّله الفارسي على أن انتصاب المزاج على الظرفية المجازية، والأولى رفع المزاج ونصب العسل، وقد روي كذلك أيضاً، فارتفاع ماء بتقدير: وخالطها ماء، ويروى برفعهن على إضمار الشأن، وأما قول ابن أسد: إنّ كان زائدة فخطأ، لأنها لا تزاد بلفظ المضارع بقياس، ولا ضرورة تدعو الى ذلك هنا، وقول رؤبة:
ومهْمهٍ مُغبرةٍ أرجاؤهُ ... كأنّ لونَ أرضهِ سماؤهُ
أي كأن لونَ سمائه لغبرتها لونُ أرضه، فعكس التشبيه مبالغة، وحذف المضاف، وقال الآخر:
فإنْ أنتَ لاقيتَ في نجدةٍ ... فلا يتهيّبكَ أن تُقدِما
أي تتهيّبها، وقال ابن مقبل:
ولا تتهيّبني المَوماةُ أركبُها ... إذا تجاوبتِ الأصداءُ بالسَّحرِ
أي ولا أتهيبها، وقال كعب:
كأنّ أوبَ ذِراعيها إذا عرِقتْ ... وقد تلفّعَ بالقور العساقيلُ
القور: جمع قارة، وهل الجبل الصغير، والعساقيل: اسم لأوائل السراب، ولا واحد له، والتلفع: الاشتمال. وقال عروة بن الورد:
فَديتُ بنفسهِ نفْسي ومالي ... وما آلوكَ إلاّ ما أطيقُ
وقال القُطامي:
فلمّا أنْ جرى سِمَنٌ عليها ... كما طيَّنتَ بالفَدَنِ السَّياعا
الفدَن: القَصْر، والسّياع: الطين، ومنه في الكلام أدخلْتُ القلنسوة في رأسي وعرضت الناقة على الحوض وعرضتها على الماء قاله الجوهري وجماعة منهم السكاكي والزمخشري، وجعل منه (ويومَ يُعرَضُ الذينَ كفَروا على النّار) وفي كتاب التوسعة ليعقوب بن إسحاق السكيت: إنعرضت الحوضَ على الناقة مقلوب، وقال آخر: لا قلب في واحد منهما، واختاره أبو حيان، وردّ على قول الزمخشري في الآية.
وزعم بعضهم في قول المتنبي:
وعذَلتُ أهلَ العشقِ حتى ذقتهُ ... فعجِبت كيفَ يموتُ مَنْ لا يعشقُ
أن أصله كيف لا يموت مَنْ يعشق، والصواب خلافه، وأن المراد أنه صار يرى أن لا سبب للموت سوى العشق. ويقال: إذا طلعت الجوزاء انتصب العودُ في الحرباء، أي انتصب الحرباء في العود. وقال ثعلب في قوله تعالى (ثمَّ في سلسلةٍ ذرعُها سبعونَ ذاعاً فاسْلكوهُ): إن المعنى اسلكوا فيه سلسلة، وقيل: إن منه (وكم مِنْ قريةٍ أهلكناها فجاءَها بأسفنا)، (ثم دنا فتدلى) وقد مضى تأويلهما، ونقل الجوهري في (فكان قاب قوسينِ) أن أصله قابي قوسٍ، فقلبت التثنية بالإفراد، وهو حسن إن فُسِّر القابُ بما بين مقبض القوس وسيتها أي طرفها، ولها طرفان، فله قابانِ، ونظير هذا إنشاد ابن الأعرابي:
إذا أحْسنَ ابنُ العمِّ بعدَ إساءةٍ ... فلستُ لشرَّيْ فعلهِ بحمُولِ
أي فلست لشرّ فعليهِ.


قيل: ومن القلب (اذْهبْ بِكتابي هذا) الآية، وأجيب بأن المعنى ثم تولَّ عنهم الى مكان يقرب منهم، ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر ماذا يرجعون. وقيل في (فعُمِّيَتْ عليكم): إن المعنى فعميتم عنها، وفي (حقيقٌ على ألاّ أقول) الآية فيمن جر بعلى أن وصلتها على أن المعنى حقيق عليّ، بإدخالها على ياء المتكلّم كم قرأ نافع، وقيل: ضمن حقيق معنى حريص، وفي (ما إنّ مفاتِحهُ لتنوءُ بالعُصبَة): إن المعنى لتنوء العصبةُ بها أي لتنهض بها متثاقلة، وقيل: الباء للتعدية كالهمزة، أي لتنيءُ العصبة، أي تجعلها تنهض متثاقلة.
القاعدة الحادية عشرة
من مُلح كلامهم تقارُضُ اللفظين في الأحكام
ولذلك أمثلة: أحدها: إعطاء غير حكم إلا في الاستثناء بها نحو (لا يستوي القاعِدون منَ المؤمنين غيرَ أولي الضّرر) فيمن نصب غير، وإعطاء إلا حكم غير في الوصف بها نحو (لوْ كان فيهما آلةٌ إلا اللُ لفسدتا).
والثاني: إعطاء أنْ المصدرية حكم ما المصدرية في الإهمال كقوله:
أن تقرأانِ على أسماءَ ويحكُما ... مني السّلامَ وألا تُشعِرا أحَدا
الشاهد في أنْ الأولى، وليست مخففة من الثقيلة، بدليل أن المعطوفة عليها. وإعمال ما حمْلاً على أن كما روي من قوله عليه الصلة والسلام كما تكونوا يوَلّى عليكم ذكره ابن الحاجب، والمعروف في الرواية كما تكونون.
والثالث: إعطاء إن الشرطية حكم لوْ في الإهمال كما روي في الحديث فإلاّ تراهُ فإنّ يراك وإعطاء لو حكم إن في الجزم كقوله:
لو يشأ طارَ بها ذو ميْعةٍ
ذكر الثاني ابنُ الشجري، وخرّجه غيره على أنه جاء على لغة من يقول شا يشا - بالألف - ثم أبدلت الألف همزة على حد قول بعضهم العألم والخأتم - بالهمزة - ويؤيده أنه لا يجوز مجيء إن الشرطية في هذا الموضع، لأنه إخبار عما مضى، فالمعنى لو شاء، وبهذا يقدح أيضاً في تخريج الحديث السابق على ما ذكر، وهو تخريج ابن مالك، والظاهر أنه يتخرج على إجراء المعتل مجرى الصحيح كقراءة قُنْبُل (إنهُ من يتقي ويصبرْ فإنّ الله) بإثبات ياء يتقي وجزم يصبر.
والرابع: إعطاء إذا حكم متى في الجزم بها كقوله:
وإذا تُصِبْكَ خصاصةٌ فتحمَّلِ
وإهمال متى حكماً لها بحكم إذا، كقول عائشة رضي الله تعالى عنها وأنه متى يقوم مقامك لا يُسْمع الناس.
والخامس: إعطاء لم حكم لن في عمل النصب، ذكره بعضُهم مستشهداً بقراءة بعضهم (ألمْ نشْرحَ) بفتح الحاء، وفيه نظر، إذا لا تحل لن هنا، وإنما يصح - أو يحسن - حمل الشيء على ما يحل محله كما قدمنا، وقيل: أصله نشرحَنْ ثم حذفت النون الخفيفة وبقي الفتح دليلاً عليها، وفي هذا شذوذان: توكيد المنفي بلم مع أنه كالفعل الماضي في المعنى، وحذف النون لغير مقتضٍ مع أن المؤكد لا يليق به الحذف. وإعطاء لن حكم لم في الجزم كقوله:
لن يخِبِ الآن من رجائِكَ مَنْ ... حرّكَ منْ دونِ بابِك الحلقهْ
الرواية بكسر الباء.
والسادس: إعطاء ما النافية حكم ليس في الإعمال، وهي لغة أهل الحجاز نحو (ما هذا بشراً) وإعطاء ليس حكم ما في الإهمال عند انتقاض النفي بإلا كقولهم ليس الطّيبُ إلا المِسكُ وهي لغة بني تميم.
والسابع: إعطاء عسى حكم لعل في العمل كقوله:
يا أبتا علّك أو عساكا
وإعطاء لعل حكم عسى في اقتران خبرها بأنْ، ومنه الحديث فلعلّ بعضَكم أن يكون ألحن بحُجّته من بعضٍ.
والثامن: إعطاء الفاعل إعراب المفعول وعكسه عند أمن اللبس، كقولهم: خرقَ الثوبُ المسمارَ، وكسر الزجاجُ الحجرَ، وقال الشعر:
مثلُ القنافذ هدّاجون قد بلغت ... نجرانُ أو بلغتْ سوءاتِهم هَجَرُ
وسمع أيضاً نصبهما كقوله:
قدْ سالم الحيّاتِ منْهُ القدما
في رواية من نصب الحيات، وقيل: القدما تثنية حذفت نونه للضرورة كقوله:
هُما خُطّتا إما إسارٌ ومنّةٌ
فيمن رواه برفع إسار ومنة، وسمع أيضاً رفعهما كقوله:
إنّ منْ صادَ عقْعَقاً لَمشومُ ... كيف مَنْ صاد عقعقانِ وبومُ
والتاسع: إعطاء الحسن الوجْهَ حكم الضرب الرجل في النصب، وإعطاء الضارب الرجلِ حكم الحسن الوجهِ في الجر.

والعاشر: إعطاء أفعل في التعجب حكم أفعل التفضيل في جواز التصغير، وإعطاء أفعَل التفضيل حكم أفعل في التعجب في أنه لا يرفع الظاهر، وقد مر ذلك.
ولو ذكرت أحرف الجر ودخول بعضها على بعض في معناه لجاء من ذلك أمثلة كثيرة.
وهذا آخر ما تيسّر إيراده في هذا التأليف، وأسأل الله الذي منّ عليّ بإنشائه وإتمامه في البلد الحرام، في شهر ذي القعدة الحرام، ويسّر عليّ إتمام ما ألحقت به من الزوائد في شهر رجب الحرام: أن يحرِّم وجهي على النار، وأن يتجاوز عما تحمّلتُه من الأوزار، وأن يوقِظني من رَقدة الغفلة قبل الفوْت، وأن يلطفُ بي عند معالجة سكراتِ الموت، وأن يفعل ذلك بأهلي وأحبائي، وجميع المسلمين، وأن يُهدِي أشرف صلواته وأزكى تحياته الى أشرف العالمين، وإمام العاملينَ، محمد نبي الرحمة، الكاشف في يوم المحشر بشفاعته الغُمة، وعلى أهله الهادين، وأصحابه الذين شادوا لنا قواعِد الدين، وأن يسلم تسليماً كثيراً الى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق