الأحد، 3 مارس 2013

3.اسراار البلاغة


الكتاب : أسرار البلاغة
المؤلف : أبوبكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (المتوفى : 471هـ)

فصل في
الفرق بين الاستعارة والتمثيل


اعلم أن من المقاصد التي تقع العناية بها أن نُبيّن حالَ الاستعارةِ مع التمثيل، أهي هو على الإطلاق حتى لا فرق بين العبارتين، أم حدُّها غيرُ حدِّه إلا أنها تتضمّنه وتَتَّصل به؟ فيجب أن نُفرِد جملةً من القول في حالها مَع التَّمثيل، قد مضى في الاستعارة أن حدّها يكون للّفظ اللُّغوي أصلٌ، ثم يُنقَل عن ذلك الأصل على الشرط المتقدم، وهذا الحدّ لا يجيء في الذي تقدَّم في معنى التمثيل، من أنه الأصل في كونه مَثَلاً وتمثيلاً، وهو التشبيه المنتزَع من مجموع أمور، والذي لا يُحصّله لك إلا جملةٌ من الكلام أو أكثر، لأنك قد تجد الألفاظَ في الجمل التي يُعقَد منها جاريةً على أصولها وحقائقها في اللغة، وإذا كان الأمر كذلك، بانَ أَنَّ الاستعارة يجب أن تُقيد حكماً زائداً على المراد بالتمثيل، إذ لو كان مرادُنا بالاستعارة هو المراد بالتمثيل، لوَجب أن يصحّ إطلاقُها في كل شيء يقال فيه إنه تمثيلٌ ومَثَل، والقول فيها أنّها دِلالة على حكمٍ يثبت للّفظ، وهو نقلُه عن الأصل اللغويّ وإجراؤه على ما لم يوضع له، ثم إن هذا النقل يكون في الغالب من أجل شَبَهٍ بين ما نُقِلَ إليه وما نُقِلَ عنه، وبيان ذلك ما مضى من أنك تقول: رأيت أسداً، تريد رجلاً شبيهاً به في الشجاعة وظبيةً تريد امرأة شبيهة بالظبية، فالتشبيه ليس هو الاستعارة ولكن الاستعارة كانت من أجل التشبيه، وهو كالغرض فيها، وكالعلّة والسبب في فِعْلها. فإن قلت كيف تكون الاستعارة من أجل التشبيه، والتشبيه يكون ولا استعارةَ؛ وذلك إذا جئتَ بحرفه الظاهر فقلت زيد الأسد. فالجواب أن الأمر كما قلتَ، ولكنّ التشبيه يحصُل بالاستعارة على وجه خاصٍّ وهو المبالغة، فقولي: من أجل التشبيه، أردتُ به من أجل التشبيه على هذا الشرط، وكما أن التشبيه الكائنَ على وجه المبالغة غَرَضٌ فيه وعِلَّة، كذلك الاختصار والإيجاز غَرَضٌ من أغراضها، ألا ترى أنك تُفيد بالاسمِ الواحدِ الموصوفَ والصفةَ والتشبيهَ والمبالغةَ، لأنك تُفيد بقولك رأيت أسداً، أنك رأيت شجاعاً شبيهاً بالأسد، وأنّ شَبَهه به في الشجاعة على أتمّ ما يكون وأبلغِه، حتى إنه لا ينقص عن الأسد فيها، وإذا ثبت ذلك، فكما لا يصحّ أن يقال إن الاستعارة هي الاختصار والإيجاز على الحقيقة، وأنّ حقيقتها وحقيقتهما واحدة، ولكن يقال إن الاختصار والإيجاز يحصلان بها، أو هما غرضان فيها، ومن جملة ما دعا إلى فِعْلِها، كذلك حكمُ التشبيه معها، فإذا ثبت أنها ليست التشبيهَ على الحقيقة، كذلك لا تكون التمثيل على الحقيقة، لأن التمثيلَ تشبيهٌ إلا أنه تشبيهٌ خاصٌّ، فكلُّ تمثيلٍ تشبيهٌ، وليس كلُّ تشبيهٍ تمثيلاً. وإذا قد تقرَّرتْ هذه الجملة، فإذا كان الشَبَه بين المستعار منه والمستعار له من المحسوس والغرائزِ والطِّباع وما يجري مجرَاها من الأوصاف المعروفة، كان حقّها أن يقال إنها تتضمّن التشبيه، ولا يقال إنّ فيها تمثيلاً وضَرْبَ مَثَل، وإذا كان الشَّبَه عقلياً جاز إطلاق التمثيل فيها، وأَن يقال ضُرِبَ الاسمُ مَثَلاً لكذا، كقولنا ضُرب النور مثلاً للقرآن، والحياةُ مَثَلاً للعلم. فقد حصلنا من هذه الجملة على أن المستعير يَعْمِد إلى نقل اللفظ عن أصله في اللغة إلى غيره، ويجوز به مكانَه الأصليَّ إلى مكان آخر، لأجل الأغراض التي ذكرنا من التشبيه والمبالغة والاختصار، والضَّارب للمثل لا يفعل ذلك ولا يقصِده، ولكنه يقصِد إلى تقرير الشَّبه بين الشيئين من الوجه الذي مضى، ثم إنْ وقع في أَثناء ما يُعْقَد به المثلُ من الجملة والجملتين والثلاث لفظةٌ منقولةٌ عن أصلها في اللغة، فذاك شيءٌ لم يعتمده من جهة المَثَلُ الذي هو ضاربه، وهكذا كان متعاطٍ لتشبيهٍ صريحٍ، لا يكون نَقْل اللفظ من شأنه ولا مِن مُقتضى غرضه، فإذا قلت: زيد كالأسد، وهذا الخبر كالشمس في الشهرة، وله رأيٌ كالسَّيف في المضاء، لم يكن منك نقلٌ للفظِ عن موضوعه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لوجب أن لا يكون في الدنيا تشبيه إلا وهو مجاز، وهذا مُحالٌ، لأن التشبيه معنًى من المعاني وله حروف وأسماءٌ تدلّ عليه، فإذا صُرّح بذلك ما هو موضوع للدلالة عليه، كان الكلام حقيقةً كالحكم في سائر المعاني فاعرفه. واعلم أن اللفظة المستعارة لا تخلو من أن تكون اسماً أو فعلاً، فإذا كانت اسماً كان اسمَ جنس أو صفةً، فإذا كان


اسمَ جنسٍ فإنك تراه في أكثر الأحوال التي تُنقَل فيها محتملاً مُتَكَفِّئاً بين أن يكون للأصل، وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن يُنقَل إليه، فإذا قلتَ: رأيت أسداً، صَلَحَ هذا الكلام لأن تريد به أنك رأيتَ واحداً من جنس السَّبُعِ المعلوم، وجاز أن تريد أنك رأيتَ شجاعاً باسلاً شديد الجُرأة، وإنما يَفْصِل لك أحدَ الغَرَضين من الآخر شاهدُ الحال، وما يتَّصل به من الكلام من قبل وبعد. وإن كان فعلاً أو صفةً، كان فيهما هذا الاحتمال في بعض الأحوال، وذلك إذا أسندتَ الفعلَ وأجريتَ الصفة على اسم مُبهَم يقعُ على ما يكون أصلاً في تلك الصفة وذاك الفعل، وما يكون فرعاً فيهما، نحو أن تقول: أنار لي شيءٌ وهذا شيءٌ مُنِير، فهذا الكلام يحتمل أن يكون أنار ومُنِير فيه واقعَين على الحقيقة، بأن تعني بالشيء بعضَ الأجسام ذوات النور وأن يكونَا واقعَين على المجاز، بأن تريد بالشيء نوعاً من العلم والرأي وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يَصِحُّ وجود النور فيها حقيقةً، وإنما توصف به على سبيل التشبيه. وفي الفعل والصفة شيء آخرُ، وهو أنك كأنك تدَّعي معنى اللَّفظ المستعار للمستعار له، فإذا قلتَ: قد أنارت حُجَّتُه، وهذه حجَّةٌ منيرة، فقد ادّعيتَ للحُجَّة النور، ولذلك تجيء فتُضيفه إليك، كما تضاف المعاني التي يُشتقّ منها الفعلُ والصفةُ إلى الفاعل والموصوف فتقول: نُورُ هذه الحجّة جَلاَ بَصَرِي، وشرح صَدْرِي، كما تقول: ظهر نُورُ الشمس، والمثل لا يوجب شيئاً من هذه الأحكام، فلا هو يقتضي تردُّدَ اللفظ بين احتمال شيئينِ ولا أن يُدَّعى معناه للشيء، ولكنه يدَعُ اللفظَ مستقرّاً على أصله. وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلاً آخر يُبنَى عليه، وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيلَ وكان التشبيهُ يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيهٌ إلا أنه عقليٌّ فإن الاستعارة من شأنها أن تُسقِطَ ذكرَ المشبَّه من البَيْنِ وتطرحه، وتدَّعَي له الاسمَ الموضوعَ للمشبَّه به، كما مضى من قولك: رأيت أسداً، تريد رجلاً شجاعاً ووردتُ بحراً زاخراً، تريد رجلاً كثير الجُود فائضَ الكفّ وأبديتُ نوراً، تريد علماً وما شاكل ذلك، فاسم الَّذِي هو المشبَّه غير مذكورٍ بوجه من الوجوه كما ترى، وقد نقلتَ الحديثَ إلى اسم المشبَّه به، لقَصْدك أن تبالغ، فتضع اللَّفظ بحيث يُخيّل أنَّ معك نَفْس الأسد والبحر والنور، كي تُقوِّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا الصنيع حيث يقع الاسم المستعار فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً بحرف الجرّ أو مضافاً إليه، فالفاعل كقولك: بدا لي أسدٌ وانبرى لي لَيْثٌ وبدا نُورٌ وظهرت شمسٌ ساطعة وفاض لي بالمواهبِ بحرٌ، كقوله:َ جنسٍ فإنك تراه في أكثر الأحوال التي تُنقَل فيها محتملاً مُتَكَفِّئاً بين أن يكون للأصل، وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن يُنقَل إليه، فإذا قلتَ: رأيت أسداً، صَلَحَ هذا الكلام لأن تريد به أنك رأيتَ واحداً من جنس السَّبُعِ المعلوم، وجاز أن تريد أنك رأيتَ شجاعاً باسلاً شديد الجُرأة، وإنما يَفْصِل لك أحدَ الغَرَضين من الآخر شاهدُ الحال، وما يتَّصل به من الكلام من قبل وبعد. وإن كان فعلاً أو صفةً، كان فيهما هذا الاحتمال في بعض الأحوال، وذلك إذا أسندتَ الفعلَ وأجريتَ الصفة على اسم مُبهَم يقعُ على ما يكون أصلاً في تلك الصفة وذاك الفعل، وما يكون فرعاً فيهما، نحو أن تقول: أنار لي شيءٌ وهذا شيءٌ مُنِير، فهذا الكلام يحتمل أن يكون أنار ومُنِير فيه واقعَين على الحقيقة، بأن تعني بالشيء بعضَ الأجسام ذوات النور وأن يكونَا واقعَين على المجاز، بأن تريد بالشيء نوعاً من العلم والرأي وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يَصِحُّ وجود النور فيها حقيقةً، وإنما توصف به على سبيل التشبيه. وفي الفعل والصفة شيء آخرُ، وهو أنك كأنك تدَّعي معنى اللَّفظ المستعار للمستعار له، فإذا قلتَ: قد أنارت حُجَّتُه، وهذه حجَّةٌ منيرة، فقد ادّعيتَ للحُجَّة النور، ولذلك تجيء فتُضيفه إليك، كما تضاف المعاني التي يُشتقّ منها الفعلُ والصفةُ إلى الفاعل والموصوف فتقول: نُورُ هذه الحجّة جَلاَ بَصَرِي، وشرح صَدْرِي، كما تقول: ظهر نُورُ الشمس، والمثل لا يوجب شيئاً من هذه الأحكام، فلا هو يقتضي تردُّدَ اللفظ بين احتمال شيئينِ ولا أن يُدَّعى معناه للشيء، ولكنه يدَعُ اللفظَ مستقرّاً على أصله. وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلاً آخر يُبنَى عليه، وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيلَ وكان التشبيهُ يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيهٌ إلا أنه عقليٌّ فإن الاستعارة من شأنها أن تُسقِطَ ذكرَ المشبَّه من البَيْنِ وتطرحه، وتدَّعَي له الاسمَ الموضوعَ للمشبَّه به، كما مضى من قولك: رأيت أسداً، تريد رجلاً شجاعاً ووردتُ بحراً زاخراً، تريد رجلاً كثير الجُود فائضَ الكفّ وأبديتُ نوراً، تريد علماً وما شاكل ذلك، فاسم الَّذِي هو المشبَّه غير مذكورٍ بوجه من الوجوه كما ترى، وقد نقلتَ الحديثَ إلى اسم المشبَّه به، لقَصْدك أن تبالغ، فتضع اللَّفظ بحيث يُخيّل أنَّ معك نَفْس الأسد والبحر والنور، كي تُقوِّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا الصنيع حيث يقع الاسم المستعار فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً بحرف الجرّ أو مضافاً إليه، فالفاعل كقولك: بدا لي أسدٌ وانبرى لي لَيْثٌ وبدا نُورٌ وظهرت شمسٌ ساطعة وفاض لي بالمواهبِ بحرٌ، كقوله:


وَفِي الجِيرة الغَادِين من بَطن وَجْرةٍ ... غزالٌ كَحِيلُ المُقلتَيْن رَبِيبُ
والمفعولُ كما ذكرت من قولك: رأيت أسداً، والمجرور نحو قولك لا عَارَ إن فَرّ من أَسدٍ يَزْأَر، والمضاف إليه كقوله:
يَا ابن الكواكب من أَئِمّة هاشمٍ ... والرُجَّحِ الأَحسابِ والأَحْلامِ


وإذا جاوزتَ هذه الأحوال، كان اسم المشبَّه مذكوراً وكان مبتدأ، واسمُ المشبَّه به واقعاً في موضع الخبر، كقولك: زيد أسد، أو على هذا الحد، وهل يستحقّ الاسم في هذه الحالة أن يوصف بالاستعارة أم لا:؟ فيه شبهة وكلامٌ سيأتيك إن شاء اللَّه تعالى. وإذ قد عرفت هذه الجملةَ، فينبغي أن تعلم أنه ليس كل شيء يجيء مشبَّهاً به بكافٍ أو بإضافة مِثْلَ إليه، يجوز أن تسلّط عليه الاستعارة، وتُنفِذ حكمَها فيه، حتى تنقله عن صاحبه وتدّعيه للمشبَّه على حدّْ قولك: أبديتُ نوراً تريد علماً، وسللتُ سيفاً صارماً، تريد رأياً نافذاً وإنما يجوز ذلك إذا كان الشَّبه بين الشيئين مما يقرُب مأخذه وَيَسْهُل متناوَلُه، ويكونُ في الحالِ دليلٌ عليه، وفي العُرف شاهدٌ له، حتى يُمكن المخاطَبَ إذا أطلقت له الاسم أن يعرف الغَرَضَ ويعلم ما أردت، فكل شيء كان من الضَّرب الأول الذي ذكرتُ أنك تكتفي فيه بإطلاق الاسم داخلاً عليه حرف التشبيه نحو قولهم هو كالأسد، فإنك إذا أدخلت عليه حكم الاستعارة وجدت في دليل الحال، وفي العرف ما يُبيِّن غرضك، إذ يُعْلَم إذا قلت رأيت أسداً، وأنت تريد الممدوح، أنّك قصدت وصفَه بالشجاعة وإذا قلت طلعت شمسٌ، أنت تريد امرأة، عُلِم أنك تريد وَصْفها بالحسن، وإن أردت الممدوح عُلِم أنك تقصِد وصفَه بالنَّباهة والشرف. فأما إذا كان من الضرب الثاني الذي لا سبيل إلى معرفة المقصود من الشبه فيه إلا بعد ذكر الجمل التي يعقد بها التمثيل، فإن الاستعارة لا تدخله، لأن وجه الشبه إذا كان غامضاً لم يَجُز أن تقتسر الاسم وتَغْصِب عليه موضعه، وتنقله إلى غير ما هو أهله من غير أن يكون معك شاهدٌ يُنبئُ عن الشَبه. فلو حاولتَ في قوله: " فإنَّك كالليلِ الَّذِي هو مُدْرِكِي " أن تُعامل الليلَ معاملةَ الأسد في قولك: رأيت أسداً، أعني أن تُسقط ذكر الممدوح من البَيْن، لم تجد له مذهباً في الكلام، ولا صادفت طريقةً تُوَصِّلك إليه، لأنك لا تخلُو من أحد أمرين إمّا أن تحذفَ الصفةَ وتقتصر على ذكر الليل مجرّداً فتقول إن فررتُ أظلّني اللَّيل، وهذا محال، لأنه ليس في الليل دليل على النكتة التي قصدها من أنه لا يفوتُه وإن أبعد في الهرب، وصار إلى أقصى الأرض، لسعة مُلكه وطول يده، وأَنّ له في جميع الآفاق عاملاً وصاحبَ جيش ومُطيعاً لأوامره يردُّ الهارب عليه ويسوقه إليه وغايةُ ما يتأتَّى في ذلك أن يريد أنه إن هرب عنه أظلمت عليه الدنيا، وتحيَّر ولم يهتدِ، فصار كمن يحصُل في ظُلمة الليل، وهذا شيء خارج عن الغَرَض، وكلامنا على أن تستعير الاسم ليؤدَّى به التشبيه الذي قُصِد في البيت ولم أُرِد أنه لا تُمكن استعارته على معنًى ما، ولا يَصْلُح في غرض من الأغراض. وإن لم تحذف الصفة، وجدت طريق الاستعارة فيه يؤدِّي إلى تعسّف، إذ لو قلت إن فررتُ منك وجدتُ ليلاً يُدْركني، وإن ظننتُ أنّ المنتأَى واسعٌ والمهرَبَ بعيدٌ قلتَ ما لا تقبله الطِّباع، وسلكتَ طريقةً مجهولةً، لأن العُرف لم يَجْرِ بأن يُجعل الممدوحُ ليلاً هكذا، فأمّا قولهم إن التشبيه بالليل يتضمّن الدِّلالة على سُخطه، فإنه لا يُفسح في أن يجرى اسم الليل على الممدوح جَرْيَ الأسدِ والشمس ونحوهما، وإنما تصلُح استعارة الليل لمن يُقصَد وصفُه بالسَّواد والظلمة، كما قال ابن طباطبا: " بَعثْتَ معي قِطْعاً من الليل مُظلمَا " يعني زِنْجيّاً قد أنفذه المخاطَبُ معه حين انصرف عنه إلى منزله، هذا وربّما - بل كلما - وجدتَ ما إن رُمْتَ فيه طريقةَ الاستعارة، لم تجد فيه هذا القدر من التُّمحل والتكلُّف أيضاً،و وهو كقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: " الناسُ كإبلٍ مئة لا تجدُ فيها راحلة " ، قُل الآن من أيّ جهة تصِلُ إلى الاستعارة ههنا، وبأيّ ذريعة تَتذرَّع إليها؟ هل تقدر أن تقول: رأيت إبلاً مئة لا تجد فيها راحلة في معنى: رأيت ناساً أو الإبل المئة التي لا تجد فيها راحلةً، تريد الناس، كما قلت: رأيت أسداً على معنى رجلاً كالأسد أو الأسد، على معنى الذي هو كالأسدُ؟ وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ المُؤمِن كمثل النَّخلة أو مثل الخامة " ، لا تستطيع أن تتعاطى الاستعارة في شيء منه فتقولَ: رأيت نَخلة أو خامةً على معنى رأيت مؤمناً، إنَّ من رام مثل هذا كان كما قال صاحب الكتاب: مُلْغِزاً تاركاً لكلام الناس الذي


يَسْبِق إلى أفئدتهم، وقد قدّمتُ طرفاً من هذا الفصل فيما مضى، ولكنني أعدته هاهنا لاتصاله بما أريد ذكره. فقد ظهر أنه ليس كل شيء يجيء فيه التشبيه الصريح بذكر الكاف ونحوها، يستقيم نَقْلُ الكلام فيه إلى طريقة الاستعارة، وإسقاطِ ذكر المشبَّه جملةً، والاقتصار على المشبَّه به، وبقي أن نتعرّف الحكمَ في الحالة الأخرى، وهي التي يكون كل واحدٍ من المشبَّه والمشبَّه به مذكوراً فيه، نحو زيدٌ أسدٌ ووجدته أسداً، هل تُساوِقُ صريحَ التشبيه حتى يجوز في كل شيئين قُصِدَ تشبيهُ أحدهما بالآخر أن تحذف الكافَ ونحوها من الثاني، وتجعله خبراً عن الأول أو بمنزلة الخبر؟ والقولُ في ذلك أن التشبيه إذا كان صريحاً بالكاف، ومثل، كان الأعرفُ الأشهر في المشبَّه به أن يكون معرفةً، كقولك: هو كالأسد وهو كالشمس وهو كالبحر وكليث العرين وكالصبح وكالنجم وما شاكل ذلك، ولا يكاد يجيء نكرةً مجيئاً يُرتضَى نحو هو كأسد وكبحر وكغَيْث، إلا أن يُخَصَّص بصفة نحو كبحرٍ زاخر، فإذا جعلت الاسمَ المجرور بالكاف مُعْرَباً بالإعراب الذي يستحقّه الخبر من الرفع أو النصب، كان كلا الأمرين - التعريف والتنكيرِ - فيه حسناً جميلاً، تقول: زيدٌ الأسد والشمس والبحرُ وزيد أسدٌ وشمس وبدر وبحر. وإذْ قد عرفت هذا فارجع إلى نحو " فإنك كالليل الذي هو مدركي " ْبِق إلى أفئدتهم، وقد قدّمتُ طرفاً من هذا الفصل فيما مضى، ولكنني أعدته هاهنا لاتصاله بما أريد ذكره. فقد ظهر أنه ليس كل شيء يجيء فيه التشبيه الصريح بذكر الكاف ونحوها، يستقيم نَقْلُ الكلام فيه إلى طريقة الاستعارة، وإسقاطِ ذكر المشبَّه جملةً، والاقتصار على المشبَّه به، وبقي أن نتعرّف الحكمَ في الحالة الأخرى، وهي التي يكون كل واحدٍ من المشبَّه والمشبَّه به مذكوراً فيه، نحو زيدٌ أسدٌ ووجدته أسداً، هل تُساوِقُ صريحَ التشبيه حتى يجوز في كل شيئين قُصِدَ تشبيهُ أحدهما بالآخر أن تحذف الكافَ ونحوها من الثاني، وتجعله خبراً عن الأول أو بمنزلة الخبر؟ والقولُ في ذلك أن التشبيه إذا كان صريحاً بالكاف، ومثل، كان الأعرفُ الأشهر في المشبَّه به أن يكون معرفةً، كقولك: هو كالأسد وهو كالشمس وهو كالبحر وكليث العرين وكالصبح وكالنجم وما شاكل ذلك، ولا يكاد يجيء نكرةً مجيئاً يُرتضَى نحو هو كأسد وكبحر وكغَيْث، إلا أن يُخَصَّص بصفة نحو كبحرٍ زاخر، فإذا جعلت الاسمَ المجرور بالكاف مُعْرَباً بالإعراب الذي يستحقّه الخبر من الرفع أو النصب، كان كلا الأمرين - التعريف والتنكيرِ - فيه حسناً جميلاً، تقول: زيدٌ الأسد والشمس والبحرُ وزيد أسدٌ وشمس وبدر وبحر. وإذْ قد عرفت هذا فارجع إلى نحو " فإنك كالليل الذي هو مدركي "


واعلم أنه قد يجوز فيه أن تحذف الكاف وتجعل المجرور كان به، خبراً، فتقول: فإنك الليل الذي هو مدركي، أو أنت الليل الذي هو مدركي، وتقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ المؤمن مَثَل الخامة من الزرع " ، المؤمن الخامة من الزرع، وفي قوله عليه السلام: الناس كإبلٍ مئة(3): الناس إبل مئة، ويكون تقديره على أنك قدّرت مضافاً محذوفاً على حدّ: " وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ " " يوسف: 82 " ، تجعل الأصل: فإنك مثلُ الليل ثم تحذف مِثْلاً، والنكتةُ في الفرق بين هذا الضرب الذي لا بُدّ للمجرور بالكاف ونحوِها من وَصْفه بجملة من الكلام أو نحوها، وبين الضرب الأول الذي هو نحو زيد كالأسد أنك إذا حذفتَ الكاف هناك فقلت: زيدٌ الأسد، فالقصد أن تبالغ في التشبيه فتجعل المذكورَ كأنه الأسد، وتشير إلى مثل ما يَحصُلُ لك من المعنى إذا حذفت ذكر المشبَّه أصلاً فقلت: رأيت أسداً أو الأسَد، فأمّا في نحو فإنك كالليل الذي هو مدركي، فلا يجوز أن تقصِد جعلَ الممدوحِ الليلَ، ولكنك تنوي أنك أردت أن تقول فإنك مِثل الليل، ثم حذفت المضاف من اللفظ، وأبْقَيت المعنى على حاله إذا لم تحذف، وأمَّا هناك، فإنه وإن كان يقال أيضاً إن الأصل زيد مثل أسد ثم تحذف فليس الحذفُ فيه على هذا الحدّ، بل على أنه جُعل كأَنْ لم يكن لقصد المبالغة، ألا تراهم يقولون: جعله الأسد؟ وبعيدٌ أن تقول جعله الليل، لأن القصد لم يقع إلى وصف في الليل كالظلمة ونحوها، وإنّما قُصد الحكمُ الذي له، من تعميمه الآفاق، وامتناعِ أن يصير الإنسان إلى مكان لا يُدركه الليلُ فيه. وإن أردت أن تزداد علماً بأن الأمر كذلك أعني أن هاهنا ما يصلح فيه التشبيه الظاهر ولا تصلح فيه المبُالغة وجَعلُ الأولِ الثاني فاعمد إلى ما تجد الاسم الذي افتُتح به المَثَل فيه غيرَ محتمل لضربٍ من التشبيه إذا أُفردِ وقُطع عن الكلام بعده، كقوله تعالى: " إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ " " يونس: 34 " ، لو قلت إنما الحياة الدنيا ماءٌ أنزلناه من السماء أو الماء ينزل من السماء فتخضّر منه الأرض، لم يكن للكلام وجهٌ غيرُ أن تقدّر حذف مِثْل نحو إنما الحياة الدنيا مِثْلُ ماء ينزل من السماء فيكون كيت وكيت، إذ لا يُتصوَّر بين الحياة الدنيا والماء شَبَهٌ يصحُّ قصدُه وقد أُفْرِد، كما قد يُتخيَّل في البيت أنه قصد تشبيه الممدوح بالليل في السُّخط. وهذا موضعٌ في الجملة مُشْكِلٌ، ولا يمكن القطع فيه بحكم على التفصيل، ولكن لا سبيل إلى جَحْد أنك تجد الاسم في الكثير وقد وُضِع موضعاً في التشبيه بالكاف، لو حاولتَ أن تُخرجه في ذلك الموضع بعينه إلى حدّ الاستعارة والمبالغة، وجَعْلِ هذا ذاك، لم يَنْقَدْ لك، كالنكرة التي هي ماء في الآية وفي الآي الأُخَر نحو قوله تعالى: " أَو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ " " البقرة: 19 " ، ولو قلت هم صيّبٌ، ولا تُضمر مِثلاً ألبتَّة، على حدّ هو أسد لم يجز، لأنه لا معنى لجعلهم صيِّباً في هذا الموضع، وإن كان لا يمتنعُ أن يقعَ صيِّب في موضع آخر ليس من هذا الغَرَض في شيء استعارةً ومبالغةً، كقولك: فاضَ صَيِّبٌ منه، تريد جوده، وهو صَيِّب يَفيض، تريد مندفق في الجود، فلسنا نقول إن هاهنا اسمَ جنسٍ واسماً صفةً لا يصلح للاستعارة في حال من الأحوال، وهذا شِعب من القولِ يحتاج إلى كلام أكثر من هذا ويدخل فيه مسائل، ولكن استقصاءه يقطع عن الغرض. فإن قلت فلا بدّ من أصلٍ يُرجع إليه في الفرق بين ما يحسُن أن يُصرَف وَجْهُه إلى الاستعارة والمبالغة، وما لا يحسن ذلك فيه، ولا يُجيبك المعنى إليه، بل يصدُّ بوجهه عنك متى أردته عليه . فالجواب إنه لا يمكن أن يقال فيه قولٌ قاطع، ولكن هاهنا نكتة يجب الاعتماد عليها والنظر إليها، وهي أن الشَّبه إذا كان وصفاً معروفاً في الشيء قد جرى العُرف بأن يُشبَّه من أجله به، وتُعُورف كونه أصلاً فيه يقاسُ عليه كالنور والحُسن في الشمس، أو الاشتهار والظهور، وأنّها لا تَخْفَى فيها أيضاً وكالطيب في المسك، والحلاوة في العسل، والمرارة في الصاب، والشجاعة في الأسد، والفيض في البحر والغيث، والمَضاء والقَطْع والحِدَّة في السيف، والنفاذِ في السِّنان، وسرعة المرور في السَّهم، وسرعة الحركةِ في شعلةِ النار، وما شاكل


ذلك من الأوصاف التي لكل وَصْف منها جنسٌ هو أصل فيه، ومُقدَّم في معانيه فاستعارةُ الاسم للشيء على معنى ذلك الشَّبه تجيء سهلةً مُنْقادة، وتقع مألوفةً معتادة، وذلك أنّ هذه الأوصافَ من هذه الأسماء قد تعورف كونها أصولاً فيها، وأنها أخصُّ ما توجد فيه بها، فكل أحد يعلم أن أخصَّ المنيرات بالنور الشمسُ، فإذا أُطلقَتْ ودلَّت الحال على التشبيه، لم يخفَ المرادُ، ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة، لم يَجُزْ أن تدلّ عليه بالاستعارة، ولكن إن أردتها من الفَلَك جاز، فإن قصدتها من الكُرة كان أبْين، لأن الاستدارة من الكُرة أشهر وصفٍ فيها، ومتى صَلَحت الاستعارةُ في شيء، فالمبالغة فيه أصلح، وطريقها أوضح، ولسان الحال فيها أفصح، أعني أنك إذا قُلتَ: " يا ابن الكواكبِ من أئمّة هاشمِ " وَ: " يا ابنَ الليوثِ الغُر " فأجريت الاسمَ على المشبَّة إجراءَه على أصله الذي وُضع له وادّعيتَه له، كان قولك: هم الكواكب و هم الليوث أو هم كواكب وليوث، أحْرَى أن تقوله، وأَخفَّ مَؤُونةً على السامع في وقوعِ العلم له به. واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا جَعَلَ هذا ذاك، وجعله الأسد وادّعى أنه الأسد حقيقةً، أنّ المشبِّه الشيءَ بالشيء من شأنه أن ينظرَ إلى الوصف الذي به يجمع بين الشيئين، وينفيَ عن نفسه الفكرفيما سواه جملةً، فإذا شبَّه بالأسد، ألقى صورة الشجاعة بين عينيه، ألقى ما عداها فلم ينظر إليه، فإنْ هو قال زيد كالأسد، كان قد أثبت له حظّاً ظاهراً في الشجاعة، ولم يخرج عن الاقتصاد، وإذا قال هو الأسد، تناهَى في الدعوى، إمّا قريباً من المحقِّ لفرط بسالة الرجل، وإما متجوِّزاً في القول، فجعله بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يَعْدَمُ منها شيئاً، وإذا كان بحكم التشبيه،وبأنه مقصودُه من ذكر الأسد في حكم مَن يعتقدُ أنّ الاسمَ لم يوضع على ذلك السَّبعُ إلا للشجاعة التي فيه، وأنّ ما عداها من صورته وسائر صفاته عِيالٌ عليها وتَبَعٌ لها في استحقاقه هذا الاسمَ، ثم أثبتَ لهذا الذي يشبِّهه به تلك الشجاعةَ بعينها حتى لا اختلافَ ولا تفاوتَ، فقد جعلَهُ الأسدَ لا محالة، لأن قولنا هو هو على معنيين أحدهما أن يكون للشيء اسمان يعرفه المخاطَبُ بأحدهما دون الآخر، فإذا ذُكر باسمه الآخر توهَّم أن معك شيئين، فإذا قلت: زيد هو أبو عبد اللَه، عرّفته أن هذا الذي تذكر الآن بزيد هو الذي عَرَفه بأبي عبد اللَّه، من الأوصاف التي لكل وَصْف منها جنسٌ هو أصل فيه، ومُقدَّم في معانيه فاستعارةُ الاسم للشيء على معنى ذلك الشَّبه تجيء سهلةً مُنْقادة، وتقع مألوفةً معتادة، وذلك أنّ هذه الأوصافَ من هذه الأسماء قد تعورف كونها أصولاً فيها، وأنها أخصُّ ما توجد فيه بها، فكل أحد يعلم أن أخصَّ المنيرات بالنور الشمسُ، فإذا أُطلقَتْ ودلَّت الحال على التشبيه، لم يخفَ المرادُ، ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة، لم يَجُزْ أن تدلّ عليه بالاستعارة، ولكن إن أردتها من الفَلَك جاز، فإن قصدتها من الكُرة كان أبْين، لأن الاستدارة من الكُرة أشهر وصفٍ فيها، ومتى صَلَحت الاستعارةُ في شيء، فالمبالغة فيه أصلح، وطريقها أوضح، ولسان الحال فيها أفصح، أعني أنك إذا قُلتَ: " يا ابن الكواكبِ من أئمّة هاشمِ " وَ: " يا ابنَ الليوثِ الغُر " فأجريت الاسمَ على المشبَّة إجراءَه على أصله الذي وُضع له وادّعيتَه له، كان قولك: هم الكواكب و هم الليوث أو هم كواكب وليوث، أحْرَى أن تقوله، وأَخفَّ مَؤُونةً على السامع في وقوعِ العلم له به. واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا جَعَلَ هذا ذاك، وجعله الأسد وادّعى أنه الأسد حقيقةً، أنّ المشبِّه الشيءَ بالشيء من شأنه أن ينظرَ إلى الوصف الذي به يجمع بين الشيئين، وينفيَ عن نفسه الفكرفيما سواه جملةً، فإذا شبَّه بالأسد، ألقى صورة الشجاعة بين عينيه، ألقى ما عداها فلم ينظر إليه، فإنْ هو قال زيد كالأسد، كان قد أثبت له حظّاً ظاهراً في الشجاعة، ولم يخرج عن الاقتصاد، وإذا قال هو الأسد، تناهَى في الدعوى، إمّا قريباً من المحقِّ لفرط بسالة الرجل، وإما متجوِّزاً في القول، فجعله بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يَعْدَمُ منها شيئاً، وإذا كان بحكم التشبيه،وبأنه مقصودُه من ذكر الأسد في حكم مَن يعتقدُ أنّ الاسمَ لم يوضع على ذلك السَّبعُ إلا للشجاعة التي فيه، وأنّ ما عداها من صورته وسائر صفاته عِيالٌ عليها وتَبَعٌ لها في استحقاقه هذا الاسمَ، ثم أثبتَ لهذا الذي يشبِّهه به تلك الشجاعةَ بعينها حتى لا اختلافَ ولا تفاوتَ، فقد جعلَهُ الأسدَ لا محالة، لأن قولنا هو هو على معنيين أحدهما أن يكون للشيء اسمان يعرفه المخاطَبُ بأحدهما دون الآخر، فإذا ذُكر باسمه الآخر توهَّم أن معك شيئين، فإذا قلت: زيد هو أبو عبد اللَه، عرّفته أن هذا الذي تذكر الآن بزيد هو الذي عَرَفه بأبي عبد اللَّه


والثاني أن يراد تحققُ التشابُه بين الشيئين، وتكميلُه لهما، ونَفْيُ الاختلاف والتفاوت عنهما، فيقال: هو هو، أي لا يمكن الفرقُ بينهما، لأن الفرق يقع إذا اخْتُصَّ أحدهما بصفةٍِ لا تكون في الآخر، هذا المعنى الثاني فرعٌ على الأوّل، وذلك أن المتشابهين التشابُهَ التامَّ، لمَّا كان يُحسَبُ أحدهما الآخر، ويَتوهَم الرائي لهما في حالين أنه رأى شيئاً واحداً، صاروا إذا حققوا التشابُه بين الشيئين يقولون هو هو، والمشبّه إذا وقف وَهْمَه كما عرَّفتُك على الشجاعة دون سائر الأمور، ثم لم يُثبت بين شجاعة صاحبه وشجاعة الأسد فرقاً، فقد صار إلى معنى قولنا: هو هو بلا شبهة. وإذا تقررت هذه الجملة فقوله " فإنك كالليل الذي هو مدركي " إن حاولت فيه طريقة المبالغة فقلت: فإنك الليل الذي هو مدركي، لزمك لا محالة أن تعْمِد إلى صفةٍ من أجلها تجعله الليل، كالشجاعة التي من أجلها جعلت الرجلَ الأسدَ، فإن قلت تلك الصفةُ الظُّلمةُ، وإنّه قصد شدّةَ سخطِه، وراعى حال المسخوط عليه، وتوهّم أن الدنيا تُظلم في عينيه حسَب الحال في المُسْتَوْحِش الشديد الوَحْشَة، كما قال " أَعيدوا صَباحِي فَهْوَ عند الكواعبِ " قيل لك هذا التقدير، إن استجزناه وعملنا عليه، فإنا نحتمله، والكلامُ على ظاهره، وحرف التشبيه مذكورٌ داخلٌ على الليل كما تراه في البيت، فأمّا وأنت تريد المبالغة، فلا يجيء لك ذلك، لأن الصفات المذكورة لا يُواجَه بها الممدوحون، ولا تُسْتعار الأسماء الدالّة عليها لهم إلا بعد أن يُتدارك وتُقرَن إليها أضدادها من الأوصاف المحبوبة، كقوله " أنت الصَّاب والعَسَلُ " ولا تقول وأنت مادح أنت الصابُ وتسكت، وحتى إن الحاذقَ لا يرضى بهذا الاحتراز وحده حتى يزيد ويحتال في دفع ما يَغْشَى النفسَ من الكراهة بإطلاق الصفة التي ليست من الصفات المحبوبة، فيصل بالكلام ما يخرُج به إلى نوع من المدح، كقول المتنبي:
حَسَنٌ في وُجوهِ أعدائهِ أقْ ... بَحُ من ضَيْفه رَأَته السَّوَامُ
بدأ فجعله حسناً على الإطلاق، ثم أراد أن يجعله قبيحاً في عيون أعدائه، على العادة في مدح الرجل بأن عدوَّه يكرهه، فلم يُقنعه ما سبق من تمهيده وتقدّم من احترازه في تلاقي ما يجنيه إطلاق صفة القُبح، حتى وصل به هذه الزيادةَ من المدح، وهي كراهةُ سَوامِهِ لرؤية أضيافه، وحتى حصل ذكرُ القبح مغموراً بين حُسنين، فصار كما يقول المنجّمون: يقع النَّحس مضغوطاً بين سَعْدين، فيبطل فعله وينمحق أثره. وقد عرفتَ ما جَناه التهاوُنُ بهذا النحو من الاحتراز على أبي تمّام، حتى صار ما يُنعَى عليه منه أبلغ شيء في بسط لسان القادح فيه والمُنْكِر لفضله، وأحْضَر حُجّةً للمتعصّب عليه، وذلك أنه لم يُبالِ في كثير من مخاطبات الممدوح بتحسين ظاهر اللفظ، واقتصر على صميم التشبيه، وأطلق اسم الجنس الخسيس كإطلاق الشريف النَّبيه، كقوله:
وإذا ما أردتُ كنتَ رِشاءً ... وإذا ما أردتُ كنتَ قَليبَا
فصَكَّ وجهَ الممدوح كما ترى بأنه رشاءٌ وقليبٌ، ولم يحتشم أن قال:
مازَال يهذِي بالمكارِم والعُلَى ... حتى ظَنَنّا أنَّه مَحْمُومُ


فجعله يهذي وجعل عليه الحُمَّى، وظنّ أنه إذاحصلَ له المبالغة في إثبات المكارم له، وجعلها مستبدّة بأفكاره وخواطره، حتى لا يصدر عنه غيرُها، فلا ضير أن يتلقَّاه بمثل هذا الخطاب الجافي، والمدح المتنافي. فكذلك أنت هذه قِصّتك، وهذه قضيّتك، في اقتراحك علينا أن نسلك بالليل في البيت طريق المبالغَة على تأويل السُّخط. فإن قلت أَفَتَرَى أن تأبَى هذا التقدير في البيت أيضاً حتى يُقْصَر التشبيهُ على ما تُفيده الجملة الجارية في صلة الذي، قلتُ إنّ ذلك الوجهُ فيما أظنُّه، فقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لَيدخُلنَّ هذا الدينُ ما دَخَل عليه الليلُ، فكما تجرَّد المعنى هاهنا للحكم الذي هو لليل من الوصول إلى كل مكان، ولم يكن لاعتبار ما اعتبروه من شبه ظلمته وجهٌ، كذلك يجوز أن يتجرّد في البيت له، ويكون ما ادَّعوه من الإشارة بظُلْمة الليل إلى إدراكه له ساخطاً، ضرباً من التعمّق والتطلُّب لما لعلّ الشاعر لم يقصده، وأحسنُ ما يمكن أن يُنتصَر به لهذا التقدير أن يقال إن النهارَ بمنزلة الليل في وصوله إلى كل مكان، فما مِنْ موضع من الأرض إلا ويُدركه كلُّ واحد منهما، فكما أن الكائن في النهار لا يُمكنه أن يصير إلى مكان لا يكون به ليل، كذلك الكائن في الليل لا يجد موضعاً لا يلحقه فيه نهار، فاختصاصُه الليلَ دليلٌ على أنه قد روَّى في نفسه، فلما علم أن حالَة إدراكه وقد هربَ منه حالةُ سُخْطٍ، رأى التمثيل بالليل أولَى، ويُمكن أن يزاد في نصرته بقوله:
نعمةٌ كالشَّمْس لمَّا طَلعَتْ ... بَثَّتِ الإشراقَ في كلِّ بَلَدْ
وذاك أنه قصد هاهنا نفس ما قصده النابغة في تعميم الأقطار، والوصول إلى كل مكان، إلاّ أن النعمة لما كانت تَسُرُّ وتُؤنِس، أخذ المثلَ لها من الشمس، ولو أنه ضرب المثل لوصول النعمة إلى أقاصي البلاد، وانتشارِها في العباد، بالليل ووصوله إلى كل بَلَدٍ، وبُلوغه كلَّ أحد، لكان قد أخطأ خطأً فاحشاً، إلاّ أن هذا وإن كان يجيء مستوياً في الموازنة، ففرقٌ بين ما يُكرَهُ من الشَّبه وما يُحَبُّ، لأن الصفةَ المحبوبة إذا اتصلت بالغَرَض من التشبيه، نالت من العناية بها المحافظة عليها قريباً مما يناله الغَرَض نفسه، وأّما ما ليس بمحبوب، فَيَحْسُن أَن يعْرض عنها صفحاً، ويدَع الفكر فيها، وأما تركُه أن يمثَّل بالنهار، وإن كان بمنزلة الليل فيما أراه، فيمكن أن يُجاب عنه بأنّ هذا الخطابَ من النابغة كان بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلّمه وهو في النهار، بَعُدَ أن يضرب المثل بإدراك النهار له، وكان الظاهر أن يمثِّل بإدراك الليل الذي إقباله منتظَر، وطَرَيانه على النهار متوقَّع، فكأنّه قال وهو في صدر النهار أو آخره لو سرتُ عنك لم أجد مكاناً يقيني الطلبَ منك، ولكان إدراكُك لي وإن بعُدت واجباً، كإدراك هذا الليل المقبل في عَقب نهارِي هذا إيَّاي، ووصوله إلى أيِّ موضع بلغتُ من الأرض. وهاهنا شيء آخر وهو أنّ تشبيه النعمة في البيت بالشمس، وإن كان من حيثُ الغرضُ الخاصُّ، وهو الدِّلالة على العموم، فكان الشَّبه الآخرُ من كونها مُؤْنسةً للقلوب، ومُلبسةً العَالَم البهجةَ والبهاءَ كما تفعل الشمس، حاصلاً على سبيل العَرَض، وبضَرْبٍ من التطفُّل، فإنّ تجريدَ التشبيه لهذا الوجه الذي هو الآن تابعٌ، وجَعْلَهُ أصلاً ومقصوداً على الانفراد، مألوفٌ معروفٌ كقولنا نعمتك شمسٌ طالعة، وليس كذلك الحكم في الليل، لأن تجريدَه لوصف الممدوح بالسُّخْط مُسْتَكرَهٌ، حتى لو قلت أنت في حال السخط ليلٌ وفي الرّضى نهارٌ، فكافحتَ هكذا تجعله ليلاً لسخطه، لم يحسُن، وإنما الواجب أن تقول: النهار ليل على من تغضبُ عليه، والليل نهار على من ترضى عنه، وزمانُ عدوِّك ليلٌ كله، وأوقات وَلِيِّك نهارٌ كلها، كما قال:
أَيَّامُنَا مَصْقولةٌ أطرافُها ... بك واللَّيالي كُلُّها أَسْحَارُ


وقد يقول الرجل لمحبوبه أنت ليلى ونهارى، أي بك تُضيء لي الدنيا وتُظلم، فإذا رضيتَ فدهري نهارٌ، وإذا غضِبت فليلٌ كما تقول: أنت دَائي ودَوائي، وبُرْئٍي وسِقامي، ولا تكاد تجد أحدا يقول أنت ليل، على معنى أن سخطك تُظلم به الدنيا، لأن هذه العبارة بالذمِّ، وبالوصف بالظُلمة وسواد الجلد، وتَجهُّمِ الوجه، أخصُّ، وبأن يُرَاد بها أخلق، وهذا المعنى منها إلى القلب أسبق فاعرفه.
فصل


اعلم أنك تجد الاسم وقد وقع من نظم الكلام المَوْقعَ الذي يقتضي كونَهُ مستعاراً، ثم لا يكون مستعاراً، وذاك لأن التشبيهَ المقصودَ مَنُوطٌ به مع غيره، وليس له شَبَهٌ ينفرِدُ به، على ما قدّمتُ لك من أن الشبه يجيء مُنْتَزَعاً من مجموع جملة من الكلام، فمن ذلك قول داود بن عليّ حين خطب فقال شُكراً شكراً، إنّا واللَّه ما خرجنا لنَحْفِر فيكم نَهَراً، ولا لنَبْنِيَ فيكم قَصْراً، أَظَنَّ عدوُّ اللَّه أن لن يُظفَر به، أُرخيَ له في زِمامه، حتى عَثَر في فضل خطَامه، فالآن عاد الأمرُ في نِصابه، وطلعت الشمس من مَطْلعها، والآن قد أَخذ القوسَ باريها، وعاد النَّبْلُ إلى النَزَعة، ورجع الأَمر إلى مستقَرِّه في أهلِ بيت نبيّكم، أهلِ بيت الرَّأْفَة والرَّحْمة، فقوله الآن أخذَ القَوْسَ بَاريها، وإن كان القوس تقع كنايةً عن الخلافة، والبَاري عن المستحقّ لها، فإنه لا يجوز أن يقال إن القوس مستعارٌ للخلافة على حدِّ استعارة النور والشمس، لأجل أنه لا يتَصَوَّر أن يَخرج للخلافة شَبَهٌ من القول على الانفراد، وأن يقال: هي قوس، كما يقال: هي نور وشمس، وإنما الشَّبَهُ مؤلَّفٌ لحال الخِلافة مع القائم بها، من حال القَوْس مع الذي بَرَاهَا، وهو أن البَارِي للقوس أعرفُ بخيرها وشرّها، وأهدَى إلى توتيرها وتصريفها، إذ كان العاملَ لها فكذلك الكائنُ على الأوصاف المعتبرَة في الإمامة والجامعُ لها، يكون أهدى إلى توفية الخلافة حقَّها، وأَعْرَفَ بما يحفظ مَصارفها عن الخَلَل، وأن يراعَي في سياسة الخلق بالأمر والنَّهْي التي هي المقصودُ منها ترتيباً ووزناً تقع به الأفعالُ مواقعَها من الصواب، كما أنّ العارف بالقوس يراعي في تسوية جوانبها، وإقامة وَتَرها، وكيفيةِ نَزْعها ووَضْعِ السهم الموضعَ الخاصَّ منها، ما يوجب في سهامه أن تصيب الأغراض، وتُقرطس في الأَهداف، وتقع في المَقاتل، وتُصيب شاكلة الرَّمِيّ. وهكذا قول القائل وقد سمع كلاماً حسنا من رجلٍ دَميم: عَسَلٌ طيّبٌ في ظَرْفِ سَوْءٍ، ليس عَسَلٌ هاهنا على حدِّه في قولك ألفاظه عسل، لأجل أنه لم يقصد إلى بيان حال اللَّفظ الحسن وتشبيهه بالعسل في هذا الكلام، وإن كَان ذلك أمراً معتاداً، وإنما قصد إلى بيان حال الكلام الحَسَن من المتكلم المَشْنُوء في منظره، وقياسِ اجتماع فَضْلِ المخبر مع نَقْص المنظر، بالشبه المؤلَّف من العَسَل والظَّرْف، ألا ترى أن الذي يقابل الرجل هو ظَرْف سَوْءٍ وظرفُ سَوْءٍ لا يصلح تشبيهُ الرجل به على الانفراد، لأن الدَّمامةَ لا تُعطيه صفة الظَّرف من حيث هي دمامةٌ، ما لم يتقدم شيءٌ يُشبه مَا في الظرف من الكلام الحسن أو الخُلقِ الجميلِ، أو سائر المعاني التي تجعَل الأشخاصُ أوعيةً لها. فمن حقك أن تحافظ على هذا الأصل، وهو أن الشَّبَه إذا كان موجوداً في الشيء على الانفراد من غير أن يكون نتيجةً بينه وبين شيء آخر فالاسمُ مستعارٌ لما أخذ له الشَّبه منه، كالنور للعلم والظلمة للجهل، والشمس للوجه الجميل، أو الرجل النبيه الجليل، وإذا لم تكن نسبةُ الشَّبَه إلى الشيء على الانفراد، وكان مركَّباً من حاله مع غيره، فليس الاسم بمستعار، ولكن مجموع الكلام مَثَل. واعلم أن هذه الأمور التي قصدتُ البحث عنها أمورٌ كأنّها معروفة مجهولة، وذلك أنها معروفة على الجملة، لا ينكر قيامَها في نفوس العارفين ذَوْقُ الكلام، والمتمهّرين في فصل جيده من رديئه، ومجهولةٌ من حيث لم يتفق فيها أوضاعٌ تجري مجرى القوانين التي يُرجَع إليها، فتُستخرج منها العلَل في حُسن ما استُحْسِن وقُبح ما استُهْجن، حتى تُعْلَم عِلْمَ اليقين غيرَ الموهوم، وتُضبَط ضبطَ المزْموم المَخْطومِ، ولعلَّ المَلال إن عرض لك، أو النشاط إن فَتَر عنك، قلتَ ما الحاجة إلى كل هذه الإطالة؟ وإنما يكفي أن يقال الاستعارة مثل كذا، فتُعَدُّ كلمات، وتُنْشَدُ أبيات، وهكذا يكفينا المَؤُونةَ في التشبيه والتمثيل يَسيرٌ من القول


فإنك تعلم أن قائلاً لو قال الخبر مثل قولنا زيد منطلق، ورضي به وقَنِع، ولم تطالبه نفسُه بأن يعرف حدّاً للخبر، إذا عرفه تَميَّز في نفسه من سائر الكلام، حتى يمكنهُ أن يعلم هاهنا كلاماً لفظُه لفظُ الخبر، وليس هو بخبرٍ، ولكنه دعاءٌ كقولنا: رحمةُ اللَّه عليه وغفر الله له ولم يجد في نفسه طلباً لأن يعرف أن الخبر هل ينقسم أو لا ينقسم، وأنّ أوّل أمره في القسمة أنه ينقسم إلى جملة من الفعل والفاعل، وجملة من مبتدأ وخبر، وأَنَّ ما عدا هذا من الكلام لا يأتلف، نعم ولم يُحبَّ أن يعلم أن هذه الجملة يدخل عليها حروفٌ بعضها يؤكّد كونها خبراً، وبعضها يُحدث فيها معاني تخرُج بها عن الخَبَرية واحتمال الصدق والكذب. وهكذا يقول إذا قيل له: الاسم مثل زيد وعمرو، اكتفيتُ ولا أحتاج إلى وصفٍ أو حدٍّ يُميّزه من الفعل والحرف أو حدٍّ لهما، إذا عرفتهما عرفتُ أن ما خالفهما هو الاسم، على طريقة الكُتّاب، ويقول لا أحتاج إلى أن أعرف أنَّ الاسم ينقسم فيكون متمكّناً أو غير متمكّن، والمتمكن يكون منصرفاً وغير منصرف، ولا إلى أن أعلم شرح غير المنصرف، الأسباب التسعة التي يقف هذا الحكم على اجتماع سببين منها أو تكرُّر سببٍ في الاسم ولا أنه ينقسم إلى المعرفة والنكرة، وأن النكرة ما عَمَّ شيئين فأكثر، وما أريدَ به واحدٌ من جنس لا بعينه، والمعرفة ما أيد به واحدُ بعينه أو جنس بعينه على الإطلاق ولا إلى أن أعلم شيئاً من الانقسامات التي تجيء في الاسم، كان قد أساء الاختيار، وأسرف في دعوى الاستغناء عما هو محتاج إليه إن أراد هذا النوع من العلم ولئن كان الذي نتكلّف شرحَه لا يزيد على مؤدَّى ثلاثةِ أسماء، وهي التمثيل والتشبيه والاستعارة، فإن ذلك يستدعي جُملاً من القول يَصْعُبُ استقصاؤها، وشُعَباً من الكلام لا يستبين لأول النظر أنحاؤها، إذ قولُنا: شيء يحتوي على ثلاثة أحرف، ولكنك إذا مددت يداً إلى القسْمة وأخذت في بيان ما تحويه هذه اللفظة، احتجت إلى أن تقرأ أوراقاً لا تُحصَى، وتتجشّمَ من المَشقَّة والنَظرِ والتفكير ما ليس بالقليل النزر، والجزء الذي لا يتجزّأ، يفوت العين، ويدقّ عن البَصَر، والكلام عليه يملأ أجلاداً عظيمة الحجم، فهذا مَثَلك إن أنكرت ما عُنيتُ به من هذا التَتبُّع، ورأيتُه من البحث، وآثرتُه من تجشُّم الفكرة وسَوْمها أن تدخل في جوانب هذه المسائل وزواياها، وتستثير كوامنَها وخفاياها، فإن كنتَ ممن يرضى لنفسه أن يكون هذا مَثَله، وهاهنا محلُّه، فعِبْ كيف شئتَ، وقل ما هَويتَ، وثقْ بأن الزمان عونُك على ما ابتغيت، وشاهدُك فيما ادّعيت، وأنك واجدٌ من يصوّب رأيك ويحسِّن مذهبك، ويخاصم عنك، ويُعادِي المخالف لك.

فصل في
الأخذ والسرقة
وما في ذلك من التعليل، وضروب الحقيقة والتخييل "
القسم العقلي
اعلم أن الُحكْم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسَرَق، واقتدى بمن تقدَّم وسبق، لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحاً، أو في صيغة تتعلق بالعبارة، ويجب أن نتكلم أوّلاً على المعاني، وهي تنقسم أوَّلاً قسمين: عقليّ وتخييليّ، وكل واحدٍ منهما يتنوّع، فالذي هو العقلي على أنواع: أوّلها: عقليٌّ صحيحٌ مَجراه في الشعر والكتابة والبيانِ والخطابة، مَجْرَى الأدلّة التي تستنبطها العقلاء، والفوائد التي تُثيرها الحكماء، ولذلك تجدُ الأكثر من هذا الجنس مُنْتَزَعاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة رضي اللَّه عنهم، ومنقولاً من آثار السلف الذين شأنُهم الصدق، وقصدُهم الحقُّ، أو ترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء، فقوله:
وَمَا الحسَبُ المورُوثُ لا دَرَّ دَرُّه ... بمُحْتَسَبٍ إلاّ بآخَرَ مُكْتسَبْ
ونظائرُه، كقوله:
إنّي وإن كنتُ ابنَ سَيِّد عامرٍ ... وفي السِّرِّ منها والصَّريحِ المهذَّبِ
لَمَا سوَّدتني عامرٌ عن وِراثةٍ ... أَبَى اللَّه أن أسمُو بأُمٍّ ولا أب


معنًى صريحٌ محضٌ يشهد له العقل بالصحة، ويُعطيه من نفسه أكرم النِّسبة، وتتفق العقلاء على الأخذ به، والحكم بموجَبه، في كل جيل وأمّة، ويوجد له أصل في كل لسَان ولُغة، وأعلى مَنَاسبه وأنورُها، وأجلُّها وأفخرها، قول اللَّه تعالى: " إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّه أَتْقَاكُمْ " " " الحجرات: 13 " ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من أَبْطأَ به علمُه لم يُسْرِع به نسبُه " ، وقوله عليه السلام: " يا بني هاشم، لا تجيئني الناسُ بالأعمال وتجيئوني بالأنساب " ، وذلك أنه لو كانت القضيّة على ظاهرٍ يَغْترُّ به الجاهل، ويعتمدُه المنقوصُ، لأدَّى ذلك إلى إبطال النَّسب أيضاً، وإحالة التكثّر به، والرجوع إلى شَرَفه، فإن الأوّل لو عَدِمَ الفضائلَ المكتسَبة، والمساعيَ الشريفة، ولم يَبِنْ من أهل زمانه بأفعالٍ تُؤَْثر، ومناقب تُدَوَّن وتُسَطَّر، لما كان أَوَّلاً، ولكان المَعْلَم من أمره مَجْهلاً، ولما تُصُوّر افتخار الثاني بالانتماء إليه، وتعويلُه في المفاضلة عليه، ولكان لا يُتصوَّر فَرْقٌ بين أن يقول: هذا أبي، ومنه نسبي، وبين أن يُنسَب إلى الطين، الذي هو أصل الخلق أجمعين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " كلُّكم لآدم، وآدمُ من التراب " ، وقال محمد بن الربيع الْمَوْصلي:
الناس في صورة التّشبيه أكفاءُ ... أبوهُمُ آدمٌ والأُمُّ حوَّاءُ
فإن يكن لهُم في أصلها شَرَفٌ ... يفاخرون به فالطِّين والماءُ
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ ... على الهُدَى لمن استهدَى أَدلاّءُ
ووَزْنُ كل امرئ ما كان يُحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
فهذا كما ترى باب من المعاني التي تُجمَع فيها النظائر، وتُذكَر الأبيات الدالّة عليها، فإنها تتلاقى وتتناظر، وتتشابه وتتشاكل، ومكانُه من العقل ما ظَهَر لك واستبان ووضح واستنار، وكذلك قوله:
وكل امرئ يُولِي الجميلَ محبَّبٌ
صريحُ معنًى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب، وإنما له ما يُلْبَسه من اللفظ، ويكسوه من العبارة، وكيفيةِ التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضدّه، وأصله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " جُبلت القلوبُ على حُبّ من أحسن إليها " ، بَل قول اللَّه عز وجل: " ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " " فصلت: 34 " ، وكذا قوله:
لاَ يَسْلَم الشَّرفُ الرَّفيع من الأَذَى ... حتَّى يُراقَ على جَوانِبِه الدَّمُ
معنًى معقولٌ لم يزل العُقلاءُ يَقْضون بصحّته، ويرى العارفون بالسياسة الأخذَ بسنَّته، وبه جاءت أوامِر اللَّه سبحانه، وعليه جَرَت الأحكام الشرعية والسّنَن النبوية، وبه استقام لأهل الدِّين دينهم، وانتفى عنهم أذَى مَن يَفْتِنهم ويَضيرُهم، إذ كان موضوع الجبلَّة على أن لا تخلو الدنيا من الطُغاة المارِدين، والغُواة المعاندين، الذين لا يَعُونَ الحكمة فَتَرْدَعَهم، ولا يَتَصوَّرون الرشدَ فيكُفَّهم النُّصْحُ ويمنعهم، ولا يُحسّون بنقائص الغَيّ والضلال، وما في الجَوْر والظلم من الضَّعة والخَبال، فيجِدوا لذلك مَسَّ أَلَمٍ يحبِسُهم علَى الأمر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا كالبهائم والسِّباع، لا يوجعهم إلاّ ما يَخْرِق الأبشار من حَدّ الحديد، وسَطْو البأس الشديد، فلو لم تُطبَع لأمثالهم السيوف، ولم تُطلَق فيهم الحتوف، لما استقام دينٌ ولا دنيَا، ولا نال أهلُ الشرف ما نالوه من الرتبة العليا، فلا يطيب الشُرب من مَنْهلٍ لم تُنفَ عنه الأَقذاء، ولا تَقَرُّ الروح في بدنٍ لم تُدفَع عنه الأَدواء. وكذلك قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم مَلَكْتَه ... وَإن أَنت أكرمْت اللَّئيمَ تَمَرَّدا
َوَضْعُ النَدى في مَوْضِع السيف بالعلَى ... مُضرٌّ كَوضْع السَّيف في مَوْضِع الندَى
لقسم التخييلي


وأما القسم التخييلي، فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صِدقٌ، وإنَّ ما أثبتَه ثابت وما نفاه منفيّ، وهو مفتنُّ المذاهب، كثير المسالك، لا يكاد يُحصَر إلاّ تقريباً، ولا يُحاط به تقسيماً وتبويباً، ثم إنه يجيء طبقاتٍ، ويأتي على درجاتٍ، فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تُلُطِّف فيه، واستعين عليه بالرِفق والحِذق، حتى أُعطَي شَبَهاً من الحقّ، وغُشِّي رَوْنَقاً من الصّدق، باحتجاج تُمُحِّل، وقياسٍ تُصُنِّع فيه وتُعُمِّلَ، ومثالُه قول أبي تمام:
ا تُنكري عَطَلَ الكَريم من الغِنَى ... فالسَّيلُ حَرْبٌ للمكانِ العالى
فهذا قد خَيَّل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلوّ، والرِّفعة في قدره، وكان الغِنَى كالغَيْث في حاجة الخلق إليه وعِظَمِ نَفْعه، وجب بالقياس أن يزِلَّ عن الكريم، زَلِيلَ السَّيل عن الطَّوْد العظيم، ومعلومٌ أنه قياسُ تخييلٍ وإيهامٍ، لا تحصيلٍ وإحكام، فالعلّة في أن السيل لا يستقرّ على الأمكنة العالية، أن الماء سيَّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانبُ تَدْفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب، وليس في الكريم والمال، شيء من هذه الخلال، وأقوى من هذا في أن يُظنَّ حقّاً وصدقاً، وهو على التخيّل قوله:
لشيبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أن يفارِقَني ... أَعْجِبْ بشيءٍ على البَغْضَاء مَوْدودِ
هو من حيث الظاهر صدق وحقيقة، لأن الإنسان لا يعجبه أن يُدركه الشيب، فإذا هو أدركه كره أن يفارقه، فتراه لذلك يُنكره ويتكرَّهه على إرادته أن يدومَ له، إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق، كانت الكراهةُ والبغضاء لاحقةُ للشيب على الحقيقة، فأما كونه مُرَاداً و مودوداً، فمتخيَّلٌ فيه، وليس بالحقَّ والصدق، بل المودود الحياة والبقاءُ، إلا أنه لما كانت العادة جاريةً بأنّ في زوال رؤية الإنسان للشيب، زوالَه عن الدنيا وخروجه منها، وكان العيش فيها محبَّباً إلى النفوس، صارت محبّته لما لا يَبْقَى له حتى يبقى الشيب، كأنّها محبّة للشيب. من ذلك صَنِيعهم إذا أرادوا تفضيلَ شيء أو َقْصَه، ومدحه أو ذمَّه، فتعلّقوا ببعض ما يشاركُه في أوصافٍ ليست هي سبب الفضيلة والنقيصة، وظواهرِ أُمورٍ لا تَصحّح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة، كما تراه في باب الشيب والشباب، كقول البحتري:
بَيَاضُ البازيِّ أصدقُ حسنا ... إنْ تأمّلتِ من سَواد الغُرابِ


وليس إذا كان البياضُ في البازي آنَقَ في العين وأخلق بالحسن من السواد في الغراب، وجب لذلك أن لايُذَمَّ الشيبُ ولا تنفرُ منه طباع ذوي الألباب، لأنه ليس الذنب كلَّه لتحوُّل الصِّبْغ وتبدُّل اللون، ولا أتَت الغواني ما أتت من الصدّ والإعراض لمجرَّد البياض، فإنهن يرينه في قُباطيّ مصر فيأنسن، وفي أنوار الرَّوض وأوراق النرجس الغضّ فلا يعبِسْن، فما أنكرن ابيضاض شَعَر الفتى لنفس اللون وذاته، بل لذهاب بَهجاته، وإدباره في حياته، وإنك لترى الصُّفرة الخالصةَ في أوراق الأشجار المتناثرة عند الخريف وإقبال الشتاء وهبوب الشَّمال، فتكرهها وتنفرُ منها، وتراها بعينها في إقبال الربيع في الزَّهر المتفتِّق، وفيما ينْشئه ويَشِيه من الديباج المُؤْنق، فتجد نفسَك على خِلاف تلك القضيّة، وتمتلئ من الأريحيّة، ذاك لأنك رأيت اللونَ حيُ النماءُ والزيادة، والحياةُ المستفادة، وحيث أبشرتْ أرواح الرياحين، وبشّرت أنواع التحاسين، ورأيته في الوقت الآخَر حين ولَّت السعود، واقشعرَّ العُود، وذهبت البَشَاشة والبشْر، وجاء العُبوس والعُسْر. هذا ولو عدِم البازي فضيلةَ أنه جارح، وأنه من عَتيق الطير، لم تجد لبياضه الحسن الذي تراه، ولم يكن للمحتجِّ به على من يُنكر الشيب ويذمُّه ما تراه من الاستظهار، كما أنه لولا ما يُهدي إليك المسك من رَيَّاه التي تتطلع إلها الأرواح، وتَهَشُّ لها النفوس وترتاح، ولضَعُفَت حُجّة المتعلق به في تفضيل الشَّباب، وكما لم تكن العلّةُ في كراهةِ الشيب بياضُهُ، ولم يكن هو الذي غَضَّ عنه الأبصار، ومنحه العيبَ والإنكار، كذلك لم يَحْسن سواد الشَعَر في العيون لكونه سواداً فقط، بل لأَنك رأيتَ رَوْنق الشباب ونضارتَه، وبَهْجتَه وطُلاَوتَه وَرأيت بريقَه وبصيصَه يَعِدانك الإقبال، ويُريانك الاقتبال، ويُحْضِرانك الثقَةَ بالبقاء، ويُبْعِدان عنك الخوفَ من الغناء، وإنّك لترى الرَّجُل وقد طَعَن في السنّ وشَعَرُه لم يبيضّ، وشيبه لم ينقضّ، ولكنه على ذاك قد عدِم إبهاجه الذي كان، وعاد لا يزينُ كما زان، وظهر فيه من الكمودوالجمود، ما يُريكَه غيرَ محمود. وهكذا قوله:
والصَّارمُ المَصْقُولُ أحسنُ حالةً ... يومَ الوغَى من صارمٍ لم يُصْقَل
احتجاجٌ على فضيلة الشيب، وأنه أحسن منظراً من جهة التعلق باللون، وإشارةٌ إلى أن السواد كالصَدَأ على صفحة السيف، فكما أن السيف إذا صُقل وجُلي وأزيل عنه الصَّدَأ ونُقِّيَ كان أبهى وأحسن، وأعجبَ إلى الرائي وفي عينه أزين، كذلك يجب أن يكون حُكْمُ الشعَر في انجلاء صدأ السواد عنه، وظهور بياض الصِّقَالِ فيه، وقد ترك أن يفكّر فيما عدا ذلك من المعاني التي لها يُكرَه الشيب، ويُنَاط به العيب. وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة، أن يجعلوا اجتماعَ الشيئين في وصفٍ عِلةً لحكمٍ يريدونه، وإن لم يكن كذلك في المعقول ومُقْتَضَيَات العقول، ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحِّح كونَ ما جعله أصلاً وعلّة كما ادَّعاهُ فيما يُبْرِم أو يَنْقض من قضيّة، وأَن يأتي على ما صَيَّره قاعدةً وأساساً بيّنة عقلية، بل تُسلَّم مقدّمتُه التي اعتمدها بيّنةً، كتسليمنا أَنّ عائب الشيب لم ينكر منه إلاّ لونَه، وتناسِينا سائر المعاني التي لها كُره، ومن أجلها عِيب، وكذلك قول البحتري:
كَلَّفْتُمُونَا حُدُودَ مَنْطِقكُم ... في الشِّعر يَكْفِي عن صِدْقِهِ كَذِبُهْ


أراد كلّفتمونا أن نُجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسَنا فيه بالقول المحقَّق، حتى لاَ ندَّعي إلا ما يقول عليه من العقل برهان يقطع به، ويُلجئ إلى موجَبه، ولا شكّْ أنه إلى هذا النحو قَصَد، وإيّاه عَمَد، إذ يبعُد أن يريد بالكذب إعطاءَ الممدوح حظَّاً من الفضل والسُّؤدد ليس له، ويُبلّغه بالصفة حظّاً من التعظيم ليس هو أهلَه، وأن يجاوز به من الإكثار محلَّه، لأن هذا الكذبَ لا يُبين بالحجَج المنطقية، والقوانين العقلية، وإنما يكذَّب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما وُصف به، والكشف عن قدره وخسّته، ورفعته أو ضَعَته، ومعرفة محلّه ومرتبته. وكذلك قول من قال خير الشعر أكذبه، فهذا مراده، لأن الشعر لا يكتسب من حيث هو شعرٌ فضلاً ونقصاً، وانحطاطاً وارتفاعاً، بأن يَنحَل الوضيعَ صفةً من الرفعة هو منها عارٍِ، أو يصفَ الشريف بنقص وعار، فكم جواد بخَّله الشعر وبخيلٍ سخَّاه؛ وشُجاعٍ وسمه بالجُبن وجبانٍ سَاوَى به الليث؛ ودَنِيٍّ أوطأه قِيمّة العيُّوق، وغَبيٍّ قضى له بالفهم، وطائش ادَّعى له طبيعة الحُكْم، ثم لم يُعتَبر ذلك في الشعر نفسه حيث تُنتقَدُ دنانيره وتُنشَر ديابيجه، ويُفتَق مسكه فيضوعُ أَريجُهُ. وأما من قال في معارضة هذا القول: خير الشعر أصدقه، كما قال:
وإنَّ أَحْسَن بيتٍ أنت قائلهُ ... بَيْتٌ يقالُ إذا أنشدتَه صَدَقَا
فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دلّ على حِكْمة يقبلها العقلُ، وأدبٍ يجب به الفضل، وموعظةٍ تُروِّض جماح الهوى وتبعث على التقوى، وتُبيّن موضع القُبح والحُسن في الأفعال، وتَفْصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد يُنحَى بها نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه، والأول أولى، لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر. فمن قال خيره أصدقه كان تركُ الإغراق والمبالغة والتجوُّز إلى التحقيق والتصحيح، واعتمادُ ما يجرى من العقل على أصل صحيح، أحبَّ إليه وآثرَ عنده، إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال أكذبُه، ذهب إلى أن الصنعة إنما تَمُدُّ باعها، وتنشر شُعَاعها، ويتّسع مَيْدانها، وتتفرّع أفنانها، حيث يعتمد الاتّساع والتخييل، ويُدَّعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتخيل وحيث يُقصَد التلطف و التأويل ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذمّ والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض، وهناك يجد الشاعرُ سبيلاً إلى أن يُبدع ويزيد، ويُبدي في اختراع الصّور ويُعيد، ويصادف مضطرباً كيف شاء واسعاً، ومَدَداً من المعاني متتابعاً، ويكون كالمغترف من عِدٍّ لا ينقطع، والمُسْتَخرج من مَعْدِنٍ لا ينتهي. وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المُدانَى قَيْدُه، والذي لا تتّسع كيف شاء يَدُه وأيْدُه، ثم هو في الأكثر يسرد على السامعين معانىَ معروفةً وصوراً مشهورة، ويتصرّف في أصول هي وإن كانت شريفةً، فإنها كالجواهر تُحفَظ أعدادها، ولا يُرْجَى ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تَنْمي ولا تزيد، ولا تربح ولا تُفيد، وكالحسناء العقيم، والشجرة الرَّائقة لا تُمتِّع بجَنًى كريم. هذا ونحوه يمكن أن يُتَعلَّق به في نصرة التخييل وتفضيله، والعقل بعدُ على تفضيل القبيل الأول وتقديمه وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقلُ ناصرَهُ، والتحقيقُ شاهدَه، فهو العزيز جانبه، المنيع مَنَاكبُه، وقد قيل الباطل مخصوم وإن قُضي له، والحقّ مُفْلجٌ وإن قُضي عليه، هذا ومَنْ سلَّم أنّ المعاني المُعرِقة في الصدق، المستخرَجة من مَعْدِن الحقّ، في حكم الجامد الذي لا يَنْمِي، والمحصور الذي لا يزيد؛ وإن أردت أن تعرف بُطْلان هذه الدعوى فانظر إلى قول أبي فراس:
وكنَّا كالسهامِ إذَا أصابَتْ ... مَرَامِيَها فَرَامِيهَا أَصَابَا


ألست تراه عقليّاً عريقاً في نسبه، معترَفاً بقوّة سببه، وهو على ذلك من فوائد أبي فراسٍ التي هي أبو عُذْرِها، والسابق ُإلى إثارة سِرّها، واعلم أن الاستعارة لا تدخل في قبيل التخييل، لأن المستعير لا يقصد إلى إثبات معنى اللفظةِ المستعارة، وإنما يعمد إلى إثبات شَبَهٍ هناك، فلا يكون مَخْبَرُهُ على خلاف خَبَره، وكيف يعرض الشكُّ في أَنْ لا مدخل للاستعارة في هذا الفنّ، وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفَى، كقوله عز وجل: " وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً " " مريم: 4 " ، ثم لا شبهةَ في أنْ ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهراً، وإنما المراد إثبات شَبهه، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن مرآة المؤمن، ليس على إثباته مِرآةً من حيث الجسم الصَّقيل، لكن من حيث الشَّبه المعقول، وهو كونها سبباً للعلم بما لولاها لم يعْلَم، لأن ذلك العلم طريقُه الرؤية، ولا سبيل إلى أن يرى الإنسان وجهَه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصَّقيلة، فقد جمع بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة، وهي أن المؤمن ينصَح أخاه ويُريه الحسَن من القبيح، كما تري المرآةُ الناظرَ فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخَضْراءَ الدِّمَن " ، معلوم أن ليس القصدُ إثباتَ معنى ظاهر اللفظين، ولكن الشَّبهُ الحاصل من مجموعهما، وذلك ُحسن الظاهر مع خُبْثِ الأصل، وإذا كان هذا كذلك، بانَ منه أيضاً أنّ لك مع لُزوم الصدق، والثبوت على محض الحقّ، الميدانَ الفسيح والمجالَ الواسع، وأنْ ليس الأمر على ما ظنَّه ناصر الإغراق والتخييل الخارج إلى أن يكون الخَبَر على خلاف المَخْبَر، من أنه إنما يتّسع المقال ويَفْتَنّ، وتكثر موارد الصنعة ويغزُر يُنْبُوعها، وتكثر أغصانها وتتشعّب فروعها، إذا بُسِط من عنان الدعوى، فادُّعي ما لا يَِصحّ دعواه، وأثبت ما ينفيه العقل ويَأباه. وجملة الحديث أن الذي أريده بالتخييل ها هنا، ما يُثبت فيه الشاعر أمراً هو غير ثابتٍ أصلاً، ويدَّعي دعوَى لا طريقَ إلى تحصيلها، ويقولُ قولاً يخدع فيه نفسه ويُريها ما لا ترى، فأمَّا الاستعارة فإن سبيلَها سبيلُ الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله، وجدتَ قائله وهو يُبت أمراً عقليّاً صحيحاً، ويدّعي دعوَى لها سِنْخٌ في العقل، وستمرُّ بك ضروبٌ من التخييل هي أظهرُ أمراً في البُعد عن الحقيقة، وأكشفُ وجهاً في أنه خداعٌ للعقل، وضربٌ من التزويق، فتزداد استبانة للغَرَض بهذا الفصل، وأَزيدُك حينئذ إن شاء اللَّه، كلاماً في الفرق بين ما يدخل في حيّز قولهم خير الشعر أكذبه، وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في أنه اتِّساع وتجوّزٌ فاعرفه. وكيف دار الأمرُ فإنهم لم يقولوا خير الشعر أكذبه، وهم يريدون كلاماً غُفْلاً ساذجاً يكذب فيه صاحبُه ويُفْرِط، نحو أن يصف الحارسَ بأوصاف الخليفة،ويقول للبائس المسكين إنّك أمير العِرَاقَيْن، ولكن ما فيه صنعةٌ يتعمَّل لها، وتدقيقٌ في المعاني يحتاج معه إلى فطنة لطيفةٍ وفهمٍ ثاقبٍ وغوصٍ شديد، واللَّه الموافق للصواب، وأعود إلى ما كنت فيه من الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي. واعلم أن ما شأنه التخييل، أمْرُه في عِظَم شجرته إذا تُؤُمِّلَ نَسَبُه، وعُرفت شُعُوبه وشُعَبُه، على ما أشرت إليه قُبَيلُ، لا يكاد تجيء فيه ِقِسْمةٌ تستوعبه، وتفصيل يَستغرقه، وإنما الطريق فيه أن يُتَّبَعَ الشيء بعد الشيءِ ويُجمع ما يحصُره الاستقراء، فالذي بدأتُ به من دعوى أصلٍ وعلّةٍ في حُكمٍ من الأحكام، هما كذلك ما تُرِكَتْ المضايقة، وأُخذ بالمسامحة، ونُظر إلى الظاهر، ولم يُنقَّر عن السرائر، وهو النَمَطُ العَدْل والنُمْرُقة الوُسطَى، وهو شيءٌ تراه كثيراً بالآداب والحِكم البريئة من الكذب، ومن الأمثلة فيه قول أبي تمام:
إنّ رَيْبَ الزمان يُحْسِنُ أن يُه ... دِي الرَّزَايا إلى ذَوي الأحسابِ
فَلِهذَا يَجفُّ بَعْدَ اخضرارٍ ... قَبْلَ رَوْضِ الوِهادِ رَوْضُ الرَّوَابي
وكذا قولُه يذكر أنّ الممدوح قد زاده، مَع بُعده عنه وغيبتِه، في العطايا على الحاضرين عنده اللاَّزمين خِدْمَته:
لَزِمُوا مَرْكَزَ النَّدَى وذَراهُ ... وعَدَتْنا عَنْ مثْل ذاك العَوَادي


غيرَ أنَّ الرُّبَى إلى سَبَل الأنو ... اءِ أدنَى والحظُّ حَظُّ الوِهَادِ
لم يقصِد من الربى هاهنا إلى العلوّ، ولكن إلى الدنوّ فقط، وكذلك لم يُردْ بذكر الوهاد الضَّعةَ والتَّسفُّل والهُبوط، كما أشار إليه في قوله " والسَّيْلُ حَربٌ للمكان العالي " وإنما أراد أن الوهاد ليس لها قُرْبُ الرُّبَى من فيض الأنواء، ثم إنها تتجاوزُ الرُّبَى التي هي دانية قريبة إليها، إلى الوهاد التي ليس لها ذلك القُرْب. ومن هذا النَّمط، في أنه تخييل شبيةٌ بالحقيقة لاعتدال أمره، وأنّ ما تعلَّق به من العِلَّة موجود على ظاهرِ مَا ادَّعى، قولُه:
لَيْسَ الحجابُ بمُقْصِ عنك لي أمَلاً ... إنَّ السماءَ تُرَجَّى حِين تَحْتَجِبُ
فاستتارُ السماء بالغيم هو سبب رجاءِ الغَيْث الذي يُعَدُّ في مجرى العادة جُوداً منها ونعْمةً، صادرةً عنها، كما قال ابن المعتز:
ما تَرَى نعْمةَ السماءِ على الأَرْ ... ضِ وشُكْرَ الرِّياضِ للأمْطارِ
وهذا نوعٌ آخرُ، وهو دعواهم في الوصف هو خِلقةٌ في الشيء وطبيعةٌ، أو واجبٌ على الجملة، من حيث هو أنّ ذلك الوصف حصل له من الممدوح ومنه استفادَهُ،، وأصل هذا التشبيهُ، ثم يتزايد فيبلُغ هذا الحدَّ، ولهم فيه عباراتٌ منها قولهم إن الشمس تستعير منه النور وتستفيد، أو تتعلّم منه الإشراق وتكتسب منه الإضاءة، وألطفُ ذلك أن قال: تسْرقُ، وأن نورها مسروق من الممدوح، وكذلك يقال المِسْكُ يَسْرِق منْ عَرْفِه، وأنّ طيبه مُسْتَرَقٌ منه ومن أخلاقه، قال ابن بابك:
ألا يا رياضَ الحَزْن من أَبرق الحِمَى ... نَسِيمُك مسروقٌ ووَصفُك مُنْتَحَلْ
حكيتِ أبا سَعْدٍ فنَشْرُكِ نَشْرُهُ ... ولكنْ له صِدْقُ الهَوَى ولكِ المَلَلْ
ونوع آخر، وهو أن يدَّعيَ في الصفة الثانية للشيء أنه إنما كان لِعلَّةٍ يضعها الشاعر ويختلقُها، إمّا لأمرٍ يرجع إلى تعظيم الممدوح، أو تعظيم أمرٍ من الأمور، فمن الغريب في ذلك معنى بيت فارسيٍّ ترجَمَتُهُ:
لَوْ لَم تكن نِيَّةُ الجوزاءِ خِدْمتَهُ ... لَمَا رأيتَ عليها عِقْدَ مُنْتطقِ
فهذا ليس من جنس ما مضى، أعني ما أصله التشبيه، ثم أريد التناهي في المبالغة والإغراق والإغراب. ويدخل في هذا الفن قول المتنبي:
لم يَحْكِ نائلَكَ السَّحابُ وإَّنما ... حُمَّتْ به فصبيبُها الرَُّحَضاءُ
لأنه وإن كان أصله التشبيه، من حيث يشبّه الجَوَاد بالغَيْث، فإنه وَضَعَ المعنى وضعاً وصوَّره في صورةٍ خرج معها إلى ما لا أصل له في التشبيه، فهو كالواقع بين الضَرْبَين، وقريبٌ منه في أن أصله التشبيه ثم باعده بالصنعة في تشبيهه وخلع عنه صورته خلعاً، قولُهُ:
ومَا رِيحُ الرِّياض لَها ولكن ... كَسَاها دَفْنُهُمْ في التُرْبِ طيبَا
ومن لطيف هذا النوع قولُ أبي العباس الضبّي:
لا تركننَّ إلى الفرا ... قِ وإن سَكَنْتَ إلى العِنَاقِ
فالشمسُ عِنْدَ غروبها ... تصفَرُّ من فَرَقِ الفِراقِ
ادَّعَى لتعظيم شأن الفراق أنّ ما يُرَى من الصُفرة في الشمس حين يرِقُّ نورها بدنّوها من الأرض، إنما هو لأنها تُفارق الأُفٌق الذي كانت فيه، أو الناسَ الذين طلعت عليهم وأنِسَتْ بهم وأنِسوا بها وسَرَّتْهم رُؤْيتُها، ونوع منه قولُ الآخر:
قضيبُ الكَرْمِ نَقْطَعه فَيَبْكِي ... ولا تَبْكي وقد قَطَع الحبيبُ
وهو منسوب إلى إنشاد الشّبلي، ويقال أيضاً أن أبا العباس أخذ معناه في بيته من قول بعض الصُّوفية وقيل له: لِمَ تصفرُّ الشمس عند الغروب؛ فقال من حَذَر الفراق، ومن لطيف هذا الجنس قول الصُّولي:
الرِّيح تَحْسُدُني علي ... كِ ولم أخَلْهَا في العِدَا
لَمَّا هَمَمْتُ بقُبْلةٍ ... رَدَت على الوَجْهِ الرِّدَا
وذلك أن الريح إذا كان وجهها نحو الوَجْه، فواجب في طِباعها أن تردّ الرداء عليه، وأن تلُفّ من طرفيه، وقد ادّعى أن ذلك منها لحسدٍ بها وغَيْرَةٍ على المحبوبة، وهي من أجل ما في نفسها تَحُول بينه وبين أن ينال من وجهها. وفي هذه الطريقة قوله:


وحَارَبَني فيه رَيْبُ الزَّمانِ ... كأنَّ الزَّمانَ لهُ عاشقُ
إلاَّ أنه لم يضع عِلّة ومعلولاً من طريق النصّ على شيء، بل أثبت محاربةً من الزمان في معنى الحبيب، ثم جعل دليلاً على عِلَّتها جوازَ أن يكون شريكاً له في عشقه، وإذا حقَّقْنا لم يجب لأجل أن جَعَلَ العِشقِ عِلَّة للمحاربة، وجَمَع بين الزمان والريح، في ادعاء العداوةِ لَهُما أن يتناسب البيتان من طريق الخصوص والتفصيل. وذاك أن الكلام في وضع الشاعر للأمر الواجب علّةً غيرَ معقولٍ كونُها علّةً لذلك الأمر، وكونُ العشق علّةً للمعاداة في المحبوب معقولٌ معروف غير بِدْعٍ ولا مُنكَر، فإذا بدأ فادّعى أن الزمان يعاديه ويحاربه فيه، فقد أعطاك أنّ ذلك لمثل هذه العلّة وليس إذا ردَّت الريح الرِّداء، فقد وَجب أن يكون ذلك لعلّة الحسد أو لغيرها، لأن ردَّ الرداء شأنُها، فاعرفه، فإن مِنْ شَأن حكم المُحصِّل أن لا ينظر في تلاقي المعاني وتناظُرها إلى جُمَل الأمور، وإلى الإطلاق والعموم، بل ينبغي أن يدقّقَ النظر في ذلك، ويراعَى التناسب من طريق الخصوص والتفاصيل، فأنت في نحو بيت ابن وُهيب تدّعى صفةً غير ثابتة، وهي إذا ثبتت اقتضت مثل العِلّة التي ذكرها، وفي نحو بيت الريح، تذكر صفةً غير ثابتة حاصلةً على الحقيقة، ثم تدّعي لها علة من عند نفسك وضعاً واختراعاً، فافهمه، وهكذا قول المتنبي:
مَلامِي النَّوَى في ظُلْمها غايةُ الظُّلْمِ ... لعلَّ بها مِثْلَ الَّذِي بِي مِن السُّقمِ
فَلَوْ لم تَغَرْ لم تَزْوِ عَنِّي لِقاءَكُم ... ولو لم تُرِدْكُمْ لم تكنْ فِيكُمُ خَصْمِي
الدعوى في إثبات الخصومة، وجَعْلِ النَّوى كالشيء الذي يعقل ويميّز ويريد ويختار، وحديثُ الغَيرةِ والمشاركةِ في هوى الحبيب، يثبُتُ بثبوت ذلك من غير أن يفتقر مِنك إلى وَضْعٍ واختراع. ومما يلحق بالفنّ الذي بدأتُ به قولُه:
بِنَفسِيَ ما يشكوهُ مَن راح طَرْفُهُ ... ونَرْجِسُهُ مِمّا دَهَى حُسنَه وَردُ
أراقَتّْ دَمِي عَمْداً مَحاسنُ وجهه ... فأضْحَى وفي عَيْنَيه آثارُه تَبْدُو
لأنه قد أتى لحمرة العين وهي عارض يَعْرِض لها من حيث هي عينٌ بعلّةٍ يعلم أنها مخترعَة موضوعة، فليس ثمَّ إراقة دم، وأصْل هذا قول ابن المعتز:
قَالُوا اشتكتْ عَيْنُه فقُلْتُ لَهُم ... مِن كَثْرةِ القَتْل نَالَها الوَصَبُ
حُمْرتُها مِن دِماءِ مَن قتلَتْ ... والدَّمُ في النَّصْل شاهدٌ عَجَبُ
وبين هذا الجنس وبين نحو الرّيح تحسدني، فرقٌ، وذلك أن لك هناك فِعلاً هو ثابت واجب في الريح، وهو ردُّ الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف، فادَّعيت لذلك الفعل علّةً من عند نفسك، وأما هاهنا فنظرتَ إلى صفةٍ موجودة، فتأوّلتَ فيها أنها صارت إلى العين من غيرها، وليست هي التي من شأنها أن تكونَ في العين، فليس معك هنا إلا معنىً واحدٌ، وأما هناك فمعك معنيان: أحدُهما موجودٌ معلومٌ، والآخرُ مُدَّعًى موهومٌ فاعرفه. وممّا يشبه هذا الفَنَّ الذي هو تأوُّلٌ في الصفة فقط، من غير أن يكون معلولٌ وعلّةٌ، ما تراه من تأوُّلهم في الأمراض والحمَّيَات أنها ليست بأمراض، ولكنها فِطَنٌ ثاقبة وأذهانٌ متوقِّدة وعَزَمات، كقوله:
وحُوشِيتَ أن تَضْرَى بجسمك عِلَّةٌ ... ألاَ إنَّها تلك العُزُوم الثَّواقبُ
وقال ابن بابك:
فترتَ وما وجدتَ أبا العلاءِ ... سِوَى فَرْط التوقُّد والذَّكاءِ
ولكشاجم، يقوله في علي بن سليمان الأخفش:
ولقد أخطأَ قومٌ زعموا ... أنها من فَضْل بَرْدٍ في العَصَبْ
هُو ذَاكَ الذِّهن أذكى نَارَه ... وَالمِزَاجُ المُفْرِطُ الحَرِّ التهبْ
ولا يكون قول المتنبي:
وَمَنازلُ الحُمَّى الجُسومُ فقلْ لنا ... مَا عُذْرُها في تَرْكها خَيراتِها
أعجبتَها شَرَفاً فَطَال وُقُوفُها ... لتأَمُّلِ الأعضاءِ لاَ لأَذَاتِها


من هذا في شيء، بأكثر من أن كلا القولين في ذكر الحُمَّى، وفي تطييب النفس عنها، فهو اشتراك في الغَرض والجنس، فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلاَ، لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح حُمَّى كما أنكره الآخر، ولكنّه كأنه سأل نفسه كيف اجترأت الحمَّى على الممدوح، مع جلالته وهيبته، أم كيف جَاز أن يقصد شيءٌ إلى أذاه مع كَرَمه ونُبله، وأن المحبّة من النفوس مقصورة عليه؟ فتحمَّلَ لذلك جواباً، ووضع للحُمَّى فيما فعلته من الأذى عُذْراً، وهو تصريحُ ما اقتصر فيه على التعجُّب في قوله:
أيَدْري مَا أَرابَك مَن يُريبُ ... وَهلْ تَرْقَى إلى الفَلك الخطوبُ
وجسمُك فَوْق هِمَّةِ كُلِّ داءٍ ... فقُرْبُ أقلِّها منه عجيبُ
إلا أن ذلك الإيهام أحسن من هذا البيان، وذلك التعجُّبُ موقوفاً غيرَ مجاب، أولَى بالإعجاب، وليس كل زيادة تُفلح، وكل استقصاء يَمْلُح. ومن واضح هذا النوع وجيّده قولُ ابن المعتزّ:
صدَّت شُرَيْرُ وأزمعت هَجْرِي ... وَصَغَت ضَمائرُها إلى الغَدْرِ
قالت كَبِرتَ وشِبتَ قلتُ لها ... هذا غُبارُ وَقَائعِ الدَّهْرِ
ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدا به شيباً، ورأى الاعتصام بالجَحْد أخصَر طريقاً إلى نَفْي العيب وقطع الخصومة، ولم يسلك الطريقة العامّية فيُثبِتَ المشيب، ثم يمنَع العائب أن يعيب، ويُريَه الخطأ في عَيْبه به، ويُلزِمَه المناقضةَ في مذهبه، كنحو ما مضى، أعني كقول البحتري: وبياضُ البازيّ. وهكذا إذا تأوَّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلْقة، ولكنه نُور العقل والأدبِ قد انتشر، وبان وَجْهه وظهر، كقول الطائي الكبير:
ولا يُرَوِّعْك إيماضُ القَتِير به ... فَإنَّ ذاك ابتسامُ الرَّأْي والأدبِ
وينبغي أن تعلمَ أنّ باب التشبيهات قد حظِي من هذه الطريقة بضرب من السِّحْر، لا تأتي الصفة على غَرابته، ولا يبلُغ البيان كُنَه ما ناله من اللُّطف والظَّرف، فإنه قد بلغ حدّاً يرُدُ لمعروفَ في طِباع الغَزِل، ويُلْهى الثَّكْلان من الثُّكْل، ويَنْفُث في عُقَد الوَحشة، وينشُد ما ضلّ عنك من المسَرَّةِ، ويشهد لِلشِّعر بما يُطيل لِسَانه في الفخر، ويُبين جُمْلة ما للبيان من القُدرة والقَدْر، فمن ذلك قول ابن الرومي:
خجِلتْ خدودُ الورد من تفضيله ... خَجَلاً تورُّدُها عليه شاهدُ
لم يَخْجَلِ الوردُ المورَّدُ لونُه ... إلاَّ وناحِلهُ الفضيلةَ عاندُ
للنرجس الفضلُ المُبينُ وإن أبَى ... آبٍ وحادَ عن الطريقة حائدُ
فصْلُ القضية أنّ هذا قائدٌ ... زَهَرَ الرياضِ وأَنّ هذا طاردُ
شتَّانَ بين اثنين هذا مُوعِدُ ... بتَسلُّبِ الدُّنيا وهَذَا واعدُ
يَنْهَى النديمَ عن القبيح بلحظِه ... وَعَلَى المُدامةِ والسماعِ مُساعدُ
اطلبْ بِعَفْوك في الملاح سَمِيَّه ... أبداً فإنك لا مَحَالة واجدُ
والوَرْدُ إن فكّرتَ فردٌ في اسمه ... ما في الملاح له سمِيُّ واحدُ
هذي النجومُ هي التي رَبَّتْهُما ... بِحَيا السحابِ كما يُربِّي الوالدُ
فانظر إلى الأخَوَين مَن أدناهما ... شَبَهاً بوالده فذاك الماجدُ
أين الخدودُ من العيون نَفَاسةً ... ورِئاسةً لولا القياسُ الفاسدُ


وترتيب الصنعة في هذه القطعة، أنه عمل أوَّلاً على قلب طرفَي التشبيه، كما مضى في فصل التشبيهات، فشبّه حُمرةَ الورد بحمرة الخجل، ثم تناسَى ذلك وخَدعَ عنه نفسه، وحملها على أن تعتقد أنه خَجَلٌ على الحقيقة، ثم لما اطمأنَّ ذلك في قلبه واستحكمت صورته، طَلَبَ لذلك الخجل عِلّةً، فجعل عِلَّته أنْ فُضِّل على النرجس، ووُضِع في منزلةٍ ليس يرى نفسَهُ أهْلاً لها، فصار يتَشوَّر من ذلك، ويتخوّف عيبَ العائب، وغميزةَ المستهزئ، ويجدُ ما يجد مَنْ مُدِح مِدْحةً يَظْهر الكذب فيها ويُفْرِط، حتى تصير كالهُزء بمن قُصِد بها، ثم زادته الفِطْنة الثاقبةُوالطبع المُثْمر في سحر البيان، ما رأيت من وضع حِجاج في شأن النرجس، وجهةِ استحقاقه الفضلَ على الورد، فجاء بحُسنٍ وإحسانٍ لا تكاد تجد مثله إلاّ له. ومما هو خليقٌ أن يوضع في منزلة هذه القطع، ويلحق بها في لطف الصنعة، قول أبي هِلالٍ العسكري:
زَعَم البَنَفْسَجُ أنَّه كعِذَارهِ ... حُسْناً فسَلُّوا مِن قَفَاه لسانَهُ
لَم يَظْلِمُوا في الحكم إذْ مَثَلوا به ... فلشَدَّمَا رفع البَنَفْسَجُ شَانَهُ
وقد اتفق للمتأخرين من المحْدَثين في هذا الفن نُكَتٌ ولطائف، وبِدَعٌ وظرائف، لا يُستكثر لها الكثير من الثّناء، ولا يضيق مكانُها من الفَضْل عن سَعَة الإطراء، فمن ذلك قول ابن نباتة في صفة الفرس:
وأدهمُ يستمدُّ الليلُ منه ... وتَطلُع بين عَينَيه الثُّريَّا
سَرَى خَلْفَ الصَّباحِ يطير مَشْياً ... ويَطْوِي خَلْفَه الأفلاكَ طَيّاً
فلَمّا خاف وَشْكَ الفَوْتِ منه ... تَشَبَّثَ بالقوائم والمُحَيَّا
وأحسن من هذا وأحكم صنعةً قولُه في قطعة أخرى:
فكأنما لَطَمَ الصباحُ جبينَهُ ... فاقتصَّ منه وخَاضَ في أَحشائهِ
وأول القطعة:
د جَاءَنا الطِّرْفُ الذي أهْدَيْتَهُ ... هَادِيه يَعْقِد أرضَه بسمائهِ
َوِلايةً وَلَّيتَنا فبَعَثْتَهُ ... رُمحاً سَبيبُ العُرفِ عَقْدُ لِوائِه
ختال منه على أَغَرَّ محجَّلٍ ... ماءُ الدَّياجي قطرةٌ من مائهِ
كأنما لَطَمَ الصَّباحُ جبينَهُ ... فاقتصَّ منه وخَاضَ في أحشائِه
تمهِّلاً والبرقُ من أسمائه ... مُتبرقعاً والحُسْنُ من أكفائِه
مَا كانت النِّيران يَكْمُنُ حَرُّها ... لَوْ كان للنِّيران بعضُ ذَكائِه
لا تَعْلَقُ الألحاظُ في أَعطافِه ... إلاَّ إذا كفكفتَ من غُلَوائهِ
لاَ يُكمِلُ الطرْفُ المحاسنَ كُلَّها ... حَتَّى يكونَ الطَّرْفُ من أُسَرائِه
ومما له في التفضيلِ الفَضْلُ الظاهرُ لحسن الإبداع، مع السلامة من التكلُّف، قوله:
وماءٍ عَلى الرَّضْرَاض يَجْري كأنَّهُ ... صحائفُ تِبْرٍ قد سُبِكْنَ جداولاَ
كأنّ بها من شدة الجَرْيِ جِنَّةً ... وقَدْ ألبستهُنَّ الرِّياحُ سَلاَسلاَ
وإنما ساعده التوفيقُ، من حيث وُطّئ له من قبلُ الطريقُ، فسبق العُرْفُ بتشبيه الحُبُك على صفحات الغُدْران بحلَق الدروع، فتدرَّج من ذلك إلى أن جعلها سلاسل، كما فعل ابن المعتزّ في قوله:
وأنهارِ ماءٍ كالسلاسل فُجرّت ... لتُرضِع أولادَ الرياحين والزَهْرِ
ثم أتمّ الحِذْق بأن جعل للماء صفة تَقْتَضي أن يُسَلْسَل، وقَرُبَ مأخذُ ما حاول عليه، فإن شدة الحركة وفرط سرعتها من صفات الجنون، كما أن التمهُّل فيها والتأنّي من أوصاف العقل، ومن هذا الجنس قولُ ابن المعتزّ في السيف، في أبيات قالها في الموفَّق، وهي:
وفَارسٍ أَغْمَدَ في جُنّةٍ ... تُقطّع السيفَ إذا ما وَرَدْ
كأنها ماءٌ عليه جَرَى ... حتى إذا ما غاب فِيهِ جَمَدْ
في كفّهِ عَضْبٌ إذا هزَّهُ ... حسِبتَهُ من خَوْفِه يَرْتَعِد
فقد أراد أن يخترع لهزّةِ السيف عِلّةً، فجعلها رِعْدَة تناله من خوف الممدوح وهَيْبَته، ويُشبه أن يكون ابن بابك نظر إلى هذا البيت وعلَّق منه الرعدة في قوله:


فإن عَجَمَتْني نيُوبُ الخطوبِ ... وأَوْهَى الزمانُ قُوَى مُنَّتِي
فَمَا اضطرب السيفُ من خِيفةٍ ... ولا أُرعِدَ الرمحُ من قِرَّةِ
إلا أنه ذهب بها في أسلوب آخر، وقصد إلى أن يقول إنّ كون حركات الرمح في ظاهر حركة المرتعد، لا يوجبُ أن يكون ذلك من آفة وعارض، وكأنه عكس القضيّة فأبَى أن تكون صفة المرتعد في الرمح للعلل التي لمثلها تكون في الحيوان. وأمَّا ابن المعتزّ فحقّق كونها في السيف على حقيقة العلّةِ التي لها تكون في الحيوان فاعرفه. وقد أعاد هذا الارتعادَ على الجملة التي وصفتُ لك، فقال:
قالُوا طواهُ حُزنُهُ فانحنَى ... فقلتُ والشكُّ عدُوُّ اليقين
ما هَيَفُ النَّرجِس من صَبْوَةٍ ... ولا الضَنَى في صُفرة الياسمينْ
ولا ارتعادُ السَّيفِ من قِرَّةٍ ... ولا انعطافُ الرمح من فَرْطِ لينْ
ومما حقُّه أن يكون طرازاً في هذا النوع قولُ البحتري:
يَتَعثَّرْنَ في النُّحور وفي الأَوْ ... جُهِ سُكْراً لمَّا شَربْنَ الدمَّاءَ
جعل فِعلَ الطاعنِ بالرماح تعثُّراً منها، كما جعل ابن المعتزّ تحريكه للسيف وهزَّه له ارتعاداً، ثم طلب للتعثُّر عِلَّة، كما طلب هو للارتعاد فاعرفه. ومن هذا الباب قول عُلبة:
وكأن السَّماءَ صَاهَرَت الأَرْ ... ضَ فصَار النِّثارُ من كافورِ
وقول أبي تمام:
كأنّ السحاب الغُرّ غَيَّبن تَحْتَها ... حَبِيباً فما تَرْقَا لهنّ مَدَامِعُ
وقول السريّ يصف الهلال:
جاءَك شَهْرُ السُّرُورِ شوّالُ ... وغال شَهْر الصِّيامِ مغتالُ
ثم قال:
كأنه قَيْدُ فِضّةٍ حَرِجٌ ... فُضَّ عن الصائمين فاخْتالوا
كل واحد من هؤلاء قد خدع نفسه عن التشبيه وغالطها، وأَوْهَمَ أن الذي جرى العُرْف بأن يؤخذ منه الشَّبه قد حضر وحصل بحضرتهم على الحقيقة، ولم يقتصر على دعوى حُصوله حتى نصب له عِلَّة، وأقام عليه شاهداً، فأثبت عُلبة زفافاً بين السماء والأرض، وجعل أبو تمام للسحاب حبيباً قد غُيّب في التراب، وادَّعى السريُّ أن الصائمين كانوا في قَيْدٍ، وأنه كان حَرِجاً، فلما فَضَّ عنهم انكسر بنصفين، أو اتسع فصار على شكل الهلال، والفرق بين بيت السريّ وبيتي الطائييَّن، أن تشبيه الثلج بالكافور معتاد عامّيٌّ جارٍ على الألْسُن، وجعلُ القَطْرِ الذي ينزل من السحاب دموعاً، ووَصْفُ السحابِ والسماءِ بأنها تبكي، كذلك، فأمّا تشبيه الهلال بالقَيْدِ فغير معتاد نفسه إلاّ أنَّ نظيرَه معتاد، ومعناه من حيث الصورة موجود، وأعني بالنظير ما مضى من تشبيه الهلال بالسِّوار المنفصم، كما قال:
حاكياً نِصفَ سِوارٍ ... مِنْ نُضارٍ يتوقَّدْ
وكما قال السري نفسه:
ولاح لنا الهلال كشطر طَوْقٍ ... على لَبَّاتِ زَرقاءِ اللباسِ
إلا أنه سَاذَجٌ لا تعليل فيه يجب من أجله أن يَكُون سِوَاراً أو طَوْقاً، فاعرفه، ورَأيت بعضهم ذكر بَيْت السريّ الذي هو: " كَأنَّه قَيْد فِضَّة حَرَجٌ " مع أبيات شعر جمعه إليها، أنشدَ قطعةَ ابن الحجاج:
يا صَاحِبَ البَيْتِ الَّذِي ... قد مَاتَ ضَيْفاه جمِيعَا
مَالِي أَرى فَلَكَ الرَّغي ... فِ لدَيك مُشْتَرِفاً رَفِيعَا
كالبدرِ لا نرجو إلى ... وَقْت المَسَاءِ له طُلوعَا
ثم قال إنّه شبَّه الرغيف بالبدر، لعِلَّتين إحداهما الاستدارة، والثانيةُ طلوعه مَساءً، قال وخيرُ التشبيه ما جمع مَعْنيين، كقول ابن الرمي:
يا شبيه البدْر في الحُس ... نِ وفي بُعد المَنَالِ
جُدْ فقد تنفجِرُ الصَّ ... خرةُ بالماءِ الزُّلالِ
وأنشد أيضاً لإبراهيم بن المهدي:
ورحمتَ أطفالاً كأفْراخ القَطَا ... وحنينَ وَالِهةٍ كقَوْسِ النَّازِعِ


ثم قال ومثله قولُ السَّري: " كأنه قَيْدُ فِضَّةٍ حَرَجٌ " وهو لا يشبه ما ذكره، إلا أنْ يَذهبَ إلى حديثِ أنه أفاد شكلَ الهلال بالقيد المفضوض، ولونَه بالفضة، فأمَّا إن قصد النكتة التي هي موضع الإغراب، فلا يستقيم الجمع بينه وبين ما أنشد، لأن شيئاً من تلك الأبيات لا يتضمَّنُ تعليلاً، وليس فيها أكثر من ضمّ شَبَهٍ إلى شبه، كالحنين والانحناء من القوس، والاستدارة والطلوع مساءً من البَدْر، وليس أحد المعنيين بِعِلّة للآخر، كيف؟ ولا حاجة بواحد من الشبهين المذكورين إلى تصحيحِ غيره له. ومما هو نظيرٌ لبيت السريّ وعلى طريقة قول ابن المعتزّ:
سَقَاني وقد سُلَّ سَيفُ الصبا ... حِ والليلُ من خَوْفه قَدْ هَرَبْ
لم يقنع هاهنا بالتشبيه الظَّاهر والقولِ المرسَل، كما اقتصر في قوله:
حتى بدا الصباحُ من نقابِ ... كما بدا المُنْصلُ من قِرابِ
وقوله:
أمّا الظلامُ فحِينَ رَقَّ قَمِيصُهُ ... وأَتى بياضُ الصُّبْح كالسَّيف الصَّدي
ولكنه أحبّ أن يحقّق دعواه أنّ هناك سيفاً مسلولاً، ويجعل نفسه كأنها لا تعلم أن هاهنا تشبيهاً، وأنّ القصد إلى لونِ البياضِ في الشكل المستطيل، فتوصَّلَ إلى ذلك بأَن جعل الظَّلام كالعدوّ المنهزم الذي سُلّ السَّيف في قَفَاه، فهو يهرب مخافَة أن يُضْرب به، ومثل هذا في أن جعل الليلَ يخافُ الصبحَ، لا في الصنعة التي أنا في سياقها، قولُه:
سَبقنا إليهَا الصُّبْحَ وهو مُقنَّعٌ ... كَمِينٌ وقلبُ اللَّيلِ منه على حَذَرْ
وقد أخذ الخالديُّ بيته الأوّل أخْذاً، فقال:
والصُّبحُ قد جُرِّدت صَوارِمُه ... والليلُ قد همَّ منه بالهَربِ
وهذه قطعة لابن المعتزّ، بيتٌ منها هو المقصود:
وانظُر إلى دُنْيَا ربِيعٍ أقبلتْ ... مِثْلَ البَغيِّ تبرَّجتْ لزُناةِ
جاءَتك زائرةٌ كعامٍ أوّلٍ ... وتَلبَّستْ وتعطَّرَتْ بنباتِ
وَإذا تَعرَّى الصُبحُ من كافورِهِ ... نَطَقتْ صُنوفُ طُيورِها بِلُغاتِ
والوَرْدُ يضحكُ من نَواظر نَرْجسٍ ... قَذِيَت وآذنَ حَيُّها بمَمَاتِ
هذا البيت الأخير هو المراد، وذلك أن الضَحِك في الوَرْد وكلِّ ريحان ونُوْرٍ يَتَفَتَّح، مشهور معروف، وقد علَّله في هذا البيت، وجعل الوَرْد كأنه يعقل ويميّز، فهو يَشْمَت بالنرجس لانقضاء مُدّته وإدبار دَوْلته، وبُدُوِّ أمارات الفناء فيه، وأعاد هذا الضحك من الورد فقال:
ضَحِكَ الوَرْدُ في قَفَا المَنْثُورِ ... واسْتَرحْنَا من رِعْدَةِ المَقرُورِ
أراد إقبال الصيف وحَرّ الهواء، ألا تراه قال بعده:
وَاستَطَبْنا المَقِيلَ في بَرْد ظِلّ ... وَشَمِمْنَا الرَّيحانَ بالكافورِ
فالرحيلَ الرحيلَ يا عَسْكرَ الل ... ذّاتِ عن كُلِّ رَوْضةٍ وغَدِيرِ
فهذا من شأنِ الورد الذي عابَه به ابن الرومي في قوله:
فَصْل القضية أن هذا قائد ... زَهَرَ الرياضِ وأن هذا طاردُ
وقد جعله ابن المعتز لهذا الطَّرْدِ ضاحكاً ضحكَ مَن استولى وظفر وابتَزَّ غيرَه على وِلاية الزَّمان واستبدَّ بها، ومما يشوب الضحِكَ فيه شيءٌ من التَّعليل قوله أيضاً:
مَات الهَوى مِنّي وضاع شَبَابي ... وقَضَيْتُ من لَذَّاته آرَابي
وإذا أردتُ تَصَابياً في مجلسٍ ... فالشَّيْبُ يضحَك بِي مَع الأَحبابِ
لا شكّ أن لهذا الضحك زيادةَ معنًى ليست للضحك في نحو قول دعبل: " ضَحِكَ المَشِيبُ بِرَأْسِه فبَكَى " وما تلك الزيادة إلا أنه جعل المشيبَ يضحك ضَحِكَ المتعجِّبِ من تعاطي الرجل ما لا يليق به، وتكلُّفه الشيءَ ليس هو من أهله، وفي ذلك ما ذكرتُ من إخفاءِ صُورة التشبيه، وأَخْذِ النفس بتناسيه، وهكذا قوله:
لَمَّا رأونا في خَمِيسٍ يلتهبْ ... في شَارِقٍ يَضْحَك مِنْ غَيرِ عجبْ
كَأنَّهُ صَبَّ على الأرض ذَهبْ ... وقد بَدَت أسيافُنا من القُرُبْ
حَتىَّ تكونَ لِمناياهُمْ سَبَبْ ... نرفُلُ في الحَدِيد والأرضُ تجِبْ


وحَنَّ شَريانٌ ونَبْعٌ فاصطَخبْ ... تَتَرَّسُوا مِنَ القتالِ بالهَرَبْ
المقصودُ قولُه يضحك من غير عَجَبْ، وذاك أنّ نفيه العلّة إشارةٌ إلى أنه من جنس ما يُعلَّل، وأنّه ضَحِكٌ قَطْعاً وحقيقةً، ألا ترى أنّك لو رحبتَ إلى صريح التشبيه فقلت هيئتُه في تلألؤه كهيئة الضاحك، ثم قلت من غير عجب، قلت قولاً غير مَقْبُولٍ، واعلم أنك إن عددتَ قولَ بعض العرب:
ونَثْرَةٍ تهزأُ بالنِّصالِ ... كأنّها من خِلَع الهلالِ
الهِلال الحيّة هاهنا، واللام للجنس في هذا القبيل، لم يكن لك ذلك.
فصل وهذا
نوع آخر في التعليل
وهو أن يكون للمعنى من المعاني والفعلِ من الأفعال علّةٌ مشهورة من طريق العادات والطباع، ثم يجيءُ الشاعر فيمنع أن تكون لتلك المعروفة، ويضع له عِلَّةً أخرى، مثاله قول المتنبي:
مَا بِه قتلُ أعاديه ولكن ... يتّقي إخلافَ ما تَرْجُو الذئابُ
الذي يتعارفه الناس أن الرجل إذا قتل أعاديه فلإرادته هلاكَهم، وأن يدفع مضارَّهم عن نفسه، وليسلَم مُلكه ويصفُوَ من منازَعاتهم، وقد ادَّعى المتنبي كما ترى أن العِلةَ في قتل هذا الممدوح لأعدائه غير ذلك. واعلم أن هذا لا يكون حتى يكون في استئناف هذه العِلّة المدَّعاةِ فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح، أو يكون لها تأثير في الذمّ، كقصد المتنبي هاهنا في أن يبالغ في وصفه بالسَّخاء والجود، وأَنّ طبيعةَ الكرمِ قد غلبت عليه، ومحبَّته أن يُصدِّق رجاء الراجين، وأن يجنِّبهم الخيبة في آمالهم، قد بلغت به هذا الحدَّ، فلما علم أنه إذا غدا للحرب غَدَت الذئاب تتوقّع أن يتسع عليها الرزق، ويُخْصِب لها الوقت من قَتْلَى عداه، كَرِهَ أن يُخْلِفها، وأن يخيِّبَ رجاءهَا ولا يُسعِفُها، وفيه نوع آخر من المدح، وهو أنه يهزم العِدَى ويكسِرهم كسراً لا يطمَعون بعده في المعاوَدة، فيستغني بذلك عن قَتْلَهم وإراقة دمائهم، وأنه ليس ممن يُسْرف في القتل طاعةً للغَيْظ والحَنَق، ولا يعفو إذا قَدَر، وما يُشبه هذه الأوصاف الحَميدة فاعرفه. ومن الغريب في هذا الجنس على تَعَمُّقٍ فيه، قول أبي طالب المأموني في قصيدة يمدح بها بعض الوزراء بِبُخارى:
مُغرَمٌ بالثناءِ صَبٌّ بكسب ال ... مَجْدِ يهتزُّ للسَّماح ارتياحَا
لا يَذُوق الإغفاءَ إلاّ رجاءً ... أن يَرَى طيفَ مسْتَمِيحٍ رَوَاحَا
وكأنه شَرَطَ الرّواح على معنى أن العُفاة والرَّاجين إنّما يَحْضُرونه في صَدْر النهار على عادة السلاطين، فإذا كان الرواح ونحوه من الأوقات التي ليست من أوقاتِ الإذن قَلُّوا، فهو يشتاق إليهم فينام ليأنس برُؤية طيفهم، والإفراط في التعمّق ربما أخلَّ بالمعنى من حيث يُرَاد تأكيدُه به، ألا تَرى أن هذا الكلام قد يُوهم أنه يحتجّ له أنه ممن لا يرغب كل واحد في أخْذِ عطائه، وأنه ليس في طبقة من قيل فيه:
عَطاؤُك زَينٌ لامرئٍ إن أَصبتَه ... بخير وما كُلّ العَطاءِ يَزِينُ
وممّا يدفع عنه الاعتراض ويُوجب قلّةَ الاحتفال به، أن الشاعر يُهِمُّه أبداً إثبات ممدوحه جواداً أو توّاقاً إلى السُّؤَّال فرِحاً بهم، وأن يُبَرِّئه من عبوس البخيل وقطوب المتكلِّف في البذل، الذي يقاتل نفسه عن مالِه حتى يُقال جوادٌ، ومَنْ يهوى الثَّناء والثّراء معاً، ولا يتمكَّن في نفسه معنى قولِ أبي تمام:
وَلَمْ يجتمع شَرقٌ وغربٌ لقاصدٍ ... ولا المجدُ في كفِّ امرئٍ والدراهمُ
فهو يُسرع إلى استماع المدائح، ويُبطئ عن صِلة المادح، نعم، فإذا سُلِّم للشاعر هذا الغرض، لم يفكر في خَطَرات الظنون. وقد يجوز شيءٌ من الوَهْم الذي ذكرتُه على قولِ المتنبي:
يُعطي المُبشِّرَ بالقُصَّاد قَبْلَهُم ... كمن يُبشِّره بالماء عطشانَا
وهذا شيءٌ عَرَضِ، ولاستقصائه موضعٌ آخرُ، إن وفَّق اللّه. وأصل بيت الطيف المستميح، من نحو قوله:
وَإنّي لأسْتَغْشِي وما بِيَ نَعْسةٌ ... لعلَ خيالاً منكِ يَلْقَى خياليَا


وهذا الأصل غير بعيد أن يكون أيضاً من باب ما استُؤنف له علّةٌ غير معروفة، إلاّ أنه لا يبلغ في القوة ذلك المبلغ في الغرابة والبعد من العادة، وذلك أنه قد يُتصوَّر أن يُريد المُغرَمُ المتيَّم، إذا بَعُدَ عهده بحبيبه، أن يراه في المنام، وإذا أراد ذلك جاز أن يريد النوم له خاصَّةً فاعرفه. ومما يلحق بهذا الفصْل قوله:
رَحَل العزاءُ برحْلَتي فكأنني ... أتبعتُه الأَنفاسَ للتشييعِ
وذلك أنه علّل تصعُّد الأَنفاس من صدره بهذه العلة الغريبة، وترك ما هو المعلوم المشهور من السبب والعلة فيه، وهو التحسّر والتأسّف، والمعنى: رحل عنِّي العزاء بارتحالي عنكم، أي: عنده ومعه أو به وبسببه، فكأنه لما كان محلّ الصبر الصَّدْر، وكانت الأنفاس تتصعّد منه أيضاً، صار العزاءُ وتنفُّس الصَّعَداء كأنهما نزيلان ورفيقان، فلما رحل ذاك، كان حقّ هذا أن يشيّعه قضاءً لحق الصُّحبة. ومما يلاحِظُ هذا النوع، يجري في مسلكه ويَنْتظم في سِلْكه، قولُ ابن المعتز:
عاقبتُ عَيْني بالدَّمع والسَّهَر ... إذ غار قلبي عَلَيك من بَصَري
وَاحتملتْ ذاك وهي رَابحةٌ ... فيكَ وفازت بلذَّة النّظرِ
وذاك أن العادة في دمع العين وسَهرها أن يكون السببَ فيه إعراضُ الحبيب، أو اعتراض الرقيب، ونحو ذلك من الأسباب المُوجِبة للاكتئاب، وقد ترك ذلك كله كما تَرَى، وادّعى أن العلة ما ذكره من غَيْرةِ القلب منها على الحبيب وإيثارِه أن يتفرَّد برؤيته، وأنه بطاعة القلب وامتثال رَسْمه، رامَ للعين عقوبةً، فجعل ذاك أن أبكاها، ومَنَعها النوم وحماها، وله أيضاً في عقوبة العين بالدَّمع والسهر، من قصيدة أوّلها:
قُلْ لأَحلَى العباد شِكلاً وقدَّا ... أَبجِدٍّ ذَا الهجرُأمْ ليس جِدَّا
ما بِذَا كانت المُنَى حدَّثَتْني ... لَهْفَ نفسي أَراك قد خُنتَ ودَّا
ما تَرَى في مُتَيَّمٍ بكَ صَبٍّ ... خاضِعٍ لا يرى من الذُلِّ بُدَّا
إن زَنَتْ عينُه بغيرك فاضربْ ... ها بطُول السُهاد والدَّمْع حَدَّا
قد جعل البكاءَ والسهاد عقوبةً على ذنبِ أَثبته للعين، كما فعل في البيت الأول، إلا أنّ صورة الذنب هاهنا غير صورته هناك، فالذنب هاهنا نَظَرُها إلى غير الحبيب، واستجازتُها من ذلك ما هو محرَّم محظور والذنب هناك نظَرُها إلى الحبيب نفسه، ومزاحمتها القلب في رؤيته، وغَيْرةُ القلب من العين سببُ العقوبة هناك، فأمّا هاهنا فالغيرة كائنة بين الحبيب وبين شخصٍ آخر فاعرفه. ولا شُبْهة في قصور البيت الثاني عن الأول، وأنّ للأوّل عليه فضلاً كبيراً، وذلك بأن جعل بعضَه يغار من بعض، وجعل الخصومة في الحبيب بين عينيه وقلبه، وهو تمام الظَّرْف واللطف، فأمّا الغيرة في البيت الآخر، فعلى ما يكون أبداً، هذا ولفظ زَنَتْ، وإن كان ما يتلوها من أحكام الصنعة يُحَسّنها، وورودُها في الخبر العينُ تزني، ويؤنِس بها، فليست تَدَعُ ما هو حكمها من إدخال نُفْرةٍ على النفس. وإن أردت أن ترى هذا المعنى بهذه الصنعة في أعجب صورة وأظرفها، فانظر إلى قول القائل:
أَتتني تُؤَنِّبني بالبكا ... فأهلاً بهَا وبتأنِيبهَا
تقولُ وفي قولها حِشْمةٌ ... أتبكي بعَيْنٍ تراني بها
فقلت إذا استحسنتْ غيرَكم ... أمرتُ الدُّموع بتأديبها
أعطاك بلفظة التأديب، حُسْنَ أدب اللبيب، في صيانة اللَّفظ عما يُحرج إلى الاعتذار، ويؤدّي إلى النِّفار، إلا أن الأُستاذية بعدُ ظاهرةٌ في بيت ابن المعتز، وليس كل فضيلة تبدُو مع البديهة، بل بعَقِب النَّظرِ والرويَّة، وبأن يفكَّر في أول الحديث وآخره، وأنت تعلم أنه لا يكون أبلغ في الذي أراد من تعظيم شأن الذنب، من ذكر الحدّ، وأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بلفظة زنت، ومن هذه الجهة يلحَقُ الضَّيْمُ كثيراً من شأنُه وطريقُه طريقُ أبي تمام، ولم يكن من المطبوعين، وموضعُ البَسْط في ذلك غير هذا فَغَرَضي الآن أن أُرِيَك أنواعاً من التخييل، وأضَعَ شِبْهَ القوانين ليُستعان بها على ما يُراد بعدُ من التفصيل والتبيين.
فصل في
تخييل بغير تعليل


وهذا نوع آخر من التخييل، وهو يرجع إلي ما مضى من تناسي التَّشبيه وصرف النفس عن توهُّمه، إلا أنَّ ما مضى مُعلَّل، وهذا غير معلّل، بيان ذلك أنهم يستعيرون الصِّفة المحسوسة من صفات الأشخاص للأوصاف المعقولة، ثم تراهم كأنهم قد وجدوا تلك الصفة بعينها، وأدركوها بأعينهم على حقيقتها، وكأنّ حديث الاستعارة والقياس لم يجرِ منهم على بال ولم يرَوْه ولا طيفَ خَيال. ومثالُه استعارتُهم العلوَّ لزيادة الرجل على غيره في الفضل والقدر والسلطان، ثم وَضْعُهم الكلام وضعَ من يذكر علُواً من طريق المكان، ألا ترى إلى قول أبي تمام:
ويَصْعَدُ حَتَّى يظُنَّ الجَهولُ ... بأنّ لَهُ حاجةً في السماءِ
فلولا قصده أن يُنْسِيَ الشبيه ويرفعَه بجهده، ويُصمِّم على إنكاره وجَحْده، فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانية، لمَا كان لهذا الكلام وجهٌ. ومن أبلغ ما يكون في هذا المعنى قول ابن الرومي:
أعْلَمُ الناسِ بالنجومِ بَنُو نُو ... بَخْتَ عِلماً لم يَأْتهم بالحِسابِ
بَلْ بَأنْ شاهدُوا السَّماءَ سُمُوّاً ... بِتَرَقٍّ في المكرماتِ الصِّعابِ
مبلغٌ لم يكُنْ ليبلُغَه الطا ... لِبُ إلاّ بتِلكُمُ الأسْبابِ
وأعاده في موضع آخر، فزاد الدعوى قُوَّةً، ومرّ فيها مرورَ من يقول صِدقاً ويذكر حقّاً:
يا آل نُوبَخْتَ لا عَدِمتُكُم ... ولا تَبدَّلْتُ بعدكم بَدَلاََ
إن صَحَّ علمُ النجوم كان لكم ... حقًّاٍ إذا ما سواكُمُ انتحلاَ
كَمْ عالمٍ فيكُم وَلَيْس بأنْ ... قاس ولكن بأن رَقِي فَعَلاَ
أعلاكُمُ في السماء مَجدُكمُ ... فلستمُ تَجْهلون مَا جُهِلاَ
شافَهْتُم البدرَ بالسُّؤال عن ال ... أَمْرِ إلى أن بلغتُمُ زُحَلاَ
وهكذا الحكم إذا استعاروا اسمَ الشيء بعينه من نحو شمس أو بدر أو بحر أو أسد، فإنهم يبلغون به هذا الحدّ، ويصوغون الكلام صياغاتٍ تقضي بأن لا تشبيه هناك ولا استعارة، مثاله قوله:
قامت تظلِّلني من الشمس ... نفسٌ أعزُّ عليَّ من نَفْسِي
قامت تظلِّلني ومن عَجَبٍ ... شمسٌ تُظَلِّلني من الشَّمس
ِفلولا أنه أنْسَى نفسَهُ أن هاهنا استعارةً ومجازاً من القول، وعَمِلَ على دعوى شمس على الحقيقة، لما كان لهذا التعجّب معنًى، فليس ببِدْعٍ ولا مُنكَر أن يظلِّلَ إنسانٌ حسن الوجه إنساناً ويَقِيه وَهَجاً بشخصه. وهكذا قول البحتري:
طَلَعْتَ لهم وَقْتَ الشُّروق فعَايَنُوا ... سَنَا الشّمسِ من أُفْقٍ ووَجْهَك من أُفْقِ
وما عَاينُوا شمسين قبلهما الْتَقَى ... ضياؤُهما وَفْقاً من الغَرْب الشَّرْقِ
معلوم أن القصد أن يُخرج السامعين إلى التعجّب لرؤية ما لم يروه قط، ولم تَجْرِ العادة به، ولم يتمَّ للتعجُّب معناه الذي عناه، ولا تظهر صورته على وصفها الخاصّ، حتى يجترئ على الدَّعوى جُرْأةَ من لا يتوقف ولا يَخشى إنكارَ مُنْكرٍ، ولا يَحْفِل بتكذيب الظاهر له، ويسُوم النفس، شاءَت أمْ أَبَتْ، تصوُّرَ شَمْسٍ ثانية طلعت من حيث تغرب الشمس، فالتقتَا وَفْقاً، وصار غرْب تلك القديمة لهذه المتجددةِ شرقاً. ومدارُ هذا النوع في الغالب على التعجُّب، وهو والي أمره، وصانع سِحْره، وصاحب سرّه، وتراه أبداً وقد أفضى بك إلى خِلابةٍ لم تكن عندك، وبرز لك في صورة ما حسبتها تظهر لك، ألا ترى أن صورة قوله شمس تظللني من الشمس، غير صورة قوله وما عاينوا شمسين، وإن اتَّفق الشعران في أنهما يتعجّبان من وجود الشيء على خلاف ما يُعقَل ويُعرَف. وهكذا قول المتنبي:
كَبَّرتُ حَوْلَ دِيارهم لمّا بَدَت ... منها الشُّموسُ وليسَ فيها المشرقُ
له صورةٌ غير صورة الأوَّلين. وكذا قوله:
ولم أَر قَبْلي مَنْ مَشَى البدرُ نحوهُ ... ولا رَجُلاً قَامت تُعانقُه الأُسْدُ


يعرض صورة غير تلك الصُّوَر كلها، والاشتراك بينها عامّيٌّ لا يدخل في السَّرِقة، إذ لا اتِّفاق بأكثر من أن أثبت الشيء في جميع ذلك على خلاف ما يعرفه الناس، فأمّا إذا جئت إلى خصوصٍ ما يخرج به عن المتعارف، فلا اتفاق ولا تناسُب، لأن مكان الأعجوبة مرّةً أن تظلل شمسٌ من الشمس، وأخرى أن يُرَى للشمس مِثْلٌ لا يطلع من الغرب عند طلوعها من الشرق، وثالثةً أن تُرَى الشموس طالعةً من ديارهم، وعلى هذا الحد قوله ولم أرَ قبلي مَن مَشَى البدر نحوه، العجب من أن يمشيَ البدر إلى آدميٍّ، وتُعانِقَ الأسْد رجُلاً.
واعلم أن في هذا النوع مذهباً هو كأنه عكس مذهب التعجب ونقيضُه، وهو لطيف جدّاً، وذلك أن يُنظر إلى خاصيَّة ومعنًى دقيقٍ يكون في المشبَّه به، ثم يُثَبِّت تلك الخاصيّة وذلك المعنى للمشبّه، ويُتوصَّل بذلك إلى إيهام أن التشبيه قد خرج من البَيْن، وزال عن الوَهْم والعين أحسنَ توصُّلٍ وألطفَه، ويقام منه شِبهُ الحجّة على أنْ لا تشبيهَ ولا مجازَ، ومثال قوله:
لاَ تَعْجَبُوا من بِلَى غِلاَلته ... قد زرَّ أَزْرَاره على القمَر
قد عمد، كما ترى إلى شيء هو خاصية في طبيعةِ القمر، وأمرٌ غريب من تأثيره، ثم جَعلَ يُرِى أن قوماً أنكروا بِلَى الكتّان بسُرعة، وأنه قد أخذ ينهاهم عن التعجُّب من ذلك ويقول أما ترونه قد زرَّ أزرارَه على القمر، والقمرُ من شأنه أن يُسْرِع بِلَى الكتان، وغرضه بهذا كله أن يُعلِم أن لا شكَّ ولا مِريَة في أن المعاملة مع القمر نفسِهِ، وأن الحديث عنه بعينه، وليس في البَين شيءٌ غيره، وأن التشبيهَ قد نُسي وأُنْسيَ، وصار كما يقول الشيخ أبو عليّ فيما يتعلق به الظرف: إنّه شريعَةٌ منسوخة. وهذا موضعٌ في غاية اللُّطْفِ، لا يَبين إلا إذا كان المتصفِّح للكلام حسَّاساً، يعرف وَحْي طَبْع الشعر، وخفيَّ حركته التي هي كالخَلْسِ، وكَمَسْرَى النّفْسِ في النّفْس. وإن أردت أن تظهرَ لك صحّةُ عزيمتهم في هذا النحو على إخفاءِ التشبيه ومَحْوِ صورته من الوهم، فأبرِزْ صفة التَّشبيه، واكشفْ عن وجهه، وقُلْ لا تعجبوا مِن بِلى غِلاَلته، فقد زرَّ أزرارَهُ على مَنْ حُسْنُه حسنُ القمر، ثم انظر هل ترى إلاّ كلاماً فاتراً ومعنًى نازلاً، واخبُرْ نفسك هل تجد ما كنت تجده من الأريحيّة؟ وانظر في أعين السامعين هل ترى ما كنت تراه من ترجمةٍ عن المسرَّة، ودِلاَلةٍ على الإعجاب؟ ومن أين ذلك وأنَّى وأنت بإظهار التشبيه تُبطل على نفسك ما له وُضِعَ البيتُ من الاحتجاج على وُجوب البِلَى في الغلالة، والمَنْعِ من العجب فيه بتقرير الدِّلالة. وقد قال آخر في هذا المعنى بعينه، إلاّ أن لفظه لا يُنبئ عن القوة التي لهذا البيت في دعوى القمر، وهو قوله:
تَرَى الثِّياب من الكَتَّان يلمَحُها ... نُورٌ من البدر أحياناً فيُبْليهَا
فكيف تُنكر أَن تَبْلَى مَعَاجرُها ... والبدرُ في كل وقتِ طَالِعٌ فيها
ومما ينظر إلى قوله قد زرَّ أزراره على القمر، في أنه بلغ بدعواه في المجاز حقيقةً، مبلغَ الاحتجاج به كما يُحتجُّ بالحقيقة، قولُ العبّاس بن الأحنف:
هِيَ الشَّمْسُ مَسْكَنُها في السماء ... فَعَزِّ الفؤادَ عَزاءً جميلاَ
فلن تَسْتطيع إليهَا الصُّعودَ ... ولن تستطيعَ إليكَ النُزولاَ
صورة هذا الكلام ونِصْبَته والقالب الذي فيه أُفْرِغ، يقتضي أن التشبيه لم يَجْرِ في خَلَده، وأنه معه كما يقال: لستُ منه وليسَ مِنّي، وأن الأمر في ذلك قد بلغ مبلغاً لا حاجة معه إلى إقامة دليل وتصحيح دعوى، بل هو في الصِّحّة والصدق بحيث تُصحَّح به دعوى ثانيةٌ، ألا تراه كأنه يقول للنفس ما وَجْهُ الطمع في الوصول وقد علمت أن حديثك مع الشمس، ومَسْكَنُ الشمس السماء؛ أفلا تراه قد جعل كونها الشَّمس حُجَّةً له على نفسه، يصرفها بها عن أن ترجو الوصول إليها، ويُلْجِئُها إلى العزاء، ورَدَّها في ذلك إلى ما لا تشكُّ فيه، وهو مستقرٌّ ثابت، كما تقول: أوَما علمت ذلك؟ وأليس قد علمت؟، ويُبَيِّن لك هذا التفسيرَ والتقريرَ فضلَ بيانٍ بأن تُقابل هذا البيت بقول الآخر:
فقلتُ لأصْحابِي هي الشمسُ ضَوْءُها ... قريبٌ ولكن في تَنَاوُلِها بُعْدُ


وتتأمَّلْ أمر التشبيه فيه، فإنك تجده على خلاف ما وصفتُ لك، وذلك أنه في قوله فقلت لأصحابي هي الشمس، غيرُ قاصد أن يجعل كَوْنَها الشمسَ حُجَّةً على ما ذكر بعدُ، من قرب شخصها ومثالها في العين، مع بُعد منالها بل قال هي الشمس، وهكذا قولاً مرسلاً يُومِئُ فيه بل يُفصِح بالتشبيه، ولم يُرد أن يقول لا تعجبوا أن تَقْرُب وتَبْعُد بعد أن علمتم أنها الشمس، حتى كأَنه يقول: ما وَجْهُ شكّكِم في ذلك؟، ولم يشكّ عاقلٌ في أن الشمس كذلك، كما أراد العباس أن يقول: كيف الطمع في الوُصول إليها مع عِلْمِك بأنها الشمس، وأن الشمسَ مَسْكنُها السماءُ، فبيت ابن أبي عيينة في أنْ لم ينصرف عن التشبيه جملةً، ولم يَبْرُز في صورة الجاحد له والمتبرّئ منه، كبيت بشَار الذي صرَّح فيه بالتشبيه، وهو:
أو كبَدْر السَّماءِ غيرُ قريبٍ ... حِين يُوفِي والضوءُ فيه اقترابُ
وكبيت المتنبي:
كأنَّها الشمس يُعيي كفَّ قابضِهِ ... شُعاعُها ويَرَاه الطَّرْفُ مُقْتربَا
فإن قلت فهذا من قولك يؤدِّي إلى أن يكون الغَرَض من ذكر الشمس، بيانَ حال المرأة في القُرب من وجهٍ ، والبعدِ من وجهٍ آخر، دون المبالغة في وصفها بالحسن وإشراق الوجه، وهو خلافُ المعتاد، لأن الذي يَسْبق إلى القلوب، أن يُقْصدَ من نحو قولنا هي كالشمسِ أو هي شمسٌ، الجمالُ والحُسْن والبهاء. فالجواب إنّ الأمرَ وإن كان على ما قلتَ، فإنه في نحو هذه الأحوال التي ُقصَد فيها إلى بيان أمرٍ غير الحُسن، يصير كالشيء الذي يُعقل من طريق العُرْف، وعلى سبيل التَّبَع، فأما أن يكون الغرضُ الذي له وُضع الكلام فلا وإذا تأمّلت قوله فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءُها قريبٌ، وقولَ بشار: " أو كبدر السماء " ، وقولَ المتنبي: " كأنها الشَّمس " ، علمتَ أنهم جعلوا جُلَّ غَرَضهم أن يُصِيبوا لها شبهاً في كونها قريبة بعيدةً، فأما حديث الحُسن، فدخل في القصد على الحدِّ الذي مضى في قوله، وهو للعباس أيضاً:
نِعْمةٌ كالشّمس لمَّا طَلَعت ... بَثَّت الإشراقَ في كُلّ بَلَدْ
فكما أن هذا لم يضع كلامه لجعل النعم كالشمس في الضِّياء والإشراق، ولكن عَمَّت كما تعمُّ الشمس بإشراقها كذلك لم يضع هؤلاء أبياتهم على أن يجعلوا المرأة كالشمس والبدرِ في الحسن ونورِ الوجه، بل أَمُّوا نحو المعنى الآخر، ثم حَصَل هذا لهم من غير أن احتاجوا فيه إلى تجشُّمٍ، وإذا كان الأمر كذلك، فلم يقُل إن النعمة إنما عمّت لأنها شمس، ولكن أراك لعمومها وشمولها قياساً، وتحرَّى أن يكون ذلك القياس من شيء شَرِيف له بالنعمة شبهٌ من جهة أوصافه الخاصّة، فاختار الشمس، وكذلك لم يُرد ابن أبي عيينة أن يقول إنها إنما دَنت ونَأت لأنها شمس، أو لأنها الشمس، بل قاس أمرها في ذلك كما عرّفتُك. وأمّا العبّاس فإنه قال إنها إنما كانت بحيث لا تُنال، ووجب اليأس من الوصول إليها، لأجل أنها الشمس فاعرفه فرقاً واضحاً. ومما هو على طريقة بيت العبّاس في الاحتجاج، وإن خالفه فيما أذكره لك، قول الصابئ في بعض الوزراء يهنّئه بالتخلُّص من الاستِتار:
صَحَّ أنَّ الوزيرَ بدرٌ مُنيرٌ ... إذ تَوَارَى كما تَوَارَى البدورُ
غَاب لا غَابَ ثُمَّ عاد كما كا ... نَ على الأُْفْقِ طالعاً يستنيرُ
لا تسَلْني عن الوزير فقد بَيَّ ... نْتُ بالوصف أنه سَابورُ
لا خَلاَ منه صدرُ دَسْتٍ إذا ما ... قَرَّ فيه تَقِرُّ منه الصدورُ
فهو كما نراه يحتجّ أن لا مجازَ في البين، وأنَّ ذكر البدر وتسميةَ الممدوح به حقيقة،واحتجاجُه صريحٌ لقوله صح أنه كذلك، وأما احتجاج العبّاس وصاحبه في قوله قد زرَّ أزرَارهُ على القَمر، فعلى طريق الفَحْوى، فهذا وَجهُ الموافقة، وأما وَجْهُ المخالفة، فهو أنَّهما ادّعيا الشَّمس والقَمَر بأنفسهما، وادَّعى الصابئ بدراً، لا البدر على الإطلاق. ومن ادّعاه الشمس على الإطلاق قولُ بشَّار:
بَعَثْتُ بِذكْرها شِعري ... وقَدَّمتُ الهَوَى شَرَكَا
فلمَّا شاقَها قَولي ... وشَبَّ الحبُّ فاحْتَنَكَا
أتتني الشمسُ زائرةً ... ولم تكُ تبرَحُ الفَلَكَا


وَجَدتُ العيش في سُعدَى ... وكان العَيْشُ قد هَلَكَا
فقوله ولم تك تَبرَحُ الفَلَكا، يريك أنه ادَّعى الشمس نفسها، وقال أشجع يرثي الرشيد، فبدأ بالتعريف، ثم نكّر فخلَط إحدى الطريقتين بالأخرى، وذلك قوله:
غَرَبَتْ بالمشرق الشم ... سُ فقُلْ للعين تدمعْ
ما رَأَيْنا قَطُّ شَمساً ... غَرَبت من حَيْثُ تطلعْ
فقوله غربت بالمشْرق الشمسُ على حدّ قول بشار: " أتتني الشمس زائرةً، في أنه خيّل إليك شمس السماء " ، وقوله بعد ما رأينا قَطّ شمساً، يُفتِّر أمرَ هذا التخييل، ويميل بك إلى أن تكون الشمس في قوله: غربت بالمشرق الشمس، غير شمس السماءِ، أعني غير مدَّعى أنها هي، وذلك مما يضطرب عليه المعنى وَيقْلَق، لأنه إذا لم يدَّع الشمسَ نفسها، لم يجب أن تكون جهة خراسان مَشْرِقاً لها، وإذا لم يجب ذلك، لم يحصل ما أراده من الغرابة في غروبها من حيث تطلع، وأظُنُّ الوجهَ فيه أن يُتأوّل تنكيره للشمس في الثاني على قولهم: خرجنا في شمس حارّة، يريدون في يوم كانَ للشمس فيه حرارة وفضلُ توقُّد، فيصير كأنه قال: ما عهدنا يوماً غَرَبت فيه الشمس من حيث تطلع، وهوت في جانب المشرق، وكثيراً ما يتفِق في كلام الناس ما يُوهم ضرباً من التنكير في الشمس كقولهم: " شَمْسٌ صيفية " ، وكقوله:
واللَّه لا طَلَعت شمسٌ ولا غربت
ولا فرق بين هذا وبين قول المتنبي:
لم يُرَ قَرْنُ الشَّمْسِ في شرْقِه ... فشكَّت الأنفسُ في غَرْبهِ
ويجيءُ التنكير في القمر والهلال على هذا الحدّ، فمنه قول بشّار:
أمَلي لا تأتِ في قَمَرٍ ... بحديثٍ واتَّق الدُّرَعَا
وتَوَقَّ الطيبَ لَيْلتَنا ... إنَّه واشٍ إذا سَطَعا
فهذا بمعنى لا تأت في وقت قد طلع فيه القمر، وهذا قولُ عمر بن أبي ربيعة:
وَغَاب قُميْرٌ كنتُ أرجُو غُيُوبَهُ ... وَرَوَّحَ رُعْيَانٌ ونَوَّمَ سُمَّرُ
ظاهره يوهم أنه كقولك: جاءني رجل، وليس كذلك في الحقيقة، لأن الاسم لا يكون نكرة حتى يعمَّ شيئين وأكثر، وليس هنا شيئان يَعُمّهما اسم القمر. وهكذا قول أبي العتاهية:
تُسرُّ إذا نظرتَ إلى هلالٍ ... ونَقْصُك إذْ نظرتَ إلى الهلالِ
ليس المنكَّر غير المعرَّف، على أنّ للهلال في هذا التنكير فضلَ تمكُّنٍ ليس للقمر، ألا تراه قد جُمع في قوله تعالى: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ " " البقرة: 189 " ، ولم يجمع القمر على هذا الحدّ. ومن لطيف هذا التنكير قول البحتري:
وبَدْرَين أَنْضيْنَاهما بعد ثَالثٍ ... أكلْناه بالإيجاف حتى تَمَحَّقَّا
ومما أتى مستكرهاً نابياً يتظلم منه المعنى وينكره، قولُ أبي تمام:
قَرِيبُ النَّدَى نائِي المَحَلِّ كأنّه ... هِلالٌ قريبُ النُّورِ ناءٍ مَنازلُهْ
سببُ الاستكراه، وأنّ المعنى ينبو عنه أنه يُوهم بظاهره أنّ هاهنا أهِلَّةً ليس لها هذا الحكم، أعني أنه ينأَى مكانهُ ويدنو نورُه، وذلك مُحالٌ فالذي يستقيم عليه الكلام أن يؤتى به معرَّفاً على حدّه في بيت البحتري:
كالبدْرِ أفرط في العُلوِّ وضوءُه ... للعُصْبة السَّارين جِدُّ قريب
فإن قلت أَقْطَعُ وأستأنفُ فأقولُ: كأن هلال وأسكتُ، ثم أَبتدئُ وآخُذ في الحديث عن شأنِ الهلال بقولي قريب النور ناءٍ منازله أمكنك، ولكنك تعلم ما يشكوه إليه المعنى من نبوّ اللفظ به وسوء ملاءَمة العبارة، واستقصاءُ هذا الموضع يَقْطع عن الغرض وحقُه أنه يُفرَد له فصل.
وأعود إلى حديث المجاز وإخفائه، ودعوى الحقيقة وحمل النفس على تخيُّلها، فممّا يدخل في هذا الفنّ ويجب أنْ يُوازَن بينه وبين ما مضى، قولُ سعيد بن حميد:
وَعدَ البَدْرُ بالزيارة لَيْلاً ... فإذَا مَا وَفَى قَضَيْتُ نُذُوري
قلتُ يا سيّدي ولِمْ تُؤثِر اللي ... لَ على بَهْجة النهار المُنيرِ
قال لي لا أحِبُّ تغيير رَسْمي ... هكذا الرَّسْمُ في طلوع البُدورِ
قالوا: وله في ضدّه:
قلتُ زُوري فأرسلت ... أَنا آتيك سُحرَهْ
قلتُ فالليل كان أخْ ... فَى وأَدنَى مسَرَّهْ


فأجابت بحُجَّةٍ ... زَادت القلبَ حَسْرهْ
أَنا شمسٌ وإنما ... تَطْلُع الشَّمسُ بُكْرَهْ
وينبغي أن تعلم أنَّ هذه القطعة ضدُّ الأولى، من حيث اختار النهارَ وقتاً للزيارة في تلك، والليل في هذه، فأمّا من حيث يختلف جوهر الشعر ويتَّفق، وخصوصاً من حيث نَنْظر الآن، فمثلٌ وشبيهٌ، وليس بضدٍّ ولا نقيض. ثم اعلم أنّا إن وازنَّا بين هاتين القطعتين وبين ما تقدَّم من بيت العباس: هي الشمس مسكنها في السماء، وما هو في صورته، وجدنا أمراً بَيْن أمرين بين ادّعاء البدر والشمس أنْفُسهما، وبين إثبات بدر ثانٍ وشمسٍ ثانية، ورأينا الشعر قد شاب في ذلك الإنكارَ بالاعتراف، وصادَفْتَ صورة المجاز تُعرِضُ عنك مرَّةً، وتَعرِضُ لك أخرى، فقوله: البدرُ بالتعريف مع قوله لا أحبّ تغيير رسمي، وتركه أن يقول رَسْمَ مِثْلي، يُخيِّلُ إليك البدر نَفسَه، وقوله في طلوع البدور بالجمع دون أن يفرد فيقول هكذا الرسم في طلوع البدور يلتفت بك إلى بدر ثانٍ، ويُعطيك الاعترافَ بالمجاز على وجه، وهكذا القول في القطعة الثانية لأنّ قوله: أنا شمس بالتنكير اعترافٌ بشمس ثانية أو كالاعتراف. ومما يدُلُّ دِلالةً واضحةً على دعوى الحقيقة، ولا يستقيم إلا عليها قولُ المتنبي:
واستقبلَتْ قَمَرَ السماءِ بوَْجهها ... فأَرَتْنِيَ القَمرين في وقتٍ معَا
أراد فأرتني الشمسَ والقمرَ، ثم غَلَّب اسمَ القمر كقول الفرزدق:
أخذنا بآفاقِ السَّماء عليكُمُ ... لنَا قَمَراها والنُّجوم الطوالعُ
لولا أنه يُخيِّل الشمسَ نفسَها، لم يكن لتغليب اسم القمر والتعريف بالألف واللام مَعْنًى، وكذلك لولا ضبطُه نفسَه حتى لا يُجرِيَ المجازَ والتشبيه في وهْمه، لكان قوله في وقت معَا، لغواً من القول، فليس بعجيبٍ أن يتراءَى لك وَجْهُ غادةٍ حَسناءَ في وقت طلوع القمر وتوسُّطه السماء، هذا أظهر من أن يخفى. وأمَّا تشبيه أبي الفتح لهذا البيت بقول القائل:
وإذا الغزالةُ في السماء ترفَّعتْ ... وبَدَا النهارُ لوَقْتِه يترجَّلُ
أبْدَتْ لوجه الشمسِ وجهاً مثلَهُ ... تلقى السماءَ بمثل ما تستقبلُ
فتشبيهٌ على الجملة، ومن حيث أصل المعنى وصورته في المعقول، فأما الصُّورة الخاصّة التي تحدُث له بالصنعة فلم يَعْرِض لها. ومما له طبقة عالية في هذا القبيل وشكلٌ يدلُّ على شدَّة الشكيمة وعلوّ المأخذ، قولُ الفرزدق:
أبي أحمدُ الغَيْثَين صَعْصعةُ الذي ... متَى تُخْلِفِ الجوزَاءُ والدَّلوُ يُمطرِ
أجارَ بناتِ الوائدين ومن يُجِرْ ... على المَوْتِ يُعلَمْ أنه غير مُخْفَرِ


أفلا تراه كيف ادَّعى لأبيه اسم الغيث ادّعاءَ من سُلّم له ذلك، ومن لا يَخْطُر ببالِه أنه مجازٌ فيه، ومتناوِلٌ له من طريق التشبيه، وحتى كأنَّ الأمر في هذه الشهرة بحيث يقال: أيّ الغيثين أجود؟ فيقال صعصعة، أو يقال الغيثان، فيُعْلم أنّ أحدهمَا صعصعة، وحتى بلغ تمكُّنُ ذلك في العُرف إلى أن يتوقّف السامع عند إطلاق الاسم، فإذا قيل: أتاك الغيث، لم يعلم أيُراد صعصعة أم المطر. وإن أردت أن تعرف مقدارَ ما له من القُوَّة في هذا التخييل، وأن مصدرَه مَصْدَرُ الشيء المُتَعارَف الذي لا حاجة به إلى مقدِّمة يُبنَى عليها نحوَ أن تبدأ فتقول: أبي نظيرُ الغيث وثانٍ له، وغيثٌ ثانٍ، ثم تقول: وهو خير الغيثين لأنه لا يُخْلِف إذا أَخلفت الأَنواء، فانظر إلى موقع الاسم، فإنك تراه واقعاً موقعاً لا سبيل لك فيه إلى حلِّ عَقْد التثنية، وتفريق المذكورَين بالاسم، وذلك أن أفعل لا تصحّ إضافته إلى اسمين معطوفٍ أحدُهما على الآخر، فلا يقال جاءَني أفضل زيد وعمرو، ولا إنَّ أعلمَ بكرٍ وخالدٍ عندي، بل ليس إلا أن تُضيف إلى اسم مثنًّى أو مجموع في نفسه، نحو أفضل الرَّجلين، وأفضل الرجال، وذلك أنّ أفعل التفضيل بعضُ ما يضاف إليه أبداً، فحقّه أن يُضاف إلى اسمٍ يحويه وغيرَه، وإذا كان الأمر كذلك، علمتَ أنهَ اللَّفظ بالتشبيه، والخروجِ عن صريح جَعْلِ اللَّفظ للحقيقة متعذرٌ عليك، إذ لا يمكنك أن تقول: أبي أحمَدُ الغيثِ والثاني له والشبيه به، ولا شيئاً من هذا النحو، لأنك تقع بذلك في إضافة أفعل إلى اسمين معطوفٍ أحدهما على الآخر. وإذ قد عرفتَ هذا فانظر إلى قول الآخر:
قد أقْحَطَ الناسُ في زمانِهمُ ... حتى إذا جئتَ جئتَ بالدِّرَرِ
غَيْثَانِ في ساعةٍ لنا اتّفقا ... فمرحباً بالأمير والمَطَرِ
فإنك تَرَاهُ لا يبلغ هذه المنزلة، وذلك أنه كلامُ مَن يُثبته الآنَ غيثاً ولا يدَّعي فيه عُرْفاً جارياً، وأمراً مشهوراً مُتعارفاً، يعلم كل واحدٍ منه ما يعلمه، وليس بمتعذِّر أن تقول غيثٌ وثانٍ للغيث اتفقا، أو تقول الأميرُ ثاني الغيث والغيثُ اتّفقَا. فقد حصل من هذا الباب أن الاسم المستعارَ كلما كان قَدمُه أثبتَ في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضَنَّ به، وأَشَدَّ محاماةً عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجعَ إلى الظاهر وتصرِّح بالتشبيه، فأمرُ التخييل فيه أقوى، ودعوى المتكلم له أظهر وأتَمُّ. واعلم أن نحوَ قول البحتري:
غَيْثانِ إنْ جَدْبٌ تتابعَ أَقبلا ... وهما رَبيعُ مُؤَمِّلٍ وخَرِيفُهْ
لا يكون مما نحن بصدده في شيء، لأنّ كلَّ واحدٍ من الغيثين في هذا البيت مجازٌ، لأنه أراد أن يشبِّه كل واحد من الممدوحَين بالغيث، والذي نحن بصَدَده، هو أن يُضَمَّ المجاز إلى الحقيقة في عَقْد التثنية، ولكن إن ضممتَ إليه قوله:
فلم أَرَ ضِرغامَين أَصْدقَ منكما ... عِراكاً إذا الهَيَّابةُ النِكْسُ كَذَّبا
كان لك ذلك، لأن أحدَ الضرغامين حقيقةٌ والآخرُ مجازٌ. فإن قلت فهاهنا شيءُ يردُّك إلى ما أَبَيْتهُ من بقاءِ حُكم التشبيه في جعله أباه الغيث، وذلك أن تقدير الحقيقة في المجاز إنما يُتصوَّر في نحو بيت البحتري: " فلم أرَ ضِرْغَامَين " من حيث عَمَد إلى واحدٍ من الأسودِ، ثم جعل الممدوحَ أسداً على الحقيقة قد قَارَنَهُ وضامَّهُ، ولا سبيل للفرزدق إلى ذلك، لأن الذي يَقْرِنه إلى أبيه هو الغيث على الإطلاق، وإذا كان الغيثَ على الإطلاق، لم يبق شيءٌ يستحقّ هذا الاسم إلا ويدخل تحته، وإذا كان كذلك، حصل منه أن لا يكون أبو الفرزدق غيثاًً على الحقيقة، فالجواب أن مذهب ذلك ليس على ما تتوهّمه، ولكن على أصلٍ هو التشبيه، وهو أن يقصدَ إلى المعنى الذي من أجله يشبِّه الفرع بالأصل كالشجاعة في الأسد، والمضاء في السيف، وينحِّي سائرَ الأوصاف جانباً، وذلك المعنى في الغَيْث هو النّفْع العامّ، وإذا قُدّر هذا التقدير، صار جنس الغيث كأنه عينٌ واحدة وشيءٌ واحد، وإذا عاد بك الأمر إلى أن تتصوَّرَهُ تَصوُّرَ العين الواحدة دون الجنس، كان ضَمُّ أبي الفرزدق إليه بمنزلة ضمِّك إلى الشمس رجلاً أو امرأةً تريد أن تبالغ في وصفهما بأوصاف الشمس، وتنزيلهما منزلتها، كما تجده في نحو قوله:
فَلَيْتَ طالعةَ الشَّمسين غَائِبةٌ ... وَلَيْتَ غَائبةَ الشَّمسينِ لم تغِبِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق